
السياسات الحضريّة والهندسة المجاليّة والعمرانية: هل المدن الذكية هي البديل؟
نشر في 22 مارس 2025 الساعة 14 و 21 دقيقة
إيطاليا تلغراف
ذ. أسامه شنفار
باحث في سلك الدكتوراه
المدينة الفاضلة بين الحلم الفلسفي والواقع العمراني: هل المدن الذكية هي البديل؟
في رحلتيْ فصلي الشتاء والصيف، حيث تنخفض درجات الحرارة وترتفع، تتجلى المفارقة الواضحة بين القرى المغربية التي تحافظ على ذكائها البيئي بفضل هندستها التقليديّة، والمدن المغربية التي تبدو غارقة في العشوائية والتخطيط السيئ. هذا، ويكشف التأمل في المشهد العمراني هذه الفجوة الصارخة بين البناء البيئي الذكي والتخطيط العمراني الغبي، حيث تتشابك الأسلاك الكهربائية وخطوط الهاتف والألياف البصرية وقنوات الصرف الصحي مع مياه الأمطار، في صورة تعكس غياب رؤية حضرية متكاملة.
ففي العديد من المدن المغربية، تضيق الأزقة والشوارع إلى الحد الذي لا يسمح بمرور سيارات الإطفاء التابعة للوقاية المدنية أو سيارات الإسعاف، فضلًا عن افتقارها للفضاءات المفتوحة التي تتيح للساكنة الراحة والسعادة.
فكيف أصبحت مدننا وقرانا وبوادينا، مجرد هياكل خرسانيّة بلا روح؟ لماذا تحولت إلى فضاءات مزعجة، تضجّ بالفوضى والضجيج بدلًا من أن تكون بيئات صالحة للحياة؟
* بين المدينة الفاضلة والمدن الذكية:
عبر التاريخ، كانت المدن الفاضلة حلمًا راود الفلاسفة والمفكرين. فالفيلسوف (أفلاطون) تصور مدينته المثالية في الجمهورية الفاضلة، ورجال الدين رسموا صورة المدينة الإلهية المثالية، بينما تخيل الفيلسوف (توماس مور) في كتابه 'اليوتوبيا' مجتمعًا مثالياً يخلو من الفساد والصراعات.
ومع ذلك، فإن العظمة الحقيقيّة للشعوب والمتجمعات والأمم؛ لم تعد تقاس بالأحلام الفلسفيّة، بل بقدرتها على بناء 'مدن ذكية' تحققت في الواقع، مستفيدةً من التكنولوجيا والتخطيط العمراني السليم.
لكن هنا تبرز إشكالية جوهريّة تكمن في التساؤلات الآتية:
لماذا يلجأ البعض إلى مقارنة المدن الفاضلة المتخيلة بالمدن الذكيّة الواقعيّة؟ وهل يمكن للمدينة الذكيّة أن تكون بديلًا عمليًا للحلم الفلسفي؟
هذه المقارنة تحمل في طياتها مغالطات منطقيّة، بحيث يُفترض أن تتفوق المثالية المتخيلة على الواقع المحسوس، تمامًا كما تبدو تفاحة الجنة أكثر كمالًا من أي تفاحة تنبت في أرض الواقع، مهما بلغت جودتها.
* المدن المغربية في اختبار الأزمات:
لقد كشفت جائحة كورونا عن ضعف البنية الحضرية في مدننا، حيث بدت عاجزة عن التكيف مع الأزمات؛ مدن ذات شوارع وأزقة ومساحات جد ضيقة تفتقر إلى فضاءات الترفيه، وتعاني من فوضى التخطيط، وتغيب عنها السياسات الحضرية والهندسة المجاليّة، التي تضمن جودة الحياة لسكانها. وعند كل اختبار للأمن والسلامة، نجد أن أزقتها وشوارعها تقف عاجزة أمام أبسط التدخلات الطارئة، سواء كانت عمليات إخماد الحرائق، أو القبض على المجرمين، أو حتى تقديم الإسعافات الأولية لضحايا الحوادث والكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات.
