
نحو نظام دولي من غير دول عظمى
تروج، منذ نهاية الحرب الباردة، أواخر القرن الـ20، دعوة إلى إرساء العلاقات الدولية على نظام متعدد الأقطاب، ويحسب أصحاب هذه الدعوة أن العلاقات الدولية لا تستقيم إلا على قاعدة التوازن بين عدد قليل من القوى العظمى الغالبة أو السائدة في مناطق نفوذها. وتناول هذه المسألة نيكولا تانزير، أستاذ فرنسي في العلوم السياسية. وتعرض "اندبندنت عربية" في ما يلي أبرز ما ورد في المقالة المنشورة في صحيفة "لوموند" الفرنسية:
تخالف هذه الفكرة، التوازن بين عدد قليل من القوى العظمى الغالبة في مناطق نفوذها، حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو الحق الذي ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة في 1945، وينص عليه ميثاق باريس في 1990 الذي وقعت عليه، في 1990، 34 دولة، بينها دول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأميركية، وكندا، والاتحاد السوفياتي، ودول أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية. ويقر هذا الميثاق بحق كل شعب في الاستقلال، وفي اختيار تحالفاته.
والدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب تقود، عملياً، إلى إبطال معارضة الصين حين تدعي لنفسها السيادة على هونغ كونغ والتيبت، أو تايوان. وتبطل الطعن في زعم روسيا أن أوكرانيا جزء طبيعي من منطقة نفوذها، وهذه أمور تكرر سماعها في 2014، حين ضمت روسيا، عنوة، القرم. وقيل يومها: الأوكرانيون سلافيون، والسلافيون هم مادة العالم الروسي. وهذا القول لا معنى ولا سند ولا مشروعية تاريخية له. والموضوع هو الحق (أو القانون) الدولي. فإذا أهمل أو أغفل، تهاوى البنيان الحقوقي الذي شيد منذ الحرب العالمية الثانية كله، وترك المجتمع الدولي وعلاقاته من غير دليل ولا معيار.
والحق أن العلاقات الدولية تشهد، منذ بعض الوقت، استراتيجية جديدة تقوم على تحالف الدول الصغيرة والمتوسطة، وعلى دفاعها عن استقلالها. فالقوى العظمى الثلاث، أي الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا، تبدو عليها علامات الضعف على نحو يزداد ظهوراً. وتعاني روسيا، مثلاً، هجرة أدمغة قريبة من النزف منذ 20 عاماً تقريباً. واقتصادها أشبه بهيكل عظمي يفتقر إلى دورة دموية تبث فيه الحيوية وتجدده. والولادات قليلة. والخسائر في الأرواح ثقيلة. وعليه، فالسقوط آت لا محالة.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الولايات المتحدة فمضطرة، منذ أعوام، إلى الانسحاب من انتظامها في شؤون العالم وشجونه. وأضعف انسحابها هذا صدقيتها العالمية على نحو فادح. وتسرع الفوضى المترتبة على قرارات الإدارة الحالية، داخل الولايات وخارجها، ظهور علامات الضعف. وتبدو الصين، في ميزان المقارنة، قطباً متيناً. إلا أن بلداناً كثيرة، تمارس الصين فيها وعليها نفوذها، بدأت تدرك أخطار التبعية للصين. ومن وجه آخر، لم تعد أزمة الاقتصاد الصيني عرضاً عابراً، وإن كانت لا تقارن بأزمة الاقتصادات الأوروبية. وفي الأثناء، يتفاقم تدخل الحزب الشيوعي في الاقتصاد، ويكبح الابتكار، محرك النمو الصيني الأول.
وقد لا يؤدي ضعف القوى العظمى إلى تقوية الأمم الصغيرة والمتوسطة. وهذا ما يراه، ويذهب إليه الباحث السياسي الأميركي إيان بريمر، صاحب مفهوم "مجموعة الصفر"- على غرار "مجموعة العشرين" أو "... السبع". والصفر للدلالة على افتقار الصعيد العالمي إلى قوى بنيانية أو محورية، بعدما خلفت العلاقات الدولية وراءها الاثنينية القطبية، واستقرت على نظام من غير قطب، تسوده الفوضى العارمة. وهذا ليس أمراً محتوماً. والأرجح، عندي، أن العلاقات الدولية مقبلة على نظام يسوده عدد غير محدد من القوى الصغيرة والمتوسطة التي تنسق في ما بينها نفوذها. وتتعهد جمعها وتكتيلها.
وهذه السيرورة هي قيد الحدوث والبلورة. فثمة بلدان تنسب إلى المربع الصيني، شأن اليابان وكوريا الجنوبية، وأستراليا، أو طبعاً تايوان، تحاول التحرر من التبعية. وفي أنحاء أخرى كثيرة من العالم، تتولى بلدان، في أفريقيا وأميركا اللاتينية، رعاية استقلالها وقوتها، والانعتاق من هيمنة جيرانها الأقوياء.
ومنذ اجتياح أوكرانيا، في 2022، ظهرت جلية حصافة الدرس الذي استخلصته بعض البلدان الصغيرة والمتوسطة الأوروبية، مثل بولندا ودول حوض البلطيق وبحر الشمال. ففي ضوء تجربتها التاريخية، أدركت هذه البلدان مقاصد السياسة الروسية ومراميها قبلنا، نحن الأوروبيين. وفي معظم الأحيان، سبقت أوروبا هذه البلدان إلى قيادة الموقف السياسي. وأثبتت جدارتها وقوتها على قدر يفوق حجمها. لذا، تتقدم السيرورة التي أصفها، في الدائرة الأوروبية، مثيلاتها في الدوائر الأخرى.
