
خطيب الجامع الأزهر: علينا أن نتعلم من الهجرة النبوية كيف تكون وحدة الأمة لمواجهة تحديات العصر
في رسائل الهجرة النبوية، وذلك لما تحتويه من دروس وعبر غنية تقدم حلولاً للكثير من الأزمات التي تعصف بعالمنا الإسلامي والعربي المعاصر، ففي ظل ما يشهده عالمنا اليوم من انقسامات حادة أدت إلى تشرذم الدول، وحروب وصراعات تفتك بأمن واستقرار المجتمعات، تبرز الحاجة الماسة إلى استلهام حكمة الهجرة، فعلى سبيل المثال: لو تأملنا مجتمع المدينة المنورة قبل الهجرة، لوجدنا أنه لم يكن تلك الأرض الخصبة الجاهزة لانطلاق دعوة الإسلام كما قد يُظن، بل كانت الأرض الأفضل والأقل عنادًا بكثير من مكة، وهذا يشير إلى أن النجاح لا يأتي دائمًا من البيئة المثالية، بل من القدرة على التكيف واختيار الأنسب.
أوضح الدكتور عباس شومان أن تحقيق وحدة المسلمين وانطلاق حضارتهم من المدينة المنورة واجه عقبات عديدة. فغالبية من آمنوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم كانوا من قبيلتي الأوس والخزرج، اللتين كان بينهما خصومات وصراعات دامت لأكثر من مائة وعشرين عامًا، بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك قبائل يهودية تستوطن المدينة وتُحيط بها، وقد أعلنت هذه القبائل رفضها للإسلام وعداءها للمسلمين. ومع قدوم المهاجرين من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصبح النسيج المجتمعي في المدينة متنوعًا ومختلفًا، لذا، كان من الضروري إحداث تجانس واستقرار أمني بين هذه المكونات المتنوعة لكي تنطلق حضارة المسلمين وتزدهر.
وطالب فضيلة الدكتور عباس شومان بضرورة الاقتداء بفعل النبي محمد صلى الله عليه وسلم للخروج من مشاكلنا الكثيرة، فالحق سبحانه وتعالى وفق النبي صلى الله عليه وسلم لتأليف القلوب بين الأوس والخزرج، فصاروا بنعمته إخوانًا، وتحولوا إلى بنيان واحد (الأنصار)، ثم دمج النبي صلى الله عليه وسلم معهم الوافدين الجدد من المهاجرين من مكة، وبهذا توحد المجتمع المسلم في المدينة، موضحًا أن مشكلة اليهود الذين كانوا يحيطون بالمدينة ورفضوا الدخول في الإسلام كانت قائمة، فبوجود هؤلاء، لا يمكن أن تقوم لدولة المسلمين قائمة، لذا، عقد النبي صلى الله عليه وسلم معهم معاهدات سلام لضمان عدم الاعتداء بين الطرفين، التزم النبي صلى الله عليه وسلم بالعهد مع القبائل اليهودية ولم ينقض معاهدة، لكنهم لم يلتزموا بها، فأخرجهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، وبذلك، استقر مجتمع المسلمين في المدينة وتخلص من عدوه القريب، وبقي له عدو بعيد، وهم كفار مكة، الذين خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من بينهم فارّين، ليس خوفًا من أذاهم، بل لأجل دين الإسلام ورسالته.
وبين شومان أننا لو نظرنا في حال الأمة هذه الأيام لوجدنا أن تلك العقبات موجودة بيننا اليوم: فأعداء على الحدود وأعداء من خلف البحار، وانقسامات وخلافات فيما بيننا وصلت إلى حد الاحتراب بين الدول الإسلامية، ورغم أننا نعلم جميعًا الأخطار المحدقة بأوطاننا وبلادنا، ومع ذلك لا يبدو أننا نسعى لتوحيد الكلمة واصطفاف الصفوف، وهذا واجب حتمي، ولو طبقنا هذا الدرس من الهجرة النبوية المشرفة، وأعلنت الدول الإسلامية والعربية أنها متضامنة ومتكاملة، وأن الاعتداء على أي دولة منها هو اعتداء على الجميع، لكان هذا كافيًا لتغيير الكثير مما يدور حولنا". لكنه أعرب عن أسفه بأننا "حتى هذه عجزنا عنها".
