logo
حول بيان «حماس» الأخير

حول بيان «حماس» الأخير

جريدة الاياممنذ 14 ساعات
بعد نحو عشرين شهراً على القصف والقتل والتجويع والنزوح، وفي ذروة تصعيد العدوان الإسرائيلي ووصول المنطقة إلى أخطر مفترق، أصدرت «حماس» في غزة بياناً أو تعميماً داخلياً، هذا نصه:
«منذ اللحظة الأولى، ونحن في غزة، سرنا على بركة الله، متوكلين عليه وحده، لا نعوّل على قوة بشر ولا نرجو إلا نصره وتأييده. انطلقت السفينة في صمت، لم تُخبر أحداً، لأنها تعلم أن الأمة عليلة، مثقلة بالخذلان، مريضة بالتردد، ومع ذلك رفعت صوتها عالياً: ‹من أراد الفوز فليركب›، لكن ما استجاب أحد، ومن ركب لم يثبت.. فما هذه السفينة إلا لأهل العقيدة الصافية، والثبات الذي لا يتزعزع. لا يثبت على متنها إلا من باع الدنيا لله، وأعرض عن زخرفها، أناس لا يبالون بلوم اللائمين، ولا تغريهم الرايات الباهتة، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وأقسم بالله ما خذل من صدق، وما ندم من ثبت، أما من تخلّف، فقد كتب على نفسه الخزي، وسيدفع ثمن التردد خذلاناً في الدنيا، وحسرة لا تنطفئ في الآخرة. لا عذر بعد النداء، ولا رحمة لمن خاف في مواطن الثبات. فالمعركة ماضية، والحق لا ينتظر المتأرجحين، ومن خاف الركوب، فقد اختار الغرق بيده. أما نحن فقد أبحرنا لا نطلب دنيا ولا سلطة، بل ابتغاء وجه الله وحده ورضاه، ويقيننا أن السفينة التي أُسست على الإخلاص، ورفعت أشرعة التوكل، لا تغرق ولو اجتمعت أمواج الأرض عليها.. هذه ليست سفينة المرتابين، ولا مقعد فيها للمتلونه قلوبهم، ولا مكان على ظهرها لمن يحسب الخطى ويزن الثمن.. هذه سفينة العقيدة الخالصة، لا يعلو على ظهرها إلا رجال عرفوا طريقهم، ومضوا إليه لا يلوون على شيء ..وإن النصر آت، والفرز قد وقع، وكل متخاذل سيسقط عن ظهرها ولو تظاهر بالثبات، فالمعركة لا ترحم، والحق لا يتزين بالمنافقين».
بالقراءة السريعة نلحظ اللغة والمفردات الدينية، وأسلوب السجع والخطابة والإنشاء والتعميمات والأحكام المطلقة.. خطاب عاطفي يخلو من المنطق، ومن السياسة، ولا يصلح لهذا العصر،، وعموماً هذا هو النمط الشائع للخطاب الديني، الموجه للعامّة والبسطاء، كلام مزخرف بلا مضمون.
بالتمعن في البيان نصل إلى استنتاجات عديدة، أولها أن «حماس» لا تستشعر بأي ذنب أو مسؤولية تجاه الحرب التي جرّتها إلى غزة وسائر المنطقة، وليس في نيتها إجراء أي تقييم أو مراجعة أو نقد لمغامرتها العسكرية، بل إنها متمسكة بأطروحاتها، وتنظر إلى نفسها بنرجسية مفرطة، معتبرة نفسها ممثلاً حصرياً للحق، وكل من لم يتوافق مع أطروحاتها متخاذل، وكتب على نفسه الخزي، واختار الغرق بيده.
وثانياً: ليس في البيان ولا في خطاب «حماس» عموماً أي تحمّل للمسؤولية تجاه المآسي التي جلبتها الحرب، مآسي الأيتام والأرامل والنازحين، ومن تهدمت بيوتهم، ومن فقدوا مستقبلهم، بل على العكس ترى أنها بنت سفينة الخلاص و»من أراد الفوز فليركب، ومن تخلف عن الركوب سيدفع ثمن التردد خذلاناً في الدنيا، وحسرة لا تنطفئ في الآخرة».. بمعنى أن كل من لم يلتحق بركب «حماس» وأراد النجاة بنفسه وعائلته جبان ومتردد وسيخسر الدنيا والآخرة! وهذه نظرتها إلى البيئة الحاضنة للمقاومة!