ودور الاتحاد الأوروبي هو رعاية هذه الديناميات والإسهام في هيكلتها وتقوية عودها. ويسع أوروبا التي لم تكن يوماً إمبراطورية تمارس نفوذاً على منطقة نفوذ مزعومة، أن تكون طليعة هذه الكتلة غير المحددة من البلدان الصغيرة والمتوسطة. والإمبراطوريات الاستعمارية، القديمة أفلت غير مأسوف عليها. ولا تملك أوروبا الركيزة الأيديولوجية التي تتيح لها إنشاء إمبراطورية. والركن الذي تنهض عليه هو الحق (والقانون)، والسعي في فض الخلافات من طريق التحكيم القضائي. مما يسوغ أحياناً تهمتها بالسذاجة، والغفلة عن مقتضيات العمل السياسي.
وقد تكون قضيتها الأولى، اليوم، هي خروجها من هذه السذاجة. وهي قاصرة عن الدفاع عن الحق من غير تملكها موارد القوة والسلطان، وتمكنها من الدفاع عن أمنها، ومن التدخل في أنحاء العالم دفاعاً عن سيادة دول مهددة. وهذا ما أظن أننا اليوم في طور إدراكه، على رغم بطء خطونا في هذا المضمار. والمضي على هذا المسير هو التحدي الكبير الذي يجابه أوروبا المعاصرة.
وحرب أوكرانيا هي اختبارنا الحاسم. فإذا انتصرت أوكرانيا بعوننا، برهنا أننا بددنا أوهامنا وخرجنا منها، وأشهدنا العالم على ذلك. وأما إذا لم نبرهن على حزمنا، ولم نعوض تخلي الولايات المتحدة الأميركية المحتمل عن أوكرانيا، وانتصرت روسيا، خرجت القوى من نمط إمبريالي قوية من الاختبار. ومحا منطق التسلط على دوائر النفوذ، منطق القانون الذي ساد محاكمات نورمبرغ ومقاضاة حرب العدوان، ولربحت جريمة القتل الجماعي السباق أو المباراة (بين الحق والقوة). وخسارة أوكرانيا، في هذا السياق، هي بمثابة كارثة إنسانية، أولاً، ورمزية، ثانياً. وأوكرانيا، على النحو الذي استوت عليه في الأعوام الأخيرة، مثال أمة المستقبل. ونحن قد نخسر هذا المثال، مثال أمة قادرة على رعاية مساكنة بين أقليات شديدة الاختلاف: التتار والمسلمون، والكاثوليك، واليهود، والأرثوذكس... وبين لغات وتواريخ مختلفة. ووجه هذه الأمة إلى المستقبل. وهي لا تقوم على الانتماء العرقي بل على إرادة تحرر مشتركة.
وأنا لا أريد تصوير النموذج الأوكراني في صورة مثالية، فثمة في أوكرانيا نزعات عدوانية ينبغي تخطيها. وينبغي أن يبلغ نقد التاريخ الوطني غايته. ويخشى أن يغلب طلب الثأر على العقول والقلوب غداة المصيبة التي أصابت المجتمع كله.
خلاصة القول أن أوروبا أمام مفترق طرق الإذعان لسلطان روسيا الإمبراطورية أم حمل راية حقوق القوى المتوسطة والصغيرة والاحتكام إلى القانون.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

العربية
منذ ساعة واحدة
- العربية
فيديو.. بدء دخول شاحنات المساعدات لغزة بعد توقف دام لـ3 أشهر
بدأت شاحنات المساعدات دخول قطاع غزة عبر معبر كرم أبو سالم بعد توقف دام لـ 3 شهور. صور مباشرة لدخول شاحنات مساعدات لغزة بعد توقف دام لـ 3 شهور #أخبار_الصباح #قناة_العربية — العربية (@AlArabiya) May 20, 2025 وقال مراسل العربية والحدث إن المساعدات هي مخصصة للأطفال، على أن تليها مساعدات غذائية مختلفة. وكانت إسرائيل ومنظمة الأمم المتحدة أعلنت في وقت سابق أن عددا محدودا من شاحنات المساعدات الإنسانية دخلت إلى غزة للمرة الأولى بعد نحو ثلاثة أشهر من الحصار الإسرائيلي الكامل ومنع دخول الطعام والأدوية وغيرها من الإمدادات. ودخلت خمس شاحنات تحمل مساعدات تشمل طعام أطفال إلى قطاع غزة الذي يبلغ عدد سكانه أكثر من مليوني فلسطيني عبر معبر كرم أبو سالم، وفقا للهيئة المسؤولة عن تنسيق المساعدات إلى غزة بالجيش الإسرائيلي (كوجات). ووصفت الأمم المتحدة دخول المساعدات بأنه " تطور مرحب به" لكنها قالت إن هناك حاجة إلى المزيد من المساعدات لمعالجة الأزمة الإنسانية. وكان خبراء الأمن الغذائي قد حذروا في الأسبوع الماضي من حدوث مجاعة في غزة. وقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في وقت سابق إن قراره استئناف إدخال مساعدات "أساسية" محدودة إلى غزة جاء نتيجة ضغوط من الحلفاء، الذين قالوا إنهم لا يستطيعون دعم الهجوم الإسرائيلي الجديد إذا كانت هناك "صور جوع" تأتي من الأراضي الفلسطينية. وقال وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة الطارئة توم فليتشر إن الشاحنات القليلة هي "قطرة في المحيط" من ما هو مطلوب بشكل عاجل. وأضاف أن أربع شاحنات إضافية من الأمم المتحدة حصلت على تصريح بدخول غزة. وخلال وقف إطلاق النار، كانت 600 شاحنة مساعدات تدخل يوميا إلى غزة. وأضاف فليتشر أنه نظرا للوضع الفوضوي على الأرض، فإن الأمم المتحدة تتوقع أن يتم نهب أو سرقة المساعدات. وحث إسرائيل على فتح معابر متعددة في شمال وجنوب غزة للسماح بتدفق منتظم للمساعدات. وبعد إعلان إسرائيل دخول أولى الشاحنات إلى غزة، أصدرت كل من المملكة المتحدة وفرنسا وكندا بيانا مشتركا شديد اللهجة وصفت فيه المساعدات بأنها "غير كافية تماما". وهددت الدول الثلاث بـ"إجراءات ملموسة" ضد إسرائيل، بما في ذلك فرض عقوبات، بسبب أنشطتها في غزة والضفة الغربية المحتلة، ودعت إسرائيل إلى وقف عملياتها العسكرية الجديدة "المشينة" في غزة. بدوره، أدان نتنياهو البيان المشترك ووصفه بأنه "جائزة كبيرة للهجوم الإبادي على إسرائيل في 7 أكتوبر". وخلال عطلة نهاية الأسبوع، شنت إسرائيل موجة جديدة من العمليات الجوية والبرية في أنحاء غزة، وأمرت الجيش بإخلاء ثاني أكبر مدنها، خان يونس، حيث خلفت عملية عسكرية ضخمة سابقة في إطار الحرب المستمرة منذ 19 شهرا معظم المنطقة في حالة خراب. وتقول إسرائيل إنها تضغط على حركة حماس للإفراج عن الرهائن المتبقين الذين اختطفوا في هجوم 7 أكتوبر 2023 الذي أشعل الحرب. فيما أعلنت حماس أنها ستفرج عنهم فقط مقابل وقف دائم لإطلاق النار وانسحاب إسرائيلي. وكرر نتنياهو الاثنين أن إسرائيل تخطط للسيطرة على كامل قطاع غزة. وأضاف أنه سيشجع ما وصفه بالهجرة الطوعية لمعظم سكان غزة إلى دول أخرى، وهو أمر رفضه الفلسطينيون بشدة.