وتساءل شومان "أين السوق العربية المشتركة التي نسمع عنها من آنٍ لآخر؟ وأين قوة الردع الإسلامية المشتركة التي نتحدث عنها ثم سرعان ما نصمت؟ أين العملة الموحدة؟ لقد نجح الأعداء في كل ذلك ونحن عجزنا عنه، فمتى نفكر فيه؟ متى نشعر بالخطر؟ متى نستجيب لقول الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، داعيا العرب والمسلمين إلى التكاتف ووضع أيديهم في أيدي بعضهم البعض قبل فوات الأوان، وحثهم على تكوين وحدة عربية حقيقية، وتقديم مصلحة شعوبهم التي هي أولى بخيرات بلادها. "نحن أقوياء، ولكننا نستضعف أنفسنا"، وعلى تربية الأبناء على حب دينهم واتباع تعاليمه، وإعدادهم للإنتاج والعمل، والدفاع عن الأوطان والتضحية بأرواحهم فداءً لها إذا اقتضى الأمر، واختتم حديثه بالتأكيد على أن "مصرنا باقية، وإذا نال الأعداء منها فلا بقاء للعرب ولا للمسلمين، لكنها باقية بإذن الله، ستبقى قاهرة وحامية ما بقيت الدنيا بإذن الله"
وفي ختام الخطبة حذر خطيب الجامع الأزهر الشعوب العربية والإسلامية في هذه الأوقات العصيبة، التي تُحيط بها المخاطر من كل جانب، من التخاذل عن الاصطفاف وتوحيد الكلمة، واتخاذ كافة الاستعدادات لما قد يجد من أمور، وأكد أنه يجب على مواطني كل دولة أن يكونوا صفًا واحدًا خلف قياداتهم، يأتمرون بأمرها إذا ما دب الخطر، كما شدد على أهمية تربية الأبناء على الدين والتقوى، والعزة والكرامة، والاعتماد على النفس وقوة الذات، لا قوة الآخرين.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


بوابة الأهرام
منذ ساعة واحدة
- بوابة الأهرام
السياق الهجين..والذوات الهجينة
قد يقودنا الحديث عن هذه العلاقة الجدلية بين تشكيل السياق وتشكيل الذوات الفاعلة فيه إلى أن نتأمل طبيعة السياقات التى يتشكل بها العمران البشرى العربي، وطبيعة الذات التى يفرزها. لقد انتقل العمران البشرى العربى من حياته التقليدية إلى حياته الحديثة، عبر تطور طويل، بدأ بالاحتكاك بالثقافة الغربية عبر الموجات الاستعمارية؛ ثم عبر النخب السياسية والاجتماعية التى تشكلت فى رحم الوجود الاستعمارى (على اختلاف بين الدول العربية فى طبيعة تشكل هذه النخب وأنماطها المختلفة)؛ وعبر النخب التى تشكلت فيما بعد الاستعمار والتى طورت أشكالا لنظم الحكم ونظم الحياة الحديثة، فى ضوء رؤى سياسية اختلفت من بلد عربى لآخر. وانتهى الأمر فى النهاية إلى أن ينخرط العمران البشرى العربى فى النظم الحديثة المعولمة انخراطا كبيرا، وأن يدخل فى آتون نظم الاستهلاك والاتصال التى تفرضها هذه النظم المعولمة. ولقد كان من خصائص التشكل التاريخى لسياقات العمران البشرى الحديث فى المجتمعات العربية أنه لم يتطور على جذر داخلى بقدر ما تطور على أشكال من الاستعارة الانتقائية والتحديث القسري، وعدم الانتظام فى التطور التاريخى والتراكم الثقافى عبر الزمن (وذلك من خلال الانتقال من نظم سياسية إلى نظم أخرى مختلفة فى المقاصد كما حدث فى كثير من البلاد العربية). ولم يحدث أن انقطع التطور التاريخى الحديث عن المنظومات التقليدية القديمة، بل حدث أنه أبقى على الجوانب الصلبة منها، مثل النظم