"بين الجريمة والسراب.. كتاب عن الربيع الألباني وسقوط الدكتاتورية" ترجمة محمد الأرناؤوط
عمَّان -الدستور- عمر أبو الهيجاء
يعدّ كتاب "بين الجريمة والسراب.. عن (الربيع الألباني) وسقوط الدكتاتورية" كتاباً متفرِّداً، لأنه بقلم شاعر يمزج بين الرؤية الفلسفية والأحداث السياسية بلغة إبداعية، حتى يحسبه القارئ للوهلة الأولى رواية تاريخية أكثر منه كتاباً في التاريخ.
الكتاب الصادر حديثًا عن "الآن ناشرون وموزعون" في الأردن من تأليف الكاتب الألباني "بسنيك مصطفاي" وترجمة د. محمد م. الأرناؤوط، يقع في 212 صفحة، ويضم ستة فصول وتمهيداً بقلم المترجم ومقدمة وخاتمة للمؤلف.
يقول الأرناؤوط عن المؤلف الذي روى أحداثاً عاشها وعاصرها وأثّر في مجرياتها: "كنتُ قد عرفتُ بسنيك شاعراً كما كان عشية المواجهة مع الدكتاتورية، ونشرت له عدة قصائد في 1990، ثم تعرّفت عليه روائيّاً وشخصيّاً ما بين كوسوفو وألبانيا خلال (2011-2020)".
ويضيف الأرناؤوط في المقدمة أنه نشر أولاً عرضاً عن رواية بسنيك المسمّاة "ملحمة صغيرة عن السجن"، فاتحاً الباب لترجمتها كأول رواية لبسنيك في العربية (2022)، ثم نشر عرضاً لكتابه "بين الجريمة والسراب" مع ترجمة لمقدمته، وبقي يعود إليه من حين إلى آخر ليترجم فصلاً ويتوقّف، ثم قرّر إكماله وإعداده للنشر لكونه "يقدّم تجربة غنية في الكفاح ضد الدكتاتورية ورؤية لما بعد الدكتاتورية"، موضحاً: "مع تجربة أوروبا الشرقية أصبح يقال إن الانتقال من الحكم الديمقراطي إلى الحكم الدكتاتوري أسهل من الانتقال من الحكم الدكتاتوري إلى الحكم الديمقراطي، ومن هنا كان العنوان الدّال لهذا الكتاب: بين الجريمة والسراب".
ويتابع الأرناؤوط بقوله: "لدى بسنيك أكثر من سراب في كتابه هذا الذي أغناه بالخاتمة المطولة (الحلم بالجنة) التي نشرت لأول مرة في 2019، والتي وضع فيها بجرأة النقاط على الحروف فيما يتعلق بـ(الربيع الألباني وسقوط الدكتاتورية)، موضّحاً المسافة الصعبة بين (الحلم بالجنة) وبين (الجنة التي تتحقّق على أرض الواقع)".
يقول بسنيك مصطفاي في الفصل الأول من الكتاب حول موقف أنور خوجا من الستالينية والشيوعية: "في خريف 1960 لم يوافق أنور خوجا على قيام خروتشوف بإلغاء تقديس ستالين، وقام بقطع كل العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، وهكذا فقد أُغلقت كل نافذة أمام النَّفَس الليبرالي الذي بدأت نسماته في بلاد السوفييت، وفي كل المعسكر الشيوعي، ولم يبقَ لألبانيا المتخلفة من حليف سوى الصين التي كانت تعدّ العدة للثورة الثقافية المخيفة".
ويتابع واصفاً الحال التي وصلت إليها ألبانيا حينئذٍ: "وهكذا دخلت ألبانيا التي لم تكن قد تخلّصت بعد من الأمية في الفيضان الجارف للثورة الثقافية، فقد سُحبت من منصات المسارح الألبانية والمكتبات المدرسية أعمال بيتهوفين وموزارت وشكسبير وتشيخوف طيلة عشرين سنة، في المدارس على كلّ مستوياتها كان يُفرض على الطلاب أن يدرسوا فقط فلسفة نصوص ماركس وإنغلز ولينين وستالين وماو، وأنور خوجا بالطبع، وما عدا ذلك اعتُبرت كل المؤلفات الكلاسيكية والحديثة رجعية، وكانت كل صلة بها ولو بشكل ذاتي تُعتبر نشاطاً عدائيّاً ضد السلطة الشعبية، ينال من يتورّط بها حكماً بالسجن لمدة عشر سنوات، وفي غضون ذلك توقف إرسال الطلاب للدراسة في الجامعات الأجنبية: كان لا بد من خلق إنتلجنسيا فاسدة في مثل هذا الجو الخانق".
