
حين يتكلم العقل: كيف يغيّر العلاج النفسي نظرة الإنسان؟ بي بي سي توثق حياة 3 مرضى
دخلت نيكول غرفة المعالج النفسي وأمسكت بما تسميه وسادة العناق. اعترفت بتوترها من الجلوس مع شخص غريب لمناقشة صحتها النفسية.
تبلغ نيكول من العمر 31 عاماً، وتعيش في لندن وتعمل مساعدة أخصائي تقويم العمود الفقري. لكنها تعاني من القلق أثناء قيادة السيارة.
تقول "هناك الكثير من الأشياء التي تدور في ذهني بسرعة وأنا أقود سيارتي".
"كم تبعد المسافة؟ ما هو الطريق الذي يجب أنا أخذه؟ بطريقة ما، نسيت كيفية القيادة".
تعاني نيكول من نوبات هلع، وخوفها من القيادة يدفعها إلى إلغاء الكثير من خططها باستمرار.
وبعد ست جلسات مع المعالج النفسي أوين أوكين، اتضح أن مشاكلها أعمق بكثير من مجرد الخوف من القيادة.
البحث في أعماق العقل
يعاني واحد من كل ستة أشخاص في المملكة المتحدة، أسبوعياً، من مشاكل الصحة النفسية مثل الاكتئاب والقلق، ويلجأ أكثر من 1.2 مليون شخص سنوياً إلى "خدمات العلاج بالكلام" التابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية (إن إتش إس NHS)، بينما يدفع الكثيرون تكاليف الحصول على الدعم والعلاج النفسي الخاص.
يُستخدم هذا النوع من العلاج غالباً لعلاج القلق والاكتئاب، لكنه قد يساعد أيضاً في التعامل مع مجموعة من المشكلات الأخرى، مثل اضطراب تشوّه صورة الجسم، واضطراب الوسواس القهري، واضطراب ما بعد الصدمة. ومع ذلك، فهو لا ينجح مع الجميع؛ إذ تشير الأبحاث إلى أن ثلث الأشخاص لا يستفيدون منه.
تابعت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي 12 شخصاً، شاركوا في سلسلة تدعى "غيّر عقلك، غيّر حياتك"، وتلقّى كلٌّ منهم ست جلسات دعم من مُعالجين نفسيين.
استخدم المُعالجون النفسيون مزيجاً من أساليب العلاج بالكلام المُختلفة، بما في ذلك العلاج السلوكي المعرفي الذي يُركز على تغيير طريقة تفكيرنا وسلوكنا، إلى جانب تقنيات أخرى لتحسين العلاقات ومعالجة الصدمات.
ما يكشفه هذا العلاج مُلفت للنظر، إذ يوضح كيف يُمكن لفهم العقل وتعلم كيفية إدارته أن يُغيرا حياة الناس.
يقول أوين أوكين، الذي عمل في هذا المجال لمدة 25 عاماً "لا تتقيد بعقلك الذي ولدت به".
يصف وظيفته بأنها أشبه بالتحقيقات: "يأتي الناس بقصة تبدو معقولة، لكن الشيء المثير للاهتمام هو أن القصة والمشاعر لا تتطابقان في كثير من الأحيان. أعتقد أن ما نقوم به هو البحث والتقصي قليلاً".
"كرهت نفسي تماماً"
خلال جلساتهما، يغوص أوين بشكل أعمق في قلق نيكول. في لحظة مؤثرة، تنهمر دموعها وتعترف بأنها في الماضي كانت "تكره نفسها تماماً". تعيش قلقاً اجتماعياً مستمراً، حيث تقلق بشأن نظرة الآخرين لها وتخشى أن تقول شيئاً خاطئاً، وتبيّن: "لا أشعر بأنني جيدة بما يكفي لأكون هناك. قد أرتكب خطأً. أحتاج إلى أن يحبني الناس".
ويطرح أوين تساؤلات حول سبب شعورها بهذه الطريقة: "نحن كبشر نحب المشاعر الإيجابية، نحب الشعور بالسعادة والفرح والوقوع في الحب". لكنه يشير إلى أن بعض الأشخاص يحاولون تجنب أو قمع مشاعر مثل الخوف والرعب والحزن، مما قد يؤدي إلى القلق. وبدلاً من ذلك، يرى أن من الأفضل تقبّل هذه المشاعر والاعتراف بها كأحاسيس طبيعية وآمنة.
عندما يصل الناس إلى تلك المرحلة، يقول إنهم يبدأون في الشعور بالقوة: "يدركون أنهم لن ينهاروا أمام مشاعرهم."
وهي تتحدث خارج غرفة العلاج، تقول نيكول: "أنا مصدومة. لقد فهمني على الفور. كنت أرى الهشاشة أمراً سلبياً، لكنها ليست كذلك".
وعندما طُلب منها وصف نفسها، استخدمت كلمات مثل اللطف، والتأمل، والعزيمة، والحماس وقالت لأوين "أنا لستُ شخصاً سيئاً".
وأضافت أنها تعلمت الكثير: "الأهم من ذلك أنني أدركت أنني لم أكن لطيفة مع نفسي. كان ذلك بمثابة كشف كبير بالنسبة لي".
يقول أوين إن هذا أمر شائع بين العديد من الأشخاص الذين يعالجهم: "عندما يصل الناس إلى هذه النقطة الفاصلة، عندما يستيقظون ويدركون ما يفعلونه، تكون لحظة ذهبية بالنسبة لي".
"أصبتُ بسكتة دماغية في أوائل الثلاثينيات من عمري"
تعلم جيمس أن يفكر في نفسه بشكل مختلف بفضل العلاج.
جيمس، أب لطفل واحد، ويبلغ من العمر 39 عاماً ويعمل في مجال المالية، ويُعاني من القلق، وخاصةً القلق من ارتكاب الأخطاء في العمل. هذا الخوف مُنهكٌ للغاية لدرجة أنه يُعيقه عن الذهاب إلى العمل أحياناً.