الأبويةوالذكوريةوالقبلية، والخطاب الدينى التقليدى الخائف دوما من التجديد والاجتهاد، والمهاجرإلى الماضى السلفي، والناقدللأسس العقلانية والمنطقية التى يلوذ بها العقل الحديث. وفى الوقت الذى لم ينفصل فيه التطور التاريخى عن تاريخه التقليدى الصلب، لم يستعر من المنظومات الحديثة إلا بعض هياكل سياسية وأساليب حياة تطمح إلى الزهو بالاستهلاك المظهرى والتفاخر برموز التميز. لم يستوعب العمران الحديث البذور العقلانية والأطر الأخلاقية والوجدانية المبثوثة فى جسد المنظومات التقليدية ولم يبن عليها قط، كما لم يستوعب البذور العقلانية والأخلاقية والوجدانية المبثوثة فى المنظومات الفكرية الحديثة؛ فجاء التطور فى صورة تزاوج هجين يعيد إنتاج عناصر من هنا وهناك، فتكون النتيجة عمرانا هجينا، يصبو إلى شموخ التقدم الحديث دون أن يدرك جواهره الدفينة، ويزهو بصلابة التقاليد وشموخها دون أن يدرك جواهرها الدفينة. وإذا ما أدرك هذا وذاك ففى منظومات الكلام (الذى يثبت بالكتابة أحيانا) يكون الإدراك المبالغ فيه والزهو وتجاوز الواقع المعيش. وليس المشهد على هذه الدرجة من البساطة بطبيعة الحال، فثمة تعارضات وتناقضات، وتفاعلات تتضافر لتعيد إنتاج العمران الهجين، وهى تحتاج إلى مزيد من الشرح الذى قد لا يستوعبه هذا المقال. ماذا عسى أن ينتج هذا العمران البشرى الهجين؟ لقد تحدث الدكتور مصطفى حجازى «1936 - 2024» رحمة الله عليه عن الإنسان المقهور وعن الإنسان المهدور، وتحدثت من زمن فى كتاب تناقضات الحداثة عن الإنسان المبتور؛ كما يلاحظ المراقب للخطابات العامة أن أصابع الاتهام تتجه دائما إلى هذا الإنسان القابع فى هذا العمران. وأيا كانت الصفات التى نضفيها على هذا الإنسان، فإننا لا نلومه ولا يتطرق إلى الذهن أنه جُبل على ذلك، فهو فى النهاية يتشكل فى كنف هذا العمران، فيأخذ سمته من سمت العمران، ويستمد طموحاته وأهدافه العليا بالطريقة التى يعلمه بها هذا العمران. وأحسب أن لفظ «الذات الهجينة» الذى نضفيه فى هذا الحديث هو أنسب الألفاظ الدالة على طبيعة الذات الحديثة التى يتشكل مبتدؤها وخبرها فى هذه المنظومة المركبة من العمران العربى الحديث. ولنحاول أن نقارب بنظرة أكثر فحصا بعض الأبعاد التكوينية فى هذه الذات، وطبيعة المسارات التى تسلكها. يفترض فى الذات الهجينة أنها تحمل فى تكوينها النفسى والعقلى عناصر مختلفة مستمدة من مصادر تقليدية وأخرى حديثة، أو من تفسيرات وتأويلات لأى منهما. تتفاعل هذه المصادر مجتمعة داخل بناء العقل والنفس والوجدان، فتتأسس لبنات الذات الهجينة، التى تأخذ من كل بستان زهرة، وتفقد القدرة على تطوير رؤية للعام مؤسسة على الاتساق والتكامل. ويؤدى هذا التكوين إلى أن تصبح الذات محملة بخصائص مستمدة بالأساس من هذه الهجينية المتأصلة عبر مسيرة طويلة من التنشئة الاجتماعية وبناء الأطر الصلبة للعقل. قد نفترض وجود خصائص أربعة تصطبغ بها الذات الهجينة. الأولي: هى هذا القلق الدائم على الماضى الضائع والمستقبل غير المعروف. لا تمكن الهجينية من أن تجعل الفاعل قادرا على أن يميز لنفسه موقفا ينزعه من هذا التشتت بين الماضى والحاضر، وهذا الانقسام