
"البوح الرقمي".. بين الرغبة في الشفاء وخطر التشهير والاستغلال
رشا كناكرية
اضافة اعلان
عمان- "بوح رقمي"؛ هذا ما يفعله بعض من رواد مواقع التواصل الاجتماعي في محاولة للشفاء من صدمات الماضي. خطوة ابتدعها أحد مؤثري السوشال ميديا، وسرعان ما قلدها آخرون، لتتحول إلى ظاهرة يتسابق الكثيرون على المشاركة بها وترك بصمتهم و"ركوب الموجة".شهدنا في الفترة الأخيرة عددا من المستخدمين يشاركون تفاصيل مشاكلهم الشخصية بل وحتى الأسرية، عبر المنصات الرقمية، أملا في أن يجدوا من خلالها بعض الشفاء.لكن الواقع يحمل وجها آخر. فمشاركة المواقف والمشاكل الشخصية على العلن قد تفتح أبوابا غير متوقعة من الانتقاد والاستخفاف إلى التنمر، ما ينتج جرحا جديدا قد يلحق ضررا بالصحة النفسية دون وعي منهم.وفي خضم دوامة التقليد والبحث عن الشفاء، وتحت لافتات مثل "الشجاعة" و"التخطي"، يشارك آخرون قصصا خاصة لا يصح مشاركتها أساسا، لتتحول إلى حكايات يتداولها الناس بين السخرية والتعاطف والتنظير.مشاركة قصص خاصةونرى اليوم العديد من الأشخاص ممن اقتدوا بمؤثري السوشال ميديا الذين شاركوا قصصهم الخاصة، فبدأوا هم أيضا بسرد تجاربهم عبر مختلف منصات التواصل، مصورين أنفسهم وهم يروون تفاصيل تلك القصص، ويفصحون عن أسماء من سببوا لهم الأذى، سواء من محيطهم الاجتماعي أو من أفراد أسرهم.وفي خضم موجة البوح الرقمي والسعي نحو الشفاء، يبرز تساؤل جوهري: هل تناسى مستخدمو مواقع التواصل أن هناك ضوابط وخطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها داخل المجتمع؟يوضح الدكتور في علم الاجتماع محمد الجريبيع أن هذه الظاهرة أصبحت منتشرة بشكل واسع في الآونة الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، مشيرا إلى أن هناك نوعا من الجرأة الأدبية بدأ يطغى، ما أدى إلى تجاوز بعض الموروثات الثقافية والاجتماعية، وأصبح الناس يتحدثون عن مشاكلهم الاجتماعية، وهمومهم وحتى خلافاتهم الشخصية علنيا.ويرى الجريبيع أن لهذه الظاهرة عدة أسباب، أولها يرتبط بطبيعة الأفراد وتركيبتهم النفسية والاجتماعية، اضافة إلى غياب من يمكنهم الحديث معه أو تبادل الرأي والمشاعر معهم.ووفق الجريبيع فإن غياب الحاضنة الاجتماعية أو الأسرية التي تتيح لهؤلاء الأفراد التعبير عن مشاعرهم وتفريغ طاقاتهم الكامنة، سواء كانت سلبية أو إيجابية، دفعهم للبحث عن وسيلة بديلة، فوجدوا في السوشال ميديا مساحة لهم.تراجع الضوابط الاجتماعيةويضيف الجريبيع أن منظومة القيم في المجتمع الأردني شهدت تغيرا واضحا، سواء على المستوى الديني أو الاجتماعي. كما أن السلطة لم تعد جماعية كما كانت سابقا، ممثلة بالعائلة أو العشيرة، بل أصبحت سلطة فردية، ما أدى إلى تراجع الكثير من الضوابط الاجتماعية التقليدية.