
تقرير عمارة "أبو إسكندر".. عشر دقائق لم تكفِ لاستيعاب الصدمة
لم تكن مهلة العشر دقائق التي حددها جيش الاحتلال كافية لأخذ أي شيء، في لحظة سادت الفوضى داخل الشقق السكنية بعمارة "أبو إسكندر" بمدينة غزة على وقع صرخات تعالت من بيوت الجيران والشارع: "أخلوا المكان" دون توضيح ما طبيعة الاستهداف إن كان للعمارة أم لشقة بداخلها، لتخرج العائلات فورًا وبالكاد استطاعت النجاة بأرواحهم وأخذ ما هو قريب منهم من هواتف ووثائق شخصية ومحافظ نقود معظمها ربما كانت فارغة، بعضهم لم يتمكن حتى من ارتداء حذائه.
تحت وطأة التهديد بالقصف خرجوا ولم يحملوا شيئًا سوى الصدمة والذهول، والتفكير فيما هو قادم من مأساة بعد فقد المأوى، وعادوا يحملون الذهول ذاته، وهم يرون طبقات العمارة تطبق على أحلامهم وذكرياتهم وتتحول إلى كومة ركام بعد انقشاع سحابة دخان كثيفة أحدثها القصف ليكون الخراب أكبر مما توقعوا لحظة خروجهم من الشقق معتقدين أن جيش الاحتلال سيقصفُ شقةً سكنية فيها.
في أرضٍ ملاصقة، للعمارة تضم عشرات خيام إيواء لعائلات نزحت قسرا من المناطق الشرقية لجباليا هربًا من الموت، وتركوا آخر ما استطاعوا أخذه من مقتنيات وملابس لازمة لحياة النزوح من منازلهم، ونجوا بأجسادهم وأرواحهم، ومن شدة القصف تطايرت معظم الخيام وتمزقت معظمها.
دون أن يدري ماذا حل بعمارته السكنية، عاد أبو جمال من عمله وأنزلته السيارة لمفرق "أبو سكندر" سار عشرات الأمتار، ليرى من بعيدا تجمعا للمواطنين أمام العمارة دون أن تتضح الصورة أمامه، كان ينوي أخذ غفوة نوم قصيرة بعد يوم عملٍ صعبٍ، ليقف بنظرات متصلبة وذهول فاق من عايشه، وهو يرى العمارة مدمرةً.
مهلة قصيرة للنجاة
"بدأت بالسؤال عن زوجتي وأولادي الذين تركتهم داخل الشقة، فأخبرني الجيران أن الجميع خرجوا أحياء بعد تحديد مهلة قصيرة للنجاة. حمدت الله أنهم بخير، لكن في نفس الوقت يعز علينا هذا الفراق وهذا الوداع لشقاء العمر، خاصة أنني نزحت عنها مدة طويلة خلال الحرب، فالبيت يمثل في الحرب شيئًا كبيرًا" قال تلك الكلمات لصحيفة "فلسطين" وهو يكتف يديه، ويقف أمام العمارة، وكأنّه يتأمل ذكريات عمره التي هدمها الاحتلال، ومحتارا كيف سيصل لشقته الواقعة بالطابق الثاني لمحاولة انتشال بعض المقتنيات.
في الأعلى، تسلق جاره عبد السلام اليعقوبي الركام، وبدأ بالنبش هو وأخوته بأيديهم وبلا أدوات بدائية، فكانت الأيدي ما هو متوفر وامتد العمل على مدار يوم ونصف متواصل في إخراج الملابس وبعض المقتنيات التي ظلت سليمة.
على مدار يومين انشغل اليعقوبي بمحاولة إخراج ما يمكن إخراجه من مقتنيات وملابس، ساعده في ذلك أنه يسكن بالطابق الخامس والأخير من البناية، فيما كانت الطوابق السفلية مطبقة على بعضها وعلى أحلام وذكريات ومقتنيات أصحابها.
بوجه شاحب منهك وملابس مليئة بالغبار وبعينين غائرتين يقول لصحيفة "فلسطين": "أعادونا لنقطة الصفر، أمضيت حياتي كلها في محاولة شراء الشقة بعد سنوات من العيش في بيت إيجار، حتى كبر أبنائي السبعة فيها، اثنان منهم دخلوا الجامعة، لنخرج بهذا الشكل المفاجئ وتحت التهديد بالقصف".
