
كيف عاش الغزيون العزلة الرقمية المفتعلة وسط النار؟
غزة- بينما كانت الغارات الإسرائيلية تنهال على غزة، والمجاعة تفتك بمن تبقى من الأحياء فيها، انقطع آخر خيط يربط الغزيين بالعالم الخارجي لعدة أيام، حيث عاشوا في عزلة رقمية خانقة، كانت أشبه بـ"هندسة صمت" ممنهجة، تعمّدت إسرائيل فيها إغلاق نوافذ الرواية الفلسطينية وخنق الصوت الأخير، لتصبح الإبادة بعيدة عن أعين الشهود.
استمر انقطاع الإنترنت في شمال قطاع غزة 4 أيام متواصلة، وفي جنوبه يومين، نتيجة قصف الاحتلال للخطوط الرئيسية المغذية لمقاسم الاتصالات المركزية في شطري القطاع.
وانفصل حوالي مليوني فلسطيني بشكل كامل عن العالم الخارجي، الأمر الذي راق للاحتلال حيث منع وصول طواقم الصيانة للمناطق المتضررة، ولم يُسمح بإصلاح الأعطال إلا بعد عدة أيام، عقب حصول الفنيين على تصريح للصيانة.
وبينما أُعيد الاتصال تدريجيا مساء أمس، لم تنقطع مخاوف السكان من تكرار التجربة، لا سيما أنها أتت في لحظة حرجة من المجازر والقصف واستمرار المجاعة وقتل المجوّعين.
التغطية مستمرة
لم يستسلم الصحفيون لإرادة الاحتلال، وشقوا كل الطرق التي تدفعهم للاستمرار في التغطية، فلم يجدوا سبيلا إليها سوى استخدام الشرائح الإلكترونية الإسرائيلية، ولاحقوا إشارة وصل الإنترنت في هواتفهم من خلالها، سواء إلى المناطق الشرقية الخطرة أو إلى ميناء غزة غربا، أو بصعودهم على بنايات سكنية مرتفعة لالتقاط إشارة هزيلة تمكنهم من إرسال موادهم المصورة أو الخروج من خلال البث المباشر.
أمام ميناء غزة ، حيث تتربص البوارج بحرا والطائرات المسيّرة جوا، يقف الصحفي خميس الريفي ومعه مجموعة من الصحفيين، حاملا هاتفه في محاولة لالتقاط إشارة قوية للإنترنت تمكنه من رفع المادة الإعلامية التي توثق مجزرة استهداف الاحتلال لمنتظري المساعدات.
ويقول الريفي للجزيرة نت: "نعاني في رفع موادنا المصورة ونشر الأخبار، وفي معرفة التحديثات الميدانية ومواقع الاستهدافات الإسرائيلية ومعرفة عدد الشهداء، حتى إن الفيديو الذي لا يتجاوز دقيقتين قد يستغرق 4 ساعات لرفعه".
ويضيف خميس بصوت مثقل: "لم يبق مكان إلا وشهد على معاناة الصحفي الفلسطيني من إقامتهم في الخيام، والمشافي وأطراف شاطئ مليء بالحجارة، ومع ذلك نحن مستمرون، هذا كفاح يومي، وندفع ثمنه غاليا".
ويضيف خميس الريفي أنهم كانوا يسمعون الانفجارات ولا يعرفون موقعها، في حين كانوا في السابق يساعدون في توجيه المسعفين وفرق الدفاع المدني إليها.
ولعدة أيام كان الغزيون يسمعون أصوات الانفجارات دون معرفة أماكن وقوعها، ويقول المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة محمود بصل إن انقطاع الاتصالات أصابهم بالشلل: "كنا نعتمد بشكل كبير على الاتصالات اللاسلكية والأرضية لتلقي مناشدات المواطنين، والتوجه إلى أماكن الاستهداف، ومع توقف هذه الوسائل لم يعد بإمكان الناس التبليغ عنها، فلم يجد المواطنون من يقدم لهم الخدمة".
ويتابع المتحدث باسم الدفاع "حتى الصحفيون الذين كانوا يحددون لنا عبر مجموعاتهم وتحديثاتهم مواقع القصف، فقد منعهم انقطاع الإنترنت من معرفتها".
ولفت المتحدث ذاته إلى أن فرق الدفاع المدني اعتمدت خلال تلك المدة على أصوات الانفجارات لتحديد مكانها أو البلاغات الشفهية من أهالٍ يطلبون النجدة.