ويشير الجريبيع إلى أن العديد من الناشطين على مواقع التواصل بدأوا يتحدثون عن مشاكلهم الشخصية، والجوانب النفسية والاجتماعية التي يعيشونها عبر بث مقاطع الفيديو، ما جعلهم محل جذب وانتباه للناس. ونتيجة لذلك، بدأ بعضهم يقتدي بهم، ويرى فيهم قدوة أو نموذجا يستحق التقليد.ويؤكد الجريبيع أن أخطر ما في هذه الظاهرة، هو أن القضايا الشخصية التي تطرح غالبا ما تحتوي على قدر من الإثارة، ما يدفع المتابعين للتفاعل معها بكثافة عبر الإعجابات والمشاركات. وهو ما يكشف أن جزءا من دوافع هذا البوح مرتبط بالحاجة إلى الاهتمام أكثر من الرغبة الحقيقية في الشفاء أو التغيير.ويختم الجريبيع بالتنبيه إلى أن هذه الظاهرة تحمل أثرا سلبيا واضحا، وتمس جوهر المجتمع الأردني، إذ تسهم في تفكيك الخصوصية وتحويل الحياة الأسرية من مساحة مغلقة وخاصة إلى مساحة عامة ومكشوفة، ما يؤدي تدريجيا إلى فقدان الخصوصية.ويعتقد الدكتور محمد الجريبيع أن المشكلة لا تكمن في وسائل التواصل الاجتماعي بحد ذاتها، بل في السلوك الإنساني الذي أساء استخدامها، وجعل منها منبرا لطرح قضايا شخصية لا تناقش في العلن. ويشدد على أننا بحاجة إلى إعادة النظر بدورنا كأفراد داخل الأسرة، فـ "العائلة تبقى الحاضنة الأساسية ولها دور كبير في احتواء مشاكلنا الاجتماعية، ويجب أن نلجأ لحلول تنبع من داخلها بطريقتنا الخاصة".الفضفضة الآمنةومن جانبها، توضح الاستشارية البطوش أن الفضفضة عندما تتم في سياق آمن ومنضبط، ومع شخص موثوق كالمعالج النفسي أو قريب متفهم، فإنها تعد جزءا صحيا من عملية الشفاء، إذ تساهم في التخفيف من حدة الألم الداخلي وتعزز الشعور بالدعم والقبول.لكن، عندما يتحول هذا البوح إلى إعلان مفتوح أمام جمهور افتراضي غير مؤهل نفسيا أو اخلاقيا للتعامل مع مشاعر الألم البشري، يصبح التفاعل محفوفا بالمخاطر.وتوضح البطوش أن الشخص قد لا يجد ما يعينه فعلا، بل قد يتعرض لتعليقات جارحة أو استغلال عاطفي، أو تفسيرات سطحية تزيد من ألمه. وفي مثل هذه الحالات، لا يكون الهدف الحقيقي هو الشفاء بل البحث عن تعاطف لحظي أو لفت انتباه مؤقت، مما قد يترك أثرا نفسيا أعمق وأطول مما يتصوره.وتفسر البطوش أن مشاركة التجارب المؤلمة عبر الإنترنت قد تمنح شعورا مؤقتا بالراحة، لكنها تترك آثارا نفسية سلبية محتملة على المدى البعيد، يصعب تجاهلها. فالانفتاح العلني قد يعرّض الشخص للانتقاد، التنمّر، أو الأحكام المسبقة، ما يضاعف جراحه النفسية ويشوه صورته الذاتية.وكما أن فقدان السيطرة على خصوصية المحتوى المنشور قد يعرض صاحبه لاحقا لمشاعر الندم، خاصة إذا تغيرت نظرته للموقف أو للأشخاص المعنيين.وتكمن الخطورة الأكبر، بحسب البطوش، في أن هذه المشاركات قد تغذي ما يعرف بـ"دور الضحية"، حيث يبقى الفرد عالقا في سرد المشكلة من دون سعي حقيقي للتعافي مما يعيق نموه النفسي.