logo
فيتنام انتصرت وفلسطين بالأمة ستنتصر رغم الخذلان!

فيتنام انتصرت وفلسطين بالأمة ستنتصر رغم الخذلان!

الجزيرة٠٤-٠٥-٢٠٢٥

أخذت أتصفح صورا أرشيفية التقطت قبل خمسين عاما تؤرخ لفرار الأميركيين وأعوانهم من مدينة سايغون (هو تشي منه – Ho Chi Minh City) اليوم وقد أطبق عليها ثوار الفييت كونغ وقوات الشمال الفيتنامي. تمليت في كل واحدة من الصور وحملتني خمسة عقود إلى الوراء. كنت آنذاك أحلم بعرسي القادم بعد شهرين وبعروسي التي كانت تسكن كل جيناتي، وما تزال. انتشيت لكل صورة فرحا وكأني واحد ممن كدَّهم الاحتلال في سايغون، كما كنت انتشي مستعجلا الأيام إلى يوم زفافي.
لماذا يا ترى أجدني أحتفل مع الفيتناميين بنصرهم المجيد قبل خمسين عاما؟ ألأني وأنا شيخ أكاد أخنق السادسة والسبعين وعمري عمر النكبة، أستعجل الأيام كذلك لعلي، إن كان في العمر بقية، أبلغ يوما التقط فيه صورا في القدس، أو حيفا، أو اللد، يفر فيه الاحتلال وأعوانه، أو تكتب لي الشهادة؟ أَمْ لأني أهرب من يومي المكدود إلى الأمام بلا انتشاء، إلى مرابع أحلام سكنتني قبل الوعي وبعده، وما تزال تأبى الرحيل؟
لقد ولجت أبواب مهنة الصحافة في الكويت بعد انتصار فيتنام بعام ونيف، وكانت الحرب قد وضعت أوزارها، وكان الفيتناميون يلملمون جراحهم ويستشفون منها بنشوة المنتصر، وإن كان قائدهم العظيم "هو تشي منه" قد رحل منذ ست سنوات ونصف في الثاني من ديسمبر عام 1969. كنت في يوم انتصار فيتنام أقول لو أن هو تشي منه الذي هزم فرنسا وأميركا كان على قيد الحياة! أما جنراله العبقري فو نغوين جياب فانتشى بالنصر مرتين: حين هزم الفرنسيين في معركة ديان بيان فو عام 1954 ليظل الشمال الفيتنامي حرا، وحين هزم الأميركيين بعد 21 عاما.
فرحي بانتصار فيتنام فرح بانتصار المظلوم على الظالم والإنسان على الشيطان. فرحي بانتصار فيتنام فرح بانتصار الحق على الباطل، وانتصار من يحب الوطن على من يتخاذل ويخون ويبيع نفسه. أنا لا يربطني بفيتنام إلا وشاج الإنسانية، وكفى به مدعاة للفرح لكل عربي ينتظر فرح نصر طال انتظاره.
ولكن لماذا انتصر الفيتناميون؟ ولماذا لم يحقق العرب نصرا منذ أن انتصرت ثورة الجزائر على فرنسا بعد 130 عاما من استعمار إحلالي دام وبغيض؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن نجيب عليه بشجاعة وعقل، مهما كانت العواقب والمخاوف من ردود الفعل.
لقد قاتل الفيتناميون قتال أمة تعرف هويتها وتؤمن بها فانتصروا. وقد يقول قائل كان بجانبهم الاتحاد السوفياتي والصين يدعمان بالسلاح والاستخبارات، وهذا صحيح. لكن من خاض المعارك في الأدغال والغابات والأنفاق والجبال هم الفيتناميون أنفسهم، هم من سقط منهم ثلاثة ملايين مواطن، ولم يضعفوا ولم يستكينوا. وصحيح أيضا أنه كان منهم في الجنوب من جندوا أنفسهم لخدمة الاحتلال تنسيقا أمنيا وقتالا وارتهانا، لكن قائد نضالهم لم تغره السجادة الحمراء، ولم يؤثر الفنادق على الخنادق، ولم تغره أضواء الاحتلال الأميركي في سايغون، ولم يقبل أن يختزل الوطن والأمة الفيتنامية في قصر منيف تحت عيون الاحتلال، وحراسة من يدفع لهم المال.
رحل هو تشي منه قبل النصر بست سنوات ونصف وغابت صوره عن الواجهات لكن إرثه الأصيل ظل في القلوب والعقول، لأنه لم ينحرف عن منهجه النضالي، ولم يقبل بغير فيتنام الموحدة شمالا وجنوبا، ولم يكتف بِكِسْرَةٍ منها تقام عليها تحت سمع الاحتلال وبصره سلطة يسميها "أصحابها" دولة. رحل هو تشي منه ولم ينكص الحزب الشيوعي الفيتنامي على عقبيه وإيمانه بالوطن موحدا حرا، وبالأمة ثابتة على هويتها.
صبر الفيتناميون على أهوال الحرب وغارات القاذفات العملاقة وقنابل النابالم والأورانج الحارقة السامة، وكبدوا عدوهم الخسائر تتصاعد كل يوم، فأجبروا ساسة واشنطن على الإقرار بأن هزيمتهم باتت أصعب وأصعب، إن لم تعد مستحيلة، فخرج الأميركيون بمئات الألوف إلى الشوارع ليقولوا كفى!
اندفع جيش الشمال وثوار الفييتكونغ إلى سايغون وفر النفر القليل المتبقي من الأميركيين، وكثير غيرهم من تجندوا مع الاحتلال ونسقوا معه وانسلخوا عن وطنهم وأمتهم.
لقد انتصر الفيتناميون وكان نصرهم نصرا لمحيطهم الإقليمي الحضاري الذي لم يخذلهم، وقدم مثلهم في لاوس وكمبوديا آلاف الأرواح كي تظل خطوط أمدادهم مفتوحة، وها هو نهوضهم اليوم نهوض للجميع. ولنتخيل كيف كان الوضع سيؤول لو أن هو تشي منه قبل بكسرة في الشمال، وظل الجنوب محمية أميركية منسلخة عن أمتها وبيئتها في الجغرافيا والثقافة والانتماء الحضاري.
بعد النصر، وابتداء مرحلة الوطن الموحد المستقل، لم تنزلق فيتنام إلى مأزق "التأبيد الثوري"، مع أن الحزب الشيوعي الذي قاد الثورة ما زال هو من يقود الدولة، وهي تتلمس بعيون جديدة طريقها إلى المستقبل. اليوم فيتنام بلد ناهض بخطى حثيثة، ويكاد المرء يرى عبارة "صنع في فيتنام" تنافس في بعض الصناعات عبارة "صنع في الصين".
ها أنا اليوم أشاهد صور انتصار فيتنام وأفرح من جديد لكنه فرح يعكره الحزن ويخالطه الغضب.