ولم يقتصر الأمر على توقف الاستجابة لمناشدات العائلات المستهدفة، بل تعدّاه إلى صعوبة الوصول إلى الحالات المرضية وحل المشاكل العائلية.
عزل عن العالم
وأشار المتحدث إلى أن استهداف البنية التحتية لم يكن عشوائيا، بل تعمد الاحتلال قطع التواصل عن غزة بشكل كامل، موضحا "منذ بداية الحرب، تحاول إسرائيل قطعنا عن العالم، وتتعمد تدمير البنى التحتية التي تؤثر على تواصلنا الداخلي والخارجي، حتى يعم الصمت وتُعزل غزة عن العالم".
وفي ظل هذه العتمة الإعلامية، تتجسد مأساة الأسر التي تدير أمورها عبر التكنولوجيا الحديثة، إذ يعتمد عدد كبير من الغزيين على التطبيقات البنكية لتحويل الأموال والشراء، في ظل عدم توفر السيولة المالية مثلا.
ويقول محمد علي للجزيرة نت، وهو رب لأسرة مكونة من 5 أفراد، "راتبي يصلني عبر البنك ولا أستطيع سحبه، فكنت أعتمد على التطبيق البنكي في شراء احتياجات عائلتي، لكن انقطاع الإنترنت جعلني عاجزا، حتى الحليب لأولادي لم أستطع شراءه".
أما على صعيد العمل عن بعد، فقد واجه تيم صيام، وهو مدير شركة تقدم خدمات إلكترونية عن بُعد، تحديات غير مسبوقة.
ويروي تيم للجزيرة نت تفاصيل معاناته: "كان لدينا عملاء من الخليج، معتادون على التواصل اليومي وتنفيذ الطلبات فورا، لكن الانقطاع خلق فجوة كبيرة، وخسرنا عددا من العملاء بسبب عدم القدرة على الرد أو التنفيذ المباشر".
ويضيف: "العملاء لا يلتفتون للظروف الصعبة التي نمر بها، فهم يتواصلون مع شركة وليس أفرادا، وهذا خلق مشكلة ثقة كبيرة".
حصار مفتعل
لم تنته معاناة العاملين عن بعد بتوفير الشرائح الإلكترونية للموظفين، يقول تيم: "كنا نضطر للسير مسافات طويلة بسبب انعدام وسائل النقل، نخاطر ونصعد عمارات عالية لنلتقط إشارة هزيلة بجوار النوافذ، المهمة التي تستغرق دقائق تتحول لساعات".
حصار تقني تكرر للمرة التاسعة على التوالي منذ بدء الحرب على غزة، يرى المكتب الإعلامي الحكومي أنه مفتعل وممنهج من أجل تعتيم الحقيقة وتعميق الكارثة الإنسانية في القطاع، عبر عزل أكثر من 2.4 مليون فلسطيني عن العالم الخارجي وحرمانهم من أبسط حقوقهم في الحياة والاتصال وطلب النجدة، بالإضافة إلى عرقلة عمل الطواقم الطبية والإغاثية.