وثالثاً: يعترف البيان بأن «حماس» لجأت لمغامرتها العسكرية دون حسابات عقلانية، ودون تخطيط ولا دراسات، بل فقط رهان على الغيب، وكأن التوكل على الله دون إعداد حقيقي يجلب النصر، «منذ اللحظة الأولى سرنا على بركة الله، متوكلين عليه وحده، لا نعوّل على قوة بشر ولا نرجو إلا نصره وتأييده»، ويعترف أيضاً بأن الحركة لم تشاور أحداً حتى أقرب حلفائها، «انطلقت السفينة في صمت، لم تُخبر أحداً، لأنها تعلم أن الأمة عليلة، مثقلة بالخذلان، مريضة بالتردد».. مع أن هذا يتناقض مع خطاب «الضيف» الذي راهن على الأمة الإسلامية والشعوب العربية وأحرار العالم.. فإذا بهم يكتشفون أن «الأمة عليلة، مثقلة بالخذلان، مريضة بالتردد». وهو اكتشاف متأخر جداً.
ورابعاً: هذا البيان يرسخ خطاب «حماس» الإقصائي الذي يضعها فوق الشعب ومنفصلة عنه؛ «ما هذه السفينة إلا لأهل العقيدة الصافية، والثبات الذي لا يتزعزع. لا يثبت على متنها إلا من باع الدنيا لله، وأعرض عن زخرفها، أناس لا يبالون بلوم اللائمين، ولا تغريهم الرايات الباهتة، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه».. السفينة هي «حماس» وأنصارها أصحاب العقيدة الصافية، والثبات الذي لا يتزعزع، والشعب هو ابن نوح الكافر الذي رفض الصعود مع سفينة المؤمنين فأغرقه الطوفان.. الشعب الذي أغرته الرايات البالية! والمتلونة قلوبهم! ولم يصدق ما عاهد الله عليه! ويضيف البيان: «هذه ليست سفينة المرتابين، ولا مقعد فيها للمتلونه قلوبهم، ولا مكان على ظهرها لمن يحسب الخطى ويزن الثمن».. هذا ليس تأكيداً على نهج الإقصاء وحسب، بل أيضاً «لا مكان لمن يحسب الخطى ويزن الثمن».. لا مكان ولا داعي لحسابات العقل والسياسة والواقع ومعادلات موازين القوى. ولا ضرورة لتقدير الموقف، ولا للتخطيط وتوقع ردات الفعل والأثمان التي ستُدفع.. اضرب وتوكل على الله! فهناك يقين غيبي أن السفينة أُسست على الإخلاص، ورفعت أشرعة التوكل، وبالتالي لن تغرق ولو اجتمعت أمواج الأرض عليها! الإخلاص والتوكل هي عدة الحرب وأدوات المواجهة وشروط الانتصار.. لذلك وصلنا إلى هذه النتيجة الكارثية.. لكنا عرفنا أي نوع من الإخلاص، وتجاه من، والتوكل على ماذا.. توكُّل على إيران ومحور المقاومة وعلى شعوب مقموعة وعاجزة وأنظمة مرتبطة.. توكّل ورهان على كومة من الأوهام. الحقيقة المؤسفة أن أمواج الأرض اجتمعت وأغرقت غزة بمن فيها.
وخامساً: «أبحرنا لا نطلب دنيا ولا سلطة، بل ابتغاء وجه الله وحده ورضاه»، لن نحاكم النوايا، ولكن إذا صح القول، فهذا لا يعني أبداً أن الشعب محرم عليه أن يطلب الحياة والرفاه والدنيا والسلطة، وكأنَّ ذلك يتناقض مع ابتغاء وجه الله ورضاه، الوضع الطبيعي أن أهل غزة وسائر شعوب الأرض يحبون الدنيا، ويسعون للحياة، وهذه سمة إيجابية وأصيلة وهدف نبيل.. الإنسان السوي لا يمكن أن يكون الموت أسمى أمانيه. أسمى أماني الإنسان الحياة، فهي هبة الله وهديته الأثمن، ومن يفرط بها يعتدِ على إرادة الخالق.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مجزرة "الباقة".. عندما تحوَّل شاطئ البحر إلى مسرح للدماء والدموع
مجزرة "الباقة".. عندما تحوَّل شاطئ البحر إلى مسرح للدماء والدموع