أضف إلى ذلك، أن التلوث البصري الذي تسببه تشابكات الأسلاك الكهربائيّة والإنارة العموميّة والخطوط الهاتفية؛ يعكس بوضوح غياب الرؤية المستقبلية للتخطيط العمراني. فكيف يمكن أن نتحدث عن مدن ذكيّة بينما تعيش هذه المدن في فوضى تكنولوجيّة ومعماريّة؟
* هل نبني الغباء الجماعي بدلًا من الذكاء الحضري؟
في بعض الأحيان، يبدو وكأننا نُخطط عمدًا للغباء العمراني! فكيف نفسر مثلًا: بناء عمارات زجاجيّة في مدن تصل فيها درجات الحرارة إلى 46 درجة مئوية؟ أليس ذلك دلالة على سوء التصميم المعماري؟ فتشغيل المكيفات الهوائية في هذه البنايات يتطلب استهلاكًا هائلًا للطاقة؛ حتى يكاد الأمر يحتاج إلى محطة نووية لتوفير الكهرباء اللازمة!
ليس ذلك فحسب، بل حتى المرافق والإدارات العامة تُبنى غالبًا بأسلوب لا يأخذ في الاعتبار راحة الموظفين أو جودة الخدمات المقدمة المرتفقين، مما يزيد من تفشي البيروقراطية وضعف الأداء الإداري.
وفي المقابل، نجد دولًا أخرى تمكنت من تطوير مدنها عبر استخدام الطاقات المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، مع مراعاة الاستدامة البيئية في تخطيطها الحضري.
* المدن الذكية: ضرورة وليست رفاهية:
إن مفهوم 'المدينة الذكيّة' (Smart City) يتجاوز مجرد استخدام للتكنولوجيا الحديثة، ليشمل توفير بيئة حضرية متكاملة تعتمد على الاستدامة، والتخطيط المحكم، والخدمات السريعة والفعالة. فالمدن الذكية لا تعني فقط الاعتماد على الكاميرات والأنظمة الرقمية، بل تشمل تطوير بنية تحتية تتيح للمواطنين الوصول إلى الخدمات بسهولة، مع تحسين استهلاك الموارد وضمان بيئة صحية وسليمة.
لذلك، فإن تحقيق 'الذكاء الحضري' يتطلب ما يلي:
1. التخطيط العمراني السليم: من خلال فصل شبكات الصرف الصحي عن مياه الأمطار، وتخصيص مساحات خضراء، وتصميم أحياء تتيح تنقلًا سلسًا وآمنًا.
2. الاعتماد على الطاقات المتجددة: عبر تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري واستغلال مصادر الطاقة الشمسية والريحية.
3. تحسين المواصلات العامة: من خلال تعزيز النقل المستدام، مثل الحافلات الكهربائية وخطوط الترامواي، للحد من الازدحام والتلوث.
4. تعزيز الأمن والخدمات الرقميّة: من خلال تطوير البنية التحتيّة الذكيّة، مثل أنظمة التعرف على الوجه، وتقنيات المراقبة المتقدمة، مع مراعاة الخصوصية الفرديّة.
* خلاصات: لا تغيير بلا وعي حضري:
إن بناء مدن ذكية ليس خيارًا ترفيهيًا، بل ضرورة لمواكبة العصر وتحقيق جودة حياة أفضل. غير أن تحقيق ذلك يتطلب تغييرًا جذريًا في العقليات، كما يشير إليه قوله تعالى: 'إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ'.
فليس قدرنا أن نبقى في دوامة الجمود العمراني، بل علينا أن نتحلى بالإرادة والجرأة والشجاعة، لتجاوز الأخطاء السابقة وبناء مدن تليق بطموحاتنا وتطلعاتنا نحو مستقبل أكثر إشراقًا. فالطريق نحو التنمية المستدامة يبدأ من التخطيط الحضري الواعي، الذي يوازن بين التكنولوجيا، البيئة، واحتياجات الإنسان.