وفي الفصل الثاني يتحدث المؤلف حول مدى الانغلاق الذي وصلت إليه ألبانيا، فيقول: "يمكن أن أقول بشكل عام إن المثقفين الألبانيين كانوا يعتقدون أن المرحلة الانتقالية إلى ما بعد الدكتاتورية سهلة جدّاً، ولم يكن هناك في الإمكان غير ذلك، فبالنسبة إلى عقولنا المملوءة بالأسئلة عن الوضع الراهن، الذي لم يكن يدعو إلى التفاؤل كثيراً، كان فوق طاقتنا أن نتخيّل ما هو قادم. كان يشبه أن تطلب من الإنسان الجائع أن يفكّر بالحلوى، ولكن كان هناك سبب آخر أيضاً؛ كانت أبواب ألبانيا مغلقة أمام الصحافة الأجنبية، كما كانت هناك حواجز كثيرة تحجب رؤية محطات التلفزيون في الدول المجاورة".
ويتابع بقوله: "في الحقيقة كانت الصحافة المحلية قد بدأت تنشر بعض المعلومات عن الأزمة المعقّدة التي تمر فيها البلدان الاشتراكية في أوروبا الشرقية بعد انهيار احتكار الأحزاب الشيوعية للسلطة، ولكن هذه المعلومات كانت تُختار بنزعة تربوية، فقد كان على شعبنا أن يشعر بالخوف وهو يشاهد ما يحدث من فوضى بعد سقوط هذه الأنظمة في هذا الجزء من أوروبا لكي نُبعد من رؤوسنا كل رغبة بأن نكون مثلهم، وهي النزعة التي جعلت القراء يفقدون الثقة في هذه المعلومات الصحيحة حتى ولو كانت صحيحة، وكان الإحباط الذي أصاب بعض المثقفين، وخاصة من الشباب، بعد عدة أسابيع فقط من انتصار التعددية السياسية، خير دليل على التصور الوردي في أذهانهم".
ويؤكد مصطفاي ما وصلت إليه ألبانيا من تمثُّلها للستالينية، قائلاً بسخرية شديدة المرارة: "إن ألبانيا في بنائها للمجتمع الستاليني تعطي العالمَ الدرسَ الذي يحتاج إليه، ويمكن القول دون الوقوع في خطأ بأن ستالين لو كان على رأس الدولة الألبانية في تلك المرحلة لما كان قد تمكّن بشكل أفضل من صياغة مبادئ نظريته حول السياسة الداخلية التي تعتمد على التمزيق الكامل للشعب بواسطة صراع الطبقات وتطبيق المساواة الاقتصادية (التي لا تشمل النخبة الحاكمة) في الفقر المطلق وليس في الغنى بواسطة مركزة الاقتصاد والقضاء على كل شكل للاقتصاد الخاص، وحيث يصبح السجن السياسي أقوى مؤسسة".
ويجعل المؤلف الفصل السادس والأخير بمثابة موسوعة ألبانية صغيرة، على حدِّ تعبيره، جامعاً مصطلحات وشخصيات ألبانية كما كانت تعرّف في الكتابات الرسمية، فينقل مصطفاي مثلاً عن "المعجم الموسوعي الألباني" ما يرد عن أنور خوجا: "من الشخصيات النادرة التي اجتمع فيها المفكر الماركسي والزعيم الثوري والقائد العسكري ورجل الدولة والدبلوماسي والناشر والمثقف المعرفي ومربي الجماهير والخطيب الناري وصديق الناس البسطاء. كافح وعمل وأبدع طيلة حياته على رأس حزب الشعب الألباني لأجل خير وثروة الوطن والقضية الكبرى للاشتراكية. إن أعماله وتراثه الذي لا تقدّر بثمن ستبقى حيّة عبر القرون".