أقلب الصفحة لعلي أجد من الصور ما يفرحني من تاريخنا العربي الحديث. صور من آخر مراحل حرب التحرير الجزائرية التي امتدت من عام 1954، وهو عام انتصار فيتنام على فرنسا، وحتى عام 1962 حين انسحبت فرنسا في الخامس من يوليو من الجزائر مرغمة راغمة.
قاتل الجزائريون وهم ينشدون كلمات ابن باديس العظيم "شعب الجزائر مسلم وللعروبة ينتمي". قدم الجزائريون مليونا ونصف المليون من الشهداء وانتزعوا وطنهم وحريتهم من قبضة فرنسا الغاشمة. كان نضالهم نابعا من إيمانهم بانتماء بلادهم لأمة الإسلام والعروبة الجامعة. رفضوا كل عروض المصالحة التي تنتقص من الهدف المنشود: الاستقلال التام. وإذ ذاك كانت الشعوب العربية جميعها شرقا وغربا معهم، وكان جيرانهم في المغرب الكبير معهم، فتحوا لثوارهم الحدود ولم يبخلوا بالدعم المادي والسياسي في كل المحافل.
تنتصر الشعوب العربية حين تقاتل وهي تدرك أن كل شعب منها ينتمي للأمة، وأن معركته معركة للأمة كلها، وأن انتصاره انتصار للأمة قاطبة. وكم كنت أفرح وأنا أقف في طابور الصباح المدرسي ونحن ننشد "وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر".
وكم أتمنى أن أجد اليوم عبارة "صنع في الجزائر" تنتشر في الأسواق كما تنتشر عبارة "صنع في فيتنام".
أقلب الصفحة لعلي أجد صورة أخرى تفرحني!
أطلقت حركة فتح الرصاصة الأولى في الأول من يناير عام 1964، أي بعد ثلاث سنوات من بداية التدخل الأميركي في فيتنام الجنوبية، التي أصبحت كيانا مستقلا بعد تقسيم فيتنام إثر هزيمة فرنسا، على أن تجرى في الشطرين انتخابات تحدد مستقبل البلاد.
كنا نفرح وننشد للثورة الوليدة، ورغم أن فلسطين كلها أصبحت محتلة في يونيو حزيران عام 1967 ظل الأمل يحدونا في نصر قادم. تبدلت قيادة منظمة لتحرير الفلسطينية وجاءت خلفا للقائد المؤسس (إن جاز لي التعبير) قيادة جديدة تقود المنظمة وتقود جناحها المسلح حركة فتح.
ومع ان الشعار كان ثورة حتى النصر، وكانت الأدبيات الأولى تتحدث عن التحرير من البحر إلى النهر، لم تمض إلا ثلاث سنوات بعد هزيمة حزيران العربية المدوية، حتى بدأت في جنح الظلام الاتصالات الأولى مع إسرائيل تمهيدا لتسوية، وكان الراحل عصام السرطاوي العراب المعلن لتلك الاتصالات، وغيره ممن ظلت اسماؤهم طي الكتمان، وما زال بعضهم على قيد الحياة. وكانت تلك بداية تنازلات متلاحقة آلت بالقضية الفلسطينية إلى غياهب اتفاق أوسلو وتغيير ميثاق منظمة التحرير والقبول بكسرة من الوطن.
صحيح أن هو تشي منه كان يقبل بفكرة التفاوض مع الفرنسيين ومن ثم مع الأميركيين لكنه لم يلق السلاح رغم كل الالآم، ولم يقبل أبدا بكسرة من الوطن، وكان على يقين أن الانتخابات التي اتفق عليها في مؤتمر جنيف عام 1954 إثر هزيمة فرنسا، ستكون نتيجتها لصالح الوطن الموحد. هو تشي منه لم يفاوض سرا، ولم يخف شيئا عن الشعب الذي كان يسميه "العم هو". هذا هو الفرق!
ولتكتمل الحلقة كان لابد من أن تجرد القضية الفلسطينية من بعدها القومي العربي وبعدها الإسلامي، وكان ذلك مطلبا إسرائيليا تفضله وتريده معظم الدول العربية، فجاء مؤتمر قمة الرباط عام 1974 ليخرج علينا بمقولة القرار الفلسطيني المستقل، وأن المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وما كان ذلك ليضر لو أن أدبيات الثورة وشعاراتها لم تنسف في اتصالات ومفاوضات خلف الأبواب الموصدة.
كما قلنا هو تشي منه لم يفاوض سرا، ولم يحاول أن يعزل قضيته عن محيطها الإقليمي والحضاري، وكذلك فعل ثوار الجزائر. هذا فرق آخر!
كان قرار الرباط ما يتمناه النظام الرسمي العربي ليتنصل علنا من أي التزام عملي تجاه فلسطين، وسادت مقولة نقبل ما يقبل به الفلسطينيون ولو كان قفزة في الظلام لن يقتصر ضررها على فلسطين المحتلة، بل سيمتد إلى كل بلدان العرب!
توالت قرارات التنصل العربية على عجل بدأ بكامب ديفيد، إلى ان أصبح بعض العرب اليوم حلفاء لإسرائيل جهارا، وبعضهم يمني النفس لو أن إسرائيل تقبل به إذ يطرق أبوابها، لعلها تخلصه من فقر، أو مقاطعة أميركية، أو تخمد له حربا أهلية، أو تقيه من جار يتربص به الدوائر، كما يتوهم.
حلفاء فيتنام في الإقليم وفي الثقافة والمنظور الأيديولوجي والحضاري لم يتنصلوا من مسؤولياتهم تجاهها، رغم ما أصابهم من لأواء. هذا فرق آخر بين محيط فيتنام ومحيط فلسطين.
لعمري ما كان أهل لاوس أو كمبوديا أو الصين أو الاتحاد السوفياتي ليقبلوا أن يباد أهل فيتنام أو يموتوا جوعا وعطشا، وما كانوا ليجوعوهم خشية غضب أميركا.
غزة تموت طاوية ولا تأكل بكرامتها ودينها. غزة تواجه الإبادة وتستغيث وما من مجيب. كل من حولها أموات حتى التخمة بتخمة الهوان. وسوريا الأم تستغيث وما من مجيب. آه يا وطني الكبير! حذار! سيؤكل الجميع كما أكلت فلسطين!
أقلب الصفحة لعلي أجد ما ينقذني من نفسي المكدودة ويثبت قلبي.
سأل جلال الدين الرومي شمس الدين التبريزي يوما: "والسّبيل إلى الله؟ " قال: العيش في سبيل الله أشد ألماً من الموت في سبيله، أنت تموت للحظات أو دقائق معدودات لتنتقل إلى ملكوته فتفرح، أما أن تعيش في سبيله وأنت تسير معاكساً للحشود السائرةً إلى هاويتها.. فذلك هو الجهاد العظيم".
غزة تعيش دوما في سبيل الله ويموت الواحد من أبنائها في سبيله. هذا هو الفرق بين غزة والدنيا كلها!