والتلفت. والثانية ترتبط بالميل نحو التفكير الثنائى الذى يوازن بشكل حاد بين الأضداد، فيبعد عن الدخول إلى دائرة التنوع والتعدد؛ وما يتعلق بذلك من إمكانية تكوين ميول عدائية نحو الآخر المختلف، وما يتعلق به أيضا من الظهور فى العالم المفتوح بمظهر يختلف كثيرا عن عالم الإقامة والكَّن. والثالثة ترتبط بالميل نحو عدم الرضا وعدم البوح والانشغال بنقد الآخرين أو نبذهم دون سبب. يكون الامتعاض هنا هو سيد الموقف، وهو ينشئ زادا متراكما من ملاحم الكلام التى تتحول فى حياة الناس إلى أرصدة ثقافية تغنيهم عن نقص وجودهم وقلقه. والرابعة ترتبط بالميل نحو بناء تاريخ للاستقلال عن الكيان الكلى الضابط للمجتمع، مع عدم الامتناع عن الاستفادة والغّل منه بشتى الطرق والعمل على بناء تراكمات جديدة عبر الدخول فى أدوار هجينة تبعد الإنسان عن مهنته الرئيسية، ولكنها تحقق له حياة هجينة تتماثل مع التركيب الهجين للنفس البشرية. وقد أكون بالغت فى الحديث عن خصائص الذات الهجينة، ولكنى أعتقد أن هذا الحديث ضرورى لكى ننظر إلى أنفسنا بعمق، وأن نتأمل عمليات انقطاع الإبداع والابتكار، وعدم ظهوره إلا فى النزر اليسير. أنظر إلى كل من كُتب له إبداع تاريخى فى حياتنا وتاريخنا، سوف تجده شخصيا تخلص من هذه الهجينية، وخلص بنفسه نجيا بعيدا عن ضجيجها، وأسس لنفسه انسجاما وتوازنا مع مجموعة من المبادئ المختلفة الواضحة، وعمل عليها فبلغ ما بلغ من رفعة وسمو.


بوابة الأهرام
منذ ساعة واحدة
- بوابة الأهرام
بشفافية مصر والأمن القومى العربى
نسأل الله عز وجل أن يبارك جهود مصر لحماية الأمن القومى العربى .. وهى مهمة شاقة خاصة فى ظل ما تتعرض له أوطاننا من مؤامرات لإعادة رسم خرائطها، مستفيدة من الظرف الاستثنائى الذى يتعرض له بعض أقطارنا العربية التى تواجه مطرقة المعارضة المسلحة وسندان المؤامرات الخارجية. هذه المؤامرات لم تنجح طالما تذكر العرب أنهم خير أمة أخرجت للناس كما يقول الله تعالي» كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» وأيضا طالما تمسكنا بقوله تعالى «واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا». والسؤال هل العرب يدركون هذا الخطر وأهمية العمل بما أمر به الخالق عز وجل. وفى عالم يعاد تشكيل مناطق نفوذه، أما آن للغرب الأوروبى الفكاك من هذا العشق بأمريكا؟ وألم يحن الوقت للصين وروسيا والدول الصاعدة كالهند والبرازيل أن يظهر منها منافس حقيقى للنفوذ الأمريكى يعيد للعالم مساره نحو السلام والتنمية والعدالة. ان مصر تعى ما يهدد أمنها القومى كما تدرك ابعاد المؤامرات التى تحاك من أهل الشر، ولدى القاهرة قدرة التعامل مع تلك التهديدات سواء شرقا عبر محاولات تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأمن القومى المصرى والأردني، أو غربا عبر ليبيا التى لا تزال تشهد فتنة تهدد وحدتها أو جنوبا عبر السودان الذى يخوض معركة الصمود.. ولعل لقاءات الرئيس عبدالفتاح السيسى مؤخرا زعيمى ليبيا المشير خليفة حفتر والسودان الفريق عبدالفتاح البرهان تعكس الجهد الكبير لمصر لإطفاء حرائق الأمة العربية.. حفظ الله مصر وجيشها وشعبها العظيم.