وقد حظي بدعم البروفيسور ستيف بيترز، وهو طبيب نفسي يُوضح أن السعي للكمال هو أساس مشاكله ويقول "إذا اعتقدنا أن ارتكاب خطأ هو نهاية العالم، فإن ذلك يجعلنا مثل المشلولين".
كان جيمس رياضياً في السابق، يلعب كرة القدم بشكل شبه احترافي وينافس في ألعاب القوى قبل أن يتخصص في رياضة الزلاجة الجماعية (بوبسلي).
وكان يتدرب بشكل تجريبي مع منتخب بريطانيا عندما أُصيب بسكتة دماغية قبل ثماني سنوات. يقول "بلمح البصر، فقدت كل شيء".
ويضيف "جعلني ذلك أشعر بأنني أقل شأناً".
وهو الآن يخشى من ضعف أدائه في العمل وفقدان وظيفته.
خلال الجلسات، يشرح البروفيسور بيترز أن سرّ النجاح يكمن في النظام العقائدي لجيمس (أي ما يؤمن به):
أولا، يُقدّم البروفيسور بعض النصائح البسيطة: "ضع قدميك على الأرض، وانهض، وامشِ".
ويحاول بيترز التركيز على المهمة الأساسية للحركة—وفي حالة جيمس، التحرك ليتمكن من الذهاب إلى العمل—يساعد الأشخاص الذين يعانون من التفكير الكارثي على تجاوز الأفكار السلبية التي تمنعهم من اتخاذ أي خطوة.
في الجلسات اللاحقة، يستكشف جيمس والبروفيسور بيترز ما قد يكون وراء مشاكله. يروي جيمس للبروفيسور بيترز عن طفولته وكيف كان والده ينتقده لحثّه على التحسن.
يشرح البروفيسور بيترز كيف يعتقد جيمس أنه لإرضاء الآخرين يتوجب عدم ارتكاب الأخطاء، ثمّ إنّ السكتة الدماغية المُدمّرة التي أصيب بها في صغره أثارت لديه رغبةً عارمة في عدم تكرار الأمور.
يُخبر البروفيسور، جيمس أنه بحاجة إلى "التصالح مع نفسه" من خلال التعريف بنفسه لا بالأداء بل بالقيم والسلوكيات. ويطلب هو أيضاً من جيمس أن يصف نفسه، فيُجيب جيمس بأنه مُجتهد، صادق، مُرحّب، ودود، ويُعطي الأولوية للآخرين.
لكن مع مرور جلساته، تتغير طريقة تفكير جيمس ويقول "أستطيع أن أنظر إلى نفسي في المرآة وأن أشعر بقيمتي ومكانتي".
"توفيت أمي عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري"
تختلف معاناة أنجالي بعض الشيء. تتعلق بحدث صادم في طفولتها - توفيت والدتها فجأة عندما كانت في الـ 15 من عمرها.
وهي الآن أم لثلاثة أطفال دون سن الخامسة، تعاني من صراعات عاطفية.
تعاني من ليالٍ بلا نوم، وضيق في الصدر، وانفصال عاطفي. وتقول انجالي، 34 عاماً، "إن الأمومة أعادت فتح كل ما حاولتُ كبتهُ".
كان إنجاب طفلها الأول مؤلم بشكل خاص. أصيبت بتسمم الدم - وهي الحالة التي توفيت بسببها والدتها - وقالت "ظننتُ أني لن أنجو".
وتشرح المعالِجَة النفسية، جوليا صموئيل، لأنجالي أنها لم تستطع استيعاب ما حدث، ونتيجة لذلك، بقيت الصدمة معها.
عندما توفيت والدتها، كانت أنجالي في منتصف امتحاناتها، وكان لديها شقيقان أصغر منها سناً، ما تركها بلا وقت للحزن.
تقترح جوليا علاج إزالة حساسية حركة العين وإعادة المعالجة، وهو علاج يستخدم الحركة لمساعدة الناس على معالجة الأحداث المؤلمة والتعافي منها.
تقترح جوليا العلاج بإزالة التحسس وإعادة المعالجة بحركات العين (EMDR)، وهو أسلوب يستخدم الحركات لمساعدة الأشخاص على معالجة الأحداث المؤلمة والتعافي منها.
سألت جوليا أنجالي عن أسوأ ذكرياتها، ووصفت كيف حاول والدها إنقاذ حياة والدتها بالضغط على صدرها في منزلهما حتى وصل المسعفون ونُقلت والدتها على عجل مع أنجالي على أمل عودتها. لكنها لم تعد.
تقول أنجالي إنها لم تتحدث عن هذا الأمر مع أي شخص. وطلبت جوليا من أنجالي أن تشبك ذراعيها على صدرها وتبدأ بالتنفس العميق والنقر، مقلدة رفرفة أجنحة الفراشة. تحدثت عن الذكريات وكيف تتغير الصور في ذهنها إلى صور أكثر إيجابية.
تقول جوليا إن هذا النوع من العلاج فعال بشكل خاص عند التعامل مع حدث صادم واحد. وتقول إن ذكرى واحدة يمكن أن تكون بمثابة عائق أمام كل شيء.
بعد ذلك، تحدثت أنجالي كيف أن أعراضها المرضية خفت وعن الرضا الذي تشعر به الآن.