الاعتماد على تعاطف المتابعينوتضيف البطوش أن الاعتماد المفرط على تعاطف المتابعين يربك التوازن العاطفي للفرد، ويضعف قدرته على بناء أدوات داخلية للشفاء. وعلى صعيد العلاقات، فإن الإفصاح عن تفاصيل حساسة حتى دون ذكر أسماء، قد يترك أثرا على ثقة الآخرين، ويؤثر على قدرته لاحقا في إقامة علاقات صحية تقوم على الاحترام والخصوصية.وتبين البطوش أن قرار أحد أفراد الأسرة بمشاركة مشاكل شخصية أو خلافات عائلية على الملأ لا ينعكس عليه وحده، بل يمتد أثره ليشمل الأسرة بأكملها، وقد تكون العواقب مؤلمة وطويلة الأمد.وتفسر أن الكشف عن مسائل عائلية خاصة يعد انتهاكا لخصوصية الآخرين داخل المنزل، ويشعرهم بالخيانة وفقدان الأمان العاطفي. فالإفصاح العلني قد يفتح الباب أمام أحكام مجتمعية قاسية تؤثر على سمعة العائلة وعلاقاتها الاجتماعية.وتنوه البطوش إلى أن هذه التصرفات تخلق حالة من التوتر والخلاف داخل الأسرة، حيث يشعر بعضهم بالغضب أو الإحراج أو فقدان الثقة مما يؤدي إلى تصدع في الروابط العائلية.وتؤكد أن حماية الأسرة من الأذى الناتج عن نشر المشاكل الشخصية على العلن أمر بالغ الأهمية، ويتطلب وضع ضوابط واضحة تعزز من تماسك الأسرة وخصوصيتها. ويبدأ ذلك بإرساء حوار مفتوح وصريح داخل العائلة، يتيح لكل فرد التعبير عن مشاكله ومخاوفه بأمان وثقة، بعيدا عن الحاجة للبوح عبر المنصات الخارجية.مشاكل أسرية لا ينبغي الافصاح عنهاوتشدد البطوش على أن المشاكل الأسرية هي شأن داخلي بحت، ولا ينبغي كشفها علنا، بما في ذلك ضرورة وضع قواعد واضحة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي عند ما يتعلق بالحياة العائلية. وعند نشوب أي مشكلة، يجب البحث عن حلول داخلية أولاً، سواء من خلال الحوار المباشر أو اللجوء إلى مشورة أسرية متخصصة عند الحاجة، بدلا من التماس التعاطف أو الحلول من الغرباء.دافع بعضهم لمشاركة آلامهم علنا لا يقتصر فقط على تفريغ المشاعر، بل يمتد ليعكس فجوة داخلية عميقة تتعلق بالحاجة إلى التقدير والشعور بالوجود. فعندما يفتقر الفرد إلى من ينصت له باهتمام في محيطه القريب، يتحول جمهور وسائل التواصل الاجتماعي، بكل اتساعه وتنوعه إلى بديل عاطفي يسعى من خلاله للحصول على اهتمام واعتراف يفتقده في حياته الواقعية.وبالرغم من أن هذه الحاجة قد تبدو مفهومة من منظور نفسي، إلا أنها غالبا ما تكون مؤشرا واضحا على وجود خلل أعمق في بنية التواصل والعلاقات ضمن الدوائر الاجتماعية والعائلية. وهذا الخلل يستدعي معالجة جذرية في طريقة تقديم وتلقّي الدعم العاطفي الحقيقي، إذ لا يمكن للتعاطف الافتراضي أن يعوّض الدعم المباشر الذي يبني علاقات متينة ويساهم في شفاء نفسي مستدام.ومن جانب آخر، تبين البطوش أن كثيرين يعيشون وهم السيطرة على ما ينشرونه عبر الإنترنت، معتقدين أن الحذف أو التعديل كاف لمحو الأثر. لكن الحقيقة أن أي محتوى يشارك على العلن يصبح عرضة للنسخ، الحفظ، وإعادة التوزيع بطرق خارجة تماما عن إرادة صاحبه.