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

فيتنام انتصرت وفلسطين بالأمة ستنتصر رغم الخذلان!
فيتنام انتصرت وفلسطين بالأمة ستنتصر رغم الخذلان!

الجزيرة

time٠٤-٠٥-٢٠٢٥

  • الجزيرة

فيتنام انتصرت وفلسطين بالأمة ستنتصر رغم الخذلان!

أخذت أتصفح صورا أرشيفية التقطت قبل خمسين عاما تؤرخ لفرار الأميركيين وأعوانهم من مدينة سايغون (هو تشي منه – Ho Chi Minh City) اليوم وقد أطبق عليها ثوار الفييت كونغ وقوات الشمال الفيتنامي. تمليت في كل واحدة من الصور وحملتني خمسة عقود إلى الوراء. كنت آنذاك أحلم بعرسي القادم بعد شهرين وبعروسي التي كانت تسكن كل جيناتي، وما تزال. انتشيت لكل صورة فرحا وكأني واحد ممن كدَّهم الاحتلال في سايغون، كما كنت انتشي مستعجلا الأيام إلى يوم زفافي. لماذا يا ترى أجدني أحتفل مع الفيتناميين بنصرهم المجيد قبل خمسين عاما؟ ألأني وأنا شيخ أكاد أخنق السادسة والسبعين وعمري عمر النكبة، أستعجل الأيام كذلك لعلي، إن كان في العمر بقية، أبلغ يوما التقط فيه صورا في القدس، أو حيفا، أو اللد، يفر فيه الاحتلال وأعوانه، أو تكتب لي الشهادة؟ أَمْ لأني أهرب من يومي المكدود إلى الأمام بلا انتشاء، إلى مرابع أحلام سكنتني قبل الوعي وبعده، وما تزال تأبى الرحيل؟ لقد ولجت أبواب مهنة الصحافة في الكويت بعد انتصار فيتنام بعام ونيف، وكانت الحرب قد وضعت أوزارها، وكان الفيتناميون يلملمون جراحهم ويستشفون منها بنشوة المنتصر، وإن كان قائدهم العظيم "هو تشي منه" قد رحل منذ ست سنوات ونصف في الثاني من ديسمبر عام 1969. كنت في يوم انتصار فيتنام أقول لو أن هو تشي منه الذي هزم فرنسا وأميركا كان على قيد الحياة! أما جنراله العبقري فو نغوين جياب فانتشى بالنصر مرتين: حين هزم الفرنسيين في معركة ديان بيان فو عام 1954 ليظل الشمال الفيتنامي حرا، وحين هزم الأميركيين بعد 21 عاما. فرحي بانتصار فيتنام فرح بانتصار المظلوم على الظالم والإنسان على الشيطان. فرحي بانتصار فيتنام فرح بانتصار الحق على الباطل، وانتصار من يحب الوطن على من يتخاذل ويخون ويبيع نفسه. أنا لا يربطني بفيتنام إلا وشاج الإنسانية، وكفى به مدعاة للفرح لكل عربي ينتظر فرح نصر طال انتظاره. ولكن لماذا انتصر الفيتناميون؟ ولماذا لم يحقق العرب نصرا منذ أن انتصرت ثورة الجزائر على فرنسا بعد 130 عاما من استعمار إحلالي دام وبغيض؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن نجيب عليه بشجاعة وعقل، مهما كانت العواقب والمخاوف من ردود الفعل. لقد قاتل الفيتناميون قتال أمة تعرف هويتها وتؤمن بها فانتصروا. وقد يقول قائل كان بجانبهم الاتحاد السوفياتي والصين يدعمان بالسلاح والاستخبارات، وهذا صحيح. لكن من خاض المعارك في الأدغال والغابات والأنفاق والجبال هم الفيتناميون أنفسهم، هم من سقط منهم ثلاثة ملايين مواطن، ولم يضعفوا ولم يستكينوا. وصحيح أيضا أنه كان منهم في الجنوب من جندوا أنفسهم لخدمة الاحتلال تنسيقا أمنيا وقتالا وارتهانا، لكن قائد نضالهم لم تغره السجادة الحمراء، ولم يؤثر الفنادق على الخنادق، ولم تغره أضواء الاحتلال الأميركي في سايغون، ولم يقبل أن يختزل الوطن والأمة الفيتنامية في قصر منيف تحت عيون الاحتلال، وحراسة من يدفع لهم المال. رحل هو تشي منه قبل النصر بست سنوات ونصف وغابت صوره عن الواجهات لكن إرثه الأصيل ظل في القلوب والعقول، لأنه لم ينحرف عن منهجه النضالي، ولم يقبل بغير فيتنام الموحدة شمالا وجنوبا، ولم يكتف بِكِسْرَةٍ منها تقام عليها تحت سمع الاحتلال وبصره سلطة يسميها "أصحابها" دولة. رحل هو تشي منه ولم ينكص الحزب الشيوعي الفيتنامي على عقبيه وإيمانه بالوطن موحدا حرا، وبالأمة ثابتة على هويتها. صبر الفيتناميون على أهوال الحرب وغارات القاذفات العملاقة وقنابل النابالم والأورانج الحارقة السامة، وكبدوا عدوهم الخسائر تتصاعد كل يوم، فأجبروا ساسة واشنطن على الإقرار بأن هزيمتهم باتت أصعب وأصعب، إن لم تعد مستحيلة، فخرج الأميركيون بمئات الألوف إلى الشوارع ليقولوا كفى! اندفع جيش الشمال وثوار الفييتكونغ إلى سايغون وفر النفر القليل المتبقي من الأميركيين، وكثير غيرهم من تجندوا مع الاحتلال ونسقوا معه وانسلخوا عن وطنهم وأمتهم. لقد انتصر الفيتناميون وكان نصرهم نصرا لمحيطهم الإقليمي الحضاري الذي لم يخذلهم، وقدم مثلهم في لاوس وكمبوديا آلاف الأرواح كي تظل خطوط أمدادهم مفتوحة، وها هو نهوضهم اليوم نهوض للجميع. ولنتخيل كيف كان الوضع سيؤول لو أن هو تشي منه قبل بكسرة في الشمال، وظل الجنوب محمية أميركية منسلخة عن أمتها وبيئتها في الجغرافيا والثقافة والانتماء الحضاري. بعد النصر، وابتداء مرحلة الوطن الموحد المستقل، لم تنزلق فيتنام إلى مأزق "التأبيد الثوري"، مع أن الحزب الشيوعي الذي قاد الثورة ما زال هو من يقود الدولة، وهي تتلمس بعيون جديدة طريقها إلى المستقبل. اليوم فيتنام بلد ناهض بخطى حثيثة، ويكاد المرء يرى عبارة "صنع في فيتنام" تنافس في بعض الصناعات عبارة "صنع في الصين". ها أنا اليوم أشاهد صور انتصار فيتنام وأفرح من جديد لكنه فرح يعكره الحزن ويخالطه الغضب. أقلب الصفحة لعلي أجد من الصور ما يفرحني من تاريخنا