logo
عودة الروح في زمن الافتراس

عودة الروح في زمن الافتراس

الشرق الأوسط٠٥-٠٤-٢٠٢٥

في الوقت الذي يتواصل انشغال البال العربي عموماً من الأحوال اللبنانية وجارتها الأحوال السورية ويتواصل السعي من أهل القرار العربي لتسكين الصراعات بأمل أن يستقر لبنان فلا تعود إسرائيل تنغصّ عيش أبنائه، وهي دأبت على ذلك طوال الشهر الفضيل الذي مضى غير عابئة حكومتها بأصول احترام المناسبات الروحية، فترسل الطائرات تحوم في سماء بعض المناطق اللبنانية، ثم تقصف صواريخ كي لا يقال عنها إنها لم تؤد واجب التعرض للصائمين قبل ساعة الإفطار وللمصلين طالبي رحمة رب العالمين وللأطفال النائمين علَّها تلحقهم بأطفال غزة، وتلاحق سيارات أناس في طريقهم إلى منازلهم لتحضير وجبة الإفطار مرفقة بالحمد والشكر لرب العالمين، وتقصف بيوتاً بمَن فيها وعلى النحو المتواصل قصفاً وتدميراً لمنازل في مناطق من غزة.
وفي الوقت الذي ينشط أولو أمر الحكم الجديد في سوريا عربياً وأوروبياً ويصغون بكثير من الاهتمام لما تبديه الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية من بوادر مطمئنة وكفيلة بأن يأخذ السعي لتحقيق استقرار ثابت، وتتكاثر الزيارات والمحادثات عربياً ودولياً ومضمونها عموماً أن تستقر سوريا التي يكفيها ما سبق وعانته وتبدأ جني مواردها النفطية والزراعية التي استأثرت بها «منظمات ثورية جهادية»...
في الوقتيْن المشار إليهما تصدر إشارات مشجعة، من بينها تلك الإشارة اللبنانية التي تفيد بأنَّ لبنان الذي يتباهى بأنَّ الكتاب تأليفاً ونشراً، فيه سمة من سمات رونقه الحضاري الذي يتآكل منذ بضع سنوات، نتيجة الجنوح نحو التحزب والسلاح والولاءات الخارجية؛ الأمر الذي ينعكس تراجعاً ملحوظاً في ظاهرة التأليف والنشر، والذي كان «معرض بيروت الدولي للكتاب» بمثابة المؤشر إلى أهمية هذه الظاهرة التي يتميز بها لبنان. وتحضرنا تذكيراً حول أهمية كيف أنَّ الراحل الدكتور طه حسين خاض حواراً في العمق لدى زيارة قام بها إلى لبنان، مع نظير له في الشأن الفكري الكاتب رئيف الخوري، وذلك بترتيب من جانب مجلة «الآداب» التي أنشأها الدكتور سهيل إدريس، وكانت منبراً ثقافياً مضيئاً ولم تكن ظاهرة «معرض بيروت الدولي للكتاب» بدأت. وعلى هامش ذلك الحوار كانت للدكتور طه حسين تحية للوطن الذي كان منارة في عام 1955 تمثلت بعبارة: «إن شوقي إلى تحية لبنان وما أسداه إليَّ من الخير، ألقى في روعي أن أجيب الأستاذ سهيل إدريس بأني موافق على كل ما يريد ما دامت النتيجة أن أزور لبنان...»