لحظة انفعال واحدة قد تدفع الشخص لكشف تفاصيل شخصية أو عائلية، ليكتشف لاحقا أن "المنشور المحذوف" ما يزال حيا في هواتف الآخرين، أو في أرشيف المنصات، أو حتى في ذاكرة المتابعين. وفي كثير من الحالات، يتحول هذا الانكشاف المؤقت إلى عبء دائم، تتجلى عواقبه في صورة تشهير، استغلال، أو فقدان مؤلم للخصوصية.ومن جهة أخرى، ترى البطوش أن مشاركة أحد الأشخاص المؤثرين لتجربة مؤلمة بطريقة درامية أو متطرفة، قد ينتج نموذجا سلبيا يلهم متابعين آخرين، خصوصا من فئة المراهقين الأكثر تأثرا لتقليده دون وعي حقيقي بالعواقب. وقد يتحول هذا التقليد من "فضفضة" بريئة إلى "فضيحة" علنية، تتجاوز حدود الخصوصية والأخلاق.وفي هذه الحالة، لا تقتصر الأضرار على الفرد الذي يشارك قصته، بل تتعداها لتحدث أثرا نفسيا سلبيا جماعيا ينتشر بين المتابعين، فيما يشبه "عدوى الفضفضة الرقمية". ويشعر الأفراد بضغط غير مرئي يدفعهم لمشاركة تفاصيل حياتهم الحميمة بحثا عن اهتمام أو شعور بالانتماء، ما قد يورطهم في الكشف عن معلومات شديدة الحساسية، ويقودهم إلى مشكلات لا تحمد عقباها.هذه الظاهرة لا تهدد الخصوصية الفردية فحسب، بل تساهم ايضا في تآكل القيم المجتمعية التي تحفظ الترابط الأسري والاحترام المتبادل.وتختم البطوش حديثها مؤكدة أن ظاهرة البوح العلني بالمشكلات الشخصية والأسرية عبر منصات التواصل الاجتماعي هي قضية معقدة، تتجاوز مجرد "فضفضة عابرة".فبينما يمكن للبوح في سياق آمن وموثوق، أن يكون جزءا أساسيا من رحلة التعافي النفسي، إلا أن نشره على العلن، خاصة عندما يمس خصوصيات الآخرين أو يتم بدافع البحث عن اهتمام سريع، يحمل في طياته مخاطر جسيمة.وتؤكد أن العلاج الحقيقي للصدمات لا يكون عبر البوح العشوائي، بل من خلال طلب المساعدة المهنية المتخصصة، وبناء شبكات دعم حقيقية وموثوقة، مع احترام الحدود والخصوصية. كما تؤكد أن على الأسر والمجتمعات مسؤولية كبيرة في توعية الأفراد خصوصا الشباب بأهمية التمييز بين الفضفضة الصحية والنشر العلني المدمّر.ويبقى الحفاظ على الصحة النفسية، وحماية النسيج الأسري والمجتمعي، يتطلب وعيا أعمق بمسؤوليتنا تجاه ما ننشره، وتفهما أوسع لكيفية البوح بما يشفي لا بما يؤذي.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


البوابة
منذ 2 ساعات
- البوابة
أدعية السنة الهجرية الجديدة 1447
مُحررة قسم صحة وجمال انضمّتْ إلى فريق "بوابة الشرق الأوسط" عام 2013 كمُحررة قي قسم صحة وجمال بعدَ أن عَملت مُسبقًا كمحُررة في "شركة مكتوب - ياهو". وكان لطاقتها الإيجابية الأثر الأكبر في إثراء الموقع بمحتوى هادف يخدم أسلوب الحياة المتطورة في كل المجالات التي تخص العائلة بشكلٍ عام، والمرأة بشكل خاص، وتعكس مقالاتها نمطاً صحياً من نوع آخر وحياة أكثر إيجابية.