العربي الحديث. صور من آخر مراحل حرب التحرير الجزائرية التي امتدت من عام 1954، وهو عام انتصار فيتنام على فرنسا، وحتى عام 1962 حين انسحبت فرنسا في الخامس من يوليو من الجزائر مرغمة راغمة. قاتل الجزائريون وهم ينشدون كلمات ابن باديس العظيم "شعب الجزائر مسلم وللعروبة ينتمي". قدم الجزائريون مليونا ونصف المليون من الشهداء وانتزعوا وطنهم وحريتهم من قبضة فرنسا الغاشمة. كان نضالهم نابعا من إيمانهم بانتماء بلادهم لأمة الإسلام والعروبة الجامعة. رفضوا كل عروض المصالحة التي تنتقص من الهدف المنشود: الاستقلال التام. وإذ ذاك كانت الشعوب العربية جميعها شرقا وغربا معهم، وكان جيرانهم في المغرب الكبير معهم، فتحوا لثوارهم الحدود ولم يبخلوا بالدعم المادي والسياسي في كل المحافل. تنتصر الشعوب العربية حين تقاتل وهي تدرك أن كل شعب منها ينتمي للأمة، وأن معركته معركة للأمة كلها، وأن انتصاره انتصار للأمة قاطبة. وكم كنت أفرح وأنا أقف في طابور الصباح المدرسي ونحن ننشد "وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر". وكم أتمنى أن أجد اليوم عبارة "صنع في الجزائر" تنتشر في الأسواق كما تنتشر عبارة "صنع في فيتنام". أقلب الصفحة لعلي أجد صورة أخرى تفرحني! أطلقت حركة فتح الرصاصة الأولى في الأول من يناير عام 1964، أي بعد ثلاث سنوات من بداية التدخل الأميركي في فيتنام الجنوبية، التي أصبحت كيانا مستقلا بعد تقسيم فيتنام إثر هزيمة فرنسا، على أن تجرى في الشطرين انتخابات تحدد مستقبل البلاد. كنا نفرح وننشد للثورة الوليدة، ورغم أن فلسطين كلها أصبحت محتلة في يونيو حزيران عام 1967 ظل الأمل يحدونا في نصر قادم. تبدلت قيادة منظمة لتحرير الفلسطينية وجاءت خلفا للقائد المؤسس (إن جاز لي التعبير) قيادة جديدة تقود المنظمة وتقود جناحها المسلح حركة فتح. ومع ان الشعار كان ثورة حتى النصر، وكانت الأدبيات الأولى تتحدث عن التحرير من البحر إلى النهر، لم تمض إلا ثلاث سنوات بعد هزيمة حزيران العربية المدوية، حتى بدأت في جنح الظلام الاتصالات الأولى مع إسرائيل تمهيدا لتسوية، وكان الراحل عصام السرطاوي العراب المعلن لتلك الاتصالات، وغيره ممن ظلت اسماؤهم طي الكتمان، وما زال بعضهم على قيد الحياة. وكانت تلك بداية تنازلات متلاحقة آلت بالقضية الفلسطينية إلى غياهب اتفاق أوسلو وتغيير ميثاق منظمة التحرير والقبول بكسرة من الوطن. صحيح أن هو تشي منه كان يقبل بفكرة التفاوض مع الفرنسيين ومن ثم مع الأميركيين لكنه لم يلق السلاح رغم كل الالآم، ولم يقبل أبدا بكسرة من الوطن، وكان على يقين أن الانتخابات التي اتفق عليها في مؤتمر جنيف عام 1954 إثر هزيمة فرنسا، ستكون نتيجتها لصالح الوطن الموحد. هو تشي منه لم يفاوض سرا، ولم يخف شيئا عن الشعب الذي كان يسميه "العم هو". هذا هو الفرق! ولتكتمل الحلقة كان لابد من أن تجرد القضية الفلسطينية من بعدها القومي العربي وبعدها الإسلامي، وكان ذلك مطلبا إسرائيليا تفضله وتريده معظم الدول العربية، فجاء مؤتمر قمة الرباط عام 1974 ليخرج علينا بمقولة القرار الفلسطيني المستقل، وأن المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وما كان ذلك ليضر لو أن أدبيات الثورة وشعاراتها لم تنسف في اتصالات ومفاوضات خلف الأبواب الموصدة. كما قلنا هو تشي منه لم يفاوض سرا، ولم يحاول أن يعزل قضيته عن محيطها الإقليمي والحضاري، وكذلك فعل ثوار الجزائر. هذا فرق آخر! كان قرار الرباط ما يتمناه النظام الرسمي العربي ليتنصل علنا من أي التزام عملي تجاه فلسطين، وسادت مقولة نقبل ما يقبل به الفلسطينيون ولو كان قفزة في الظلام لن يقتصر ضررها على فلسطين المحتلة، بل سيمتد إلى كل بلدان العرب! توالت قرارات التنصل العربية على عجل بدأ بكامب ديفيد، إلى ان أصبح بعض العرب اليوم حلفاء لإسرائيل جهارا، وبعضهم يمني النفس لو أن إسرائيل تقبل به إذ يطرق أبوابها، لعلها تخلصه من فقر، أو مقاطعة أميركية، أو تخمد له حربا أهلية، أو تقيه من جار يتربص به الدوائر، كما يتوهم. حلفاء فيتنام في الإقليم وفي الثقافة والمنظور الأيديولوجي والحضاري لم يتنصلوا من مسؤولياتهم تجاهها، رغم ما أصابهم من لأواء. هذا فرق آخر بين محيط فيتنام ومحيط فلسطين. لعمري ما كان أهل لاوس أو كمبوديا أو الصين أو الاتحاد السوفياتي ليقبلوا أن يباد أهل فيتنام أو يموتوا جوعا وعطشا، وما كانوا ليجوعوهم خشية غضب أميركا. غزة تموت طاوية ولا تأكل بكرامتها ودينها. غزة تواجه الإبادة وتستغيث وما من مجيب. كل من حولها أموات حتى التخمة بتخمة الهوان. وسوريا الأم تستغيث وما من مجيب. آه يا وطني الكبير! حذار! سيؤكل الجميع كما أكلت فلسطين! أقلب الصفحة لعلي أجد ما ينقذني من نفسي المكدودة ويثبت قلبي. سأل جلال الدين الرومي شمس الدين التبريزي يوما: "والسّبيل إلى الله؟ " قال: العيش في سبيل الله أشد ألماً من الموت في سبيله، أنت تموت للحظات أو دقائق معدودات لتنتقل إلى ملكوته فتفرح، أما أن تعيش في سبيله وأنت تسير معاكساً للحشود السائرةً إلى هاويتها.. فذلك هو الجهاد العظيم". غزة تعيش دوما في سبيل الله ويموت الواحد من أبنائها في سبيله. هذا هو الفرق بين غزة والدنيا كلها!