ويتحدث ضمن تعريف "المعجم الموسوعي" عن رامز عليا؛ "أحد أشهر زعماء الحزب الشيوعي والدولة الألبانية: "في الحقيقة كان له تأثيره في تجنُّب سفح الدم مع بداية الاحتجاجات الطلابية سواء بقصد أو دون قصد، ولكنه بعد يومين من إعلان التعدّدية السياسية عقد اجتماعاً مع مسؤولي جهاز اللجنة المركزية للحزب إذ قال إن الطلاب يتم التلاعب بهم من قبل الاستخبارات الأجنبية، وخاصة من (CIA)، وبدون ذكر الأسماء أوحى أن الأمر يتعلق بنا -نحن المثقفين- الذين ساعدنا هذه الحركة الاحتجاجية على النجاح، وعلى ما يبدو لم يكن يتوقع تأسيس الحزب الديمقراطي بهذه السرعة".
وفي الخاتمة التي عنونها المؤلف "ألبانيا: ماذا كانت في الماضي، وما هي عليه الآن، وماذا ستكون في المستقبل؟ (عوضاً عن فصل ختامي لكتاب مفتوح)" يقول مصطفاي: "كان اقتصاد البلاد قد انهار بشكل كارثي، وانهارت معنويات الشعب بشكل مأساوي، ولذلك يبدو مفهوماً التروما المرعبة والعُقَد التي ستصاحب هذا الشعب خلال الانتقال من الديكتاتورية إلى المجتمع الديمقراطي، فالشعب الذي لديه كابوس الجوع ويصلّي كل يوم لكيلا يُصاب بالمرض، وحيث ينقص الكحول في المستشفيات، ولا يرغب أن يرسل أطفاله إلى المدارس في الشتاء لأن المدارس لا تنقصها التدفئة فقط وإنما زجاج النوافذ لتردّ الريح والمطر، لا يمكن له بسهولة أن يخلق نفسيةً جديدة، نفسية الحياة في الديمقراطية. ومع ذلك فإن هذا الشعب يحب الديمقراطية قبل كل شيء، ولذلك لا يزال يغفو في عقله المتعب منذ مئة سنة حلم سامي فراشري برؤية ألبانيا جزءاً من أوروبا، كسويسرا، ولِمَ لا!".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


جفرا نيوز
منذ 4 أيام
- جفرا نيوز
وانتهت الحرب على الإرهاب
جفرا نيوز - إسماعيل الشريف التقارير التي تفيد بأنني قلت إن أوباما وكلينتون أسّسا داعش تأخذ كلامي بجدية زائدة. ألا يفهمون السخرية؟... سأكون صادقًا، لم تكن سخرية كبيرة- ترامب. في أوائل الثمانينيات، حين كنت طفلًا، كان الشيخ عبد الله عزام – رحمه الله – يحضر إلى مسجد الشريعة أثناء حرب أفغانستان، ويجلس بعد صلاة الجمعة مع بعض أصدقائه يحدّثهم عن مجريات الحرب. كانت قصصه تدور حول كرامات المجاهدين وظهور الملائكة التي تقاتل إلى جانبهم ضد جيش الاتحاد السوفييتي، فتأسر القلوب وتلهب المشاعر. أعلم أن نوايا الشيخ ورفاقه كانت صادقة، لكنه لم يحدثنا يومًا عن مجلته الجهاد، التي خُصصت لتغطية أخبار حرب أفغانستان بهدف جذب التمويل وتجنيد الشباب. كانت المجلة تُطبع بسبعين ألف نسخة على نفقة الولايات المتحدة، وتُوزَّع في مختلف أنحاء العالم الإسلامي والولايات المتحدة، وتصل إلى اثنين وخمسين مكتبًا مخصصًا لتجنيد الشباب للذهاب إلى هناك. بل إن القنصلية الأمريكية في جدة كانت تمنح تأشيرات للراغبين في «الجهاد» للسفر إلى الولايات المتحدة والتدرب هناك. وبعد هذه السنوات الطويلة، لا يختلف اثنان على أن المجاهدين قد خاضوا حربًا بالوكالة عن الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان لقتال الروس هناك. ثم في أوائل التسعينيات، انتقل أولئك المجاهدون، بعد أن هزموا الاتحاد