وقالت "ساعدني معالجتي على إعادة التواصل مع الفتاة ذات الـ 15 عاماً التي جعلتها تسكُت. بدأتُ أستوعب الصدمة التي كانت تُلازمني. والآن أفهم الحزن على أنه الوجه الآخر للحب".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


شفق نيوز
منذ 18 ساعات
- شفق نيوز
حين يتكلم العقل: كيف يغيّر العلاج النفسي نظرة الإنسان؟ بي بي سي توثق حياة 3 مرضى
دخلت نيكول غرفة المعالج النفسي وأمسكت بما تسميه وسادة العناق. اعترفت بتوترها من الجلوس مع شخص غريب لمناقشة صحتها النفسية. تبلغ نيكول من العمر 31 عاماً، وتعيش في لندن وتعمل مساعدة أخصائي تقويم العمود الفقري. لكنها تعاني من القلق أثناء قيادة السيارة. تقول "هناك الكثير من الأشياء التي تدور في ذهني بسرعة وأنا أقود سيارتي". "كم تبعد المسافة؟ ما هو الطريق الذي يجب أنا أخذه؟ بطريقة ما، نسيت كيفية القيادة". تعاني نيكول من نوبات هلع، وخوفها من القيادة يدفعها إلى إلغاء الكثير من خططها باستمرار. وبعد ست جلسات مع المعالج النفسي أوين أوكين، اتضح أن مشاكلها أعمق بكثير من مجرد الخوف من القيادة. البحث في أعماق العقل يعاني واحد من كل ستة أشخاص في المملكة المتحدة، أسبوعياً، من مشاكل الصحة النفسية مثل الاكتئاب والقلق، ويلجأ أكثر من 1.2 مليون شخص سنوياً إلى "خدمات العلاج بالكلام" التابعة لهيئة الخدمات الصحية الوطنية (إن إتش إس NHS)، بينما يدفع الكثيرون تكاليف الحصول على الدعم والعلاج النفسي الخاص. يُستخدم هذا النوع من العلاج غالباً لعلاج القلق والاكتئاب، لكنه قد يساعد أيضاً في التعامل مع مجموعة من المشكلات الأخرى، مثل اضطراب تشوّه صورة الجسم، واضطراب الوسواس القهري، واضطراب ما بعد الصدمة. ومع ذلك، فهو لا ينجح مع الجميع؛ إذ تشير الأبحاث إلى أن ثلث الأشخاص لا يستفيدون منه. تابعت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي 12 شخصاً، شاركوا في سلسلة تدعى "غيّر عقلك، غيّر حياتك"، وتلقّى كلٌّ منهم ست جلسات دعم من مُعالجين نفسيين. استخدم المُعالجون النفسيون مزيجاً من أساليب العلاج بالكلام المُختلفة، بما في ذلك العلاج السلوكي المعرفي الذي يُركز على تغيير طريقة تفكيرنا وسلوكنا، إلى جانب تقنيات أخرى لتحسين العلاقات ومعالجة الصدمات. ما يكشفه هذا العلاج مُلفت للنظر، إذ يوضح كيف يُمكن لفهم العقل وتعلم كيفية إدارته أن يُغيرا حياة الناس. يقول أوين أوكين، الذي عمل في هذا المجال لمدة 25 عاماً "لا تتقيد بعقلك الذي ولدت به". يصف وظيفته بأنها أشبه بالتحقيقات: "يأتي الناس بقصة تبدو معقولة، لكن الشيء المثير للاهتمام هو أن القصة والمشاعر لا تتطابقان في كثير من الأحيان. أعتقد أن ما نقوم به هو البحث والتقصي قليلاً". "كرهت نفسي تماماً" خلال جلساتهما، يغوص أوين بشكل أعمق في قلق نيكول. في لحظة مؤثرة، تنهمر دموعها وتعترف بأنها في الماضي كانت "تكره نفسها تماماً". تعيش قلقاً اجتماعياً مستمراً، حيث تقلق بشأن نظرة الآخرين لها وتخشى أن تقول شيئاً خاطئاً، وتبيّن: "لا أشعر بأنني جيدة بما يكفي لأكون هناك. قد أرتكب خطأً. أحتاج إلى أن يحبني الناس". ويطرح أوين تساؤلات حول سبب شعورها بهذه الطريقة: "نحن كبشر نحب المشاعر الإيجابية، نحب الشعور بالسعادة والفرح والوقوع في الحب". لكنه يشير إلى أن بعض الأشخاص يحاولون تجنب أو قمع مشاعر مثل الخوف والرعب والحزن، مما قد يؤدي إلى القلق. وبدلاً من ذلك، يرى أن من الأفضل تقبّل هذه المشاعر والاعتراف بها كأحاسيس طبيعية وآمنة. عندما يصل الناس إلى تلك المرحلة، يقول إنهم يبدأون في الشعور بالقوة: "يدركون أنهم لن ينهاروا أمام مشاعرهم." وهي تتحدث خارج غرفة العلاج، تقول نيكول: "أنا مصدومة. لقد فهمني على الفور. كنت أرى الهشاشة أمراً سلبياً، لكنها ليست كذلك". وعندما طُلب منها وصف نفسها، استخدمت كلمات مثل اللطف، والتأمل، والعزيمة، والحماس وقالت لأوين "أنا لستُ شخصاً سيئاً". وأضافت أنها تعلمت الكثير: "الأهم من ذلك أنني أدركت أنني لم أكن لطيفة مع نفسي. كان ذلك بمثابة كشف كبير بالنسبة لي". يقول أوين إن هذا أمر شائع بين العديد من الأشخاص الذين يعالجهم: "عندما يصل الناس إلى هذه النقطة الفاصلة، عندما يستيقظون ويدركون ما يفعلونه، تكون لحظة ذهبية بالنسبة لي". "أصبتُ بسكتة دماغية في أوائل الثلاثينيات