بعد 50 عاما.. سقوط سايغون كما يرويه الفيتناميون من كلا الجانبين
بعد 50 عاما.. سقوط سايغون كما يرويه الفيتناميون من كلا الجانبين

الجزيرة

time٣٠-٠٤-٢٠٢٥

  • الجزيرة

بعد 50 عاما.. سقوط سايغون كما يرويه الفيتناميون من كلا الجانبين

قالت صحيفة لوفيغارو إن الأمين العام للحزب الشيوعي في فيتنام تو لام وجّه عشية الاحتفالات بتحرير أو سقوط العاصمة سايغون (هو شي منه) دعوة نادرة إلى مواطنيه في الجنوب إلى "المصالحة الوطنية". واستعادت الصحيفة -في تقرير بقلم سيباستيان فاليتي مراسلها الخاص في سايغون- تلك اللحظة على ألسنة الفيتناميين من كلا الجانبين، إذ يقول مراسل تلفزيون فيتنام الشمالية وقتها شوان فونغ "لا أصدق أنني هنا على الطاولة نفسها التي جلست عليها قبل 50 عاما. في ذلك اليوم عمت الفوضى المكان. كان ناس يفرون وآخرون ينهبون المتاجر". ويتابع الصحفي أن "تحرير" العاصمة الفيتنامية الجنوبية كان على يد القوات الشيوعية يوم 30 أبريل/نيسان 1975 كما يسميه الشماليون، أو "سقوطها" كما يراه الكثير من الجنوبيين الخائفين من غزو قوات الزعيم هو شي منه"الحمر". وأشارت الصحيفة إلى المكان الذي أصبح رمزا للكارثة الأميركية، حيث التقطت الصورة الشهيرة لمجموعة تحاول التعلق بشكل يائس بمروحية أميركية تدور مراوحها، قبل أن تقلع مخلفة سكان سايغون في حالة لا تنسى من الضيق، والفيتناميين الشماليين في لحظة لا تتصور من النشوة بعد أن "رحل الزعيم". وتتذكر مواطنة، كانت ابنة لعائلة من كبار رجال البلاط الإمبراطوري لكنها احتضنت قضية النضال التي قادها الفيت منه، أن السفارة الأميركية تعرضت للنهب على يد جنود شماليين مدفوعين بـ"الكراهية" المتراكمة بسبب حملات القصف الضخمة التي شنتها طائرات بي-52 على الغابة. واستذكر مراسل لوفيغارو فندق كارافيل الذي يطل على ساحة الأوبرا، حيث كان مركز الحياة الاجتماعية في الهند الصينية الاستعمارية، وكان أطول ناطحة سحاب في سايغون، وهو مقر مراسلي الحرب الغربيين، ويتجمع فيه أفراد مجتمع سايغون الراقي لتناول المشروبات وهم يشاهدون الشفق المليء بالقذائف وقاذفات الشبح وهي تقلع. السياسة الواقعية كانت الحرب تلوح في الأفق وتسيطر على سايغون منذ أن سحب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون القوات الأميركية عام 1973، في أعقاب اتفاقيات باريس الهشة -حسب وصف الصحيفة- ووسط تعهد النظام الشيوعي، بدعم من الاتحاد السوفياتي ، "بإعادة توحيد" فيتنام وإسقاط حكومة الرئيس "الدمية" نغوين فان ثيو. ومع أن واشنطن ظلت تدعم حليفها بكل إخلاص، فإن الرأي العام سئم من هذه "الحرب القذرة" التي لم تعد أميركا تلعب فيها الدور القيادي، خاصة أن إستراتيجي البيت الأبيض هنري كيسنجر بدأ يقود تحولا دبلوماسيا، يسعى من خلال للاقتراب من الصين في عهد زعيمها ماو تسي تونغ لمواجهة موسكو بشكل أفضل، والتخلي عن المستنقع الفيتنامي إلى الأبد. ولم يكن أحد يتصور سقوط فيتنام الجنوبية السريع كما حدث، رغم انتهاك وقف إطلاق النار الهش منذ عام 1974، واستعدادات جيش الشعب الفيتنامي لشن هجوم كبير تحت قيادة الجنرال فو نغوين جياب ، المنتصر في معركة ديان بيان فو ، ولكن الجدول الزمني تسارع في نهاية مارس/آذار، عندما عبرت القوات الشيوعية خط العرض 17 واستولت على العاصمة الإمبراطورية هيو. وفي ذروة موسم الجفاف، قرر المكتب السياسي إطلاق "هجوم خاطف ومفاجئ" للاستيلاء على الجنوب "في أبريل/نيسان" قبل وصول الرياح الموسمية، في وقت خفض فيه الكونغرس مساعداته العسكرية، وبدأ أصحاب الامتيازات في حزم حقائبهم، وأعلن