السوفييتي، إلى البوسنة والهرسك، حيث حاربوا إلى جانب الأمريكيين. لكن سرعان ما حوّلتهم الولايات المتحدة إلى أعداء، ليكونوا بيادق في خطتها التالية، حتى بلغ هذا العداء ذروته في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حين اتهمت واشنطن تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن بالوقوف وراء الهجمات. وأثناء التحضيرات للحرب، التقى الصحفي الشهير روبرت فيسك بأسامة بن لادن في أحد كهوف أفغانستان. بدأ الشيخ أسامة الحديث بسؤاله عن مجريات الأحداث في العالم، ويذكر فيسك أن مصدر معلوماته آنذاك كان نسخة قديمة من مجلة نيوزويك يعود تاريخها إلى ثلاثة أشهر مضت. انطلقت بعدها ما عُرف بـ»الحرب على الإرهاب»، فتوجّهت الولايات المتحدة لمحاربة حلفاء الأمس في أفغانستان، ثم اتهمت العراق زورًا بوجود صلة له بتنظيم القاعدة، فغزته واحتلته. وقد بلغت كلفة هذه الحرب الطويلة نحو 8 تريليونات دولار، وراح ضحيتها قرابة 950 ألف إنسان تحت القصف المباشر، بالإضافة إلى 4.7 مليون شخص بشكل غير مباشر نتيجة لانهيار المنظومات الصحية وانتشار الأمراض. كما تسببت في تهجير ما يزيد على 38 مليون شخص من أوطانهم. ثم لم تلبث أن ظهرت عشرات التنظيمات الإرهابية التي تلقت دعمًا من جهات متعددة، وكان هدفها الأساسي تمزيق الدول الحاضنة لإيران، لكسر «الهلال الشيعي» الممتد من طهران إلى بيروت. وسرعان ما بلغت هذه التنظيمات من القوة ما مكّن «داعش» من السيطرة على مساحات واسعة من العراق وسوريا، لكنها كما ظهرت بسرعة، اختفت بسرعة أكبر. في عام 2017، قدّمت النائبة في الكونغرس الأمريكي تولسي غابارد مشروع قانون بعنوان قانون وقف تسليح الإرهابيين، بهدف منع الولايات المتحدة من تقديم أي دعم مالي أو عسكري لجماعات مثل القاعدة، وداعش، وجبهة النصرة. إلا أن المشروع تم تعطيل طرحه للتصويت، ولم يُقر. والآن، يأتي دونالد ترامب، رجل «السلام» و»أمريكا أولًا»، وصاحب الصفقات، الذي منع في ولايته الأولى رعايا سبع دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة، ووصف الإرهابيين بأنهم «أسوأ حثالة في التاريخ». ومع ذلك، رأيناه حين أصبح أعداء الأمس شركاء اليوم.


جهينة نيوز
منذ 5 أيام
- جهينة نيوز
ترامب يعيد الإمبراطورية.. بوجه ناعم
تاريخ النشر : 2025-05-20 - 11:21 am د.منذر الحوارات جاءت فخامة استقبال الرئيس ترامب وهيبته في السعودية وقطر والإمارات، مخالفة تماماً للطريقة الفظة التي يستقبل بها قادة ورؤساء الدول الذين يزورون المكتب البيضاوي، فهناك يتعرضون لشتى أنواع الابتزاز والتعنيف، أما في الخليج، فقد كانت الأناقة والفخامة عنوان اللحظة، من ناحية الشكل على الأقل في انعكاس صارخ للتناقض الجوهري بين ثقافتين، لكن، إذا تعمقنا في تفاصيل الحدث مبتدئين من عنوانه الذي طرحه ترامب، نراه يبشر بعهد جديد ينهي الحروب والمآسي، عنوانه «الاستقرار والاستثمار»، في تجاهل واضح للماضي الأميركي الدموي في المنطقة. لقد أدركت الولايات المتحدة أهمية المنطقة وحيويتها، منذ الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، فدخلتها تحت عنوان «الاحتواء المزدوج»، ثم عزز الغزو العراقي للكويت وجودها العسكري مع نهاية تلك الحرب، فأطلقت «عاصفة الصحراء» عام 1991، تلتها عملية «ثعلب الصحراء» عام 1998، ثم «حرية العراق» عام 2003، وكل ما تلا ذلك من حملات «الحرب على الإرهاب»، وصولاً إلى «عملية الحارس البحري» التي انتهت قبيل الزيارة، ولا يمكن تجاهل أن الولايات المتحدة كانت منغرسة في معظم الحروب الأهلية العربية التي اندلعت منذ الربيع العربي عام 2011 وحتى اليوم، حوّلت تلك الحروب والصراعات المنطقة إلى مختبر حقيقي للفوضى، وهو ما أدى إلى استنزافها اقتصادياً وتفكيكها سياسياً، برعاية أميركا وحضورها المباشر، ثم فجأة، يقرر ترامب أن هذا الماضي الأميركي ملطخ بالدماء، وأنه أوصل المنطقة إلى هذا الخراب، ليعلن قراره بإعادة تأطيرها وفق عنوانه الخاص، خدمةً لمرحلة أميركية جديدة، دون أي حساب لسيل الدماء والدمار الذي سببه التدخل الأميركي. لكن، هل يريد ترامب حقا تحويل مصادر الصراع (الدين، الهويات، الفقر) التي ساهمت الولايات المتحدة في تعميقها إلى فرص حقيقية؟ وهل سيحوّل منطقة مسكونة بالقلق، أتعبتها الحروب والموت والتشرد، إلى فضاءٍ للاستقرار والسلام والاستثمار؟ أم أن السيطرة الاقتصادية أصبحت أذكى من القمع العسكري؟ وهل نحن أمام انتقال من الهيمنة الصلبة إلى الهيمنة الناعمة والذكية؟ الواقع أن خطة الهيمنة الأميركية الجديدة تستند إلى «نظرية الليبرالية المؤسسية»، التي تفترض أن التعاون ممكن لكن تحت سقف هيمنة من نوع جديد تتركز فيه المصالح الكبرى بيد الأقوياء، وبالتالي فإن ترامب يفتتح عصرا جديدا في المنطقة والعالم، أركانه الأساسيين أباطرة المال والتكنولوجيا؛ لا يأتي بالدبابات والصواريخ والطائرات، بل بالأسواق والتبادل التجاري؛ لا يفرض لغة جديدة أو نمطاً استهلاكياً معيناً، بل يزرع الخوارزميات؛ لا يرفع أي علم فوق المباني، بل يزرع تطبيقات في كل جهاز، وإلا، كيف يمكن تفسير وجود كل هذا الحشد من أباطرة التقنية والمال ؟ واحد منهم فقط، يمتلك الصواريخ العابرة للفضاء، والعملة المشفرة، ونظاما يخترق خصوصية كل شخص، يتفوق على أي جهاز مخابرات في العالم، ويملك شبكة اتصال عالمية، إنه إيلون ماسك، الذي، بما يملك، أسقط من يد الدول كل مقومات هيبتها: من البنك المركزي إلى السلاح إلى جهاز الأمن. إن صدق الحدس، فإننا ذاهبون إلى استقطاب عالمي-إقليمي، اقتصادي-تكنولوجي تتركز فيه السيطرة بيد أوليغارشية جديدة، مؤلفة من نخب وشركات ودول، سيزيد هشاشة الدول الفقيرة والضعيفة، بينما الدول التي تملك موارد سيادية واستقراراً أمنياً، فيمكنها أن تكون إحدى منصات وروافع هذا الواقع، ودول الخليج العربي تمتلك هذه المقومات، وبإمكانها دخول هذا النظام العالمي الجديد من بوابته العريضة، أما الدول الفقيرة في المنطقة، فعليها أن تدخل في عملية تكيّف معقدة مع هذا الواقع، إذ لا خيار أمامها سوى إعادة التموضع ضمن أحد احتمالين: إما كشركاء ثانويين، أو كأوراق ضغط. وهكذا، تطرح عودة ترامب المتأنقة إلى المنطقة تساؤلاً جوهرياً: هل هي محاولة لتصحيح المسار الدموي للولايات المتحدة؟ أم تسوية نهائية لما بقي عالقاً من قضايا الشرق الأوسط؟ إذا تقف المنطقة من جديد على مفترق طرق خطير، مما يعيدنا إلى السؤال الجوهري : ماذا نريد نحن، لا ماذا يريد ترامب؟ فالواضح أنه يسعى إلى «العودة إلى الإمبراطورية بوجه ناعم». أما نحن، فعلينا الإجابة على سؤالنا قبل كل شيء. أما فيما يتعلق بدول الخليج فقد حررها هاجس «ما بعد النفط» من القيود الأيديولوجية الجامدة، فقررت دخول هذا العالم الجديد من بوابة اللحظة، انطلاقاً من مقولة أساسية ،(إذا كانت النقود المتوفرة حالياً والشحيحة غداً، قادرة على شراء لحظة وموقع مميز في المستقبل، فلمَ لا) كل ذلك على أمل بأنها ستصبح قادرة على تجاوز هزات ما هو آت، عندما تتلاشى مكانة النفط كمحرك للاقتصاد العالمي؟ لقد قامت هذه الدول بعملية تحوط إستراتيجية، في محاولة لوضع أقدامها في المستقبل عبر بوابتين محتملتين: الصين والولايات المتحدة، وكلاهما يبحث عن إمبراطوريته بأسلوب المستقبل المتوقع، ودول الخليج بما تمتلك من أدوات، تحاول الاستفاد من لعبة التحول الكبرى للأستفادة منها والدخول الآمن لمرحلة ما بعد النفط. تابعو جهينة نيوز على


الانباط اليومية
منذ 5 أيام
- الانباط اليومية
ترامب يعيد الإمبراطورية.. بوجه ناعم
الأنباط - جاءت فخامة استقبال الرئيس ترامب وهيبته في السعودية وقطر والإمارات، مخالفة تماماً للطريقة الفظة التي يستقبل بها قادة ورؤساء الدول الذين يزورون المكتب البيضاوي، فهناك يتعرضون لشتى أنواع الابتزاز والتعنيف، أما في الخليج، فقد كانت الأناقة والفخامة عنوان اللحظة، من ناحية الشكل على الأقل في انعكاس صارخ للتناقض الجوهري بين ثقافتين، لكن، إذا تعمقنا في تفاصيل الحدث مبتدئين من عنوانه الذي طرحه ترامب، نراه يبشر بعهد جديد ينهي الحروب والمآسي، عنوانه «الاستقرار والاستثمار»، في تجاهل واضح للماضي الأميركي الدموي في المنطقة. لقد أدركت الولايات المتحدة أهمية المنطقة وحيويتها، منذ الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، فدخلتها تحت عنوان «الاحتواء المزدوج»، ثم عزز الغزو العراقي للكويت وجودها العسكري مع نهاية تلك الحرب، فأطلقت «عاصفة الصحراء» عام 1991، تلتها عملية «ثعلب الصحراء» عام 1998، ثم «حرية العراق» عام 2003، وكل ما تلا ذلك من حملات «الحرب على الإرهاب»، وصولاً إلى «عملية الحارس البحري» التي انتهت قبيل الزيارة، ولا يمكن تجاهل أن الولايات المتحدة كانت منغرسة في معظم الحروب الأهلية العربية التي اندلعت منذ الربيع العربي عام 2011 وحتى اليوم، حوّلت تلك الحروب والصراعات المنطقة إلى مختبر حقيقي للفوضى، وهو ما أدى إلى استنزافها اقتصادياً وتفكيكها سياسياً، برعاية أميركا وحضورها المباشر، ثم فجأة، يقرر ترامب أن هذا الماضي الأميركي ملطخ بالدماء، وأنه أوصل المنطقة إلى هذا الخراب، ليعلن قراره بإعادة تأطيرها وفق عنوانه الخاص، خدمةً لمرحلة أميركية جديدة، دون أي حساب لسيل الدماء والدمار الذي سببه التدخل الأميركي. لكن، هل يريد ترامب حقا تحويل مصادر الصراع (الدين، الهويات، الفقر) التي ساهمت الولايات المتحدة في تعميقها إلى فرص حقيقية؟ وهل سيحوّل منطقة مسكونة بالقلق، أتعبتها الحروب والموت والتشرد، إلى فضاءٍ للاستقرار والسلام والاستثمار؟ أم أن السيطرة الاقتصادية أصبحت أذكى من القمع العسكري؟ وهل نحن أمام انتقال من الهيمنة الصلبة إلى الهيمنة الناعمة والذكية؟ الواقع أن خطة الهيمنة الأميركية الجديدة تستند إلى «نظرية الليبرالية المؤسسية»، التي تفترض أن التعاون ممكن لكن تحت سقف هيمنة من نوع جديد تتركز فيه المصالح الكبرى بيد الأقوياء، وبالتالي فإن ترامب يفتتح عصرا جديدا في المنطقة والعالم، أركانه الأساسيين أباطرة المال والتكنولوجيا؛ لا يأتي بالدبابات والصواريخ والطائرات، بل بالأسواق والتبادل التجاري؛ لا يفرض لغة جديدة أو نمطاً استهلاكياً معيناً، بل يزرع الخوارزميات؛ لا يرفع أي علم فوق المباني، بل يزرع تطبيقات في كل جهاز، وإلا، كيف يمكن تفسير وجود كل هذا الحشد من أباطرة التقنية والمال ؟ واحد منهم فقط، يمتلك الصواريخ العابرة للفضاء، والعملة المشفرة، ونظاما يخترق خصوصية كل شخص، يتفوق على أي جهاز مخابرات في العالم، ويملك شبكة اتصال عالمية، إنه إيلون ماسك، الذي، بما يملك، أسقط من يد الدول كل مقومات هيبتها: من البنك المركزي إلى السلاح إلى جهاز الأمن. إن صدق الحدس، فإننا ذاهبون إلى استقطاب عالمي-إقليمي، اقتصادي-تكنولوجي تتركز فيه السيطرة بيد أوليغارشية جديدة، مؤلفة من نخب وشركات ودول، سيزيد هشاشة الدول الفقيرة والضعيفة، بينما الدول التي تملك موارد سيادية واستقراراً أمنياً، فيمكنها أن تكون إحدى منصات وروافع هذا الواقع، ودول الخليج العربي تمتلك هذه المقومات، وبإمكانها دخول هذا النظام العالمي الجديد من بوابته العريضة، أما الدول الفقيرة في المنطقة، فعليها أن تدخل في عملية تكيّف معقدة مع هذا الواقع، إذ لا خيار أمامها سوى إعادة التموضع ضمن أحد احتمالين: إما كشركاء ثانويين، أو كأوراق ضغط. وهكذا، تطرح عودة ترامب المتأنقة إلى المنطقة تساؤلاً جوهرياً: هل هي محاولة لتصحيح المسار الدموي للولايات المتحدة؟ أم تسوية نهائية لما بقي عالقاً من قضايا الشرق الأوسط؟ إذا تقف المنطقة من جديد على مفترق طرق خطير، مما يعيدنا إلى السؤال الجوهري : ماذا نريد نحن، لا ماذا يريد ترامب؟ فالواضح أنه يسعى إلى «العودة إلى الإمبراطورية بوجه ناعم». أما نحن، فعلينا الإجابة على سؤالنا قبل كل شيء. أما فيما يتعلق بدول الخليج فقد حررها هاجس «ما بعد النفط» من القيود الأيديولوجية الجامدة، فقررت دخول هذا العالم الجديد من بوابة اللحظة، انطلاقاً من مقولة أساسية ،(إذا كانت النقود المتوفرة حالياً والشحيحة غداً، قادرة على شراء لحظة وموقع مميز في المستقبل، فلمَ لا) كل ذلك على أمل بأنها ستصبح قادرة على تجاوز هزات ما هو آت، عندما تتلاشى مكانة النفط كمحرك للاقتصاد العالمي؟ لقد قامت هذه الدول بعملية تحوط إستراتيجية، في محاولة لوضع أقدامها في المستقبل عبر بوابتين محتملتين: الصين والولايات المتحدة، وكلاهما يبحث عن إمبراطوريته بأسلوب المستقبل المتوقع، ودول الخليج بما تمتلك من أدوات، تحاول الاستفاد من لعبة التحول الكبرى للأستفادة منها والدخول الآمن لمرحلة ما بعد النفط.