، وزاد التحية لاحقاً في مقابلة معه في «الأهرام» أضاء فيها وبإعجاب على الدور الثقافي والصحافي للبنان في مصر وبالذات إنشاء شقيقيْن من عائلة تقلا صحيفة «الأهرام» المتواصلة الصدور يومياً وورقياً بعد مرور قرن على إنشائها. ثم نرى خسوفاً متدرجاً لهذه الظاهرة بفعل تحوُّل لبنان وطناً مستباحاً بنسبة ملحوظة. والآن، وفي حين لبنان الوطن يواصل بالتدرج استرداد عافيته وخصوصيته وطائفه (أي مؤتمر الطائف) الذي كان السراج الذي يعينه على سلامة التعايش والحفاظ على الخصوصية، والنأي عن الصراعات والولاءات الخارجية، يأتي النبأ السار بأن «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» ستُستأنف دوراته التي أوجبت الظروف الأمنية عدم عقدها في عام 2024، ويقيم الدورة السادسة والستين من 15 إلى 25 مايو (أيار) 2025.
وطوال الست والستين سنة أمدَّ لبنان عالمه العربي بالكم النوعي من المؤلفات، لكن في الوقت نفسه كان لظاهرة «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» واستمراريته على مدى ست وستين سنة دور تحفيزي يتمثل في أن بعض الدول العربية استحدثت معارض سنوية للكتاب، حتى أن «معرض الرياض» و«معرض جدة» و«معرض أبوظبي» و«معرض القاهرة» و«معرض بغداد» و«معرض الكويت» بات على سبيل المثال كل منها يشكِّل ظاهرة ثقافية وفكرية... هذا إلى جانب جوائز استحدثها البعض.
لكن، هذه المعارض عموماً تحتاج إلى تطوير، وهذا يتم بالتعاون والتنسيق وبالإكثار من الندوات التي تناقش مستقبل الأمة والحرص على الكتاب الورقي من الغلاف إلى الغلاف؛ وذلك لأن ظاهرة الاستعاضة عن القراءة المألوفة للكتاب بقراءة من خلال أجهزة الهواتف اليدوية المتطورة لا تحقق المبتغى من القراءة، فضلاً عن أن فيها من إضاعة الوقت وإضعاف النظر ما يغني وجوباً عن القراءة... وتلك في أي حال وجهة نظر قابلة للنقاش.
ما يأمله المرء هو ألا يصيب بيروت ما سبق وأصابها من إسرائيل نتنياهو، خصوصاً أن الشهية الإسرائيلية مفتوحة (على نحو التشبيه الشعبي) على افتراس ما يمكن افتراسه وتدمير ما من السهل تدميره، وأن يتوقف الافتراس في غزة رحمةً بالأطفال الذين ينتهون مبتورين... هذا في حال كُتبت لهم النجاة. والأمل المنشود يشمل سوريا التي تجدد نفسها وتحاول إدارتها الجديدة لأمور البلاد والعباد إصلاح ما حفلت به سنوات خلت من المآسي. وهذا مرهون بأن يتوقف الافتراس البنياميني في سوريا كما حاله في غزة ولبنان. والأمل معقود على صحوة أميركية - أوروبية ترى إداراتها وحكوماتها الراهنة بالذات أنَّ العرب عموماً كانوا من خيرة الراغبين في تمتين أواصر العلاقة مع الولايات المتحدة ودول أوروبا. ثم ها هم يرون أنَّ رغبة التمتين تأتي من جهة واحدة بأمل أن ينتهي الافتراس ويصحو العالم على فجر جديد.
إنها مجرد تأملات قلم يحبر على الورق مشاعر كاتب يتمنَّى في مناسبة عيد الفطر عودة الروح بكل معانيها، وأن يسود السلام على الأرض ولا يعود النزف دموعاً ودماءً، وهو الحاصل منذ أن أجاز العالم المتمدن لإسرائيل أن ترتكب افتراساً ما تشاء ارتكابه... ويبرر المبررون لها هذا الافتراس.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