الغد
منذ 4 ساعات
- الغد
"البوح الرقمي".. بين الرغبة في الشفاء وخطر التشهير والاستغلال
رشا كناكرية اضافة اعلان عمان- "بوح رقمي"؛ هذا ما يفعله بعض من رواد مواقع التواصل الاجتماعي في محاولة للشفاء من صدمات الماضي. خطوة ابتدعها أحد مؤثري السوشال ميديا، وسرعان ما قلدها آخرون، لتتحول إلى ظاهرة يتسابق الكثيرون على المشاركة بها وترك بصمتهم و"ركوب الموجة".شهدنا في الفترة الأخيرة عددا من المستخدمين يشاركون تفاصيل مشاكلهم الشخصية بل وحتى الأسرية، عبر المنصات الرقمية، أملا في أن يجدوا من خلالها بعض الشفاء.لكن الواقع يحمل وجها آخر. فمشاركة المواقف والمشاكل الشخصية على العلن قد تفتح أبوابا غير متوقعة من الانتقاد والاستخفاف إلى التنمر، ما ينتج جرحا جديدا قد يلحق ضررا بالصحة النفسية دون وعي منهم.وفي خضم دوامة التقليد والبحث عن الشفاء، وتحت لافتات مثل "الشجاعة" و"التخطي"، يشارك آخرون قصصا خاصة لا يصح مشاركتها أساسا، لتتحول إلى حكايات يتداولها الناس بين السخرية والتعاطف والتنظير.مشاركة قصص خاصةونرى اليوم العديد من الأشخاص ممن اقتدوا بمؤثري السوشال ميديا الذين شاركوا قصصهم الخاصة، فبدأوا هم أيضا بسرد تجاربهم عبر مختلف منصات التواصل، مصورين أنفسهم وهم يروون تفاصيل تلك القصص، ويفصحون عن أسماء من سببوا لهم الأذى، سواء من محيطهم الاجتماعي أو من أفراد أسرهم.وفي خضم موجة البوح الرقمي والسعي نحو الشفاء، يبرز تساؤل جوهري: هل تناسى مستخدمو مواقع التواصل أن هناك ضوابط وخطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها داخل المجتمع؟يوضح الدكتور في علم الاجتماع محمد الجريبيع أن هذه الظاهرة أصبحت منتشرة بشكل واسع في الآونة الأخيرة على وسائل التواصل الاجتماعي، مشيرا إلى أن هناك نوعا من الجرأة الأدبية بدأ يطغى، ما أدى إلى تجاوز بعض الموروثات الثقافية والاجتماعية، وأصبح الناس يتحدثون عن مشاكلهم الاجتماعية، وهمومهم وحتى خلافاتهم الشخصية علنيا.ويرى الجريبيع أن لهذه الظاهرة عدة أسباب، أولها يرتبط بطبيعة الأفراد وتركيبتهم النفسية والاجتماعية، اضافة إلى غياب من يمكنهم الحديث معه أو تبادل الرأي والمشاعر معهم.ووفق الجريبيع فإن غياب الحاضنة الاجتماعية أو الأسرية التي تتيح لهؤلاء الأفراد التعبير عن مشاعرهم وتفريغ طاقاتهم الكامنة، سواء كانت سلبية أو إيجابية، دفعهم للبحث عن وسيلة بديلة، فوجدوا في السوشال ميديا مساحة لهم.تراجع الضوابط الاجتماعيةويضيف الجريبيع أن منظومة القيم في المجتمع الأردني شهدت تغيرا واضحا، سواء على المستوى الديني أو الاجتماعي. كما أن السلطة لم تعد جماعية كما كانت سابقا، ممثلة بالعائلة أو العشيرة، بل أصبحت سلطة فردية، ما أدى إلى تراجع الكثير من الضوابط الاجتماعية التقليدية.