"حسبنا الله ونعم الوكيل".. خرجت تلك الدعوات من قلبه المكلوم، وهو يقف على ركام شقته السكنية وبجانبه كومة من الملابس وأدوات مطبخ وبعض الطعام استطاع إخراجها، وأخشاب أثاث منزله التي كانت تأوي ملابسه وذكرياتها، والآن ستصبح وقودًا لنارِ الطهي.
كل كلمة كان ينطق بها كانت ممزوجة بأنين يتدفق من قلبه، يعلق على المهلة بضحكة مصحوبة بالقهر: "لم تزد عن عشر دقائق منحنا إياها الاحتلال. الاتصال جاء لأحد الجيران ولم يخبره ماذا سيستهدف الاحتلال هل شقة أم العمارة!؟، كنت عائدا للتو من مشوارٍ ولم أتناول الغداء بعد، لتبدأ حالة من الفوضى، خرجنا بملابسنا، على بعد مسافة رأيت الصاروخ وهو ينزل على العمارة ويدمر كذلك سيارتي التي لم يستطع إخراجها".
في المخيم المجاور، كان النازحون يلملمون خيامهم المتطايرة على بعضهم، ويحاولون كنس الحجارة والردم المتطايرة، وإعادتها لموضعها، انهمك أبو أحمد على مدار يوم ونصف وجيرانه في كنس الردم، وإعادة تركيب الأخشاب.
وفي محيط العمارة كان الجيران يزيلون الركام المتطاير داخل شققهم التي تضررت معظمها بشكل كبير، "الاحتلال تعمد إحداث كل هذا الخراب" يقول أبو أحمد لصحيفة "فلسطين" بينما كان يعيد نصب خيمته: "نزحنا إلى هنا في هذه الأرض هربًا من الموت. تركنا بيوتنا وكل شيءٍ، لنعيش فصلاً صعبًا وتشردًا جديدًا. تمزقت الخيام، وعندما عدنا لم نجدها في أماكنها".
على مدار ساعات من العمل بعد القصف المدمر، لم يغفو الجيران وهم يزيلون الركام من داخل المنازل، وبقيت فتحات الجدران نتيجة شدة القصف شاهدة على يوم دام سيبقى محفورًا في ذاكرتهم، فكل يوم سينظرون من تلك الفتحات ليشاهدوا عمارة كبيرة كانت هي الأعلى بالمنطقة لتتحول لكومة ركام.
عودة بعد نزوح
مع صرخات الجيران، ارتدى سامح عبيد عباءته ووضع هاتفه ومحفظته في جيبه وخرج من المنزل، ليعود بنفس الصدمة التي رسمتها ملامح جيرانه، يثقل الحزن قلبه وهو يجلس على كرسي بلاستيكي أمام العمارة السكنية يتأمل الدمار الهائل، بينما يحاول أقاربه إخراج بعض المقتنيات والملابس من منزله الواقع بالطابق الأول".
عن آخر اللحظات داخل البيت، يقول لصحيفة "فلسطين": "كنت بالبيت فسمعت الناس يصرخون "أخلوا المكان"، دون فهم أي شيء ارتدينا ملابسنا وخرجنا. كانت شقتي كل ممتلكاتي وتعب وشقاء العمر".
نزح عبيد قسرا عن شقته لنحو أربعة عشر شهرًا في جنوب القطاع، وكانت لحظة عودته نهاية يناير/ كانون ثاني الماضي مع إبرام اتفاق وقف إطلاق النار، لحظات سعيدة، يستذكرها بالرغم من مرارة ما يعيشه الآن: "كانت لحظات مليئة بالفرح أننا وجدنا البيت وعشنا خمسة شهور بين جدران تأوينا مع أبنائي الثمانية، بالرغم من القصف والجوع"، واصفًا القصف بأنه "عملية إذلال للشعب لكي يشعر بالمرارة".