من عمري" تعلم جيمس أن يفكر في نفسه بشكل مختلف بفضل العلاج. جيمس، أب لطفل واحد، ويبلغ من العمر 39 عاماً ويعمل في مجال المالية، ويُعاني من القلق، وخاصةً القلق من ارتكاب الأخطاء في العمل. هذا الخوف مُنهكٌ للغاية لدرجة أنه يُعيقه عن الذهاب إلى العمل أحياناً. وقد حظي بدعم البروفيسور ستيف بيترز، وهو طبيب نفسي يُوضح أن السعي للكمال هو أساس مشاكله ويقول "إذا اعتقدنا أن ارتكاب خطأ هو نهاية العالم، فإن ذلك يجعلنا مثل المشلولين". كان جيمس رياضياً في السابق، يلعب كرة القدم بشكل شبه احترافي وينافس في ألعاب القوى قبل أن يتخصص في رياضة الزلاجة الجماعية (بوبسلي). وكان يتدرب بشكل تجريبي مع منتخب بريطانيا عندما أُصيب بسكتة دماغية قبل ثماني سنوات. يقول "بلمح البصر، فقدت كل شيء". ويضيف "جعلني ذلك أشعر بأنني أقل شأناً". وهو الآن يخشى من ضعف أدائه في العمل وفقدان وظيفته. خلال الجلسات، يشرح البروفيسور بيترز أن سرّ النجاح يكمن في النظام العقائدي لجيمس (أي ما يؤمن به): أولا، يُقدّم البروفيسور بعض النصائح البسيطة: "ضع قدميك على الأرض، وانهض، وامشِ". ويحاول بيترز التركيز على المهمة الأساسية للحركة—وفي حالة جيمس، التحرك ليتمكن من الذهاب إلى العمل—يساعد الأشخاص الذين يعانون من التفكير الكارثي على تجاوز الأفكار السلبية التي تمنعهم من اتخاذ أي خطوة. في الجلسات اللاحقة، يستكشف جيمس والبروفيسور بيترز ما قد يكون وراء مشاكله. يروي جيمس للبروفيسور بيترز عن طفولته وكيف كان والده ينتقده لحثّه على التحسن. يشرح البروفيسور بيترز كيف يعتقد جيمس أنه لإرضاء الآخرين يتوجب عدم ارتكاب الأخطاء، ثمّ إنّ السكتة الدماغية المُدمّرة التي أصيب بها في صغره أثارت لديه رغبةً عارمة في عدم تكرار الأمور. يُخبر البروفيسور، جيمس أنه بحاجة إلى "التصالح مع نفسه" من خلال التعريف بنفسه لا بالأداء بل بالقيم والسلوكيات. ويطلب هو أيضاً من جيمس أن يصف نفسه، فيُجيب جيمس بأنه مُجتهد، صادق، مُرحّب، ودود، ويُعطي الأولوية للآخرين. لكن مع مرور جلساته، تتغير طريقة تفكير جيمس ويقول "أستطيع أن أنظر إلى نفسي في المرآة وأن أشعر بقيمتي ومكانتي". "توفيت أمي عندما كنت في الخامسة عشرة من عمري" تختلف معاناة أنجالي بعض الشيء. تتعلق بحدث صادم في طفولتها - توفيت والدتها فجأة عندما كانت في الـ 15 من عمرها. وهي الآن أم لثلاثة أطفال دون سن الخامسة، تعاني من صراعات عاطفية. تعاني من ليالٍ بلا نوم، وضيق في الصدر، وانفصال عاطفي. وتقول انجالي، 34 عاماً، "إن الأمومة أعادت فتح كل ما حاولتُ كبتهُ". كان إنجاب طفلها الأول مؤلم بشكل خاص. أصيبت بتسمم الدم - وهي الحالة التي توفيت بسببها والدتها - وقالت "ظننتُ أني لن أنجو". وتشرح المعالِجَة النفسية، جوليا صموئيل، لأنجالي أنها لم تستطع استيعاب ما حدث، ونتيجة لذلك، بقيت الصدمة معها. عندما توفيت والدتها، كانت أنجالي في منتصف امتحاناتها، وكان لديها شقيقان أصغر منها سناً، ما تركها بلا وقت للحزن. تقترح جوليا علاج إزالة حساسية حركة العين وإعادة المعالجة، وهو علاج يستخدم الحركة لمساعدة الناس على معالجة الأحداث المؤلمة والتعافي منها. تقترح جوليا العلاج بإزالة التحسس وإعادة المعالجة بحركات العين (EMDR)، وهو أسلوب يستخدم الحركات لمساعدة الأشخاص على معالجة الأحداث المؤلمة والتعافي منها. سألت جوليا أنجالي عن أسوأ ذكرياتها، ووصفت كيف حاول والدها إنقاذ حياة والدتها بالضغط على صدرها في منزلهما حتى وصل المسعفون ونُقلت والدتها على عجل مع أنجالي على أمل عودتها. لكنها لم تعد. تقول أنجالي إنها لم تتحدث عن هذا الأمر مع أي شخص. وطلبت جوليا من أنجالي أن تشبك ذراعيها على صدرها وتبدأ بالتنفس العميق والنقر، مقلدة رفرفة أجنحة الفراشة. تحدثت عن الذكريات وكيف تتغير الصور في ذهنها إلى صور أكثر إيجابية. تقول جوليا إن هذا النوع من العلاج فعال بشكل خاص عند التعامل مع حدث صادم واحد. وتقول إن ذكرى واحدة يمكن أن تكون بمثابة عائق أمام كل شيء. بعد ذلك، تحدثت أنجالي كيف أن أعراضها المرضية خفت وعن الرضا الذي تشعر به الآن. وقالت "ساعدني معالجتي على إعادة التواصل مع الفتاة ذات الـ 15 عاماً التي جعلتها تسكُت. بدأتُ أستوعب الصدمة التي كانت تُلازمني. والآن أفهم الحزن على أنه الوجه الآخر للحب".