Independent عربية
منذ 3 ساعات
- Independent عربية
الكرملين: لا قرار بعد في شأن مقر المحادثات المباشرة المقبلة بين روسيا وأوكرانيا
نقلت وكالات أنباء روسية رسمية عن المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف قوله في تصريحات نشرت في وقت مبكر اليوم الثلاثاء إنه لا يمكن تحديد موعد نهائي لإعداد مذكرة بين روسيا وأوكرانيا. وأضاف أن وضع موسكو وكييف نصاً موحداً لمذكرة في شأن عملية سلام ووقف لإطلاق النار سيكون عملية معقدة، مشيراً إلى صعوبة تحديد موعد نهائي لهذه العملية. وقال المتحدث باسم الكرملين "ستتم صياغة المسودات من قبل الجانبين الروسي والأوكراني، وسيتم تبادل مسودات الوثائق هذه، وبعد ذلك ستجرى اتصالات معقدة لوضع نص واحد". وأشار إلى أنه "لا توجد مواعيد نهائية ولا يمكن أن تكون هناك أي مواعيد نهائية. من الواضح أن الجميع يريد القيام بذلك في أسرع وقت ممكن، ولكن بالطبع الشيطان يكمن في التفاصيل". وتابع المتحدث باسم الكرملين قائلاً "لم يتم اتخاذ قرارات محددة في شأن مكان استمرار الاتصالات بين روسيا وأوكرانيا حتى الآن". وأضاف أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي دونالد ترمب ناقشا خلال المكالمة الهاتفية بينهما موضوع استمرار الاتصالات المباشرة بين روسيا وأوكرانيا، بما في ذلك على أعلى المستويات. "متى سننهي هذا الأمر يا فلاديمير؟" من جانبه قال الرئيس الأميركي أمس الإثنين إنه "سيكون من الرائع" أن تجري روسيا وأوكرانيا محادثات لوقف إطلاق النار في الفاتيكان، قائلاً إن ذلك سيضيف أهمية إضافية إلى الإجراءات. وأضاف ترمب أنه قال للرئيس الروسي خلال مكالمته معه "متى سننهي هذا الأمر يا فلاديمير؟". وفي وقت سابق الإثنين قال ترمب إنه أحرز تقدماً خلال مكالمته الهاتفية مع بوتين، وإنه تحدث أيضاً إلى رؤساء عدد من الدول الأوروبية. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وأكد الرئيس الأميركي أن روسيا وأوكرانيا "ستباشران فوراً" محادثات في شأن وقف إطلاق النار بهدف إنهاء الحرب، مشيراً إلى أن موسكو تريد زيادة التجارة مع واشنطن بعد انتهاء الحرب. وكتب ترمب على شبكته للتواصل الاجتماعي "تروث سوشيال"، "سيجري التفاوض على شروط وقف إطلاق النار بين الطرفين، وهو أمر لا مفر منه". وأضاف "لو لم تكن المكالمة ممتازة لكنت أعلنت ذلك الآن، وليس لاحقاً". ومضى في حديثه، "ما دام الفاتيكان ممثلاً في البابا أعلن أنه سيكون مهتماً للغاية باستضافة المفاوضات فلتنطلق إذاً". محادثة استمرت "أكثر من ساعتين" بدوره وصف الرئيس الروسي أمس الإثنين المحادثة الهاتفية التي استمرت "أكثر من ساعتين" مع نظيره الأميركي في شأن النزاع في أوكرانيا بأنها "مفيدة". ووصف بوتين المحادثة في تصريح مقتضب للصحافيين عقب الاتصال بأنها "بناءة وصريحة جداً"، وتابع "بصورة عامة أعتقد أنها كانت مفيدة"، ودعا كييف إلى إيجاد "تسويات ترضي كل الأطراف"، وتابع "المحادثات مع كييف تسير في الاتجاه الصحيح بعد محادثات إسطنبول، كذلك فإن ترمب أقر بأن روسيا تؤيد الحل السلمي للأزمة الأوكرانية، ووقف إطلاق النار مع كييف ممكن بمجرد التوصل إلى اتفاقات". وقال مساعد في الكرملين إن بوتين رحب بنتائج جولة ترمب في الشرق الأوسط، ورحب أيضاً بالتقدم المحرز في المحادثات الأميركية مع إيران في شأن البرنامج النووي، مؤكداً أن موسكو مستعدة للمساعدة. المكالمة الهاتفية بين الرئيسين الأميركي والروسي جاءت بعدما قالت واشنطن إن الطريق مسدود أمام إنهاء أكثر الصراعات دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، وإن الولايات المتحدة قد تنسحب. وأرسل بوتين آلاف القوات إلى أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022 لتندلع أخطر مواجهة بين روسيا والغرب منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. ودعا ترمب مراراً إلى إنهاء "حمام الدم" في أوكرانيا الذي تصوره إدارته على أنه حرب بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا.


