ماجد الفاعوري يكتب: 1923–1946 الاستقلال الذي لا يُروى .. الاستقلال الخادم للأمة
بقلم :
أحياناً، تكفي جملة واحدة لإيقاظ فضول الباحث أو الكاتب أو المؤرخ أما بالنسبة لي كانت تلك الجملة التي نطقتها طالبة العلاقات الدولية ديمة الدلابيح حين قالت إن الأردن عرف استقلاله الأول عام 1923 قبل أن ينال استقلاله الثاني عام 1946
هذا التصريح دفعني للبحث في أعماق أرشيفاتنا الوطنية وسير تاريخنا الحقيقي الذي لا يُذكر كثيراً في الروايات الرسمية هل فعلاً مر الأردن بمرحلتين من الاستقلال؟ ولماذا يعتبر عام 1923 محطة مفصلية في رسم الهوية السياسية الأردنية رغم أننا نحتفل رسمياً فقط بيوم 25 أيار 1946؟
في هذا المقال البحثي رحلة عبر تلك الحقبة، نحاول فيه إعادة قراءة ما جرى، وتسليط الضوء على النضالات الشعبية والسياسية، على الحركات الوطنية التي لم تستسلم لواقع الانتداب، وعلى شخصيات تركت بصمتها في معركة بناء الدولة
خريطة مشوشة: الشرق الأوسط بعد العثمانيين
بنهاية الحرب العالمية الأولى، انهارت الإمبراطورية العثمانية، وأعيد رسم المنطقة وفق مصالح القوى الكبرى. بموجب اتفاقية سايكس–بيكو (1916)، تقاسمت فرنسا وبريطانيا النفوذ، وجاء وعد بلفور (1917) ليضيف عبئاً جديداً عبر فتح أبواب فلسطين أمام المشروع الصهيوني
وسط هذا الركام السياسي والجغرافي، ظهر الأمير عبدالله بن الحسين، الذي جاء إلى معان عام 1921 بمشروع عربي استقلالي. ومع سلسلة مفاوضات مع البريطانيين، أُعلن رسمياً عن قيام إمارة شرق الأردن عام 1923، وهو ما وصفه المؤرخ سليمان الموسى بأنه :
أول اعتراف دولي بكيان سياسي يحمل اسم الأردن، رغم بقاء شؤونه الخارجية والدفاعية تحت السيطرة البريطانية
لكن هل كان ذلك كافياً؟ بالطبع لا
مؤتمر أم قيس: بذرة الرفض
قبل الاعتراف البريطاني، اجتمع زعماء العشائر والمخاتير والقيادات المحلية في مؤتمر أم قيس عام 1920. هناك صدرت مطالب واضحة :
تشكيل حكومة عربية وطنية
رفض الهجرة اليهودية ووعد بلفور
إنشاء جيش وطني مستقل
إلغاء الحكم العسكري البريطاني
تقول وثائق المؤتمر المحفوظة في أرشيف دائرة المكتبة الوطنية الأردنية
نحن المجتمعون نعلن أننا لا نقبل أي إدارة أجنبية أو انتداب، ونريد حكومة وطنية تمثل مصالح الشعب
هذه الوثائق تكشف أن النضال الأردني لم يبدأ مع المعاهدة البريطانية، بل سبقها برؤية واضحة، تعبر عنها بعمق مداخلات د. محمد عدنان البخيت حين يقول :
مؤتمر أم قيس كان تعبيراً عن وعي مبكر لدى الأردنيين بأن الكيان السياسي لا يمكن أن يُبنى إلا بإرادة داخلية، لا بتسويات خارجية
مرحلة الأحزاب: السياسة تولد من الشارع
مع إقرار دستور 1928، بدأ النشاط السياسي يأخذ شكلاً أكثر تنظيماً تأسست أحزاب مثل الحزب الوطني الأردني وحزب الشعب وحزب الاستقلال، وارتفعت شعارات :
إلغاء المعاهدة البريطانية
السيادة الوطنية الكاملة
تعريب الجيش العربي
توسيع التمثيل النيابي الشعبي
يكتب د. علي محافظة في كتابه الحركة الوطنية الأردنية :
لم تكن الأحزاب مجرد تجمعات للنخبة، بل كانت امتداداً لحراك شعبي ممتد من السلط إلى الكرك، ومن إربد إلى معان، يعبر عن رفض صريح لأي وصاية أجنبية
كما تسجل د. هند أبو الشعر في دراساتها أن :
المرأة الأردنية لعبت دوراً محورياً في النضال السياسي؛ لم تقتصر مشاركتها على دعم زوجها أو شقيقها، بل دخلت مباشرة في العمل العام عبر لجان الإغاثة والتنظيمات الطلابية وكتابة العرائض السياسية
خط الدفاع الإقليمي: الأردن حاجز أمام الأطماع
لا يقتصر الحديث هنا على الداخل الأردني، بل يمتد إلى دوره في الخارطة الإقليمية.