شفق نيوز
منذ يوم واحد
- شفق نيوز
رُصدت حالتان في مصر: قصة مرض نادر في بلدة نائية في البرازيل
لا تزال سيلفانا سانتوس تتذكر جيرانها في البلدة الصغيرة التي زارتها لأول مرة قبل 20 عامًا، حيث فقد العديد من الأطفال القدرة على المشي. تتذكر سانتوس بنات لولو اللواتي كنّ يسكُنَّ عند مدخل البلدة.، وريجان في نهاية الطريق، وماركينيوس بعد محطة الوقود، وباولينيا قرب المدرسة. تقع بلدة سيرينها دوس بينتوس النائية في شمال شرق البرازيل، ويقل عدد سكانها عن خمسة آلاف نسمة. في هذه البلدة اكتشفت عالمة الأحياء والوراثة سيلفانا سانتوس حالةً مرضية غير معروفة من قبل، وأطلقت عليها اسم "متلازمة سبوان". وتنتج هذه المتلازمة عن طفرة جينية تؤثر على الجهاز العصبي، فتُضعف الجسم تدريجيا، ولا تظهر إلا عندما يُورّث الجين المُعدّل من كلا الوالدين. وقد مثّل بحث سانتوس أول توصيف علمي لهذا المرض في أي مكان في العالم، وبفضل هذا الإنجاز، إضافة إلى أبحاثها اللاحقة، اختيرت ضمن قائمة أكثر 100 امرأة تأثيرًا في العالم وفق تصنيف بي بي سي لعام 2024. وقبل وصول سانتوس، لم يكن لدى العائلات أي تفسير للمرض الذي يصيب أطفالهم. أما اليوم، فيتحدث السكان بثقة عن "سبوان" وعلم الوراثة. يقول ماركينيوس، أحد المصابين: "لقد أعطتنا تشخيصا لم نكن نعرفه من قبل. وبعد البحث، جاءت المساعدة في صورة أشخاص، وتمويل، وكراسي متحركة". سيرينها دوس بينتوس: عالم قائم بذاته كانت سانتوس تعيش في ساو باولو، أكبر وأغنى مدينة في البرازيل، وكان جيرانها في الشارع الذي كانت تسكن فيه تقريبا من عائلة واحدة من بلدة سيرينها حيث كان العديد منهم أبناء عمومة بدرجات متفاوتة، ومتزوجين من بعضهم البعض. وأخبروا سانتوس عن بلدتهم "هناك الكثير من الناس الذين لا يستطيعون السير، لكن لا أحد يعرف السبب". وكانت إحدى بنات الجيران، زيرلانديا، تعاني من حالة مرضية مُنهكة ففي طفولتها، كانت عيناها تتحركان لا إراديًا، ومع مرور الوقت، فقدت قوة أطرافها واحتاجت إلى كرسي متحرك للتنقل، وكانت تحتاج إلى مساعدة حتى في أبسط المهام. قادت سنوات من البحث سانتوس وفريقها البحثي إلى تحديد هذه الأعراض على أنها أعراض اضطراب وراثي لم يُوثّق سابقًا، وهو متلازمة سبوان. وعثروا لاحقًا على 82 حالة أخرى حول العالم. بدعوة من جيرانها، زارت سانتوس سيرينها لقضاء عطلة، وتصف وصولها إلى هناك بأنه دخول "عالم خاص"، ليس فقط للمناظر الطبيعية الخلابة ومناظر الجبال، ولكن أيضًا لما بدا وكأنه مصادفة اجتماعية بارزة. كلما تجولت وتحدثت مع السكان المحليين، ازدادت دهشتها من شيوع زواج الأقارب. لقد أدت عزلة سيرينها وقلة الهجرة الداخلية إلى أن يصبح العديد من سكانها أقارب، مما يزيد من احتمالية الزواج بين أبناء العمومة. لم يكن العديد من الأزواج على دراية بوجود صلة قرابة بينهم إلا بعد الزواج، بينما كان آخرون يعلمون بذلك، لكنهم كانوا يعتقدون أن هذه الروابط تستمر لفترة أطول وتوفر دعمًا عائليًا أقوى. ويُعتبر الزواج بين الأقارب أمرًا شائعا نسبيا في أنحاء العالم، حيث يُقدّر بنحو 10% من حالات الزواج، ومعظم الأطفال المولودين من هذه الزيجات يتمتعون بصحة جيدة، حسب الخبراء. مع ذلك، تواجه هذه الزيجات خطرًا أكبر في انتقال طفرات ضارة عبر العائلة. ويشرح عالم الوراثة لوزيفان كوستا ريس من الجامعة الفيدرالية البرازيلية في ريو غراندي دو سول: "إذا لم يكن الزوجان أقرباء، فإن احتمال إنجاب طفل مصاب باضطراب وراثي نادر أو إعاقة يتراوح بين 2 و3 في المئة، أما بالنسبة لأبناء العمومة، فتزيد النسبة إلى ما بين 5 و6 في المئة". وأظهرت دراسات لاحقة أن أكثر من 30% من الأزواج في سيرينها كانوا أقارب، وأن ثلثهم أنجبوا طفلا واحدا على الأقل من ذوي الإعاقة. طريق طويل للتشخيص انطلقت سانتوس للبحث عن تشخيص لسكان سيرينها، وبدأت التخطيط لدراسة جينية مفصلة، الأمر الذي تتطلب رحلات متعددة، ثم انتقلت في النهاية إلى المنطقة. لقد سافرت مسافة 2000 كيلومتر من وإلى ساو باولو مرات عديدة في السنوات الأولى من بحثها. وجمعت عينات الحمض النووي من منزل إلى منزل، وتبادلت أطراف الحديث أثناء احتساء القهوة، وجمعت قصصًا عائلية، في محاولة لتحديد الطفرة المسببة للمرض. وما كان من المفترض أن يستغرق 3 أشهر من العمل الميداني تحول إلى سنوات من التفاني. وأدى كل ذلك إلى نشر دراسة في عام 2005، والتي كشفت عن وجود سبوان في المناطق النائية في البرازيل. وجد فريق سانتوس أن الطفرة تتضمن فقدان جزء صغير من كروموسوم، مما يُسبب زيادة في إنتاج جين