Independent عربية
منذ 4 ساعات
- Independent عربية
كيف أضاع الأسد فرصة الحوار مع إدارتي ترمب وبايدن؟
كان لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب برعاية وحضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرياض نقطة انعطاف في العلاقات بين واشنطن ودمشق، إذ حقق الشرع خلال ستة أشهر ما عجز رئيس النظام السابق بشار الأسد عن تحقيقه خلال ربع قرن. يكشف تحقيق لـ"المجلة" استناداً إلى وثائق ومحاضر اجتماعات ولقاءات مع مسؤولين غربيين وإقليميين، أن الفرصة أتيحت أكثر من مرة للأسد كي يرفع مستوى الحوار مع البيت الأبيض خلال الولاية الأولى لترمب بين 2017 و2021 وولاية الرئيس السابق جو بايدن بين 2021 و2025، لكنه فوّت فرصاً عديدة عليه إذ إنه خيب الوسطاء من قادة ومسؤولين عرب وإقليميين، حاولوا فتح نوافذ له قبل سقوطه نهاية العام الماضي. وجرت المحاولة الأخيرة للحوار بين البيت الأبيض ودمشق قبل أيام من هروب الأسد إلى موسكو في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024، إضافة إلى الفشل الآخر في تجاهل وساطة الرئيس فلاديمير بوتين لجمع الأسد مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. مفاوضات زمن ترمب في عام 2017 بدأت إدارة ترمب بإنشاء قنوات تواصل مع النظام السوري لإطلاق سراح الصحافي الأميركي أوستن تايس الذي اختفى في 2012، مع أن ترمب فكر في ربيع 2017 باغتيال الأسد لاستخدامه الكيماوي في خان شيخون بإدلب إلا أن وزير الدفاع آنذااك جيمس ماتيس عارض اغتيال الأسد، فجرى توجيه ضربات أميركية–بريطانية–فرنسية لمواقع استعمال الكيماوي التابعة للنظام. بعد ذلك، وجه ترمب رسالة إلى وزير الخارجية مايك بومبيو لفتح حوار مباشر للإفراج عن الصحافي الأميركي. وكان مدير الأمن العام اللبناني السابق اللواء عباس إبراهيم قال لـ"المجلة" إن السفير روجر كارستنس، مبعوث الرئيس الأميركي لشؤون المختطفين زار بيروت في ربيع 2020 طالباً فتح قناة مع مدير الأمن الوطني علي مملوك لبحث مصير تايس. وذهب إبراهيم والتقى مملوك لإقناعه بالحوار باعتباره ممثلاً لترمب. في هذا اللقاء وضعت دمشق شروط انسحاب القوات الأميركية ورفع العقوبات واستتئناف العلاقات التي تجمدت بعد سحب السفير روبرت فورد في 2012. وفي شهر أغسطس (آب) عام 2020، تواصل مساعد المبعوث الرئاسي الخاص لشؤون الرهائن ستيفن غيلين مع السفير بسام صباغ مندوب سوريا الدائم في الأمم المتحدة وطلب منه ترتيب لقاء بينهما. رفع صباغ الأمر إلى دمشق، فجاءت توجيهات الأسد بأن يجتمع معه، ويستمع إليه "على أن لا يعطيه أي موقف إطلاقاً". في اللقاء، فاجأ غيلين صباغ بأن كارستنس يرغب بترتيب زيارة سرية إلى دمشق واللقاء مع علي مملوك. كان محور اللقاء هو طلب مساعدة الحكومة السورية في تحديد مصير تايس. وفي ضوء اتصالات إبراهيم واقتراح صباغ، زار كارستنس ومساعد الرئيس الأميركي ومدير مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض كاش باتل دمشق في أغسطس 2020 واجتمعا مع مملوك في مكتبه بدمشق. وهذه ليست الزيارة الأولى لمسؤولين أميركيين، فقد سبقتها ثلاث زيارات مشابهة إلى دمشق خلال الأشهر والسنوات الماضية. في هذه الزيارة السرية، شرح المسؤولان الأميركيان أهمية تعاون دمشق مع واشنطن في هذا الملف وكيف سينعكس إيجاباً على بقية الملفات. وقال مسؤول غربي إن المسؤولين الأميركيين قالوا إنه في حال تم الحصول على أي معلومات عن تايس، فإن بومبيو يمكن أن يأتي إلى دمشق، ويعلن مواقف سياسية مهمة منها. وأضاف: "لم تكن بيد مملوك أي حيلة، فالتعليمات التي جاءته من الأسد كانت صارمة: لا نعرف أي شيء عن أوستن تايس وهو ليس بقبضتنا". وأضاف مصدر آخر: "لم يكن مجيء كارستنس وكاش إلى دمشق في ذلك الوقت بالأمر الذي يمكن الاستخفاف به، ولو كان الأسد يمتلك مؤهلات وصفات مناسبة، لكان قد استغل هذه الزيارة لمد الجسور وفتح قنوات التواصل مع إدارة ترمب. ولكنه ضيع هذه الفرصة الاستثنائية وذهبت أدراج الرياح، كما ضيع عشرات الفرص الأخرى فيما بلاده تتردى في مهاوي الكارثة". زمن بايدن وفي 2021، تجددت وساطة إبراهيم بطلب أميركي لمعرفة مصير تايس. وقال إبراهيم: "كان هناك طلب أن يتم تشكيل وفد لزيارة سوريا، إذ كانت