فلسطين أون لاين

timeمنذ 2 ساعات

  • فلسطين أون لاين

مجزرة "الباقة".. عندما تحوَّل شاطئ البحر إلى مسرح للدماء والدموع

غزة/ جمال محمد في هدوء يبعث على الأمل وسط الحرب الضروس على قطاع غزة، استجمّ نازحون وفارون من جحيم الاحتلال الإسرائيلي، في إحدى الاستراحات على شاطئ بحر غزة، باحثين عن بعض نسيم الهواء العليل الذي قد يمنحهم لحظة أمل وسط المعاناة المستمرة. لكنّ ما حدث أول من أمس، كان صدمة جديدة لن تنسى، إذ أطلقت طائرات الاحتلال الحربية من نوع إف "16"صاروخًا مباشرًا استهدف تجمعهم، مخلفًا مجزرة راح ضحيتها 34 شهيدًا وعشرات الجرحى. مذبح بشري كان المشهد في استراحة الباقة، التي تقع على شاطئ بحر مدينة غزة، يحمل بصيص أمل ونقاء، حيث تجمعت نحو مئة عائلة من النازحين قسرا، يبحثون عن لحظة هدوء واستراحة لكن الاحتلال باغتهم بصاروخ دمر أمالهم وأحلامهم. ويصف أحمد الهسي، أحد شهود العيان، الحادثة لـ "فلسطين أون لاين": قائلاً: "كنا على بعد أمتار قليلة عندما باغتنا القصف الصاروخي، ولم ينجُ أحد من بين المئة المتواجدين، فمنهم من أصيب بجراح بالغة، ومنهم من ارتقى شهداء تحت شظايا الصاروخ". ويضيف الهسي: "لم نكن نعرف ما الذي يجعلنا هدفًا في وضح النهار، نحن فقط جئنا لنستنشق بعض الهواء بعيدًا عن أصوات الرصاص والقصف"، وسرعان ما اهتزت مشاعره بين الحزن والاستغراب لما حدث، متسائلاً، عن ذنب الأطفال والنساء والشبان الذين لم يطلبوا سوى لحظة أمل وسط الحرب الإسرائيلية الدامية. ويعود باسم العجلة، النازح قسرا من حي الشجاعية، الذي استقر قرب المكان، بذاكرته إلى الوراء قليلًا، وكيف كانت الاستراحة ملتقى للفرح والراحة قبل أن تتحول إلى مكان تفوح منه رائحة الدماء والموت. و يروي العجلة لـ "فلسطين أون لاين" بغضب: "في السابق، كانت هذه الاستراحة مزارًا للأهالي في غزة، واليوم تحولت إلى شاهد على وحشية الاحتلال التي لا تتوقف بحق المدنيين والأبرياء العزل". أشلاء على الأرض ويتنقل ماهر الباقة، أحد أبناء المنطقة، بين أطلال المكان، ويطبق كفًا على أخرى وهو يصف الدمار الذي حل بالاستراحة، ويشير إلى بقع الدم التي ما زالت على الأرض، ويقول لصحيفة "فلسطين": "لقد فقدت