لبروتين رئيسي في خلايا الدماغ. ويتذكر المزارع لولو، الذي تحمل ابنته ريجان جين سبوان: "قالوا إنها جاءت من ماكسيميانو، وهو زير نساء في عائلتنا". وتزوج لولو، البالغ من العمر الآن 83 عامًا، ابنة عمه ولم يغادر سيرينها قط، ولا يزال يرعى الماشية ويعتمد على عائلته في رعاية ريجان، التي تُعاني من صعوبات في أداء مهامها اليومية. لكن الطفرة الجينية وراء سبوان أقدم بكثير من أسطورة ماكسيميانو العجوز، فمن المرجح أنها وصلت منذ أكثر من 500 عام مع المستوطنين الأوروبيين الأوائل في شمال شرق البرازيل. وتقول سانتوس: "تُظهر دراسات التسلسل الجيني وجود أصول أوروبية قوية لدى المرضى، مما يدعم سجلات الوجود البرتغالي والهولندي واليهود السفارديم في المنطقة". وازدادت النظرية قوةً بعد اكتشاف حالتين من متلازمة سبوان في مصر، وأظهرت دراساتٌ أخرى أن الحالتان المصريتان تشتركان أيضًا في أصول أوروبية، مما يشير إلى أصلٍ مشترك في شبه الجزيرة الأيبيرية. وتقول سانتوس: "من المرجح أن يكون ذلك قد حدث مع أقارب من اليهود السفارديم أو الموريسكيين الفارين من محاكم التفتيش"، وتعتقد أن هناك حالاتٍ أخرى قد توجد عالميًا، وخاصةً في البرتغال. على الرغم من التقدم الطفيف نحو إيجاد علاج، إلا أن متابعة المرضى أحدثت بعض التغيير، وتتذكر ريجان كيف كان الناس يُطلقون عليهم سابقًا "المقعدين"، الآن، يُقال إنهم ببساطة مصابون بمتلازمة سبوان. ولم تُضف الكراسي المتحركة الاستقلالية فحسب، بل ساعدت أيضًا في منع التشوهات، في الماضي، كان الكثير من المصابين بهذه الحالة يُتركون ببساطة مستلقين على السرير أو على الأرض. ومع تقدم حالة سبوان، تزداد القيود الجسدية مع التقدم في السن، وبحلول سن الخمسين، يصبح جميع المرضى تقريبًا معتمدين بشكل كامل على الآخرين. هذا هو حال نجلي إينيس، وهم من بين أكبر المصابين سنًا في سيرينها حيث يبلغ تشيكينيو من العمر 59 عامًا، ولم يعد قادرًا على الكلام، في حيت يبلغ ماركينيوس من العمر 46 عامًا، ولديه قدرات تواصل محدودة. وتقول إينيس، المتزوجة من ابن عم من الدرجة الثانية: "من الصعب يكون لك ابن له ظروف خاصة، نحبهم بنفس القدر، لكننا نعاني من أجلهم". وتزوجت لاريسا كيروز، ابنة أخ تشيكينيو وماركينيوس، أيضًا من قريب بعيد، لم تكتشف هي وزوجها ساولو جدهما المشترك إلا بعد أشهر من المواعدة. وتقول: "في سيرينها دوس بينتوس، جميعنا أبناء عمومة، وتربطنا صلة قرابة بالجميع". ويُعدّ الأزواج مثل لاريسا وساولو محور مشروع بحثي جديد تشارك فيه سانتوس، فبدعم من وزارة الصحة البرازيلية، سيفحص المشروع 5 آلاف حالة زواج للكشف عن الجينات المرتبطة بأمراض متنحية خطيرة. ولا يهدف المشروع إلى منع زواج الأقارب، بل إلى مساعدة الأزواج على فهم المخاطرالجينية، كما تقول سانتوس. وتعمل سانتوس الآن كأستاذة جامعية، وتدير أيضًا مركزًا لتعليم علم الوراثة، وتعمل على توسيع نطاق الاختبارات في شمال شرق البلاد. وعلى الرغم من أنها لم تعد تعيش في سيرينها دوس بينتوس، إلا أن كل زيارة لها تُشعرها وكأنها عودة إلى الوطن. وكما تقول إينيس:"يبدو الأمر كما لو أن سيلفانا فرد من العائلة".


شفق نيوز
منذ 3 أيام
- شفق نيوز
عندما تقهرنا أفكارنا: ما الذي لا نفهمه عن الوسواس القهري؟
ربما سمعت أحدهم يقول، وغالباً بالإنجليزية: "أنا أو سي دي جداً" (أنا مصاب بالوسواس القهري)، بعدما عدّل لوحةً مائلة على الحائط مثلاً، أو ليُظهر مدى حرصه على التفاصيل أو التناظر أو ترتيب المنزل وتنظيمه. قد يبدو الأمر للوهلة الأولى غير مؤذٍ، وربما طريفاً حتى. لكنّه ليس كذلك بالنسبة للأشخاص المصابين فعلاً باضطراب الوسواس القهري. فمن اختبر الألم الذي يسبّبه هذا الاضطراب، تبدو له هذه التصريحات أشبه بصفعةٍ مؤلمة. الوسواس القهري ليس صفةً ولا سلوكاً غريباً. لا يُعدّ سِمةً شخصية تجعل شخصاً ما غريب الأطوار أو تعكس ميله إلى النظام والنظافة. إنّه اضطراب نفسي خطير يصيب ملايين الأشخاص حول العالم، غالباً بصمتٍ يرافقه ألمٌ نفسي كبير. وفي عالمنا، لا يزال يُساء فهم اضطراب الوسواس القهري بشكلٍ واسع. فعلى الرغم من دخوله الثقافة الشعبية كتعبيرٍ مختزل عن الهوس بالنظافة أو الحاجة إلى السيطرة، إلا أنّ الواقع أكثر تعقيداً وإنهاكاً. يشمل هذا الاضطراب أفكاراً دخيلة وغير مرغوب فيها (وساوس)، وسلوكيات متكرّرة أو طقوساً ذهنية (قهرية) تهدف إلى التخفيف من القلق الناتج عن تلك الأفكار. وأحياناً تكون هذه الأفعال القهرية مرئية، كغسل اليدين، أو التحقّق المتكرر، أو ترتيب الأشياء. وأحياناً