إيطاليا تلغراف أسامه شنفارالسياسات الحضريّة والهندسة المجاليّة والعمرانية
السابق
الكازينو دائمًا يربح.. هل هذه قاعدة ترامب في السياسة؟

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الخبر
١١-٠٥-٢٠٢٥
- الخبر
وداعا لثقل المحفظة المدرسية
قدّم قطاع التعليم العالي مبادرة جديدة ستعزز توجه قطاع التربية الوطنية إلى الرقمنة والتخفيف من ثقل المحفظة على التلاميذ الذي طرح بقوة في السنوات الأخيرة، بالنظر إلى الآثار السلبية التي خلفها على صحة التلميذ وتحصيله البيداغوجي. ويتعلق الأمر بكتاب إلكتروني محمّل في لوحة إلكترونية بإمكانه تقديم كل الدروس للتلميذ باستخدام هذه الأخيرة والاستغناء نهائيا عن الكتاب الورقي. تفاصيل المشروع أعلن عنها وزير التعليم العالي والبحث العلمي، البروفيسور كمال بداري، أمس، خلال الزيارة التي قادته إلى جامعة الجزائر 2 أبو القاسم سعد الله، بحضور مديرها السعيد رحماني، أين وقف على المنتوجات العلمية لمركز البحث العلمي والتقني لتطوير اللغة العربية المتواجد على مستوى الجامعة، وكان من بينها مشروع "الكتاب الإلكتروني" الموجّه لتلاميذ السنة الأولى ابتدائي، أين تمّ تحميل الكتاب المدرسي للغة العربية في لوحة إلكترونية بطريقة مبسّطة تمكن التلميذ من تصفّح الكتاب إلكترونيا مرفق بالصوت الذي يسمح له بمعرفة الحروف بحركاتها وأيضا الكلمات بواسطة الصوت، ما يقرب الفهم أكثر للتلميذ في بداية مرحلته الدراسية. وعقب استماعه لشرح مفصل عن هذا المشروع من قبل القائمين على مركز البحث العلمي والتقني لتطوير اللغة العربة، ذكر الوزير أن هذا المنتوج العلمي هو استجابة لطلب رئيس الجمهورية في تخفيف المحفظة على التلاميذ وقطاع التعليم العالي من خلال هذا الإنجاز، حسبه، سيساهم ببحوثه العلمية في تحقيق هذا المطلب حتى يستفيد منه قطاع التربية، خاصة وأن هذه اللوحة الإلكترونية بإمكانها تحميل باقي المواد كالرياضيات والرسم وغيرها، ما يجعل التخلص من ثقل المحفظة ممكنا، وهو مشروع قابل لتعميمه على باقي السنوات بشكل تدريجي، يضيف وزير التعليم العالي. مديرة مركز البحث العلمي لتطوير اللغة العربية: "مشاريع أخرى حول الصحة المدرسية تخص معالجة عسر الكلام وصعوبة الفهم" وعلى هامش طرح هذا الإنتاج العلمي، أكدت مديرة مركز البحث العلمي والتقني لتطوير اللغة العربية، غنية حمداني، لـ"الخبر"، أن هذا المشروع جاءت فكرته بعد وباء كورونا لتمكين التلاميذ من الحصول على الدروس، وأصبح اليوم مشروع متكامل، أين تم تحميل كتاب اللغة العربية للسنة الأولى ابتدائي بالكامل في اللوحة الإلكترونية التي صممت خصيصا لهذا المشروع، والميزة أن هذا الكتاب مدعّم بالصوت، وهو يعوّض الكتاب الورقي، وبإمكان المركز مستقبلا تحميل باقي الكتب الخاصة بالسنة الأولى في نفس اللوحة الإلكترونية، ما يسمح بالاستغناء التام على نقل الكتب في المحفظة، كما يمكن تعميم هذه الكتب الإلكترونية تدريجيا على باقي سنوات التعليم الابتدائي الذي يواجه أكثر معضلة ثقل المحفظة. وبالإضافة إلى المشروع الاستراتيجي الذي جاء تنفيذا لتوجّه الحكومة وتوجيه وزير التعليم العالي حول تقيم منتوجات علمية تقدّم حلول اقتصادية، حسبها، فالمركز قدّم أيضا 5 مشاريع أخرى تتعلق بالصحة المدرسية، على غرار التطبيقات الإلكترونية الخاصة بالأرطوفونيا، وتتطرق بوجه خاص إلى الصعوبات التي يواجهها التلاميذ في فهم بعض المواد، كالرياضيات وعسر القراءة ومعرفة أسباب كل ذلك، وهذا من خلال عمل ميداني قام به فريق البحث بالمركز شمل عدة مؤسسات تربوية. كما تمكّن الفريق أيضا من وضع تطبيق إلكتروني حول الاكتشاف المبكر للتوحد عند الأطفال، يسمح للأولياء، حسبها، من معرفة إصابة ابنهم من عدمه بهذا المرض، من خلال بعض العلامات قبل عرضه على طبيب مختص، وهي أبحاث من شأنها أن تقدّم الكثير في المتابعة الصحية لتلاميذ المدارس، عن طريق المرافقة والمتابعة لتفادي مشاكل صحية تؤثر على تحصيلهم العلمي، تضيف مديرة مركز البحث العلمي والتقني لتطوير اللغة العربية.