ثلاثة من أقاربي هنا، كل مكان أشار إليه يحمل قصة شهيد أو جريح". ويضيف أن الاحتلال استهدف المكان بشكل متعمد، مشيرًا إلى حجم الدمار الناتج عن الصاروخ الذي أحدث حفرة عمقها خمسة أمتار وارتفاعها ثلاثة أمتار ما يدلل على تعمد الاحتلال في استهداف المدنيين وقتلهم بشكل متعمد. وينظر الباقة، إلى البحر، ويحمل في عينيه الألم والأمل معاً، ويدعو الله عزل وجل، أن يضع حدًا لحرب الإبادة التي لم تترك لأهل غزة مكانًا آمنًا. ويؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي لا يميز بين مدني أو مقاتل، وأن استهداف مكان مأهول بهذا الشكل هو دليل واضح على استهداف المدنيين العزل. رائحة الموت والدمار في حين كان أحمد أبو حصيرة، من سكان المنطقة، في منزله عند وقوع القصف، ويروي تفاصيل اللحظة لـ "فلسطين أون لاين" قائلًا: "خرجت من نافذتي لأرى عمود الدخان يتصاعد، وعندما اقتربت من الاستراحة وجدت الدماء كشلال المياه على الأرض، وأشلاء الشهداء متناثرة، حتى أن البعض لم يستطع التعرف عليهم". ويشير إلى أن الصاروخ الذي أطلقته طائرة من نوع "إف 16" دمر المكان بالكامل وجعل منه مكانا ينتر منه رائحة الموت والدمار الذي يعم المكان. ومنذ 7 أكتوبر 2023، يواصل الاحتلال الإسرائيلي شن حربه المدمرة على قطاع غزة، مسفرًا عن عشرات الآلاف من الضحايا بين شهيد وجريح، إضافة إلى أعداد هائلة من المفقودين والنازحين. وتصف الأمم المتحدة، في بيان سابق، هذا التصعيد بأنه حرب إبادة جماعية، وسط تجاهل دولي واسع وأصوات قليلة فقط تدعو لوقف هذه المذبحة. إلى اليوم، خلفت هذه الحرب أكثر من 189 ألف شهيد وجريح، بينهم غالبية من النساء والأطفال، في ظل تدمير واسع للبنية التحتية ونقص حاد في الاحتياجات الأساسية، الأمر الذي أسفر عن حالة إنسانية كارثية في القطاع. تلك اللحظات التي قضوها أهالي غزة في الاستراحة البحرية، كانت محاولة بسيطة للابتعاد عن صخب الحرب، لكن الاحتلال كان له رأي آخر، فحول مكانًا للراحة إلى موقع مأساوي للدماء والدموع. فهذه المجزرة ليست مجرد رقم في حصيلة الشهداء، بل هي صورة حية لفقدان الإنسانية وسط آلة الحرب الإسرائيلية التي لا تعرف الرحمة. المصدر / فلسطين أون لاين