بجواره، كان باسم صيام يتفقد العمارة، ويحاول أخذ بعض مقتنياته بالنبش بين الركام، نزح قسرا كحال جاره عبيد لخمسة عشر شهرًا جنوب القطاع، وعاد ليحتضن ذكرياته بعد خمسة عشر عاما من العيش فيها وهو ستة من أبنائه، يقول وهو يقف قبالة الركام لصحيفة "فلسطين" ويتقلب الوجع بين كلماته: "البيت يعني الستر والمأوى، كانت اللحظات الأخيرة هادئة لكن لم ندرِ أن خلف الهدوء تختبئ مأساة جديدة، والآن أصبحنا في الشارع".
داخل حاصل بلا واجهة بفعل القصف، كان علي أبو زاهر يتفقد أدواته الكهربائية التي تعرض معظمها للتلف، كان يتفقد محاله الذي طاله الدمار، وينظر لصورة الخراب الذي حل في المكان، يسيطر الذهول على ملامحه وهو يروي لصحيفة "فلسطين": "لقد بشّع القصف حارتنا، المشهد صعب أشبه بزلزال، كل البيوت المحيطة تضررت بصورة كبيرة، بيتنا الذي تعرض لقصف سابق واستشهد به أخي وزوجته وأولاده، أيضًا أصيب بأضرار جديدة. البضائع داخل المحل قمت بتجهيز الكثير منها لبيعها لكنها تدمرت".
المصدر / فلسطين أون لاين

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


فلسطين أون لاين
منذ 19 ساعات
- فلسطين أون لاين
تقرير طفولة تسحقها الحرب في غزَّة... "معيلون صغار" لأسر مكلومة
غزة/ رامي محمد: لم يبلغ أكبرهم سن الحادية عشرة، لكنهم أصبحوا معيلين لأسرتهم بعد أن اختطف الموت والدهم في حرب الإبادة الجارية على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023. ثلاثة أطفال من عائلة واحدة يجوبون شوارع وأزقة مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، يقودون عربة خشبية يجرّها حمار محملة ببرميل ماء عذب يبيعونه للمارة في محاولة يائسة لتأمين لقمة العيش في وقت يُحرم فيه أكثر من 90% من أهالي القطاع من المياه النظيفة وفق تقارير الأمم المتحدة. محمود الحواجري الطفل الأكبر البالغ من العمر عشرة أعوام، يتولى قيادة الحمار وتوجيه العربة، في حين يقوم شقيقه الأوسط (9 أعوام) بتعبئة الجالونات، ويشاركهما شقيقهم الأصغر (8 أعوام) مهام البيع والتوزيع. بثياب باهتة ووجوه أنهكها التعب يسيرون تحت شمس يوليو اللاهبة، لكن في عيونهم بريق طفولة تصارع للبقاء. يقول محمود لصحيفة "فلسطين": "أبونا استشهد بالحرب كان عندنا العربة، واقترحت أمي نشتغل ونبيع الميّ، لأن الناس محتاجة ميّ حلوة، خاصة بالصيف هيك نساعد بالبيت ونجيب شوية مصاري". منذ استشهاد والدهم قبل ثلاثة أشهر، وجدت الأسرة نفسها بلا معيل حاولت الأم، التي تعيل أربعة أطفال، أن تصمد وحدها، لكنها اضطرت لإشراك أبنائها في تأمين الحد الأدنى من احتياجاتهم اليومية. وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف"، فإن أكثر من 17,000 طفل في قطاع غزة فقدوا أحد والديهم أو كليهما منذ بداية العدوان، فيما يعاني أكثر من ثلاثة من كل أربعة أطفال في غزة من اضطرابات نفسية شديدة. وتشير المنظمة إلى أن نحو 40% من الأطفال يضطرون للعمل في مهن شاقة أو خطرة نتيجة انهيار الأوضاع الإنسانية. في مخيم البريج وسط القطاع، تحاول حنين عمار البالغة من العمر 