بينما المحافـظ خـارج الـوطـن .. انقطاع شبه كلي للكهرباء يغرق محافظة لحج في ظلام دامس لأكثر من أسبوعين..
بينما المحافـظ خـارج الـوطـن .. انقطاع شبه كلي للكهرباء يغرق محافظة لحج في ظلام دامس لأكثر من أسبوعين..

الأمناء

time١٢-٠٥-٢٠٢٥

  • الأمناء

بينما المحافـظ خـارج الـوطـن .. انقطاع شبه كلي للكهرباء يغرق محافظة لحج في ظلام دامس لأكثر من أسبوعين..

تسجيل قـراءة العدادات المنزلية في ظل انقطاع شبه كلي للكـهرباء يثير سخرية واستهجان المواطنين بلحج مناشدات الأهالي بإدخال الكهـرباء عبر الطاقة الشمسية والـرياح في لحج يعاني المواطنون في محافظة لحج ، وتحديداً في مديريتي الحوطة وتبن من انقطاع كلي لخدمة الكهرباء على مدار الساعة تجاوز الـ " 20 " يوماً , وتشـهد لحج ظلاما دامسا في ظل تواجد المحافظ خارج الوطن لغـرض العلاج، وعدم وجود أي حلول إسعافية غير وصول قاطرة ديزل صرفت من عدن أواخر الأسبوع قبل الماضي لتقسيمها بين محطتي عباس في مديرية الحوطة وبئر ناصر في مديرية تبن، وهي حلـول ترقيعية لا يستفيد منها المواطن نظراً لتشغيل الكهرباء من نص ساعة إلى ساعة فقط خلال الـ " 24 " ساعة، هذا الوضع الكارثي وتحديداً مع دخول فصل الصيف وارتفاع شدة الحرارة أوجـد موجة غضب جماهيري متصاعد بمطالبة الرئاسي والحكومة بضرورة إجراء تغيير عاجل يشمل قيادة المحافظة لعجـزها في وضع الحلول والمعالجة لأزمـــة الكهرباء وبقية الخدمات الأساسية التي تشهد تدهـــوراً كبيراً في المحافظة لأكثر من خمس سنوات عجاف في ظل ممارسة الفساد المالي والإداري والفني في عدد من المـرافق الحكومية بلحج. الأهـرام والعـليان: وتوجد في المديريتين محطتين لتوليد الكهرباء بنظام الطاقة المشتراة، منها محطة التوليد لشركة الأهرام في مدينة الحوطة داخل محطة عباس التحويلية بطاقة توليد 20 ميجا، ومحطة شركة العليان في محطة بئر ناصر بطاقة توليد 10ميجا، ودخول المحطتين في عهد المحافظ التركي، إلّا أن أزمة الكهرباء ما تزال مستمرة نتيجة لزيادة الأحمال وعدم قدرة المحطتين على تغطية العجز في التوليد، إضافة إلى ما يشاع بأن المحطتين لا تولدان طاقة كاملة بل أقل من 20 ميجا في عباس، وأيضاً أقل من10ميجا في بئر ناصر. مشروع الشمسية: وما يزال الأمل قائماً بتنفيذ مشروع الطاقة الشمسية في مديرية تبن بالقرب من محطة كهرباء بئر ناصر بطاقة 30 ميجا ، مع وجود أخبار مسربة بأن هذا الأمل قد تبـخر ولم يعد مشروعاً حيوياً مساعداً في تعزيز التوليد الكهربائي، وإذ يقال إن المشروع يعتبر معاقا لعدم قدرة السلطة بتوفير أرضية لتنفيذه عليها بإريحية تامة من قبل الجهة المكلفة بذلك!. بدون مخصص: وتشـير المعلومات إلى أن محافظة لحج لا يوجد لها مخصص معتمد رسمياً ويومياً من مادة الديزل لمحطات الكهرباء في الحوطة وتبن، وإنما يصرف لها مما زاد من مخصص الوقود لمحطات كهرباء عدن، وأن صح الخبر فهو يؤكد عن تقصير واضح من قبل سلطة لحج لعدم المتابعة وانتزاع مخصص الوقود بأسم لحج من قبل جهات الاختصاص في عدن، على اعتبار أن لحج محافظة مستقلة مالياً وإدارياً وجغرافيا ، وليس مديرية تابعة لعدن حتى يصرف لها الوقود مما يزيد