بوابة الأهرام
منذ ساعة واحدة
- بوابة الأهرام
العصف بحرية الرأى.. فى معركة د. الهلالى
صدر القانون رقم 93عام 1995، ورأى المواطنون ـ وفى مقدمتهم الصحفيون ـ أنه ينال من حرية الرأي، ويخنق الكلمة، ويضع الأسوار حول الكتاب وأصحاب الرأي، وتعالت الأصوات الرافضة وتحول الكتاب والصحفيون إلى كتلة واحدة لمواجهة هذا القانون، وتطلع الجميع إلى إبراهيم نافع نقيب الصحفيين ورئيس تحرير الأهرام أهم أذرعة السلطة الإعلامية، وتساءلت الأغلبية ـ أى موقف سيتخذ، وهو القريب جدا من رئيس الجمهورية. وكان الرجل أمام مسئولية تاريخية تتعلق بالدفاع عن حرية الرأي، وكانت الخطوة الأولي، دعوة الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين إلى اجتماع غير عادي، وخلال هذا الاجتماع عبر الجميع عن موقفهم الموحد ضد القانون، وطالبوا بإسقاطه والعمل على إصدار قانون جديد، وقبل أن ينتهى الاجتماع قرر النقيب اعتصام الصحفيين بنقابتهم، وأن هذا الاعتصام مستمر حتى يتم إلغاء القانون. خطوة رئيسية وحاسمة، أقدم عليها رجل السلطة الذى اختار الوقوف بجانب حرية الرأي، ولكنه وفى الوقت نفسه حول الموقف من أزمة إلى أسلوب إدارة الأزمة، بأن طرح مشروع قانون جديدا ليبدأ به حوارا مع السلطة. واستمر الاعتصام، واستمر إبراهيم نافع فى إدارة الأزمة إلى أن تمكنت الجماعة الصحفية، ومن خلفها الرأى العام من إسقاط القانون، وإصدار قانون جديد يحترم حرية الرأي، ويخرج الكلمة من الأسر. والآن، فإن حرية الرأى تتعرض لموجة من النشوة يقودها الانفعال وسلاحها الكلمات المدببة القاسية، وبطل هذا الصدام الجديد مع حرية الرأى الدكتور سعد الدين الهلالى أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، والذى يعد حاليا من مقدمة حركة الاستنارة والتجديد، وكما هو معروف، فإن السلطة والنخبة، ومن خلفهما جموع هائلة من المواطنين تطالب بتجديد الخطاب الديني، وبما يتلاءم مع تطور الحياة المعاصرة. وقد أعلن الدكتور الهلالى رأيا حول المساواة فى أنصبة الميراث بين الابن والابنة، إذا ما تم التراضى على ذلك، وهو أمر سبق أن طبقته دول إسلامية فى مقدمتها تركيا وتونس، أى أن هذا الرأى لم يطرح لأول مرة، بل سبق أن طرحه علماء لهم مكانتهم فى دولهم وخارج هذه الدول، وجاء رد الفعل غاضبا ومتشددا وقاسيا، فقد اتهم فكر الرجل بالانحراف والافتئات على الشرع، والشذوذ وتكفيري. ورفع من أصدروا هذا البيان راية أنه لا اجتهاد مع النص. وهنا نقول لهم إن ما تقولونه يصطدم بالواقع والتاريخ، فقد أقدم عمر بن الخطاب خليفة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمير المؤمنين رضى الله عنه على إلغاء حد السرقة فى عام الرمادة (المجاعة)، كما طالب يإيقاف سهم المؤلفة قلوبهم، وهو ما نص عليه القرآن الكريم. ومن أصدروا البيان يعلمون بالقطع هذه الحقيقة، ولكنهم تناسوها عمدا لاستخدام الشعار والراية ضد الرأى الذى أبداه الدكتور الهلالى، وهذا الجور على حرية الرأى أمر مرفوض، وقد أعلنت قوى مصرية كثيرة رأيها حول ذلك دفاعا عن حرية الرأى. إن ما قاله الدكتور الهلالى رأي، وكان يمكن لمن أصدروا البيان أن يردوا عليه بإبداء رأيهم، وهكذا يكون الحوار، وتاريخنا الإسلامى شاهد على الحوار العميق والشامل والمستمر الذى كان يدور بين المجتهدين والفقهاء، وعلى رأسهم الأئمة الأربعة، ومن تبعهم من مجتهدين، وكل هذه الاجتهادات تمثل ثروة فقهية عظيمة، وهم بالرغم مما بينهم من اختلاف، لم يحدث أن تنابزوا أو عصفوا بالرأى الآخر. والآن فإن العصف بالرأى الآخر لا يمكن القبول به دفاعا عن حرية الرأي، ولكننا نتطلع إلى من يعيدون لحرية الرأى ما هى جديرة به من احترام.