تكون داخلية بالكامل، كالتعداد الذهني، أو مراجعة الأفكار، أو طمأنة الذات. وهذا النمط الأخير يُعرف غالباً باسم "الوسواس المحض" أو "الوسواس القهري الصامت" Pure O. قد تمرّ امرأة وضعت مولودها الأول للتوّ بنوبات من الوسواس القهري لم يسبق أن اختبرتها من قبل. تتجسّد هذه الوساوس في شكل أفكار وصور ذهنية متكرّرة، لا تفارق عقلها، عن احتمال أن تؤذي طفلها جسدياً. وغالباً ما يُستَشهد بهذه الحالة (الشائعة لدى الأمهات الجدد) كمثالٍ دقيق لتوضيح طبيعة الوسواس القهري لمن لم يختبره. فهو حالة متطرّفة من القلق، تتجلّى في أفكار غير مرغوب فيها تلتصق بالذهن وتستهدف نقاطاً حسّاسة جداً لدى المصاب. فالأم الجديدة تشعر بخوفٍ عميق على مولودها، وترغب في السيطرة على كل ما يحيط به لحمايته من أي أذى. وقد يبلغ هذا الخوف في بعض الأحيان مستويات عالية جداً، تتحوّل معها إلى نوبات وسواسية تجعلها تخاف على طفلها حتى من نفسها. وقد تلجأ إلى تكرار عباراتٍ دينية أو جملٍ تطمئن بها نفسها، تؤكّد من خلالها أنها لن تُقدم على فعلٍ مؤذٍ. هذا هو السلوك القهري. فإلى جانب الوساوس – أي الأفكار المجرّدة – يعاني معظم المصابين بالوسواس القهري من سلوكيات قهرية وطقوس محدّدة تهدف إلى "إسكات" العقل/ القلق ولو للحظات. لكنها دائرة مفرغة، تُحوّل حياة المصاب إلى كابوسٍ حقيقي. ما هو الوسواس القهري حقاً؟ يُدرج اضطراب الوسواس القهري اليوم ضمن فئة "اضطرابات الوسواس القهري وما يرتبط بها"، بحسب التصنيف الحديث في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5)، بعدما كان يُعدّ سابقاً من اضطرابات القلق. ويقول الطبيب اللبناني والأستاذ المشارك في الطب النفسي وعلوم الأعصاب في جامعة روتشستر الأمريكية، بول جحا، في حديث إلى بي بي سي عربي، إن اضطراب الوسواس القهري يتألّف من عنصرين رئيسيين: الوساوس والأفعال القهرية. الوساوس قد تكون أفكاراً أو صوراً ذهنية، والأفعال القهرية تتجلّى في سلوكيات وطقوس عملية. عادةً ما تكون الوساوس أفكاراً أو صوراً دخيلة (Intrusive)، غير إرادية، يصفها المرضى بأنها غريبة عنهم ولا تعبّر عن شخصيتهم أو قناعاتهم. مثلاً، قد يشعر المريض برغبة في إيذاء شخصٍ يحبّه، أو تداهمه صورة ذهنية تُظهره وهو يُسيء إلى أحد، أو يتخيّل نفسه داخل الكنيسة أو المسجد وهو يجدّف على الله. آخرون يشعرون بخوفٍ شديد من العدوى، فيقلقون بمجرد لمسهم لسطحٍ معيّن، ويعتقدون أنهم قد يُصابون ببكتيريا خطيرة. ويضيف جحا: "من أكثر الأشكال شيوعاً أيضاً: وسواس التحقّق، كإقفال باب السيارة أو إطفاء الغاز، حيث يشعر المريض بأنه مضطر للعودة مراراً للتأكد، برغم معرفته العقلانية بأنه سبق أن فعل ذلك". هذه الأفكار مزعجة جداً، وتولّد قلقاً شديداً، وتدفع المصاب إلى تكرار أفعال قهرية لا منطقية. فقد يتحقّق من الشيء نفسه عشرين مرة مثلاً. هذا النمط يولّد توتراً مزمناً ونوبات هلع، وقد يقود مع الوقت إلى الاكتئاب. "وفي بعض الحالات التي نراها سريرياً، يصل الأمر إلى حدّ الشلل التام. مثلاً، مريض يدخل إلى الحمّام ليغتسل ويبقى فيه لساعات غير قادر على الخروج، أو يغسل يديه باستمرار دون توقّف. يصبح أسيراً للوسواس والطقوس المرتبطة به، وتسيطر هذه الدورة على حياته"، يوضح جحا. غالباً ما تقسّم ثيمات الوسواس القهري إلى أربعة أنواع: -الخوف من الأمراض/ التلوّث. -الخوف من إيذاء الآخرين (قتل أو اعتداء جنسي...). -أفكار تجديفية وغالباً ما تظهر لدى الأشخاص الملتزمين دينياً. -الحاجة المستمرّة إلى التحقّق. يقول جحا إن الإحصاءات في الولايات المتحدة تشير إلى أن ما بين 1 إلى 2 بالمئة من السكان مصابون باضطراب الوسواس القهري، وأن الدراسات تُظهر تأثراً أعلى قليلاً لدى النساء مقارنةً بالرجال. كما أن نحو 25 بالمئة من الحالات تبدأ في سنّ المراهقة المبكرة، وأحياناً حتى قبلها، في الطفولة. ويُعدّ العامل الوراثي حاسماً، لا سيما في الحالات التي تظهر في وقتٍ مبكر. ويوضح جحا: "إذا كان أحد الأشقاء في العائلة مصاباً باضطراب الوسواس القهري، فإن احتمال إصابة أخٍ آخر يتضاعف. وإذا ظهر المرض في سنّ المراهقة، فإن خطر تكراره بين الأشقاء يزيد بعشرة أضعاف". ومع أن العامل الوراثي يُعدّ السبب الأبرز، إلا أن جينات هذا الاضطراب قد تبقى "نائمة" في الجسد، ولا تنشط إلا بعد التعرّض لضغطٍ نفسي شديد أو تغيّر جذري في حياة الشخص." وبحسب جحا، فإن الاضطراب يظهر عادةً في سنّ المراهقة أو العشرينيات، ومن النادر أن يُشخّص للمرة الأولى بعد سن الخامسة والثلاثين. من أكثر الجوانب التي يُساء