من مخصص وقـود عـدن. احـتقان شعـبي: وتشـهد منصات التواصل الاجتماعي غضباً شعبياً متصاعدا لما تشهده محافظة لحج من وضع مـزري وخصوصاً بقطاع الكهرباء، فهـذا الوضع أوجد حالة من الاحتقان القابل للانفجار بأي لحظة في حال استمرارية انقطاع الكهرباء كليا مع شدة ارتفاع حــرارة الصيف، وكما يقال للصبر حـدود. أمـر مضحك: بينما الكهرباء منقطعة بشكل تام عن محافظة لحج ، وتجاوز الانطفاء لأمثر من أسبوعين، فوجئ أهالي لحج بموظفي الكهرباء وهم ينفذون نزولاً ميدانياً لتسجيل قراءة عدادات منازل المواطنين في الحوطة وتبن، وسخّـر المواطنون من هذا التصرف بوصفه سخيـفاً من قبل إدارة فاشلة في عملها ، وتلهث وراء تحصيل الإيرادات دون اي تحسن في الخدمة. الـرحيل هو الحل: ولا توجـد أي حلول تبشر بإصلاح المنظومة الكهربائية بلحج، كون هذا المشهد من الانقطاعات يتكرر عاماً تلو الآخر حتى بفترة توفر الوقود نتيجة وجود عجز في التوليد في عدة محطات كهربائية، ويرى أبناء لحج أن رحيل شركات الطاقة المشتراة هو الحل لتجفيف منابع الفساد المالي، بشرط أن توفر الدولة الكهرباء عبر الشبكة الوطنية لمحافظة لحج ، وضرورة إدخال توليد كهربائي عبر الطاقة الشمسية أو عبر الرياح لوجود دراسات مجدية من سابق في هذا الاتجاه، ومن جهة أخرى يرى البعض أن على الدولة إتاحة الفرص للقطاع الخاص وعبر ضوابط رسمية في المشاركة بتزويد المواطنين بالكــهرباء في حال عدم مقدرة الدولة على توفير الكهرباء مستقــبلاً. مصنـع الأسمـنت: كما اقترح عدد من أبناء لحج فكرة دراسة تكلفة الطاقة المشتراة خلال فترة شهر من وقود وإيجارات وغيرها، ومقارنة ذلك مع المبلغ الشهري الذي يدفعه أسمنت الوطنية بلحج، فإذا كان إجمالي المبلغ الخاص بالطاقة المشتراة أكبر حجماً من المبلغ الذي يدفعه المصنع، يرى أبناء لحج إسقاط أي ضرائب وغيرها تفرض على المصنع بمقابل إلتزامه بتشغيل الكهرباء لمديريتي الحوطة وتبن دون أي انقطاع. الحلقة الأضعف : ملف الكهرباء شائك في لحج بعد أن وضعت السلطة المحلية يدها على فرع المؤسسة منذُ سنوات، وظهور الفـرع شبه مشلول إدارياً ومالياً وفنياً لوجود نزاع بين السلطة والمؤسسة العامة حول ممارسة حق الصلاحيات القانونية على الفرع، مما زاد من تدهور خدمة الكهرباء في لحج، وإذ يعول على الحكومة الجديدة معالجة هذا الأمر قانونياً كي تتحسن على الأقل خدمة الكهرباء في المحافظة. خروج المواطنين: مع شدة حرارة فصل الصيف واستمرارية انقطاع الكهرباء لم يقدر المواطن بلحج تحمل كل هذا العذاب ، فخرج إلى الشارع كي يعبر عن الاحتجاج الرافض لهذا الوضع من خلال قطع الطرقات وإحراق الإطارات كرسالة إلى السلطات المحلية بلحج والتحالف العربي تطالب بسرعة توفير وقـود محطات الكهرباء بشكل عاجل ومنتظم، إلّا أن البعض وصف هذا الخروج "بكـركـر جمل" كون الأزمة تتكرر بشكل مستمر كل عام دون أي حلول جـذرية، فهل ستشـهد حكومة بن بريك خلال قادم الأيام حلول ومعالجات جذرية لملف الكهرباء لتشغيلها على مدار 24 ساعة دون اي انقطاع ؟، وإذ نرى أن الإجابة على هذا السؤال ستبرز خلال الأيام القادمة من فصل الصيف من قبل عامة المـواطنين بلحـج وعـدن.