جيرالد فورد -الذي تولى السلطة خلفا لنيكسون الذي أطاحت به فضيحة ووترغيت – يوم 23 أبريل/نيسان أن "حرب فيتنام قد انتهت بالنسبة للولايات المتحدة". ومع نفاد الذخيرة وتراجع الجيش الجنوبي، شنت القوات الشيوعية هجوما على ضواحي المدينة، ووقف عشرات الآلاف من الفيتناميين الجنوبيين في طوابير على مدرج المطار، يحملون حقائبهم ويتوسلون بشدة للحصول على مكان على متن إحدى رحلات الإجلاء الأميركية، قبل أن يقصف المطار وتضطر القوات الجوية الأميركية إلى مواصلة عمليات الإجلاء بواسطة المروحيات إلى خمس حاملات طائرات منتشرة قبالة الساحل. وفي صباح يوم 30 أبريل/نيسان، سيطر المهاجمون على جسر ثي نغي، الذي يعبر أحد روافد نهر ميكونغ، وهو آخر السور قبل مركز المدينة، حيث تقع الكاتدرائية التي بناها الفرنسيون، وفي هذه اللحظة تغير التاريخ، يقول ثونغ (اسم مستعار) "في ذلك الصباح ساد صمت مطبق المدينة، رغم أننا سمعنا إطلاق نار لعدة أيام، كان العديد من الأشخاص يركضون بملابسهم الداخلية خوفا من أن يتم القبض عليهم". وفي الساعة 11:30 صباحا، اخترقت دبابات بوابات القصر الرئاسي ليصبح رمزا للنظام، الذي كان يحميه العم سام، مسرحا لهزيمة الأجيال القادمة، حيث من المقرر أن يقرأ الجنرال دونغ فان منه وثيقة الاستسلام التي كتبها المفوض السياسي للفيت كونغ، "يجب حل حكومة سايغون" ونقلها إلى "الحكومة الثورية المؤقتة في جنوب فيتنام"، لتنتهي الحرب مخلّفة وراءها نحو 3 ملايين قتيل. مطاردة المتعاونين يتراجع الانتهازيون ويصبحون "ثوار اللحظة الأخيرة"، ويتذكر ثونغ "كان بعض الناس يحملون بندقية وشارة حمراء ويبدؤون في حكم الحي مثل البلطجية"، في مشاهد تذكر اليوم بالانسحاب الأميركي الفوضوي من كابل عام 2021، وتحوم كشبح فوق أوكرانيا في عهد دونالد ترامب، كما يقول مراسل لوفيغارو. يقول بول الذي يعيش في المنفى بولاية تكساس، وقد فر مثله نحو مليون فيتنامي إلى الخارج خوفا من الاضطهاد في السنوات التالية، "شعرنا بالخيانة من قبل الولايات المتحدة". بدا الغزاة في البداية متسامحين ومدوا أيديهم إلى المهزومين في جو من النشوة، ولكن سرعان ما ظهر الوجه الحقيقي للسلطة الجديدة، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين خدموا النظام القديم، وبدأ البحث عن "المتعاونين"، يقول ثونغ "كان والدي ضابطا في الجيش، فاستدعي للتحقيق ثلاثة أيام نظريا، وبعد شهر علمنا أنه يقبع في معسكر إعادة تأهيل"، واستمرت هذه المحنة خمس سنوات بين العمل القسري في الحقول وجلسات النقد الذاتي الماركسي اللينيني التي لا تنتهي. خضع حوالي 40 ألف فيتنامي جنوبي لهذه السنوات الطويلة من غسيل الدماغ، التي استمرت أحيانا لأكثر من عقد من الزمان لأصحاب الرتب العليا، يقول كارليل ثاير المتخصص في جامعة نيو ساوث ويلز في كانبرا "لقد عوملوا معاملة سيئة للغاية". وعشية الاحتفالات بالذكرى الخمسين "للتحرير"، وجّه الأمين العام للحزب تو لام رسالة إلى مواطنيه في الجنوب، دعا فيها إلى "المصالحة الوطنية"، وقال الرجل القوي الجديد للبلاد إنه لا يوجد سبب يدفع الفيتناميين من ذوي الدم الواحد إلى حمل أحقاد الماضي في قلوبهم، وأضاف -مخاطبًا من قاتلوا على الجانب الآخر- أن "الجميع يشتركون في فخر قومي وحنين حار لوطنهم". وقد لاقت هذه اللفتة استحسانا كبيرًا في مدينة هو شي منه (سايغون سابقا)، قلب أكثر دول جنوب شرق آسيا حيوية، يقول ثاير إنه مع مرور الوقت ونمو البلاد "يتقدم المعارضون المنفيون المناهضون للشيوعية في السن ويتراجع نفوذهم"، لكن ندوب التاريخ تظل ماثلة وتمزق الأسر.