يكتب د. جواد العناني في مقالاته السياسية
لم يكن الاعتراف البريطاني عام 1923 مجرد تسوية إدارية، بل كان تأسيساً لكيان يشكل حاجزاً جغرافياً وسياسياً، يحمي جنوب لبنان ودرعا السورية وجبل الشيخ من الامتداد الصهيوني، ويمنع تكرار مأساة وعد بلفور شرق النهر
ويؤكد المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي في كتابه قبل الشتات :
لولا قيام إمارة شرق الأردن، لكانت المستوطنات الصهيونية قد تمددت بلا عوائق شرق النهر، ولكانت خاصرة بلاد الشام الجنوبية قد فتحت بالكامل أمام الاستيطان
من المؤتمر الوطني الأول إلى الاستقلال الثاني
في عام 1928، عُقد المؤتمر الوطني الأول في عمان، جامعاً ممثلين من مختلف مناطق الأردن، ليطالبوا بـ
إلغاء المعاهدة البريطانية
وقف الامتيازات الأجنبية
تثبيت السيادة الوطنية
ورغم محاولات القمع والاحتواء، واصل الأردنيون نضالهم، إلى أن توّج بتوقيع معاهدة الاستقلال في 22 مارس 1946، والتي أفضت إلى إعلان المملكة الأردنية الهاشمية رسمياً في 25 مايو1946
كما يكتب المؤرخ ألبرت حوراني :
لم يكن استقلال الأردن هدية بريطانية، بل كان تتويجاً لعقود من العمل السياسي والنضال الشعبي، الذي قاوم القيود الخارجية وتمسك بالهوية الوطنية
قراءة في معنى الاستقلال الأول
إن فهمنا للاستقلال الأول عام 1923 يعيد الاعتبار لمرحلة مهمة في تشكل الدولة الأردنية، مرحلة صنعت فيها القيادة الهاشمية تحالفاتها الداخلية، وبنت مؤسساتها الوطنية، وحافظت على وحدة الجغرافيا الأردنية وسط مشاريع تقسيم عاتية
تمام! سأعيد كتابة الخاتمة بحيث لا تكون مختصرة ولا مجرد تلخيص، بل تمتد لتكون خاتمة تحليلية نقدية، نُطالب فيها بإعادة كتابة السردية الوطنية الأردنية من منظور واقعي، ونسلط الضوء على خطورة ترك السرديات مفتوحة لكتابة 'الآخر'، مع دعوة صريحة للدولة وللمؤسسات الأكاديمية والثقافية كي تتحمل مسؤوليتها
من يكتبنا إذا لم نكتب أنفسنا؟
حين نقرأ التاريخ الأردني بعيون جديدة، لا نجد فقط سلسلة من التواريخ والمعاهدات والاحتفالات الرسمية نجد إرادة، وصراعاً طويلاً، ووجوهاً ربما لم تُكتب أسماؤها في الكتب المدرسية لكنها صنعت الفارق
إن الحديث عن استقلال 1923 كـ"استقلال أول" لا يعني تقليلاً من قيمة الاستقلال الثاني عام 1946، بل يعني توسيع الرواية الوطنية حتى تشمل تلك اللحظات التأسيسية التي حاولت الأطراف الكبرى إخفاءها أو تهميشها. من هنا، يظهر دور الباحثين، دور الأكاديميين والمفكرين والصحفيين، في إعادة كتابة سرديتنا الوطنية. لأن الحقيقة البسيطة تقول :
إذا لم نكتب نحن تاريخنا وسرديتنا، سيأتي الآخرون ليكتبونا كما يريدون
عبر العقود الماضية، كتبت بعض المراجع الغربية، وحتى بعض الكتاب العرب، تاريخ الأردن من منظور استشراقي أو اختزالي، يصوّر الدولة وكأنها صنيعة استعمارية محضة، أو يرسمها كدولة وظيفية بدون إرادة شعبية.