الشروق
١٩-٠٤-٢٠٢٥
- الشروق
رحيل مالك ملبنة 'الصومام' الملقب بـ'رفيق المحتاجين'
كان، السبت، يوما حزينا ببجاية وبكل ولايات الوطن، بعد تداول خبر رحيل الحاج لونيس حميطوش، مؤسّس ملبنة 'الصومام' الشهيرة، عن عمر ناهز 79 سنة، بعد صراع طويل مع المرض. وكان الحاج حميطوش الملقب بـ'رفيق المحتاجين' قد عرف بأعماله الخيرية الكثيرة، كما كان أحد كبار رجال الصناعة في الجزائر بشركة 'الصومام' التي جعل منها واحدة من أنجح الشركات وطنيا وإفريقيا وذلك قبل امتداد نشاط هذه الأخيرة إلى مجال السياحة، عبر مؤسسة 'أتلنتيس'. ولم يكن الفقيد حميطوش مجرد رجل أعمال، بل كان إنسانا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حيث كان 'أب الفقراء' يسعى دائم لمساعدة المحتاجين، كما كان فاعل خير لا يتردّد في العطاء، وكان يستقبل، يوميا، بمكتبه بآقبو بحوض الصومام، العديد من الجمعيات الخيرية والمحتاجين، من كل مناطق الوطن، وذلك بعيدا عن الأضواء، كما ساهم الفقيد في نشاط العديد من الفرق الرياضية من خلال إعاناته المنتظمة. ولم يبق الحاج حميطوش مكتوف اليدين خلال جائحة 'كورونا'، بل خصّص جزءا مهما من ثروته من أجل إعانة المستشفيات بمكثفات الأكسجين كما قام بتوزيع 27 سيارة إسعاف مجهّزة على كامل التراب الوطني وذلك من دون الحديث عن العيادة التي قام بتشييدها لفائدة سكان إغرام ببجاية، كما قام بتعويض الفلاح الذي فقد مجموعة من خرفانه ببني قايد بولاية جيجل، واقتنى شققا لعائلات معوزة وشيّد مساكن لأسر أخرى، كما تكفل الفقيد بمصاريف علاج العديد من المرضى، داخل وخارج الوطن. واضطر الحاج حميطوش، مؤخرا، للدخول في رحلة علاج وذلك بعدما نال منه المرض، ورغم التعب والإرهاق اللذان نالا منه، إلا أن هذا الأخير كان حاضرا كلما تعلق الأمر بمساعدة الغير. وحسب تعليقات المواطنين، فإن الفقيد لم يكن مجرد رجل أعمال ناجح، بل كان إنسانا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بتواضعه وكرمه، إذ لم يتردّد هذا الأخير، يوما، في مساعدة المحتاجين ولم يغلق بابه في وجه أحد، وحسب شهادة إحدى الجمعيات الخيرية، فقد طلبت الإعانة من الفقيد، في العديد من العمليات الخيرية وخاصة خلال جائحة 'كورونا'، فكان دائما من الأولين للاستجابة سواء ما تعلق بمحطات توليد الأكسجين وكذا سيارات الإسعاف للمستشفيات وهنا أشار أحد المواطنين إلى أنه قصد الفقيد من الجلفة إلى بجاية من أجل طلب مساعدته في مشروع استثماري، وذلك قصد حصول هذا الأخير على تعهد يتم من خلاله بتوفير قطيع من البقر من قبل شركة 'الصومام' وفي المقابل، يقوم المستثمر بتوجيه منتوجه من الحليب إلى ملبنة 'الصومام'، وهو المشروع الذي قبله حميطوش بصدر رحب -يقول المواطن- والشهادات كثيرة ومتعدّدة، وهو ما تعكسه التعازي الكثيرة التي تهاطلت على عائلة الفقيد من كل ربوع الوطن ومن خارجه. وعرف الحاج حميطوش بمقولته الشهيرة 'خدمت في بلادي.. ونصرف دراهمي في بلادي' إذ كان الفقيد يستثمر أرباحه في توسيع وتنويع منتجاته مع تدعيم شبكة التوزيع ما سمح بوصول 'ياغورت الصومام' إلى أقصى منطقة بالتراب الجزائري، وذلك قبل استحداثه لمؤسسة مختصة في الفندقة والخدمات السياحية، انطلقت بفندق واحد كائن بآقبو قبل توسعها لتحوز على سلسلة فندقية من 4 إلى 5 نجوم.