50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم
50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم

الجزيرة

time٣٠-٠٤-٢٠٢٥

  • الجزيرة

50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم

لم يكن 30 أبريل/نيسان 1975 يوما عاديا في التاريخ الفيتنامي، فقد انتصرت فيتنام الشمالية آنذاك، وأُعيد توحيد شطري البلاد بعد حربين مع إمبراطوريتين أودتا بحياة نحو مليوني فيتنامي، وفقدت فرنسا كامل نفوذها تقريبا بالمنطقة، بينما خسرت الولايات المتحدة -التي تورطت بعدها- نحو 58 ألف جندي و120 مليار دولار في الحرب التي باتت الأكثر "إذلالًا" في تاريخها. وبدت حرب فيتنام -أو حروبها- بتشابكاتها الدولية والإقليمية تجسيدا لنظرية "الحرب التي تلد أخرى" في ظل صراع ساخن في بواكير الحرب الباردة. فقد أدت معركة ديان بيان فو (13مارس/آذار-7 مايو/أيار 1954) عمليا إلى نهاية الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية في منطقة الهند الصينية برمتها، وخسرت أيضا مستعمراتها الأخرى في أفريقيا بفعل صعود حركات التحرير التي تأثرت بالمقاومة الفيتنامية، وبمفاعيل "نظرية الدومينو" العسكرية والسياسية. كانت حرب فيتنام نتاج سنوات من مقاومة الاحتلال الفرنسي للبلاد (منذ عام 1883) ثم الغزو الياباني الذي انتهى بهزيمتها في الحرب العالمية الثانية، والمد الشيوعي في المنطقة وصراع الأيديولوجيات، ومحاولات تقسيم البلاد، وبلغت أوجها مع التدخل الأميركي العسكري المباشر لمحاولة صد التوغل الشيوعي السوفياتي الصيني. وعمليا، لم تكن حرب الهند الصينية الأولى (بين عامي 1946 و1954) معركة الولايات المتحدة، لكنها كانت تمول فعليا نحو 78% من تكلفة تلك الحرب -وفق أوراق البنتاغون المنشورة عام 1971- وتقدم مساعدات عسكرية ولوجستية ضخمة لفرنسا، خوفا من التمدد الشيوعي وسيطرة الصين على المنطقة وصعود الاتحاد السوفياتي إذا هزمت القوات الفرنسية. كما ناقش المسؤولون الأميركيون -تبعا لهواجسهم تلك- دعما إضافيا لفرنسا ضمن ما عرف بـ"عملية النسر" (Operation Vulture) وهي مقترح خطة عسكرية كبيرة، من أجل إسناد الفرنسيين في معركة ديان بيان فو، وضعها الرئيس دوايت آيزنهاور (حكم بين 1953 و1961) ومستشاروه. وتضمنت العملية -اعتمادا على وثائق رفعت عنها السرية- قصفا مركزا ومكثفا مع احتمال استخدام قنابل ذرية اقترح تقديمها لفرنسا، وتدخلا بريا. لكن العملية لم تنفذ في النهاية وانسحبت فرنسا بخسائر فادحة، بعد توقيع اتفاقية جنيف للسلام في يوليو/تموز 1954 التي نصت على تقسيم فيتنام إلى شطرين، ولم توقع الولايات المتحدة وحكومة سايغون الموالية لها على الاتفاق رغم حضورهما. وبدأ التورط الأميركي العسكري تدريجيا لحماية النظام الموالي لها في فيتنام الجنوبية ومحاربة المد الشيوعي، إلى حد التدخل المباشر والمعلن عام 1963. نظرية الرجل المجنون في منتصف عام 1968، وتحت ورطة الفشل في حرب فيتنام، اعتمد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (1969-1974) على مبدأ تحقيق "السلام بالقوة" عبر "المزيد من قاذفات بي 52" التي أوصاه بها وزير خارجيته هنري كيسنجر، مبتدعا ما سماها "نظرية الرجل المجنون". ويكشف رئيس موظفي البيت الأبيض بوب هالدمان في مذكراته عام 1994 عن إستراتيجية الرئيس نيكسون لإنهاء حرب فيتنام التي أسرّ له بها قائلا "أنا أسميها نظرية الرجل المجنون، بوب.. سنرسل لهم رسالة مفادها يا إلهي، أنتم تعلمون أن نيكسون مهووس بالشيوعية لا يمكن كبح جماحه عندما يكون غاضبا ويده على الزر النووي.. سيصل هو شي منه (الزعيم الفيتنامي) بنفسه إلى باريس في غضون يومين ويطلب السلام". وكتب هالدمان أن الرئيس نيكسون سعى إلى تنفيذ إستراتيجية التهديد باستخدام القوة المفرطة لتقويض خصومه، وإجبارهم على الاستسلام أو التسوية. وبهذه الطريقة، يصبح عدم يقين الفيتناميين بشأن الخطوات المستقبلية للزعيم "أداة إستراتيجية في حد ذاتها". وفي 4 أبريل/نيسان 1972 قال نيكسون لهالدمان والمدعي العام جون ميتشل "لم يُقصف الأوغاد قط كما سيُقصفون هذه المرة" عند اتخاذه قرارا بشن ما أصبح يُعرف باسم عملية " لاينباكر التي مثلت تصعيدا هائلا في المجهود الحربي، الذي شمل قصف ميناء هايفونغ، وحصار ساحل فيتنام الشمالية، وحملة قصف جديدة ضخمة ضد هانوي. ولا تثبت الوقائع التاريخية أن الزعيم الفيتنامي هو شي منه خضع لنظرية "الرجل المجنون" عندما تم توقيع اتفاق السلام في باريس يوم 23 يناير/كانون الثاني 1973، لكن الولايات المتحدة استخدمت قوة هائلة ومفرطة