ويشير الجريبيع إلى أن العديد من الناشطين على مواقع التواصل بدأوا يتحدثون عن مشاكلهم الشخصية، والجوانب النفسية والاجتماعية التي يعيشونها عبر بث مقاطع الفيديو، ما جعلهم محل جذب وانتباه للناس. ونتيجة لذلك، بدأ بعضهم يقتدي بهم، ويرى فيهم قدوة أو نموذجا يستحق التقليد.ويؤكد الجريبيع أن أخطر ما في هذه الظاهرة، هو أن القضايا الشخصية التي تطرح غالبا ما تحتوي على قدر من الإثارة، ما يدفع المتابعين للتفاعل معها بكثافة عبر الإعجابات والمشاركات. وهو ما يكشف أن جزءا من دوافع هذا البوح مرتبط بالحاجة إلى الاهتمام أكثر من الرغبة الحقيقية في الشفاء أو التغيير.ويختم الجريبيع بالتنبيه إلى أن هذه الظاهرة تحمل أثرا سلبيا واضحا، وتمس جوهر المجتمع الأردني، إذ تسهم في تفكيك الخصوصية وتحويل الحياة الأسرية من مساحة مغلقة وخاصة إلى مساحة عامة ومكشوفة، ما يؤدي تدريجيا إلى فقدان الخصوصية.ويعتقد الدكتور محمد الجريبيع أن المشكلة لا تكمن في وسائل التواصل الاجتماعي بحد ذاتها، بل في السلوك الإنساني الذي أساء استخدامها، وجعل منها منبرا لطرح قضايا شخصية لا تناقش في العلن. ويشدد على أننا بحاجة إلى إعادة النظر بدورنا كأفراد داخل الأسرة، فـ "العائلة تبقى الحاضنة الأساسية ولها دور كبير في احتواء مشاكلنا الاجتماعية، ويجب أن نلجأ لحلول تنبع من داخلها بطريقتنا الخاصة".الفضفضة الآمنةومن جانبها، توضح الاستشارية البطوش أن الفضفضة عندما تتم في سياق آمن ومنضبط، ومع شخص موثوق كالمعالج النفسي أو قريب متفهم، فإنها تعد جزءا صحيا من عملية الشفاء، إذ تساهم في التخفيف من حدة الألم الداخلي وتعزز الشعور بالدعم والقبول.لكن، عندما يتحول هذا البوح إلى إعلان مفتوح أمام جمهور افتراضي غير مؤهل نفسيا أو اخلاقيا للتعامل مع مشاعر الألم البشري، يصبح التفاعل محفوفا بالمخاطر.وتوضح البطوش أن الشخص قد لا يجد ما يعينه فعلا، بل قد يتعرض لتعليقات جارحة أو استغلال عاطفي، أو تفسيرات سطحية تزيد من ألمه. وفي مثل هذه الحالات، لا يكون الهدف الحقيقي هو الشفاء بل البحث عن تعاطف لحظي أو لفت انتباه مؤقت، مما قد يترك أثرا نفسيا أعمق وأطول مما يتصوره.وتفسر البطوش أن مشاركة التجارب المؤلمة عبر الإنترنت قد تمنح شعورا مؤقتا بالراحة، لكنها تترك آثارا نفسية سلبية محتملة على المدى البعيد، يصعب تجاهلها. فالانفتاح العلني قد يعرّض الشخص للانتقاد، التنمّر، أو الأحكام المسبقة، ما يضاعف جراحه النفسية ويشوه صورته الذاتية.وكما أن فقدان السيطرة على خصوصية المحتوى المنشور قد يعرض صاحبه لاحقا لمشاعر الندم، خاصة إذا تغيرت نظرته للموقف أو للأشخاص المعنيين.وتكمن الخطورة الأكبر، بحسب البطوش، في أن هذه المشاركات قد تغذي ما يعرف بـ"دور الضحية"، حيث يبقى الفرد عالقا في سرد المشكلة من دون سعي حقيقي للتعافي مما يعيق نموه النفسي.