صلاة الخوف... بين الفقه والواقع
صلاة الخوف... بين الفقه والواقع

معا الاخبارية

timeمنذ 3 ساعات

  • معا الاخبارية

صلاة الخوف... بين الفقه والواقع

في بلاد تعودت على الطوارئ أكثر من العادي، ليس مستغربا أن يُطرح السؤال القديم بصيغة جديدة: هل تقام صلاة الجمعة في ظل تهديدات الحرب، أم تُعلق الجماعة ونصلي فرادى؟ هل ننتقل تلقائيا إلى "صلاة الخوف"، أم ننتظر سقوط الصاروخ فوق المسجد كي نوقن بالخطر؟ لم اكتب عن هذا السؤال في أثناء الحرب وتساقط شظايا الصواريخ في الضفة ورغم انه سؤال يبدو دينيا، لكنه في جوهره سياسي ومجتمعي، يتصل بمدى تكيف المجتمع مع الأزمات، وبتوقيت استخدام الدين كوسيلة للثبات أو مبرر للتراجع. اللافت في هذه المرة، أن البعض لم يُنكر فقط مبرر "صلاة الخوف"، بل قلل من شأنها بحجة أن الخطر ليس عاما، وأن كثيرين لم يشعروا بالخوف أصلاً، وقد صعد بعض المواطنين إلى أسطح منازلهم لمراقبة السماء أكثر من الاختباء منها. في هذه النقطة بالذات، يجب أن نتوقف. فصلاة الخوف كما يقول الفقهاء لم تُشرّع لأن الناس جميعهم خائفون، بل لأنها فُرضت لحظة وجود خطر معتبر، حتى لو لم يشعر به الجميع، والفقه لا يتبع شعور الناس، بل يضبط السلوك العام بموازين الضرورة والمصلحة. حين شرّع النبي محمد صلى الله عليه و آلة وسلم " صلاة الخوف "، لم ينتظر أن ترتعد كل القلوب، بل راعى وضعا ميدانيا فرضه العدو، ورسم به طريقا متوازنا بين إقامة الفريضة والحفاظ على النفس. والآية التي نزلت في ذلك السياق، " فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم..."، لا تُقرأ اليوم كمجرد توثيق، بل كدليل عملي يُجيد التوفيق بين الروح والسلاح. وكما أن إغلاق المسجد الأقصى ضمن ما سمته " إسرائيل "حالة الطوارئ في الحرب". وقد كان واحدا من أطول الفترات التي حرم فيها المصلون من الدخول إليه منذ عقود، ويعكس حجم التصعيد العسكري والسياسي في المنطقة. وقد جاء إغلاقه بطابع أمني واضح، لكنه في جوهره لم يكن بعيدا عن الرسائل السياسية التي تبعث بها إسرائيل في كل أزمة، وهو ما يبقى في وعي الناس شكلا من أشكال السيطرة عليه. ما نحتاجه اليوم ليس فتاوى جديدة، بل وعي ديني منضبط، يُقنع الناس بأن "التكيف الفقهي" ضرورة وأن صلاة الخوف ليست تراجعا عن الواجب، بل حماية له وأن الشريعة التي خفّفت الهيئة، لم تُسقط الركن. الخوف ليس عيبا، والمجاهرة بعدمه ليست بطولة دينية والعبادة ليست ميدان اختبار للشجاعة، بل ميدان طاعة، والتزام، وتوازن. ولهذا، فإن إقامة صلاة الخوف، حتى مع عدم شعور بعض الناس بالخطر، هو فعل وعي جماعي لا رد فعل عاطفي فردي، وهو تطبيق لفكرة أن الدين لا يفرّط في الفريضة، لكنه لا يُجازف بالمؤمنين.