السيدة ديبرا تايس، والدة أوستن، تضغط على الإدارة الأميركية لتحريك هذا الملف، وعقدت جلسة مع الرئيس بايدن، وبعد هذه الجلسة وعدها الرئيس وأعطى أمراً أمامها لكل مستشاريه لكي يعملوا بأقصى ما يستطيعون لحل هذا الموضوع". الأمر الذي فاجأ إبراهيم أن "الأسد رفض استقبال الوفد الأميركي". اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) في 2022 تسارع قطار التطبيع العربي مع دمشق وأعيدت إلى الجامعة العربية. ويقول مصدر قريب من دمشق، إن إدارة بايدن، كانت تريد "فتح نوع من التواصل مع النظام، فأولاً، كانت الولايات المتحدة تدرك أن وجود قواتها العسكرية حول حقول النفط والغاز في منطقة الشمال الشرقي لسوريا أمر لا يمكن استمراره من دون أفق مفتوح لإنهاء هذا الوجود، ولكنها ترغب في ضمانات من الطرف السوري بأن انسحاب قواتها من هناك لن يؤدي إلى دخول الحرس الثوري وميليشيات الحشد الشعبي الموالية لإيران إلى تلك المنطقة. وثانياً، كانت الإدارة الأميركية تتعرض لضغوط كبيرة من أسر المفقودين الأميركيين في سوريا للبحث عنهم، والتحقق من مصيرهم، وربما إطلاق سراحهم في صفقة تبادل ما مع النظام السوري، فهي مقتنعة أنهم في قبضته رغم إنكار النظام الدائم لذلك". مر وقت قبل أن تقرر إدارة بايدن أن تعاود التواصل مع دمشق. في عام 2022 أرسل كارستنس معاونه إلى نيويورك ليقابل السفير صباغ. حاول إقناعه بفائدة التعاون في عدة ملفات، رفع صباغ الأمر إلى دمشق، فجاءه التوجيه بـ"عدم التعاون". صباغ الذي كان يريد فتح الأقنية "وجد موقف الأسد غريباً وغير مفهوم" لكنه اكتفى بنقل الرسائل. أما وزير الخارجية فيصل مقداد، فكان "يريد استغلال هذه الفرصة لفتح الأقنية مع بلد في حجم وأهمية الولايات المتحدة. ولكن بشار الأسد ارتأى غير ذلك، وتم صرف النظر عن الموضوع"، حسب تقرير كتب عن التفاصيل. القناة العمانية في أواخر عام 2022 اتصل سلطان عمان هيثم بن طارق، بالأسد وتحدث معه حول رغبة الأميركيين في فتح قناة للحوار، وشرح أهمية "إبقاء باب الحوار مفتوحاً حتى بين الدول المتناحرة سياسياً، ورغم أن عقلية بشار الأسد التي كانت تتسم بالعناد الشديد وضيق الأفق (...) فقد كان من الصعب على الأسد أن يرفض طلباً لسلطان عمان، فوجد نفسه مضطراً للموافقة". أبلغ سلطان عمان الطرف الأميركي بموافقة السوريين على اللقاء معهم سراً في مسقط، واتفق الجانبان عبر الوساطة العمانية على أن يحدد كل جانب النقاط التي يرغب في مناقشتها في جدول الأعمال من دون أن يحق للطرف الآخر الاعتراض عليها. ولم يبق إلا الاتفاق على أعضاء الوفدين. أبلغ الجانب الأميركي العمانيين أن وفدهم سيكون رفيع المستوى، وسيرأسه بريت ماكغورك نائب مستشار الرئيس الأميركي السابق المكلف بشؤون الشرق الأوسط. كما سيضم جوشوا غيلتزر وهو أيضاً يشغل منصب نائب مساعد الرئيس الأميركي السابق لشؤون الأمن القومي، إضافة إلى خمسة أعضاء آخرين من جميع المؤسسات الأميركية، أي وزارة الخارجية، وزارة الدفاع، وزارة الأمن الوطني، وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه). كان من الطبيعي أن يتوقع الأميركيون أن يرسل السوريون وفداً رفيع المستوى، كأن يضم رئيس جهاز الاستخبارات السورية ونائب وزير الخارجية أو مستشار الرئيس أو أحد كبار قادة الجيش. وجاء قرار الأسد بأن يكون الوفد السوري برئاسة السفير عماد مصطفى (الذي عين مديراً للمعهد الدبلوماسي بعد عودته من منصبه كسفير في الصين بعد عمله سفيراً في واشنطن) وعضوية شخصين من الأجهزة الأمنية السورية، هما العميد سامر بريدي والعميد ماجد إبراهيم. يقول مسؤول غربي: "كان الاختيار مفاجئاً لمسقط وواشنطن بكل المقاييس. فلم يكن هناك تكافؤ أو تناسب بين مناصب أعضاء الوفد السوري ومناصب أعضاء الوفد الأميركي الدولة العظمى في العالم". استخفاف بالحوار بحسب وثيقة سورية، فإن المقداد "شعر بالحرج عندما أبلغه الأسد بقراره، فكيف سيشرح للأسد أن هناك عدم حكمة في تشكيلة الوفد السوري، وعندما أبلغ مصطفى بقرار تشكيل الوفد، جاءه رده سريعاً، أنه يفهم العقلية الأميركية جيداً، وبغض النظر عن خبرته وتاريخه الدبلوماسي، فهم سيعتبرون أن إرسال وفد برئاسة مدير المعهد الدبلوماسي، وعضوية عميدين غير معروفين في الأمن