شجرة اللغة وحواس أوراقها
شجرة اللغة وحواس أوراقها

الشرق الأوسط

time٢٥-٠٤-٢٠٢٥

  • الشرق الأوسط

شجرة اللغة وحواس أوراقها

اللغة خزان عقول الأمم. فيها تنبت الأفكار وتترعرع، وبها تتنقل بين الناس. اللغة كائن حي فاعل ينمو باستمرار، ويتطور مع مسيرة الحياة. العربية من اللغات التي عاشت، وبقيت حية ورافقت العرب المسلمين في امتداد فتوحاتهم الواسعة، وتعلمتها شعوب كثيرة وصارت لغتها الوطنية. لكن هذه اللغة الغنية التي نزل بها القرآن الكريم لم تسلم عبر القرون الطويلة، من سهام النعرات الشعبوية الداعية إلى هجرها بدواعٍ وتبريرات مختلفة. أصوات ارتفعت تدعو إلى تبني اللهجات المحلية، وهي من مواليد العربية الفصحى. في هذه الأيام تهبّ نعرات مستخدمة تقنية الاتصالات الحديثة، تصف العربية باللغة الاستعمارية، وتدعو إلى هجرها وإحلال اللهجات المحلية بديلاً لها، وتصف دعوتها بمعركة تحرر قومي. الداعون إلى هذه المعركة يعبرون عن دعوتهم بعربية ركيكة، غير قادرة على التعبير عما تنطق به ألسنتهم. وصل القائلون بذلك إلى حدّ المطالبة بترجمة القرآن إلى اللهجات العامية المحلية. النزعات الشعبوية ليست ظاهرة جديدة، فهي فقاعات قلق تظهر في زمن الضعف والاضطراب، وتنفخها أصوات الوهن. لغات كثيرة غاصت في غياهب الماضي، ولم يبقَ منها شيء إلا ما حُفر على الحجارة، أو كُتب على أوراق صفراء يابسة، ألقى عليه الزمن السحيق غباره الكثيف. اللاتينية التي كانت ذات زمن اللغة التي تسود في مساحة واسعة من العالم، لم تعد اليوم لغة حياة في أي بلد من بلدان الدنيا. لغات قديمة أخرى سادت ثم بادت مثل السريانية والآشورية وغيرهما. اللغات مكون أساسي في نسغ كيان الأمم، وكما تكون الأمة يكون لسانها. الحياة تضيف إلى نفسها أفكاراً واختراعات وإبداعاً، بفعل عقول البشر، بكل ما فيها من خير وشر. الشعوب تحفظ كل ما تنجزه في حافظة ذاكرتها، مكتوباً ومنطوقاً، والعربية خزان هائل من العلوم والشعر والتاريخ والفنون والفلسفة، وامتلكت قوة مقاومة فريدة. سنوات طويلة عاشتها شعوب عربية تحت الاستعمار، الإسباني والفرنسي والإيطالي والبريطاني، وعمل المستعمرون كل ما استطاعوا لفرض لغاتهم، واجتثاث العربية، لكنهم رحلوا جميعاً وبقي اللسان العربي راسخاً بقوة في أرضه. شعوب أخرى كثيرة عاشت تحت نير الاستعمار الغربي، لكن لغته بقيت هي لغة تلك الشعوب بعد رحيل الاستعمار. الجزائر حالة فريدة حيث كانت العربية سلاحاً قوياً في مقاومة الاستعمار الفرنسي الذي جثم على البلاد أكثر من مائة سنة. والاستعمار الفرنسي كان يحرص على فرض لغته وثقافته، قدر حرصه على هيمنته على الأرض. التطورات الهائلة والسريعة التي يشهدها العالم اليوم تضع العربية أمام تحديات واختبارات كبيرة. في مجالات تقنية العلوم والهندسة والطب وغيرها، ما زالت العربية لغة تعاني من قصور، بل ضعف في بعض المجالات، وذلك يحتاج إلى جهد كبير من العلماء المختصين في كل مجال، لردم الهوة بين العربية وغيرها من اللغات، وذلك ليس بالأمر المستحيل. العرب يمتلكون العدد والعدة لخوض تحدي الولوج إلى هذا الزمن التقني، فهناك شعوب أقل عدداً وعدة، تمكنت من تأهيل لغاتها لاستيعاب العلوم الحديثة. بالإضافة إلى كل الشعوب الأوروبية، فقد استطاعت الصين واليابان وإسرائيل وفيتنام والكوريتان نقل كل العلوم إلى لغاتها الوطنية، وصارت أداتها في البحث العلمي والصناعة والزراعة والطب، وفي غيرها من المجالات. اللغة شجرة حية تنمو بفروعها وأوراقها، وهي حواسها العاقلة الناطقة. تحتاج إلى الماء والسماد باستمرار. وهي شجرتنا التي نتفيأ ظلها. وكما قال عميد الأدب العربي طه حسين: «اللغة العربية يسر لا عسر، ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها كما أضاف لها الأقدمون». فهذه شجرتنا، وعلينا أن نعتني بها مثلما نحتفي بها. لكل حضارة لغتها، ولا يمكن أن نصنع حضارة تقف وتفعل في مضمار التدافع الإنساني، من دون أن نفتح نوافذ عقولنا على ما أنجزه الآخرون في كل المجالات، في دنيا الاختراع والإبداع الإنساني المتدفق والمتجدد. لدينا اليوم في كل الدول العربية، الآلاف من العلماء الذين درسوا في جامعات الدنيا، وفي كل المجالات، وأتقنوا لغات عديدة، يستطيعون تعريب جميع العلوم، وذلك لا يعني التوقف عن تعلم اللغات الأجنبية في مدارسنا وجامعاتنا، بل يجب التوسع في تعليمها، بما فيها الصينية، التي تمثل نافذة على مستقبل قادم بقوة وبسرعة. العربية هي الرابط الروحي والثقافي والتاريخي، الذي ما زال يجمع كل العرب، وإذا كان هناك من يثير الغبار من حين لآخر، على هذا الحبل المتين، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والقنوات الإعلامية، فإن هذه الوسائل ذاتها، ساهمت في تخليق ما يمكن تسميته لغة عربية ثالثة بسيطة وسهلة، يفهمها جميع العرب.