الاعتماد على تعاطف المتابعينوتضيف البطوش أن الاعتماد المفرط على تعاطف المتابعين يربك التوازن العاطفي للفرد، ويضعف قدرته على بناء أدوات داخلية للشفاء. وعلى صعيد العلاقات، فإن الإفصاح عن تفاصيل حساسة حتى دون ذكر أسماء، قد يترك أثرا على ثقة الآخرين، ويؤثر على قدرته لاحقا في إقامة علاقات صحية تقوم على الاحترام والخصوصية.وتبين البطوش أن قرار أحد أفراد الأسرة بمشاركة مشاكل شخصية أو خلافات عائلية على الملأ لا ينعكس عليه وحده، بل يمتد أثره ليشمل الأسرة بأكملها، وقد تكون العواقب مؤلمة وطويلة الأمد.وتفسر أن الكشف عن مسائل عائلية خاصة يعد انتهاكا لخصوصية الآخرين داخل المنزل، ويشعرهم بالخيانة وفقدان الأمان العاطفي. فالإفصاح العلني قد يفتح الباب أمام أحكام مجتمعية قاسية تؤثر على سمعة العائلة وعلاقاتها الاجتماعية.وتنوه البطوش إلى أن هذه التصرفات تخلق حالة من التوتر والخلاف داخل الأسرة، حيث يشعر بعضهم بالغضب أو الإحراج أو فقدان الثقة مما يؤدي إلى تصدع في الروابط العائلية.وتؤكد أن حماية الأسرة من الأذى الناتج عن نشر المشاكل الشخصية على العلن أمر بالغ الأهمية، ويتطلب وضع ضوابط واضحة تعزز من تماسك الأسرة وخصوصيتها. ويبدأ ذلك بإرساء حوار مفتوح وصريح داخل العائلة، يتيح لكل فرد التعبير عن مشاكله ومخاوفه بأمان وثقة، بعيدا عن الحاجة للبوح عبر المنصات الخارجية.مشاكل أسرية لا ينبغي الافصاح عنهاوتشدد البطوش على أن المشاكل الأسرية هي شأن داخلي بحت، ولا ينبغي كشفها علنا، بما في ذلك ضرورة وضع قواعد واضحة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي عند ما يتعلق بالحياة العائلية. وعند نشوب أي مشكلة، يجب البحث عن حلول داخلية أولاً، سواء من خلال الحوار المباشر أو اللجوء إلى مشورة أسرية متخصصة عند الحاجة، بدلا من التماس التعاطف أو الحلول من الغرباء.دافع بعضهم لمشاركة آلامهم علنا لا يقتصر فقط على تفريغ المشاعر، بل يمتد ليعكس فجوة داخلية عميقة تتعلق بالحاجة إلى التقدير والشعور بالوجود. فعندما يفتقر الفرد إلى من ينصت له باهتمام في محيطه القريب، يتحول جمهور وسائل التواصل الاجتماعي، بكل اتساعه وتنوعه إلى بديل عاطفي يسعى من خلاله للحصول على اهتمام واعتراف يفتقده في حياته الواقعية.وبالرغم من أن هذه الحاجة قد تبدو مفهومة من منظور نفسي، إلا أنها غالبا ما تكون مؤشرا واضحا على وجود خلل أعمق في بنية التواصل والعلاقات ضمن الدوائر الاجتماعية والعائلية. وهذا الخلل يستدعي معالجة جذرية في طريقة تقديم وتلقّي الدعم العاطفي الحقيقي، إذ لا يمكن للتعاطف الافتراضي أن يعوّض الدعم المباشر الذي يبني علاقات متينة ويساهم في شفاء نفسي مستدام.ومن جانب آخر، تبين البطوش أن كثيرين يعيشون وهم السيطرة على ما ينشرونه عبر الإنترنت، معتقدين أن الحذف أو التعديل كاف لمحو الأثر. لكن الحقيقة أن أي محتوى يشارك على العلن يصبح عرضة للنسخ، الحفظ، وإعادة التوزيع بطرق خارجة تماما عن إرادة صاحبه.