حول بيان «حماس» الأخير
حول بيان «حماس» الأخير

جريدة الايام

timeمنذ 14 ساعات

  • جريدة الايام

حول بيان «حماس» الأخير

بعد نحو عشرين شهراً على القصف والقتل والتجويع والنزوح، وفي ذروة تصعيد العدوان الإسرائيلي ووصول المنطقة إلى أخطر مفترق، أصدرت «حماس» في غزة بياناً أو تعميماً داخلياً، هذا نصه: «منذ اللحظة الأولى، ونحن في غزة، سرنا على بركة الله، متوكلين عليه وحده، لا نعوّل على قوة بشر ولا نرجو إلا نصره وتأييده. انطلقت السفينة في صمت، لم تُخبر أحداً، لأنها تعلم أن الأمة عليلة، مثقلة بالخذلان، مريضة بالتردد، ومع ذلك رفعت صوتها عالياً: ‹من أراد الفوز فليركب›، لكن ما استجاب أحد، ومن ركب لم يثبت.. فما هذه السفينة إلا لأهل العقيدة الصافية، والثبات الذي لا يتزعزع. لا يثبت على متنها إلا من باع الدنيا لله، وأعرض عن زخرفها، أناس لا يبالون بلوم اللائمين، ولا تغريهم الرايات الباهتة، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وأقسم بالله ما خذل من صدق، وما ندم من ثبت، أما من تخلّف، فقد كتب على نفسه الخزي، وسيدفع ثمن التردد خذلاناً في الدنيا، وحسرة لا تنطفئ في الآخرة. لا عذر بعد النداء، ولا رحمة لمن خاف في مواطن الثبات. فالمعركة ماضية، والحق لا ينتظر المتأرجحين، ومن خاف الركوب، فقد اختار الغرق بيده. أما نحن فقد أبحرنا لا نطلب دنيا ولا سلطة، بل ابتغاء وجه الله وحده ورضاه، ويقيننا أن السفينة التي أُسست على الإخلاص، ورفعت أشرعة التوكل، لا تغرق ولو اجتمعت أمواج الأرض عليها.. هذه ليست سفينة المرتابين، ولا مقعد فيها للمتلونه قلوبهم، ولا مكان على ظهرها لمن يحسب الخطى ويزن الثمن.. هذه سفينة العقيدة الخالصة، لا يعلو على ظهرها إلا رجال عرفوا طريقهم، ومضوا إليه لا يلوون على شيء ..وإن النصر آت، والفرز قد وقع، وكل متخاذل سيسقط عن ظهرها ولو تظاهر بالثبات، فالمعركة لا ترحم، والحق لا يتزين بالمنافقين». بالقراءة السريعة نلحظ اللغة والمفردات الدينية، وأسلوب السجع والخطابة والإنشاء والتعميمات والأحكام المطلقة.. خطاب عاطفي يخلو من المنطق، ومن السياسة، ولا يصلح لهذا العصر،، وعموماً هذا هو النمط الشائع للخطاب الديني، الموجه للعامّة والبسطاء، كلام مزخرف بلا مضمون. بالتمعن في البيان نصل إلى استنتاجات عديدة، أولها أن «حماس» لا تستشعر بأي ذنب أو مسؤولية تجاه الحرب التي جرّتها إلى غزة وسائر المنطقة، وليس في نيتها إجراء أي تقييم أو مراجعة أو نقد لمغامرتها العسكرية، بل إنها متمسكة بأطروحاتها، وتنظر إلى نفسها بنرجسية مفرطة، معتبرة نفسها ممثلاً حصرياً للحق، وكل من لم يتوافق مع أطروحاتها متخاذل، وكتب على نفسه الخزي، واختار الغرق بيده. وثانياً: ليس في البيان ولا في خطاب «حماس» عموماً أي تحمّل للمسؤولية تجاه المآسي التي جلبتها الحرب، مآسي الأيتام والأرامل والنازحين، ومن تهدمت بيوتهم، ومن فقدوا مستقبلهم، بل على العكس ترى أنها بنت سفينة الخلاص و»من أراد الفوز فليركب، ومن تخلف عن الركوب سيدفع ثمن التردد خذلاناً في الدنيا، وحسرة لا تنطفئ في الآخرة».. بمعنى أن كل من لم يلتحق بركب «حماس» وأراد النجاة