ووصف المكتب الإعلامي عبر بيان أصدره اليوم الأحد بأن الانقطاع المتكرر لا يمكن اعتباره خللا فنيا عرضيا، داعيا المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة والاتحاد الدولي للاتصالات، للضغط على الاحتلال والتدخل للحيلولة دون تكراره. واعتبر أن الأمر يضاعف من احتمالية موت الأبرياء في غزة الذين لا ذنب لهم إلا البقاء فيها.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 36 دقائق
- الجزيرة
إيران أم إسرائيل.. من منهما لديها مخاوف التهديد الوجودي؟
يرى محللون، أن إيران وإسرائيل تتبادلان الشعور بمخاطر وجودية من بعضهما بعضا، لكن إسرائيل لديها الهواجس الأكبر، وأنها تشعر أن امتلاك إيران أو غيرها من دول المنطقة السلاح النووي يمكن أن يهدد وجودها وينهيه. وحسب الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات، الدكتور لقاء مكي، فإن إسرائيل تدعي أن حربها مع إيران حرب وجودية، لكن إيران لم يكن لديها هذا الهاجس في البداية والآن فقط بدأت تستشعر أن هذه الحرب تتحول إلى حرب وجودية. وتتصور إسرائيل، أن امتلاك إيران أو أي دولة أخرى في المنطقة السلاح النووي، هو تهديد وجودي لها، ولديها هذا الهاجس لأنها طارئة على المنطقة ويمكن أن تنتهي بطريقة سريعة، بخلاف إيران التي هي دولة عميقة وعريقة في المنطقة، وشعبها الذي تمتد جذوره إلى آلاف السنين سيورث الأرض لأجيال قادمة، وفقا لمكي. ومن جهته، يقول الأكاديمي والخبير في الشؤون الإسرائيلية الدكتور مهند مصطفى، إن إسرائيل اعتبرت في البداية أن السلاح النووي الإيراني يهدد وجودها، ثم زعمت لاحقا، أن القدرات الصاروخية لإيران تهدد وجودها أيضا، وبعدها أصبحت ترى أن النظام الإيراني يهدد وجودها، ثم بدأت في السنوات الأخيرة تربط بين بقاء هذا النظام وبين المشروع النووي الإيراني. وحتى لو تمكنت إسرائيل من تدمير المشروع النووي وأبقت النظام الإيراني بتوجهاته الأيديولوجية والسياسية، فستظل إسرائيل ترى في إيران تهديدا وجوديا لها، لأن نظامها سيعيد بناء مشروع نووي جديد. وعلى ضوء التفكير الإسرائيلي، يضيف مصطفى، فإن العملية العسكرية التي شنتها تل أبيب على إيران تهدف لإسقاط نظامها. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (المطلوب لـ المحكمة الجنائية الدولية) قد قال -في مقابلة لشبكة فوكس نيوز الأميركية- "بدأت الهجوم على إيران لأننا كنا نواجه تهديدا وشيكا.. كنا نواجه تهديدا وجوديا، يشمل تسريع صُنع قنابل ذرية وزيادة الترسانة الباليستية". أوراق القوة من جانبها ترى الباحثة الأولى في مركز الجزيرة للدراسات الدكتورة فاطمة الصمادي، أن الشعور بالخطر الوجودي متبادل بين الطرفين، ففي الرؤية الإيرانية أيضا يوجد استشعار بالخطر، ومنذ نشأة الجمهورية الإسلامية وإلى اليوم، لا تعتبر إيران في تصوراتها أن لإسرائيل مكانا في المنطقة، ورغم تأكيدها دوما بعدم السعي إلى الحرب، لكن في سلوكها العسكري راكمت المزيد من القوة لعلمها أن المواجهة مع إسرائيل حتمية. وتحاول إيران التي طورت برنامجها الصاروخي ومشروعها النووي والمسيّرات، أن تعزز من أوراق قوتها في المواجهة الحالية مع إسرائيل، وبحسب الصمادي فإنه حتى لو توقفت هذه المواجهة فإن طهران تدرك، أن مواجهة أخرى سوف تندلع. وبدأت إسرائيل فجر الجمعة، هجوما واسعا على إيران بعشرات المقاتلات، سمته "الأسد الصاعد"، وقصفت خلاله منشآت نووية وقواعد صواريخ بمناطق مختلفة، واغتالت قادة عسكريين بارزين وعلماء نوويين. في المقابل بدأت إيران مساء اليوم ذاته، بالرد على الهجوم بسلسلة من الضربات الصاروخية الباليستية والطائرات المسيّرة، مما أسفر عن قتلى وعشرات المصابين، فضلا عن أضرار مادية كبيرة طالت مباني ومركبات.


الجزيرة
منذ 36 دقائق
- الجزيرة
ما تأثير التصعيد بين إسرائيل وإيران على الواقع العربي؟
تعيد الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران إلى الواجهة حالة عدم الاستقرار والأزمات والتوترات التي هيمنت على المنطقة طوال عقود. اقرأ المزيد المصدر: الجزيرة


الجزيرة
منذ 36 دقائق
- الجزيرة
الجبهة الداخلية الإسرائيلية: صاروخ أطلق من اليمن باتجاه إسرائيل
الجبهة الداخلية الإسرائيلية: صاروخ أطلق من اليمن باتجاه إسرائيل الجيش الإسرائيلي: رصد صاروخ أطلق من اليمن باتجاه إسرائيل ونعمل على اعتراضه الجيش الإسرائيلي: دفاعاتنا الجوية تمكنت من اعتراض الصاروخ اليمني التفاصيل بعد قليل..