السوري، هو تعبير صريح عن الاستخفاف بهذا الحوار، وعدم التعامل معه بجدية". اقترح مصطفى أن يرأس هذا الوفد شخصية أعلى في الموقع الهرمي في القيادة السورية، وأن يدعم المفاوضات والدبلوماسية الدولية ليكون الشخص الثاني في هذا الوفد لتحقيق "الغرض المطلوب من المفاوضات، ويرسل رسالة صحيحة إلى الجانب الأميركي". عندما اقترح المقداد على الأسد ذلك رد الأخير: "الوفد سيكون كما قلت لا تغيير فيه"، حسب شخص معني. عندما أبلغ المقداد الجانب العماني بتشكيلة الوفد، أصيب العمانيون بالدهشة من هذه التشكيلة، ولكنهم اكتفوا بإبلاغ الجانب الأميركي بأسماء الوفد السوري. وقال مسؤول غربي: "لم يسر الجانب الأميركي بتركيبة الوفد السوري، اعتبروا مستوى التمثيل دليلاً على عدم الجدية. فمصطفى لم يكن في موقع عال في الهرم الرسمي للسلطة والمسؤولية، والضابطان الآخران غير معروفين، وربما كانت مهمتهما مراقبة مصطفى والعمل على ضبط إيقاعه، فهو معروف بعدم التزامه الدقيق بالخط الرسمي السوري". أرسل الأميركيون رسالة عبر الجانب العماني بهذا الشأن، هم يريدون أن يكون الوفد السوري برئاسة علي مملوك. وكما هو مألوف في مثل هذه الحالات، ازداد تشبث الأسد بقراره: "نحن لم نتدخل بتشكيلة الوفد الأميركي. لماذا يتدخلون بتشكيلة وفدنا؟". وقال مسؤول غربي: "يبدو أن الأسد كان يعتبر أن المفاوضات تجري بين خصمين متكافئين يتمتعان بالندية. كانت المشكلة دبلوماسية بامتياز: مستوى التمثيل في الوفد السوري لم يكن مكافئاً لمستوى التمثيل في الوفد الأميركي، وسوريا في ميزان القوى ليست نداً للولايات المتحدة". لكن الأميركيين وافقوا على المفاوضات. الموقف التفاوضي أكمل الوفد التفاوضي السوري تجهيز ملفهم التفاوضي، ثم انتظروا أن يستدعيهم الأسد فيعرضوا عليه ملفهم، ويأخذوا منه التعليمات النهائية قبل التوجه إلى مسقط: أين هي خطوط المرونة، وأن يمكن تقديم تنازلات تفاوضية، وما هي الخطوط الحمراء التي لا يجوز التنازل عنها. ولكن هذا الاستدعاء لم يأت. وحسب وثيقة فقبل يومين من موعد السفر، عبر مصطفى عن موقفه للمقداد، قائلاً: "نحن سنسافر بعد يومين ولا نعرف ما هي حدود ولايتنا في المفاوضات". لم يكن المقداد قادراً على تقديم الإجابات، فجميع قرارات السياسة الخارجية كانت محتكرة تماماً من قبل الأسد ولم يكن من النوع الذي يستمع للآراء والنصائح من قبل فريق السياسة الخارجية لديه، بل كان يكتفي عند اللقاء معهم بشرح الواقع الدولي لهم وتزويدهم بالتوجيهات. اكتفى المقداد بنقل طلب مصطفى إلى الأسد. اللقاء-الصدمة مع الأسد قبل يوم من موعد السفر، استدعى الأسد السفير مصطفى منفرداً إلى "قصر الشعب". فيما بعد أبلغ مصطفى زملاءه في الوزارة بأنه فوجئ عندما بدأ الأسد الحديث بقوله: "لا تتخيلوا أنكم ذاهبون للتفاوض مع الأميركيين. كل ما سيطلبونه منكم سترفضونه. نحن فقط وافقنا على المحادثات إرضاء لأخوتنا العمانيين"، حسب قول مصدر. وعندما أجابه مصطفى: "لكن المطلب الأساسي للأميركيين في هذه الجولة على الأقل هو أوستن تايس. لماذا لا يمكننا التعاون معهم في هذه النقطة على الأقل؟". قال الأسد: "أوستن تايس ليس عندنا". أجاب مصطفى: "هذا أفضل، بما أنه كذلك فيمكننا أن نعرض عليهم التعاون لكشف مصيره فنكسب بذلك بعض النقاط التفاوضية. أنا درست ملفه جيداً، وهم لديهم ما يعتقدون أنها أدلة على وجوده عندنا، فيمكننا التداول معهم حول هذه الأدلة لعلنا نصل إلى تعاون مشترك قد يتطور ويفضي إلى أمور أخرى". ختم الأسد حديثه بصورة حازمة: "أمنعكم تماماً من التفاوض مع الجانب الأميركي حول تايس". عاد مصطفى إلى الوزارة فأبلغ المقداد وسوسان بفحوى اللقاء-الصدمة مع الأسد. مفاجأة غير متوقعة استيقظ أعضاء الوفد السوري في وقت مبكر صباح الأربعاء 22 شباط (فبراير) 2023 واجتمعوا في فندقهم في مسقط لمراجعة أخيرة لملفاتهم قبل التوجه إلى مقر الاجتماع. لاحظ مصطفى أن العضوين الآخرين لم يكونا على علم بتوجيهات الأسد. اصطحبت المخابرات العمانية الوفد السوري إلى فيلا فاخرة منعزلة تطل على خليج في بحر عمان. ولدى وصولهم كان الوفد العماني في استقبالهم. جلسوا في غرفة استقبال كبيرة، وبعد تبادل قصير للمجاملات وصل أعضاء الوفد الأميركي. في غرفة الاجتماعات