فهمها في اضطراب الوسواس القهري هي طبيعته المتنافرة مع هوية المصاب. أي أن الأفكار أو الصور الوسواسية تكون متعارضة مع نظرة الشخص إلى ذاته أو مع قيمه الأساسية، ما يجعلها غريبة عنه، دخيلة، ومزعجة إلى حدٍ بالغ. وهنا يشير جحا إلى ضرورة التمييز بين اضطراب الوسواس القهري (OCD) واضطراب الشخصية الوسواسية القهرية (OCPD)، بالرغم من تشابه الاسمين واحتواء كليهما على عنصر "الوسواس". الفرق الجوهري يكمن في أن الوساوس في اضطراب الوسواس القهري تُعدّ متنافرة مع الذات (Ego-dystonic)، أي أنها تتصادم مع قِيَم المصاب وهويته وتسبّب له ضيقاً نفسياً شديداً. أما في اضطراب الشخصية الوسواسية، فالأفكار تكون منسجمة مع الذات (Ego-syntonic)، أي أنها تتماشى مع قناعات الشخص، مثل حبّ الترتيب والدقة والسعي إلى الكمال. في هذه الحالة، لا يشعر الشخص بالانزعاج منها، بل بالرضا. ويقول جحا إن وساوس الأذى أو الاعتداء على الآخرين غالباً ما تصيب أكثر الناس مسالمةً، ولذلك تكون مؤلمة جداً. فالشخص الذي يُكرّس حياته لتفادي الأذى، سيتألم بشدة من مجرّد تخيّل هذه الأفكار، لا سيما عندما تتعلّق بأشخاص مقرّبين إلى قلبه. كذلك الأمر بالنسبة للوساوس الدينية، إذ غالباً ما تصيب المؤمنين وتسبب لهم ضيقاً بالغاً، لأنها تستهدف نقطة حسّاسة في منظومة معتقداتهم. وهذا ينطبق خصوصاً على الحالات التي تشمل ما يعرف بـ"المواضيع المحرّمة" أو "التابوهات"، مثل أفكار مؤذية تجاه الأحبّة، أو صور جنسية غير لائقة، أو أفكار تجديفية تتعارض مع القيم الدينية. وبعيداً عن تبنّي هذه الأفكار أو الاستمتاع بها، فإن المصابين بالوسواس القهري يشعرون في العادة برعبٍ شديد منها. وكلّما كانت الفكرة أكثر إزعاجاً، ازداد التصاقها بالذهن. ولهذا السبب تحديداً، كثيراً ما يتجنّب المصابون الحديث عن هذه الوساوس، خوفاً من الحكم عليهم أو إساءة فهمهم أو حتى اعتبارهم خطراً على من حولهم. فهم خاصية "التنافر مع الذات" أمرٌ أساسي لفهم مدى إنهاك هذا الاضطراب، ولماذا يساء تشخيصه في كثيرٍ من الأحيان. إذ أن غياب الوعي بهذه الخاصية قد يدفع حتى بعض الأطباء إلى الخلط بينه وبين اضطرابات أخرى، مثل القلق العام أو الاكتئاب، أو في بعض الحالات القصوى، الذُهان أو اضطرابات الشخصية. رغم عدم وجود علاج "نهائي" لاضطراب الوسواس القهري بالمعنى التقليدي، إلا أنّه قابل للعلاج بدرجةٍ عالية. ويستطيع عدد كبير من المصابين أن يحققوا تحسّناً ملحوظاً في أعراضهم، وأن يستعيدوا جودة حياتهم بفضل تدخلات علاجية متكاملة. الخطوة الأولى، كما يؤكد جحا، هي التثقيف النفسي. أي أن يدرك المريض أن دماغه لديه قابلية لتوليد أفكار متكرّرة على هذا النحو، وأن هناك سبيلاً للخروج من هذه الدوامة عبر كسر الحلقة الوسواسية. ثانياً، يمكن للأدوية، لا سيّما مثبطات استرجاع السيروتونين الانتقائية (SSRIs)، أن تكون فعّالة، خصوصاً في الحالات المتوسطة إلى الشديدة. ويوضح جحا أن هذه الأدوية تُستخدم لتخفيف القلق وردّات الفعل الانفعالية. لكن ما يُميّز الوسواس القهري عن الاكتئاب أو القلق العام هو أن جرعة الدواء غالباً ما تحتاج إلى أن تكون أعلى بكثير حتى تُحدث الأثر المطلوب في القضاء على الوساوس. كذلك يعدّ العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، وتحديداً تقنية التعرّض ومنع الاستجابة (ERP)، من أكثر الوسائل العلاجية نجاعة. وتقوم هذه التقنية على تعريض المريض للمثيرات التي تقلقه من دون السماح له باللجوء إلى الطقوس المعتادة. مثلاً: إذا كان المريض يخشى التلوّث أو العدوى، يطلب منه أن يلمس الأرض ويبقي نظره موجّهاً إلى يده لفترة طويلة، من دون أن يسمح له بغسلها. ويوضح جحا أنه مع الوقت، يضعف هذا الدافع الداخلي، ويتعلّم الدماغ أن القلق لا يساوي الخطر الحقيقي، وهو ما يعرف في علم النفس باسم "التكيّف البافلوفي العكسي" (Pavlovian extinction). كثيرٌ من المرضى، بمجرّد أن يفهموا طبيعة ما يمرّون به، ويبدأوا العلاج السلوكي ويأخذوا الدواء المناسب، يشعرون بتحسّن تدريجي. ويبقى أن المفتاح الأساسي في العلاج هو فهم أن الإصابة بالوسواس القهري ليست "عيباً" في الشخصية، ولا تعني بأي حال أن الأمل مفقود. فمع العلاج الملائم، يستطيع العديد من الأشخاص أن يعيشوا حياة طبيعية، حتى وإن بقي الاضطراب موجوداً بشكلٍ ما. والتعرف إلى حقيقة الوسواس القهري كما هو فعلاً، ومواجهة الخرافات الثقافية التي تشوّهه، هما خطوة ضرورية لمساندة من يعانون منه. ويبدأ ذلك بأنسنة هذا الاضطراب، وإخراجه من خانه التنميط أو الكاريكاتور.