بنفسه وعائلته جبان ومتردد وسيخسر الدنيا والآخرة! وهذه نظرتها إلى البيئة الحاضنة للمقاومة! وثالثاً: يعترف البيان بأن «حماس» لجأت لمغامرتها العسكرية دون حسابات عقلانية، ودون تخطيط ولا دراسات، بل فقط رهان على الغيب، وكأن التوكل على الله دون إعداد حقيقي يجلب النصر، «منذ اللحظة الأولى سرنا على بركة الله، متوكلين عليه وحده، لا نعوّل على قوة بشر ولا نرجو إلا نصره وتأييده»، ويعترف أيضاً بأن الحركة لم تشاور أحداً حتى أقرب حلفائها، «انطلقت السفينة في صمت، لم تُخبر أحداً، لأنها تعلم أن الأمة عليلة، مثقلة بالخذلان، مريضة بالتردد».. مع أن هذا يتناقض مع خطاب «الضيف» الذي راهن على الأمة الإسلامية والشعوب العربية وأحرار العالم.. فإذا بهم يكتشفون أن «الأمة عليلة، مثقلة بالخذلان، مريضة بالتردد». وهو اكتشاف متأخر جداً. ورابعاً: هذا البيان يرسخ خطاب «حماس» الإقصائي الذي يضعها فوق الشعب ومنفصلة عنه؛ «ما هذه السفينة إلا لأهل العقيدة الصافية، والثبات الذي لا يتزعزع. لا يثبت على متنها إلا من باع الدنيا لله، وأعرض عن زخرفها، أناس لا يبالون بلوم اللائمين، ولا تغريهم الرايات الباهتة، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه».. السفينة هي «حماس» وأنصارها أصحاب العقيدة الصافية، والثبات الذي لا يتزعزع، والشعب هو ابن نوح الكافر الذي رفض الصعود مع سفينة المؤمنين فأغرقه الطوفان.. الشعب الذي أغرته الرايات البالية! والمتلونة قلوبهم! ولم يصدق ما عاهد الله عليه! ويضيف البيان: «هذه ليست سفينة المرتابين، ولا مقعد فيها للمتلونه قلوبهم، ولا مكان على ظهرها لمن يحسب الخطى ويزن الثمن».. هذا ليس تأكيداً على نهج الإقصاء وحسب، بل أيضاً «لا مكان لمن يحسب الخطى ويزن الثمن».. لا مكان ولا داعي لحسابات العقل والسياسة والواقع ومعادلات موازين القوى. ولا ضرورة لتقدير الموقف، ولا للتخطيط وتوقع ردات الفعل والأثمان التي ستُدفع.. اضرب وتوكل على الله! فهناك يقين غيبي أن السفينة أُسست على الإخلاص، ورفعت أشرعة التوكل، وبالتالي لن تغرق ولو اجتمعت أمواج الأرض عليها! الإخلاص والتوكل هي عدة الحرب وأدوات المواجهة وشروط الانتصار.. لذلك وصلنا إلى هذه النتيجة الكارثية.. لكنا عرفنا أي نوع من الإخلاص، وتجاه من، والتوكل على ماذا.. توكُّل على إيران ومحور المقاومة وعلى شعوب مقموعة وعاجزة وأنظمة مرتبطة.. توكّل ورهان على كومة من الأوهام. الحقيقة المؤسفة أن أمواج الأرض اجتمعت وأغرقت غزة بمن فيها. وخامساً: «أبحرنا لا نطلب دنيا ولا سلطة، بل ابتغاء وجه الله وحده ورضاه»، لن نحاكم النوايا، ولكن إذا صح القول، فهذا لا يعني أبداً أن الشعب محرم عليه أن يطلب الحياة والرفاه والدنيا والسلطة، وكأنَّ ذلك يتناقض مع ابتغاء وجه الله ورضاه، الوضع الطبيعي أن أهل غزة وسائر شعوب الأرض يحبون الدنيا، ويسعون للحياة، وهذه سمة إيجابية وأصيلة وهدف نبيل.. الإنسان السوي لا يمكن أن يكون الموت أسمى أمانيه. أسمى أماني الإنسان الحياة، فهي هبة الله وهديته الأثمن، ومن يفرط بها يعتدِ على إرادة الخالق.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store