لحظة انفعال واحدة قد تدفع الشخص لكشف تفاصيل شخصية أو عائلية، ليكتشف لاحقا أن "المنشور المحذوف" ما يزال حيا في هواتف الآخرين، أو في أرشيف المنصات، أو حتى في ذاكرة المتابعين. وفي كثير من الحالات، يتحول هذا الانكشاف المؤقت إلى عبء دائم، تتجلى عواقبه في صورة تشهير، استغلال، أو فقدان مؤلم للخصوصية.ومن جهة أخرى، ترى البطوش أن مشاركة أحد الأشخاص المؤثرين لتجربة مؤلمة بطريقة درامية أو متطرفة، قد ينتج نموذجا سلبيا يلهم متابعين آخرين، خصوصا من فئة المراهقين الأكثر تأثرا لتقليده دون وعي حقيقي بالعواقب. وقد يتحول هذا التقليد من "فضفضة" بريئة إلى "فضيحة" علنية، تتجاوز حدود الخصوصية والأخلاق.وفي هذه الحالة، لا تقتصر الأضرار على الفرد الذي يشارك قصته، بل تتعداها لتحدث أثرا نفسيا سلبيا جماعيا ينتشر بين المتابعين، فيما يشبه "عدوى الفضفضة الرقمية". ويشعر الأفراد بضغط غير مرئي يدفعهم لمشاركة تفاصيل حياتهم الحميمة بحثا عن اهتمام أو شعور بالانتماء، ما قد يورطهم في الكشف عن معلومات شديدة الحساسية، ويقودهم إلى مشكلات لا تحمد عقباها.هذه الظاهرة لا تهدد الخصوصية الفردية فحسب، بل تساهم ايضا في تآكل القيم المجتمعية التي تحفظ الترابط الأسري والاحترام المتبادل.وتختم البطوش حديثها مؤكدة أن ظاهرة البوح العلني بالمشكلات الشخصية والأسرية عبر منصات التواصل الاجتماعي هي قضية معقدة، تتجاوز مجرد "فضفضة عابرة".فبينما يمكن للبوح في سياق آمن وموثوق، أن يكون جزءا أساسيا من رحلة التعافي النفسي، إلا أن نشره على العلن، خاصة عندما يمس خصوصيات الآخرين أو يتم بدافع البحث عن اهتمام سريع، يحمل في طياته مخاطر جسيمة.وتؤكد أن العلاج الحقيقي للصدمات لا يكون عبر البوح العشوائي، بل من خلال طلب المساعدة المهنية المتخصصة، وبناء شبكات دعم حقيقية وموثوقة، مع احترام الحدود والخصوصية. كما تؤكد أن على الأسر والمجتمعات مسؤولية كبيرة في توعية الأفراد خصوصا الشباب بأهمية التمييز بين الفضفضة الصحية والنشر العلني المدمّر.ويبقى الحفاظ على الصحة النفسية، وحماية النسيج الأسري والمجتمعي، يتطلب وعيا أعمق بمسؤوليتنا تجاه ما ننشره، وتفهما أوسع لكيفية البوح بما يشفي لا بما يؤذي.


الغد
منذ 9 ساعات
- الغد
24 قتيلاً وأكثر من 1000 مصاب إسرائيلي منذ بدء الحرب مع إيران
اضافة اعلان عمان- قالت هيئة البث الإسرائيلية إن الإسعاف الإسرائيلي أعلن مساء اليوم الأحد، أن إجمالي عدد المصابين الإسرائيليين منذ بدء الحرب مع إيران بلغ 1213 شخصًا.وأوضح البيان أن من بين الإصابات: 24 قتيلًا، و16 إصابة وُصفت بالخطيرة، و27 إصابة متوسطة، فيما وُصفت بقية الحالات بأنها طفيفة. -(بترا)