لمحاولة إخضاع الفيتناميين، وفكرت في استعمال السلاح النووي. كانت نظرية "الرجل المجنون" تجسيدا للإحباط الذي أصاب الإدارة الأميركية من صمود المقاومة الفيتنامية والخسائر الفادحة في صفوف الجيش الأميركي، ومن حركة الرفض الواسعة للحرب في المجتمع الأميركي، واهتزاز الضمير العالمي من المشاهد المؤلمة للمجازر البشعة، سواء في مذبحة "ماي لاي" في 16 مارس/آذار 1968 التي قتل فيها 504 من المدنيين العزل، وغيرها من المجازر. وفي المقابل، كانت نظرية الجنرال فو نغوين جياب قائد قوات قوات "الفيت منه"(رابطة استقلال فيتنام) تراوح بين خطتي "هجوم سريع.. نصر سريع" و"هجوم ثابت.. تقدم ثابت" واعتماد الحرب الشعبية وحروب العصابات الخاطفة واستنزاف العدو، حيث يقول في مذكراته "إن كل واحد من السكان جندي، وكل قرية حصن" وكانت نظريته أن حرب العصابات هي "حرب الجماهير العريضة في بلد متخلف اقتصاديا ضد جيش عدواني جيد التدريب". الورطة والمقاومة بدأ التورط الأميركي عمليا في حرب فيتنام بعد خروج القوات الفرنسية، ومنذ عام 1961 أرسلت واشنطن 400 من الجنود والمستشارين لمساعدة حكومة سايغون الموالية في مواجهته قوة هو شي منه الشيوعية، ومع التوصيات بزيادة المساعدات استجاب الرئيس جون كينيدي. وبحلول عام 1962 زاد الوجود العسكري الأميركي في جنوب فيتنام إلى نحو 9 آلاف جندي. ومع بداية عهد الرئيس ليندون جونسون (1963-1969) -الذي منحه الكونغرس صلاحيات واسعة في الشؤون الحربية- بدأت القاذفات الأميركية تنفيذ عمليات قصف منتظمة على فيتنام الشمالية وقوات "الفيت- كونغ" (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام). وفي مارس/آذار 1965، بدأ تدفق القوات الأميركية إلى فيتنام الشمالية، حتى وصل إلى 200 ألف عام 1966، ثم نحو 500 ألف في نوفمبر/تشرين الثاني 1967. وكانت قوات الزعيم هو شي منه، وقائد العمليات الجنرال جياب، تعتمد على التكتيكات الحربية النوعية والهجمات الخاطفة والكمائن والأنفاق والحرب الطويلة الأمد كما كانت تعتمد على الإمدادات القادمة من كمبوديا ولاوس المجاورتين، وعلى الدعم النوعي الذي تتلقاه من الصين ومن الاتحاد السوفياتي، خصوصا منظومات الدفاع الجوي التي أسقطت عشرات قاذفات "بي-52". ومع بداية عام 1968 بلغت الخسائر الأميركية 15 ألف قتيل و109 آلاف جريح. وفي المقابل، زادت الولايات المتحدة من وتيرة القصف الجوي العنيف واستعمال الأسلحة المحرمة دوليا مثل "النابالم" وما سمي "العامل البرتقالي" -الذي يحتوي على "الديوكسين" وهو أكثر تلك المبيدات ضررا وفتكا- على فيتنام ولاوس وكمبوديا، ومازالت آثاره البيئية الخطيرة قائمة. صورة الهزيمة لم تكن الخسائر البشرية لوحدها ذات التأثير الأكبر فيما اعتبر هزيمة أميركية عسكرية وأخلاقية في فيتنام، فقد مثلت تلك الحرب أول "حرب تلفزيونية" مع بروز سطوة التلفزيون والصورة، وكانت للتقارير الإعلامية عن المجازر في فيتنام ذات تأثير واسع في الرأي العالم الأميركي والعالمي وفي قرارات الإدارة الأميركية لاحقا، خصوصا صورة "طفلة النابالم" التي كانت تجري عارية بعد أن أسقطت طائرة أميركية مادة النابالم الحارقة على قريتها في 8 يونيو/حزيران 1972. وفي 29 أبريل/نيسان 1975، ألقى الرئيس الأميركي جيرالد فورد (1974-1977) بيانا أعلن فيه إجلاء الموظفين الأميركيين من فيتنام قائلا "تعرض مطار سايغون لقصف صاروخي ومدفعي متواصل، وأُغلق بالكامل. تدهور الوضع العسكري في المنطقة بسرعة. لذلك، أمرتُ بإجلاء جميع الموظفين الأميركيين المتبقين في جنوب فيتنام" وكانت تلك نهاية الوجود الأميركي في هذه البلاد، ودخول قوات الجنرال جياب إلى المدينة اليوم التالي. ولا تزال مجريات حرب فيتنام، بمآسيها وصمود مقاومتها وتوحيد شطريها، من بين أحداث العالم الفارقة خلال القرن العشرين، وواحدة من الحروب التي غيّرت وجه الولايات المتحدة والعالم بأبعادها العسكرية والسياسية وآثارها الإنسانية، كما باتت تكتيكاتها وأساليبها تدرس في الكليات العسكرية، وتتبعها حركات مقاومة أخرى حول العالم. وبينما تحتفل بالذكرى الخمسين ليوم تحرير الجنوب وإعادة التوحيد الوطني، لم تعد مدينة سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية سابقا) -التي باتت تسمى هو شي منه نسبة إلى الزعيم الأسطوري لفيتنام- رهينة جراحات الماضي الأليم وأهواله، فقد تحولت على مدى الـ50 عاما الماضية إلى مدينة ناطحات سحاب براقة، وأعمال مزدهرة ومركز صناعي حيوي ونقطة جذب سياحية عالمية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store