17 عامًا أن تقاوم مصيرًا مشابهًا بطريقتها الخاصة، فبعد استشهاد والدها في الشهر الرابع من العدوان قررت أن تحول جزءًا من منزلها إلى "زاوية تعليم" تقدم فيها دروسًا خصوصية لأطفال الحي في مواد اللغة العربية والرياضيات مقابل أجر رمزي. تقول حنين لصحيفة "فلسطين": "بدأت بطفلين والآن لدي 13 طالبًا بعضهم لا يعرف القراءة، صحيح أنني لست معلمة محترفة، لكن أحاول أن أُعوضهم شيئًا مما خسروا". ووفق بيانات وزارة التربية والتعليم في غزة فقد دمر الاحتلال أو ألحق الضرر بأكثر من 411 مدرسة ومنشأة تعليمية، وتوقفت العملية التعليمية بالكامل لأكثر من 625 ألف طالب وطالبة، فيما تُستخدم أكثر من 30% من المدارس كمراكز إيواء للنازحين في ظروف إنسانية وصحية مأساوية. أسوأ الأزمات الإنسانية الاختصاصي الاقتصادي محمد سكيك يرى أن أطفال غزة يواجهون واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، حيث إن أكثر من 50% من أهالي القطاع هم دون سن 18 عامًا، ويعيشون في ظل حصار خانق وحرمان من أبسط حقوقهم في التعليم والرعاية الصحية والغذاء. يقول سكيك لصحيفة "فلسطين": "حين يتحول الأطفال إلى معيلين للأسرة، أو يضطرون لترك مقاعد الدراسة للعمل في بيع الماء أو الخردة، فهذا ليس فقط انتهاكًا لحقوقهم بل جريمة موجهة ضد مستقبل المجتمع الفلسطيني بأكمله". ويضيف "الطفولة لم تعد مرحلة بريئة في غزة، بل باتت حقلًا مليئًا بالتحديات القاسية". والتقرير الأخير للبنك الدولي يعكس حجم الكارثة إذ رصد انهيار النشاط الاقتصادي في قطاع غزة بنسبة تجاوزت 83% منذ بداية العدوان، وخسائر في رأس المال الثابت تُقدّر بنحو 29.9 مليار دولار، في وقت بلغ فيه معدل التضخم السنوي 238% مدفوعًا بارتفاع أسعار الغذاء والنقل نتيجة ندرة السلع وغياب سلاسل التوريد. أما على مستوى سوق العمل فقد بلغ معدل البطالة 79% بنهاية 2024 وهو من بين الأعلى عالميًا، في حين ارتفع معدل الفقر الوطني من 22.1% في 2023 إلى 37.7% نهاية العام ذاته، وسط تقديرات بأن معظم أهالي غزة باتوا تحت خط الفقر المدقع. المصدر / فلسطين أون لاين


فلسطين اليوم
منذ 21 ساعات
- فلسطين اليوم
"الغرفة المشتركة للفصائل" : دم ياسر أبو الشباب مهدور
أعلنت الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية أن العميل ياسر أبو شباب وعصابته خارجون عن الهوية الوطنية ودمهم مهدور. وقال بيان مشترك للغرفة المشتركة للفصائل إنه في ظل ما يتعرض له شعبنا العظيم من حرب إبادة وتجويع صهيونازية على يد العدو المجرم، تأبى فئة مارقة خائنة إلا أن تكون أداة بيد المحتل الغاصب مستغلةً وجود قوات الاحتلال على الأرض ومتسلحة بأسلحته وتحت حمايته وعينه ويأبى الله إلا أن يفضح هذه العصابة التابعة للخائن العميل المدعو "ياسر أبو شباب"، والتي شكّلها جيش العدو واعترفت قيادته السياسية بتسليحها وتشغيلها خدمة له ومحاولة لحماية جنوده، وفي محاولة بائسة لتحقيق بعض مما لم يستطع العدو تحقيقه عبر قواته منذ أكثر من عشرين شهراً. وأكدت أن الخائن المأجور المدعو ياسر أبو شباب وعصابته هم