وهذه سرديات خطيرة، لأنها تنتزع من الشعب الأردني دوره الأساسي في صناعة تاريخه ومصيره
لذلك، نحن لا نحتاج فقط لإحياء الذكرى السنوية للاستقلال، بل نحتاج إلى مشروع وطني متكامل لإعادة كتابة السردية التاريخية الأردنية :
نحتاج إلى إطلاق مشاريع أرشيف وطني رقمي تحفظ الوثائق والصور والتسجيلات الصوتية من تلك الحقبة
نحتاج إلى تحديث المناهج الدراسية لتُدرّس التاريخ من زاوية النضال الشعبي والسياسي، لا فقط من زاوية المعاهدات
نحتاج إلى تشجيع السينما والمسرح والأدب لتجسيد الشخصيات التي لعبت أدواراً محورية ولم يُنصفها التاريخ الرسمي
نحتاج إلى دعم الأبحاث الأكاديمية والمنح الدراسية التي تعيد قراءة دور الأردن الإقليمي والدولي بعيداً عن التبسيط
في نهاية هذا المقال البحثي، لا بد أن أكرر شكري لطالبة العلاقات الدولية ديمة الدلابيح، التي أثارت هذا السؤال المهم: متى بدأ استقلالنا الحقيقي؟ لكنه سؤال ينبغي ألا يتوقف هنا.
يجب أن يتحوّل إلى مشروع فكري وثقافي وسياسي يُعيد تسليط الضوء على رحلة بلدنا، رحلة انتزع فيها الأردنيون، بمختلف أطيافهم، مكانهم في الخارطة رغم كل التحديات
نحتاج كدولة إلى الاعتراف بأن كتابة السردية ليست ترفاً فكرياً، بل هي مسألة أمن وطني وثقافي.
لأن الأمم التي لا تكتب قصتها الحقيقية، تظل حبيسة القصص التي يكتبها لها الآخرون.
والأردن الذي نعرفه وننتمي إليه، أكبر بكثير من أي قصة ناقصة، أو رواية مبتورة، أو سردية رسمية مختزلة
المراجع الأكاديمية المعتمدة
علي محافظة، الحركة الوطنية الأردنية (1921–1946)، دار ورد، 2001
محمد عدنان البخيت، وثائق أردنية عثمانية، منشورات الجامعة الأردنية، 1985
هند أبو الشعر، المرأة والحياة الاجتماعية في الأردن، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1998
جواد العناني، مقالات في صحيفة الرأي حول الدور الإقليمي الأردني، 2005–2015
فايز الطراونة، الأردن والتحول الديمقراطي، المؤسسة العربية للدراسات، 2010
سليمان الموسى، تاريخ الأردن السياسي (1921–1946)، دار الشروق، 1991
وليد الخالدي، قبل الشتات: التاريخ المصور للشعب الفلسطيني، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1992
عارف العارف، نكبة فلسطين، منشورات لجنة النكبة، 1956
محفوظ جابر، وثائق المؤتمر الوطني الأردني الأول، دائرة المكتبة الوطنية، 1980

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


عمون
منذ 7 ساعات
- عمون
الحرب انتهت، ماذا عن مستقبل المنطقة؟
هل تشكل الضربة التي قامت بها واشنطن ضد المفاعلات النووية في إيران أمس (22/6) نهاية للحرب التي اندلعت منذ نحو أسبوعين؟ الإجابة بتقديري نعم، لا توجد رغبة ولا قدرة ولا مصلحة لطهران لمواصلة الحرب، هذا ينطبق، أيضًا، على واشنطن وتل أبيب، لقد حققت الحرب أهدافها، أو الحد الأدنى منها، إيران لن ترد عسكريًا على أمريكا، وإذا حصل فسيكون بشكل رمزي، ستكتفي بردود سياسية، وربما تستأنف، مؤقتًا، ضرباتها على تل أبيب، النتيجة كما تجرع الخميني كأس السم عام 1988 وقرر وقف الحرب مع العراق، سيفعلها خامنئي أيضًا. هكذا، تمامًا، تفكر إيران، بمنطق الحرص على البقاء، وبعقلية التاجر الذي يدقق الفواتير والحسابات مرات ومرات، وبدافع الإحساس بالتفوق حتى في ظل الانكسار؛ إيران، وفق حساباتها، لم تُهزم بالنظر إلى معادلات الحرب وأطرافها، وإنما تراجعت خطوات إلى الوراء، فقدت أذرعها وامتداداتها ووزنها السياسي والنووي، أدركت أنها لا تستطيع هضم (اللقمة) الكبيرة التي ابتلعتها خلال السنوات العشرين المنصرفة. أكيد ستنكفئ على نفسها، وتعيد ترميم قوتها، وربما تبحث عن مسارات سياسية جديدة لمد الجسور مع محيطها ومع العالم. إلى أين تسير المنطقة في المستقبل؟ ثمة تصوران (احتمالان) وجيهان، الأول يعتقد أصحابه أن المستقبل القادم للمنطقة لن يكون (قاتمًا)، لدى هؤلاء إحساس بالتفاؤل المشوب بالحذر؛ إسرائيل لن تستطيع - رغم ما أنجزته - أن تبتلع المنطقة أو تهيمن عليها، وإذا حصل فإنها لن تتمكن من هضمها تمامًا، كما حصل لإيران فيما مضى والآن، القوميات الأصيلة في المنطقة ستبدأ استدارات نحو الذات، وربما تتقارب، الدول العربية لن تستطيع أن تقاوم انفجارات الغضب تجاه إسرائيل، وتجاه غياب أي وزن لها فيما حدث، هذا يضمن تحجيم الاندفاع نحو إسرائيل وكبح نفوذها، المنطقة ستهدأ على وقع مراجعات عميقة، كما حصل، تمامًا، في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ثمة تصور آخر، مختلف تماما، يرى أصحابه أننا أمام «العصر الإسرائيلي الجديد»، أو ربما العصر (الترامبي)، بكل ما تحمله مواصفات «ترامب» من صفقات ومغامرات، المنطقة ستشهد انفجارات جديدة، التطرف سيطل برأسه بصورة أكثر شراسة، ربما نشهد نسخة جديدة من الربيع العربي لكنها أكثر قسوة، ربما نشهد دويلات جديدة على إيقاع تقسيم مناطق النفوذ وإعادة رسم الخرائط، هذا التصور قد يكون نسخة مما حدث بعد الحرب العالمية الأولى. إلى أي التصورين (الاحتمالين) أميل؟ إلى الاحتمال الأول مع بعض التعديلات؛ المنطقة تعبت من الحروب والصراعات، ثمة بوادر نضج سياسي (ولو أنه ما زال في بداياته) لدى بعض الدول الرئيسة في المنطقة، قد يؤسس لتفاهمات وربما صفقات أو مصالحات على صعيد الإقليم ومع العالم، لا أحد (باستثناء إسرائيل) يريد حروبًا جديدة، السياسة ستتحرك بشكل أكثر تسارعًا على إيقاع الاقتصاد وحساباته، مصلحة الجميع أن يعود الهدوء إلى المنطقة، أكيد ثمة ملفات لا تزال عالقة في سياق مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، لكن حلها ممكن إذا توفر (عقلاء) قادرون على إقناع العالم أن فاتورة أي حرب أو فوضى جديدة ستتوزع على العالم كله، لا على المنطقة فقط.

الدستور
منذ 10 ساعات
- الدستور
الحرب انتهت، ماذا عن مستقبل المنطقة؟
هل تشكل الضربة التي قامت بها واشنطن ضد المفاعلات النووية في إيران أمس (22/6) نهاية للحرب التي اندلعت منذ نحو أسبوعين؟ الإجابة بتقديري نعم، لا توجد رغبة ولا قدرة ولا مصلحة لطهران لمواصلة الحرب، هذا ينطبق، أيضًا، على واشنطن وتل أبيب، لقد حققت الحرب أهدافها، أو الحد الأدنى منها، إيران لن ترد عسكريًا على أمريكا، وإذا حصل فسيكون بشكل رمزي، ستكتفي بردود سياسية، وربما تستأنف، مؤقتًا، ضرباتها على تل أبيب، النتيجة كما تجرع الخميني كأس السم عام 1988 وقرر وقف الحرب مع العراق، سيفعلها خامنئي أيضًا. هكذا، تمامًا، تفكر إيران، بمنطق الحرص على البقاء، وبعقلية التاجر الذي يدقق الفواتير والحسابات مرات ومرات، وبدافع الإحساس بالتفوق حتى في ظل الانكسار؛ إيران، وفق حساباتها، لم تُهزم بالنظر إلى معادلات الحرب وأطرافها، وإنما تراجعت خطوات إلى الوراء، فقدت أذرعها وامتداداتها ووزنها السياسي والنووي، أدركت أنها لا تستطيع هضم (اللقمة ) الكبيرة التي ابتلعتها خلال السنوات العشرين المنصرفة. أكيد ستنكفئ على نفسها، وتعيد ترميم قوتها، وربما تبحث عن مسارات سياسية جديدة لمد الجسور مع محيطها ومع العالم. إلى أين تسير المنطقة في المستقبل؟ ثمة تصوران (احتمالان) وجيهان، الأول يعتقد أصحابه أن المستقبل القادم للمنطقة لن يكون (قاتمًا)، لدى هؤلاء إحساس بالتفاؤل المشوب بالحذر؛ إسرائيل لن تستطيع - رغم ما أنجزته - أن تبتلع المنطقة أو تهيمن عليها، وإذا حصل فإنها لن تتمكن من هضمها تمامًا، كما حصل لإيران فيما مضى والآن، القوميات الأصيلة في المنطقة ستبدأ استدارات نحو الذات، وربما تتقارب، الدول العربية لن تستطيع أن تقاوم انفجارات الغضب تجاه إسرائيل، وتجاه غياب أي وزن لها فيما حدث، هذا يضمن تحجيم الاندفاع نحو إسرائيل وكبح نفوذها، المنطقة ستهدأ على وقع مراجعات عميقة، كما حصل، تمامًا، في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. ثمة تصور آخر، مختلف تماما، يرى أصحابه أننا أمام «العصر الإسرائيلي الجديد»، أو ربما العصر (الترامبي)، بكل ما تحمله مواصفات «ترامب» من صفقات ومغامرات، المنطقة ستشهد انفجارات جديدة، التطرف سيطل برأسه بصورة أكثر شراسة، ربما نشهد نسخة جديدة من الربيع العربي لكنها أكثر قسوة، ربما نشهد دويلات جديدة على إيقاع تقسيم مناطق النفوذ وإعادة رسم الخرائط، هذا التصور قد يكون نسخة مما حدث بعد الحرب العالمية الأولى. إلى أي التصورين (الاحتمالين) أميل؟ إلى الاحتمال الأول مع بعض التعديلات؛ المنطقة تعبت من الحروب والصراعات، ثمة بوادر نضج سياسي (ولو أنه ما زال في بداياته) لدى بعض الدول الرئيسة في المنطقة، قد يؤسس لتفاهمات وربما صفقات أو مصالحات على صعيد الإقليم ومع العالم، لا أحد (باستثناء إسرائيل) يريد حروبًا جديدة، السياسة ستتحرك بشكل أكثر تسارعًا على إيقاع الاقتصاد وحساباته، مصلحة الجميع أن يعود الهدوء إلى المنطقة، أكيد ثمة ملفات لا تزال عالقة في سياق مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، لكن حلها ممكن إذا توفر (عقلاء) قادرون على إقناع العالم أن فاتورة أي حرب أو فوضى جديدة ستتوزع على العالم كله، لا على المنطقة فقط.


السوسنة
منذ 2 أيام
- السوسنة
صراع الهويات المميت في الشرق الأوسط
الاشتباك المميت بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبين إسرائيل، الذي يجري أمام العالم اليوم، في جزء منه هو صراع هويات، ولكنه صراع مرير ومكلف في الوقت نفسه. لا أحد يعرف اليوم على وجه اليقين كيف يمكن أن ينتهي هذا الصراع، ولا جذوره في فهم الهوية الوطنية، وطريقة تطبيقها في الدولة الحديثة، هل تبقى في حدود الدولة، أم هي عابرة للدول والحدود؟الدولة المدنية الحديثة ليست دينية بالمعنى الشامل، ولا معادية للدين، بل تضمن حرية المعتقد لكل المذاهب، وتفصل الدين عن المؤسسات السياسية، ولا تفرض مذهباً رسمياً، وتحترم التعددية الدينية.وصل الإنسان إلى ذلك المكان لضرورات جغرافية وسياسية وحياتية، لعل جذورها القديمة هو الصراع الديني المميت في أوروبا في العصور الوسطى، وقد كان صراعاً مذهبيّاً يرغب المذهب الواحد أن يسود على الآخرين، ولكن كل تلك الحروب فشلت في حلّ تلك المسألة، ليتوافق دارسو التاريخ لمبدأين؛ الأول حياد الدولة مذهبياً، والثاني عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان المختلفة، من أجل فرض طريقة تفكير وإيمان خاص، وقد تأكدت الفكرة مع صلح وستفاليا عام 1648، بعد حروب طاحنة. هذا الصلح أنهى ما عرف بالحروب الدينية، وأرسى قاعدة ما عرف بالدولة ذات السيادة في نطاق حدودها الجغرافية.