فجر الأميركيون مفاجأة غير متوقعة. قال بريت ماكغورك: "من معرفتنا بكم، نحن ندرك جيداً أنكم لا تقدمون شيئاً من دون مقابل، ولذلك سنتقدم لكم بالعرض التالي. قوات جيشكم النظامي تتمركز على بعد مئات قليلة من الأمتار عن قواتنا الموجودة اليوم في حقلي عمر وكونيكو. نحن مستعدون لسحب قواتنا من هذين الحقلين والسماح لكم باستعادة السيطرة عليهما مقابل أن تتعاونوا معنا في كشف مصير أوستن تايس. طبعاً لدينا شرطان لتحقيق هذا الانسحاب: أولهما أن لا تدخل إلى المنطقة التي ننسحب منها أي قوات غير نظامية، أي إن الحرس الثوري الإيراني وميليشيات الحشد الشعبي لا يمكنها دخول تلك المناطق، وثانيهما هو تحصيل حاصل: لا يجوز أن تستعمل الأراضي التي ننسحب منها منطلقاً لأي هجوم بقذائف الهاون أو الكاتيوشا على قواتنا، وإلا فإننا سنجد أنفسنا مضطرين لإعادة احتلالها مرة أخرى". وأخرج بريدي من حقيبته مجموعة خرائط تبين مواقع وجود القوات الأميركية في سوريا، وبدأ يرسم عليها بالقلم دوائر تبين الأماكن التي يجب عليهم الانسحاب منها. وقال المصدر: "عندما حاول الاقتراب من منطقة التنف أبلغوه بأن التنف خط أحمر، فهي موقع مهم لهم لحماية الدول المجاورة في إشارة إلى إسرائيل، من أي هجمات إرهابية". أخذ الجانب الأميركي تلك الخرائط، واتفق الجانبان على العودة إلى رؤسائهم في واشنطن ودمشق، على أن يعودوا فيلتقوا مرة ثانية بعد ثلاثة أسابيع في مسقط، أي في آذار (مارس) المقبل. خلوة ماكغورك-مصطفى بعد انتهاء الجلسة في الساعة 5:20 دقيقة من بعد ظهر اليوم نفسه، تقدم ماكغورك من مصطفى وطلب إليه أن يختلي معه ليتحدثا على انفراد. قال ماكغورك لمصطفى: "أنا سأغادر مسقط اليوم، وسأتوجه مباشرة إلى تل أبيب. لدي موعد غداً صباحاً مع نتنياهو، ما رأيك في أن أجس نبضه في مسألة عملية استئناف محادثات السلام الإسرائيلية-السورية؟ سيكون لاستئناف هذه المحادثات وقع إيجابي هائل لدى أعضاء الكونغرس والمعارضين داخل الإدارة الأميركية لأي انفتاح أو تقارب مع سوريا". أجاب مصطفى ماكغورك: "أقترح أن نحل مشاكلنا الثنائية أولا قبل البدء بالحديث عن مشاكلنا مع طرف ثالث". أجابه ماكغورك: "ربما كان الحق معك، فإذا تعاونتم معنا في حل قضية أوستن تايس سيؤدي هذا إلى خلق ديناميات جديدة تدفعنا للتفكير في إحياء محادثات السلام بينكم وبين إسرائيل". بعد ذلك طلب ماكغورك من مصطفى أن يتبادلا أرقام الاتصال المباشر باستخدام تطبيق "واتساب". أعطاه رقمه وسجل رقم مصطفى ثم تصافحا وغادر الجميع مكان الاجتماع. بعد عودة الوفد السوري إلى دمشق رفع مصطفى محضر الاجتماع إلى الأسد في عشرين صفحة. وقال مصدر: "غضب الأسد عندما قرأ أن العميد بريدي قد تفاوض مع الأميركيين حول تفاصيل الانسحاب من حقلي عمر وكونيكو، كما انزعج بشدة من عملية تبادل الأرقام بين ماكغورك ومصطفى". أبلغ المقداد مصطفى بأن "الأسد قد أمره بأن يقوم مصطفى بمسح رقم ماكغورك من هاتفه وحذره من أي اتصال مباشر مع ماكغورك". نفذ مصطفى الأمر الموجه إليه وقطع أي اتصال مباشر له مع ماكغورك. بعد ثلاثة أيام من ذلك الاجتماع، أرسل ستيفن غيلين رسالة إلى مندوب سوريا الدائم في نيويورك صباغ يعلمه فيها أن الجانب الأميركي يعتبر أن محادثات مسقط "كانت جيدة جداً ويريد مواصلتها". قام صباغ بإرسال محتوى هذه الرسالة إلى الوزير المقداد الذي رفعها إلى الأسد ما زاد من شكوكه بمصطفى. أبلغ الأسد الوزير المقداد أن المحادثات لم تؤد إلى أي نتيجة وأنه لا داعي لعقد جولة تالية. الاجتماع الثاني ومن جديد، تحدث سطان عمان إلى الأسد الذي وافق مرة ثانية على أن يذهب الوفد نفسه الذي ذهب في المرة الأولى. الأميركيون وافقوا على الاجتماع الثاني. توجه الوفد السوري مرة ثانية إلى مسقط للاجتماع مع الأميركيين يوم 23 مايو 2023. كانوا يدركون أن "رحلتهم لا طائل منها وأن الأسد متعنت بطريقة غير مفهومة، وأن المفاوضات ستكون شكلية وأنها مجرد بادرة لطف إرضاء للعمانيين"، حسب قول أحدهم. تأخر انعقاد الاجتماع الثاني في مسقط 10 ساعات عن موعده المحدد أصلاً. في السابعة مساء التقى الجانبان مرة ثانية. كان ماكغورك هذه المرة أقل كياسة وأكثر مجابهة. بدأ حديثه بأن قال لمصطفى: "لا داعي لأن نخوض في أي تفاصيل طالما أنتم غير موافقين على مناقشة مسألة أوستن تايس". ومرة أخرى تجنب مصطفى الخوض في أي حديث عن تايس. طبعاً كانت هناك عشرات من الأسئلة المحيرة التي تدور في ذهن مصطفى، فهو لم يكن قادراً على تلمس حقيقة اختفاء تايس، الحقيقة القاطعة الوحيدة لديهم كانت أن الأسد يرفض تماماً أي حوار حول مصير تايس. وقال أحد المشاركين: "هل يعقل أن تضيع سوريا فرصة استرداد حقلي العمر وكونيكو بسبب هذا الإصرار العنيد على عدم مناقشة موضوع تايس؟ ربما هناك أشياء أخرى مجهولة ، ولكن هذا ما كان عليه واقع الحال". دام الاجتماع ساعة وعشر دقائق وانتهى بسرعة من دون أي نقاش جدي حول أي موضوع ذي شأن. عزل مملوك انقطعت جميع قنوات الاتصال بين الولايات المتحدة وسوريا بعد فشل الاجتماع الثاني. وظلت سبل التواصل منقطعة حتى كانون الثاني) 2024. في ذلك الشهر أبلغ الأسد المقداد أن الإمارات طلبت توسطاً من الأميركيين، وأنها ألحت كثيراً في رفع مستوى الوفد التفاوضي السوري وإرسال اللواء علي مملوك مع السفير مصطفى وغيرهما من الضباط إلى أبوظبي حيث سيأتي جيك سوليفان مع بريت ماكغورك وجوشوا غيلتزر. أعلم الأسد المقداد أنه قد وافق على عقد اجتماع ثالث من حيث المبدأ، وأنه سيرفع مستوى تمثيل الوفد التفاوضي، ولكن لديه مشكلة واحدة، هي أنه لا يريد إرسال اللواء علي مملوك. لقد بدأ إلحاح الأميركيين في إرسال اللواء مملوك يثير حفيظته، بل وحتى ريبته. أعلم الأسد وزير خارجيته أنه سيرسل وفداً جديداً للتفاوض مع الأميركيين، غير أنه لا داعي لاستعجال الموضوع. ونقل عنه قوله: "المهم أن نبلغ أبوظبي بموافقتنا على الاقتراح، وسنتريث في تحديد الموعد الجديد". في بداية العام قرر الأسد فجأة عزل مملوك من منصبه رئيساً لمكتب الأمن الوطني وتعيينه مستشاراً أمنياً بالقصر. وكان أحد التفسيرات أن السبب هو إصرار الأميركيين على مشاركته في المفاوضات. استئناف الحوار في أيلول (سبتمبر) 2024، تدخلت عمان ثانية لاستئناف الحوار بين واشنطن ودمشق. اللافت، أن الأسد أعفى مملوك من منصبه بشكل مفاجئ وأعطاه أياماً لتسليم مكتبه وأرسله إلى منزله. وقال مصدر: "حتى اليوم لا يعرف مملوك سبب التغير المفاجئ من قبل الأسد تجاهه. هل لهذا علاقة بإلحاح الأميركيين على ترؤسه للوفد السوري؟ أم إن هناك أموراً أخرى لا يعرفها إلا الأسد نفسه؟ هل سبب إخراجه جواز سفر فلسطيني لعائلته من الرئيس محمود عباس علاقة بذلك؟". وتزامن هذا مع انطلاق عملية إسرائيل ضد "حزب الله" التي أسفرت عن اغتيال قادته بمن فيهم زعيم "الحزب" حسن نصرالله. طلب الأسد من المقداد أن يرفع إليه اقتراحاً بتشكيل وفد على مستوى أعلى. تشاور المقداد مع معاونيه ووجدوا أن الاقتراح الأنسب هو أن يتشكل الوفد من نائبه الجديد بسام صباغ وعضوية مصطفى، وأن يتم إبلاغ الجانب الأميركي بذلك. كان دور صباغ صاعداً في الخارجية وكانت هناك توقعات بأنه سيتبوأ قريباً منصب وزير الخارجية وهذا ما حصل بالفعل. رفع المقداد الاقتراح إلى الأسد فوافق عليه. ووجه وزارة الخارجية بأن تتواصل مع الأميركيين عبر الوسطاء طبعاً لتحديد مكان وزمان الاجتماع القادم. في 23 سبتمبر شكل الأسد وزارة جديدة عين فيها صباغ وزيراً للخارجية. وفي 26 نوفمبر (تشرين الثاني) وجه صباغ، وزير الخارجية الجديد، تعليماته إلى مندوب سوريا في الأمم المتحدة السفير قصي الضحاك ليلتقي مع ستيفن غيلين فيتفق معه على مكان وتاريخ الاجتماع المقبل. اتفق غيلين مع السفير الضحاك على اللقاء في مقر البعثة السورية في نيويورك في 2 ديسمبر. وفي 27 نوفمبر أطلقت "إدارة العمليات العسكرية" بقيادة "هيئة تحرير الشام" برئاسة الشرع عملية "ردع العدوان" ودخلت بعد يومين حلب، بالتزامن مع زيارة سرية كان يقوم بها الأسد إلى موسكو لحضور حفل تخرج ابنه حافظ في جامعة روسية. في 2 ديسمبر، لم يأت ستيفن غيلين للاجتماع مع السفير الضحاك، ولم يتصل به لتأجيل الموعد أو إلغائه. وبذلك انتهى الفصل الأخير من قصة الحوار الأميركي مع نظام الأسد. وفي 8 ديسمبر دخلت "إدارة العمليات العسكرية" دمشق العاصمة، وفي 14 أيار (مايو) الحالي التقى ترمب الرئيس السوري الشرع في الرياض، برعاية ووساطة سعودية، معلناً رفع العقوبات عن سوريا واستعادة العلاقات الثنائية.