ثلة خارجة عن صفّ وطننا، وهم منزوعو الهوية الفلسطينية بالكامل، ودمهم مهدور من كافة فصائل مقاومتنا وقواه منبوذة من عموم أبناء شعبنا الحرّ العزيز، ولن نرحم أياً منهم أو من يسلك مسلكهم في معاونة الاحتلال، وسنتعامل معهم بما يليق بالخونة والعملاء. وأشارت إلى أن مصير هؤلاء الخونة هو مزابل التاريخ فضلاً عن وصمة العار والخزي أمام الله وأمام شعبهم وأمتهم، وسيتعلقون كالطفيليات في أذيال العدو ودباباته حين لا ينفع الندم، وسيتركهم العدو كالأحذية البالية من ورائه، وهذه لازمة ثابتة لنهاية بائسة ذاقها كل الخونة والعملاء عبر التاريخ في كل بقاع الأرض. وجاء في البيان: إننا نقدّر عالياً ونفخر بمواقف عشائرنا الفلسطينية وعائلاتنا الكريمة التي لن يضرها خيانة ثلة معزولة قليلة مارقة من الذين باعوا أنفسهم للشيطان، وقد أعلنت هذه العشائر موقفها المشرّف، ونحن نتعامل معها بكل تقدير واحترام تحت القاعدة الربانية العادلة "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَى". وأكدت أنّ شعبنا على قدر كبير من الوعي ويدرك الفارق بين العملاء المأجورين وبين من يعمل من أجل خدمته، وإنّنا إذ نقدّر حجم المعاناة التي يعيشها شعبنا، ونحن منه وفي قلب معاناته، لكنه ورغم ذلك يرفض الخيانة ويعتبرها أعظم الموبقات وينبذها بكل الطرق ويتبرأ ممن يقترفها أو يقترب منها.


فلسطين أون لاين
منذ 2 أيام
- فلسطين أون لاين
تقرير ضحى وأطفالها.. نزحوا من الموت فاحترقوا في المأوى
غزة/ يحيى اليعقوبي: عند ثلاجات الموتى في مجمع الشفاء الطبي، ترقد جثامين الشهيدة ضحى عبده (28 عامًا) وأطفالها الثلاثة: آدم (سنتان)، وخالد (6 سنوات)، وشام (7 سنوات)، إلى جانب زوجها محمد حجيلة وعدد من أقارب عائلته. استهدفتهم ثلاث طائرات إسرائيلية انتحارية مفخخة، عند الساعة الثانية من فجر الخميس، ليتحوّل المأوى الذي نزحت إليه ضحى قبل شهر هربًا من الموت في حي التفاح شرق غزة، إلى محرقة التهمت أجساد أبنائها وطمست ملامحهم، حتى لم يُعرفوا إلا بأسمائهم. في وداع يشبه العناق الأخير، احتضنت ضحى أطفالها الشهداء وكأنها تصرُّ على الرحيل معهم. رحلت الأم إلى حيث سبَقها زوجها محمد الذي استشهد في بداية الحرب، فواجهت وحدها مصاعب النزوح والحرمان، تنقّلت بأطفالها من مركز إيواء إلى آخر، في بحث عبثي عن ملاذٍ آمن لم يكن موجودًا. داخل المشرحة، حمل أحد أقارب العائلة جثمان الطفلة "لين"، لم تُكمل عامها الثاني، وقد لُفَّت بقطعة قماش ووُضعت فوق جثمان والدها صقر حجيلة، في مشهد يُمزق القلب. وداع لا يشبه الوداع مع ساعات الصباح الأولى، تجمّع أقارب الشهداء في ساحة المشرحة، والصدمة تكسو ملامحهم. لم تُمنح لهم فرصة لرؤية الوجوه، ولا حتى قبلة وداع؛ فالأجساد تفحّمت بفعل القصف، واكتفى الأهالي بنظرات باكية للأكفان البيضاء، ودموع صامتة اختلطت بصرخات الفقد والفاجعة. صرخ خال الشهيدة، عثمان عبده، بمرارة: "نتفاجأ بأنهم يرسلون طائرات انتحارية لتفجير عائلة من أم وأطفال! بأي شرعٍ يُقتلون؟ بأي ضمير؟ حرقوهم أحياء... نطلب الرحمة من الله لأهل غزة." جلست والدة ضحى قرب جثمان ابنتها الوحيدة، لا تكاد تصدق ما ترى. قبل يومٍ فقط زارتها، واحتضنت أحفادها، والآن تلقي عليهم نظرة الوداع الأخيرة، فقدت ابنها مصعب قبل أشهر، وها هي اليوم تعيش فاجعة فقد ضحى وأحفادها دفعة واحدة. "بدنا نروح مع بعض" يروي شقيق ضحى، عبد الرحمن، بكلمات ثقيلة تُغالب الدمع: "كانت أختي تخاف على أولادها كثيرًا. كانت تقول: إذا بدنا نستشهد، بدنا نروح مع بعض. ما بدنا يضل حدا يتحسّر على التاني." ويضيف لصحيفة "فلسطين": "جاءنا الاتصال فجرًا من شقيق زوجها، يخبرنا بما جرى، وعندما وصلنا صُدمنا بتفحّمهم جميعًا." يحاول عبد الرحمن التماسك وهو ينظر إلى الأكفان التي تضم أشلاء أبناء شقيقته: "كانوا في منتهى الجمال. شام كانت تحلم أن تصبح طبيبة، ووالدتهم كانت تدرّسهم بنفسها، ترفض إرسالهم للمراكز التعليمية خوفًا من القصف. كانت تبحث عن الأمان، لكنها لم تجده." وكان من المقرر أن يزورها في يوم استشهادها، يقول: "بعد نزوحنا من حي التفاح إلى منزل عمي، فكرت أن أذهب عندها لأدرس استعدادًا للثانوية العامة، لكن استُشهدت قبل أن أتمكن من رؤيتها. تحدثنا قبلها بيوم، كنا نشتاق إليها كثيرًا. فراقها قاسٍ." ويتابع: "كانت ترى زوجها محمد كثيرًا في المنام، قالت لنا مرارًا إنه يظهر لها في أحلامها... وكأنها كانت تودّعنا دون أن نعلم." فقدها كسر شيئًا داخله بصوت يختنق بالحنين، يقول عبد الرحمن: "بوجود الأخت، تشعر ببهجة العيد. برحيلها تفقد أشياء كثيرة. كانت قريبة منا جميعًا. بعد استشهاد زوجها، نزحت إلينا وعاشت بيننا... الفقد كسر فيها الكثير." ويتذكّر اليوم الأول لفقد زوجها محمد: "أخرنا إخبارها بوفاته ثلاثة أيام، خشينا على حالتها النفسية، لكنها بدأت تشعر، وحين علمت، دخلت في صدمة استمرت لأكثر من شهرين." استشهد محمد أثناء محاولته شراء دواء لابنه الصغير، وكان قد مرّ بوالده يساعده في تعبئة المياه، بينما ذهب الأب لشراء الدواء. في تلك اللحظة، قصف الاحتلال المنزل، واستشهد محمد مع والدته وشقيقاته. واليوم، بلحظة قصف جديدة، لحقَت بهم زوجته وأطفاله، ولم ينجُ من العائلة إلا شخص واحد. لا أمان حتى في النوم في زاوية أخرى، جلست قريبات الشهيدة يبكين بصمت موجع. كل العائلة كانت مجتمعة في مركز الإيواء التابع لمدرسة مصطفى حافظ، في لحظة سكينة قبل الفجر. لم يتوقع أحد أن تُغدر أحلامهم بثلاث طائرات مفخخة، تقصف المكان دون إنذار، لتسرق أرواحهم وهم نائمون. تقول إحدى القريبات، وهي تمسح دموعها: "ضحى كانت تخشى على أطفالها من القصف في محيط منزل والدها بحي التفاح، فذهبت إلى مركز الإيواء عند أهل زوجها. لكن حتى هناك لم يسلموا. ما ذنب الأطفال؟ ماذا رأوا من الدنيا ليُقصفوا بهذه الوحشية؟" نزحت ضحى – المعروفة بـ "أم خالد" – خمس مرات في الأسابيع الأخيرة، بحثًا عن بقعة آمنة. أرادت فقط أن تحمي أطفالها، أن تحافظ على شيء من رائحة زوجها الراحل. تختم خالتها بحسرة: "كان أولادها من أجمل ما يكون... أذكياء، وطيبون. لكن انظر كيف صاروا... أين حق الطفولة في غزة؟!" المصدر / فلسطين أون لاين