الاستعمار الحديث بعد الحرب العالمية الأولى استخدم التدخلات في شؤون الآخرين ذريعة لفرض السيطرة، وإدخال هذه المجتمعات كما قيل، إلى ساحة الحضارة، إلا أن الحربين العالميتين الضروسين كشفتا فداحة الضرر الذي تسببه محاولة التدخل في شؤون الدول الأخرى، لذلك دخلت المجتمعات في ذلك الوقت في صراعات كارثية، على إثرها تلاشت الإمبراطوريات التقليدية القديمة.سيادة الدولة في القانون الدولي هي مبدأ أساسي، أكّدها ميثاق الأمم المتحدة في المادة اثنين، الفقرة سبعة، وتخضع أيضاً للضرورات الجغرافية، فالدول المتجاورة تربطها مصالح مشتركة، وتدخل بعضها في شؤون بعض يؤدي غالباً إلى التوتر أو المواجهة، من هنا بدأ الحديث عما يسمى بمبدأ حسن الجوار، وهو يقضي باحترام الحدود، وحلّ الخلافات البينية بالحوار، وفق مواثيق إقليمية ودولية محترمة من الجميع.كثير من الدول العربية في التاريخ الحديث امتنعت عن التدخل المباشر في بداية عهدها الاستقلالي، وقد أنشئت الجامعة العربية احتراماً لهذا المبدأ، التعاون دون صراع، إلا أن دولاً في الجوار بسبب الحالة الثورية التي عصفت بالمنطقة العربية، بدأت مطلع خمسينات القرن الماضي، بدأت بتجاوز ذلك المبدأ، وطفقت في التدخل المباشر في شؤون الآخرين، تحت شعارات زاعقة. وبالتالي، حدث تمزق في مجتمعات تلك الدول، التي تمّ التدخل في شؤونها، حدث ذلك أيضاً في أفريقيا بعد الانتهاء من الاستعمار المباشر، ولكن الأفارقة انتبهوا إلى أهمية السيادة للدولة الوطنية، وعدم التدخل في شؤونها، لذلك شكلوا تنظيمات قانونية لحل الخلافات البينية.الغزو العراقي للكويت عام 1990 هو حالة واضحة من التدخل في شؤون الجوار، تحت شعارات مختلفة ولأسباب ملتبسة، ما أفقد العراق في نهاية الأمر شيئاً من استقراره، وأدخله في أزمة طويلة المدى حتى الآن لم يتعافَ منها، وقد وقفت دول الجوار بصرامة ضد ذلك التدخل.فتح باب التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى تحت ذرائع مختلفة، هو أصل الشرور في منطقتنا في التاريخ المعاصر، ولم تكن الجمهورية الإسلامية بعيدة عن السير على ما سارت عليه الدول الثورية، فقامت لأسبابها الخاصة، وتحت شعارات مختلفة، بالتدخل في شؤون الجوار، ما أفقد المنظومة الإقليمية ثقة بعضها ببعض، وفقدت حدّاً أدنى من التآزر الجواري.وقد أدّى فيما أدّى إلى فقدان الشرعية لعدد من البلدان، وإلى حروب داخلية طاحنة، وتعطل الدولة والاضطراب الخطير المشاهد في منطقتنا.تجارب التاريخ تقول لنا إن فتح باب التدخل في الشؤون الداخلية من دولة في الجوار إلى محيطها، غالباً ما يؤدي إلى استنزاف الموارد، وبتكاليف مرتفعة، ويؤسس للحروب، ويسمم العلاقات ويضعف الثقة.جزء من الصراع الدائر اليوم بين الجمهورية الإسلامية في إيران وبين إسرائيل هو تبني الأولى أذرعاً مختلفة في المناطق المحيطة جغرافيّاً بإسرائيل، ما خلق سلسلة من الأزمات وردود الفعل، انتهت بما نشهده من صراع، قد يتفاقم ليفجر المنطقة بأسرها.تلك بذرة الصراع المشاهد اليوم، الذي تطور ويتطور إلى أن يصبح شبه عالمي.كل الجهود المبذولة في التنمية يمكن أن تتبخر في وقت قصير، إن نشب صراع واسع، فقد ثبت تكراراً أن الحروب مكلفة، ولها تبعاتها السلبية الطويلة، وهي أيضاً معدية.آخر الكلام...الحروب تدمر الأرواح، وتخرب الأوطان، وتزرع الكراهية.