إيطاليا تلغراف
٢٢-٠٣-٢٠٢٥
- إيطاليا تلغراف
السياسات الحضريّة والهندسة المجاليّة والعمرانية: هل المدن الذكية هي البديل؟
نشر في 22 مارس 2025 الساعة 14 و 21 دقيقة إيطاليا تلغراف ذ. أسامه شنفار باحث في سلك الدكتوراه المدينة الفاضلة بين الحلم الفلسفي والواقع العمراني: هل المدن الذكية هي البديل؟ في رحلتيْ فصلي الشتاء والصيف، حيث تنخفض درجات الحرارة وترتفع، تتجلى المفارقة الواضحة بين القرى المغربية التي تحافظ على ذكائها البيئي بفضل هندستها التقليديّة، والمدن المغربية التي تبدو غارقة في العشوائية والتخطيط السيئ. هذا، ويكشف التأمل في المشهد العمراني هذه الفجوة الصارخة بين البناء البيئي الذكي والتخطيط العمراني الغبي، حيث تتشابك الأسلاك الكهربائية وخطوط الهاتف والألياف البصرية وقنوات الصرف الصحي مع مياه الأمطار، في صورة تعكس غياب رؤية حضرية متكاملة. ففي العديد من المدن المغربية، تضيق الأزقة والشوارع إلى الحد الذي لا يسمح بمرور سيارات الإطفاء التابعة للوقاية المدنية أو سيارات الإسعاف، فضلًا عن افتقارها للفضاءات المفتوحة التي تتيح للساكنة الراحة والسعادة. فكيف أصبحت مدننا وقرانا وبوادينا، مجرد هياكل خرسانيّة بلا روح؟ لماذا تحولت إلى فضاءات مزعجة، تضجّ بالفوضى والضجيج بدلًا من أن تكون بيئات صالحة للحياة؟ * بين المدينة الفاضلة والمدن الذكية: عبر التاريخ، كانت المدن الفاضلة حلمًا راود الفلاسفة والمفكرين. فالفيلسوف (أفلاطون) تصور مدينته المثالية في الجمهورية الفاضلة، ورجال الدين رسموا صورة المدينة الإلهية المثالية، بينما تخيل الفيلسوف (توماس مور) في كتابه 'اليوتوبيا' مجتمعًا مثالياً يخلو من الفساد والصراعات. ومع ذلك، فإن العظمة الحقيقيّة للشعوب والمتجمعات والأمم؛ لم تعد تقاس بالأحلام الفلسفيّة، بل بقدرتها على بناء 'مدن ذكية' تحققت في الواقع، مستفيدةً من التكنولوجيا والتخطيط العمراني السليم. لكن هنا تبرز إشكالية جوهريّة تكمن في التساؤلات الآتية: لماذا يلجأ البعض إلى مقارنة المدن الفاضلة المتخيلة بالمدن الذكيّة الواقعيّة؟ وهل يمكن للمدينة الذكيّة أن تكون بديلًا عمليًا للحلم الفلسفي؟ هذه المقارنة تحمل في طياتها مغالطات منطقيّة، بحيث يُفترض أن تتفوق المثالية المتخيلة على الواقع المحسوس، تمامًا كما تبدو تفاحة الجنة أكثر كمالًا من أي تفاحة تنبت في أرض الواقع، مهما بلغت جودتها. * المدن المغربية في اختبار الأزمات: لقد كشفت جائحة كورونا عن ضعف البنية الحضرية في مدننا، حيث بدت عاجزة عن التكيف مع الأزمات؛ مدن ذات شوارع وأزقة ومساحات جد ضيقة تفتقر إلى فضاءات الترفيه، وتعاني من فوضى التخطيط، وتغيب عنها السياسات الحضرية والهندسة المجاليّة، التي تضمن جودة الحياة لسكانها. وعند كل اختبار للأمن والسلامة، نجد أن أزقتها وشوارعها تقف عاجزة أمام أبسط التدخلات الطارئة، سواء كانت عمليات إخماد الحرائق، أو القبض على المجرمين، أو حتى تقديم الإسعافات الأولية لضحايا الحوادث والكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات. أضف إلى ذلك، أن التلوث البصري الذي تسببه تشابكات الأسلاك الكهربائيّة والإنارة العموميّة والخطوط الهاتفية؛ يعكس بوضوح غياب الرؤية المستقبلية للتخطيط العمراني. فكيف يمكن أن نتحدث عن مدن ذكيّة بينما تعيش هذه المدن في فوضى تكنولوجيّة ومعماريّة؟ * هل نبني الغباء الجماعي بدلًا من الذكاء الحضري؟ في بعض الأحيان، يبدو وكأننا نُخطط عمدًا للغباء العمراني! فكيف نفسر مثلًا: بناء عمارات زجاجيّة في مدن تصل فيها درجات الحرارة إلى 46 درجة مئوية؟ أليس ذلك دلالة على سوء التصميم المعماري؟ فتشغيل المكيفات الهوائية في هذه البنايات يتطلب استهلاكًا هائلًا للطاقة؛ حتى يكاد الأمر يحتاج إلى محطة نووية لتوفير الكهرباء اللازمة! ليس ذلك فحسب، بل حتى المرافق والإدارات العامة تُبنى غالبًا بأسلوب لا يأخذ في الاعتبار راحة الموظفين أو جودة الخدمات المقدمة المرتفقين، مما يزيد من تفشي البيروقراطية وضعف الأداء الإداري. وفي المقابل، نجد دولًا أخرى تمكنت من تطوير مدنها عبر استخدام الطاقات المتجددة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، مع مراعاة الاستدامة البيئية في تخطيطها الحضري. * المدن الذكية: ضرورة وليست رفاهية: إن مفهوم 'المدينة الذكيّة' (Smart City) يتجاوز مجرد استخدام للتكنولوجيا الحديثة، ليشمل توفير بيئة حضرية متكاملة تعتمد على الاستدامة، والتخطيط المحكم، والخدمات السريعة والفعالة. فالمدن الذكية لا تعني فقط الاعتماد على الكاميرات والأنظمة الرقمية، بل تشمل تطوير بنية تحتية تتيح للمواطنين الوصول إلى الخدمات بسهولة، مع تحسين استهلاك الموارد وضمان بيئة صحية وسليمة. لذلك، فإن تحقيق 'الذكاء الحضري' يتطلب ما يلي: 1. التخطيط العمراني السليم: من خلال فصل شبكات الصرف الصحي عن مياه الأمطار، وتخصيص مساحات خضراء، وتصميم أحياء تتيح تنقلًا سلسًا وآمنًا. 2. الاعتماد على الطاقات المتجددة: عبر تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري واستغلال مصادر الطاقة الشمسية والريحية. 3. تحسين المواصلات العامة: من خلال تعزيز النقل المستدام، مثل الحافلات الكهربائية وخطوط الترامواي، للحد من الازدحام والتلوث. 4. تعزيز الأمن والخدمات الرقميّة: من خلال تطوير البنية التحتيّة الذكيّة، مثل أنظمة التعرف على الوجه، وتقنيات المراقبة المتقدمة، مع مراعاة الخصوصية الفرديّة. * خلاصات: لا تغيير بلا وعي حضري: إن بناء مدن ذكية ليس خيارًا ترفيهيًا، بل ضرورة لمواكبة العصر وتحقيق جودة حياة أفضل. غير أن تحقيق ذلك يتطلب تغييرًا جذريًا في العقليات، كما يشير إليه قوله تعالى: 'إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ'. فليس قدرنا أن نبقى في دوامة الجمود العمراني، بل علينا أن نتحلى بالإرادة والجرأة والشجاعة، لتجاوز الأخطاء السابقة وبناء مدن تليق بطموحاتنا وتطلعاتنا نحو مستقبل أكثر إشراقًا. فالطريق نحو التنمية المستدامة يبدأ من التخطيط الحضري الواعي، الذي يوازن بين التكنولوجيا، البيئة، واحتياجات الإنسان. إيطاليا تلغراف أسامه شنفارالسياسات الحضريّة والهندسة المجاليّة والعمرانية السابق الكازينو دائمًا يربح.. هل هذه قاعدة ترامب في السياسة؟