عودة الروح في زمن الافتراس
عودة الروح في زمن الافتراس

الشرق الأوسط

time٠٥-٠٤-٢٠٢٥

  • الشرق الأوسط

عودة الروح في زمن الافتراس

في الوقت الذي يتواصل انشغال البال العربي عموماً من الأحوال اللبنانية وجارتها الأحوال السورية ويتواصل السعي من أهل القرار العربي لتسكين الصراعات بأمل أن يستقر لبنان فلا تعود إسرائيل تنغصّ عيش أبنائه، وهي دأبت على ذلك طوال الشهر الفضيل الذي مضى غير عابئة حكومتها بأصول احترام المناسبات الروحية، فترسل الطائرات تحوم في سماء بعض المناطق اللبنانية، ثم تقصف صواريخ كي لا يقال عنها إنها لم تؤد واجب التعرض للصائمين قبل ساعة الإفطار وللمصلين طالبي رحمة رب العالمين وللأطفال النائمين علَّها تلحقهم بأطفال غزة، وتلاحق سيارات أناس في طريقهم إلى منازلهم لتحضير وجبة الإفطار مرفقة بالحمد والشكر لرب العالمين، وتقصف بيوتاً بمَن فيها وعلى النحو المتواصل قصفاً وتدميراً لمنازل في مناطق من غزة. وفي الوقت الذي ينشط أولو أمر الحكم الجديد في سوريا عربياً وأوروبياً ويصغون بكثير من الاهتمام لما تبديه الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية من بوادر مطمئنة وكفيلة بأن يأخذ السعي لتحقيق استقرار ثابت، وتتكاثر الزيارات والمحادثات عربياً ودولياً ومضمونها عموماً أن تستقر سوريا التي يكفيها ما سبق وعانته وتبدأ جني مواردها النفطية والزراعية التي استأثرت بها «منظمات ثورية جهادية»... في الوقتيْن المشار إليهما تصدر إشارات مشجعة، من بينها تلك الإشارة اللبنانية التي تفيد بأنَّ لبنان الذي يتباهى بأنَّ الكتاب تأليفاً ونشراً، فيه سمة من سمات رونقه الحضاري الذي يتآكل منذ بضع سنوات، نتيجة الجنوح نحو التحزب والسلاح والولاءات الخارجية؛ الأمر الذي ينعكس تراجعاً ملحوظاً في ظاهرة التأليف والنشر، والذي كان «معرض بيروت الدولي للكتاب» بمثابة المؤشر إلى أهمية هذه الظاهرة التي يتميز بها لبنان. وتحضرنا تذكيراً حول أهمية كيف أنَّ الراحل الدكتور طه حسين خاض حواراً في العمق لدى زيارة قام بها إلى لبنان، مع نظير له في الشأن الفكري الكاتب رئيف الخوري، وذلك بترتيب من جانب مجلة «الآداب» التي أنشأها الدكتور سهيل إدريس، وكانت منبراً ثقافياً مضيئاً ولم تكن ظاهرة «معرض بيروت الدولي للكتاب» بدأت. وعلى هامش ذلك الحوار كانت للدكتور طه حسين تحية للوطن الذي كان منارة في عام 1955 تمثلت بعبارة: «إن شوقي إلى تحية لبنان وما أسداه إليَّ من الخير، ألقى في روعي أن أجيب الأستاذ سهيل إدريس بأني موافق على كل ما يريد ما دامت النتيجة أن أزور لبنان...»، وزاد التحية لاحقاً في مقابلة معه في «الأهرام» أضاء فيها وبإعجاب على الدور الثقافي والصحافي للبنان في مصر وبالذات إنشاء شقيقيْن من عائلة تقلا صحيفة «الأهرام» المتواصلة الصدور يومياً وورقياً بعد مرور قرن على إنشائها. ثم نرى خسوفاً متدرجاً لهذه الظاهرة بفعل تحوُّل لبنان وطناً مستباحاً بنسبة ملحوظة. والآن، وفي حين لبنان الوطن يواصل بالتدرج استرداد عافيته وخصوصيته وطائفه (أي مؤتمر الطائف) الذي كان السراج الذي يعينه على سلامة التعايش والحفاظ على الخصوصية، والنأي عن الصراعات والولاءات الخارجية، يأتي النبأ السار بأن «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» ستُستأنف دوراته التي أوجبت الظروف الأمنية عدم عقدها في عام 2024، ويقيم الدورة السادسة والستين من 15 إلى 25 مايو (أيار) 2025. وطوال الست والستين سنة أمدَّ لبنان عالمه العربي بالكم النوعي من المؤلفات، لكن في الوقت نفسه كان لظاهرة «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» واستمراريته على مدى ست وستين سنة دور تحفيزي يتمثل في أن بعض الدول العربية استحدثت معارض سنوية للكتاب، حتى أن «معرض الرياض» و«معرض جدة» و«معرض أبوظبي» و«معرض القاهرة» و«معرض بغداد» و«معرض الكويت» بات على سبيل المثال كل منها يشكِّل ظاهرة ثقافية وفكرية... هذا إلى جانب جوائز استحدثها البعض. لكن، هذه المعارض عموماً تحتاج إلى تطوير، وهذا يتم بالتعاون والتنسيق وبالإكثار من الندوات التي تناقش مستقبل الأمة والحرص على الكتاب الورقي من الغلاف إلى الغلاف؛ وذلك لأن ظاهرة الاستعاضة عن القراءة المألوفة للكتاب بقراءة من خلال أجهزة الهواتف اليدوية المتطورة لا تحقق المبتغى من القراءة، فضلاً عن أن فيها من إضاعة الوقت وإضعاف النظر ما يغني وجوباً عن القراءة... وتلك في أي حال وجهة نظر قابلة للنقاش. ما يأمله المرء هو ألا يصيب بيروت ما سبق وأصابها من إسرائيل نتنياهو، خصوصاً أن الشهية الإسرائيلية مفتوحة (على نحو التشبيه الشعبي) على افتراس ما يمكن افتراسه وتدمير ما من السهل تدميره، وأن يتوقف الافتراس في غزة رحمةً بالأطفال الذين ينتهون مبتورين... هذا في حال كُتبت لهم النجاة. والأمل المنشود يشمل سوريا التي تجدد نفسها وتحاول إدارتها الجديدة لأمور البلاد والعباد إصلاح ما حفلت به سنوات خلت من المآسي. وهذا مرهون بأن يتوقف الافتراس البنياميني في سوريا كما حاله في غزة ولبنان. والأمل معقود على صحوة أميركية - أوروبية ترى إداراتها وحكوماتها الراهنة بالذات أنَّ العرب عموماً كانوا من خيرة الراغبين في تمتين أواصر العلاقة مع الولايات المتحدة ودول أوروبا. ثم ها هم يرون أنَّ رغبة التمتين تأتي من جهة واحدة بأمل أن ينتهي الافتراس ويصحو العالم على فجر جديد. إنها مجرد تأملات قلم يحبر على الورق مشاعر كاتب يتمنَّى في مناسبة عيد الفطر عودة الروح بكل معانيها، وأن يسود السلام على الأرض ولا يعود النزف دموعاً ودماءً، وهو الحاصل منذ أن أجاز العالم المتمدن لإسرائيل أن ترتكب افتراساً ما تشاء ارتكابه... ويبرر المبررون لها هذا الافتراس.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store