logo
أحمد خالد البدلي.. أول سعودي يتخصص في الفارسية وآدابها

أحمد خالد البدلي.. أول سعودي يتخصص في الفارسية وآدابها

البيان٠٤-٠٥-٢٠٢٥

تنتمي اللغة الفارسية إلى عائلة اللغات الهندو ـ أوروبية، بينما تنتمي العربية إلى عائلة اللغات السامية، وعلى الرغم من ذلك فإن الفارسية هي أقرب اللغات إلى العربية لوجود مشتركات كثيرة بينهما، من أبرزها تشابه أبجديتهما، ناهيك عن استعارة كل منهما من الآخر آلاف المفردات المستخدمة في اللغة الفصحى أو اللهجات اليومية الدارجة، والتي يرجع أسبابها إلى روابط الشعبين الدينية المشتركة، واحتكاكهما ببعضهما البعض عبر القرون.
غير أن الفارسية وآدابها، على الرغم مما سبق، لم تحظ بالاهتمام الكافي من جانب الجامعات والمراكز العلمية العربية إلا لماماً، على عكس العصور الإسلامية الزاهية، حينما كان الخلفاء المسلمون يشجعون على دراستها وترجمة جواهر آدابها وعلومها إلى العربية.
وفي البلاد العربية، التي دشنت مراكز لتعليم الفارسية ضمن كليات جامعاتها، سرعان ما تمّ إغلاقها أو تقليصها بحجة قلة المقبلين على دراسة الفارسية كلغة أجنبية، وهذا ربما كان سببه محدودية مجال العثور على عمل مناسب للمتخصص فيها، ناهيك عن أسباب سياسية ودينية أخرى.
ومناسبة الحديث عن هذا الموضوع، هو مرور تسعة أعوام على رحيل الأديب والأكاديمي والإعلامي الأستاذ الدكتور أحمد خالد حامد البدلي (توفي بتاريخ 26 نوفمبر2016)، الذي يعد قامة علمية ومعرفية كبيرة، وأول منْ تخصص أكاديمياً في اللغة الفارسية من السعوديين، ونال شهادة الدكتوراه في آدابها، ودرّسها لطلبة جامعة الملك سعود.
ولد البدلي في مكة المكرمة، ابناً لعائلة فقيرة بائسة سكنت الحجاز منذ عام 1882، من بعد نزوحها إلى مكة من بوركينا فاسو هرباً من طغيان المستعمر الأوروبي، وطلباً للأمن والأمان بجوار الحرم الشريف، وهو ما يذكره صاحبنا بفخر ودون حرج.
كان ميلاده في عام 1935 بحي «الطندباوي»، وهو أحد أحياء مكة العشوائية البائسة التي كانت وقتذاك مكونة من العشش والأكواخ، وتكثر فيها الحرائق والضجيج والفوضى وشقاوة الصبية والأطفال. ويتذكر البدلي، في حواره مع بدر الغانمي المنشور في صحيفة عكاظ (18/7/2009) أنه كان يلعب مختلف الألعاب الشعبية مع أقرانه، وهو طفل، في براحة «يسلم بافرج»، وكان رفاقه يسمونه «الكبش» ويسخرون من لونه الداكن، ويطالبونه بأداء حركات التيوس.
نشأ البدلي في كنف جده «سمبودودو» يتيماً، بعد أن فقد والده، الذي كان يعمل في ورشة بسوق المعلاة في سبك الأمهار وبيعها من خلال دكان شخص آخر. وصادف رحيل والده اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939، وتأزم الأوضاع المعيشية، وتدهور الأعمال والمصالح. ويتذكر البدلي في هذا السياق أنه عمل، وهو صبي، في ورشة والده كمبرد أمهار ونافخ كير، وأنه، في زمن الحرب وصرف المواد التموينية من دقيق وسكر وخبز بالبطاقات، كان مكلفاً بإحضارها من مصادرها إلى بيت العائلة، وأن والدته توفيت بعد عام من رحيل والده، دون أن يخبره أهله بذلك إلا بعد أيام، فحزن كثيراً ووجد نفسه تائهاً، وقرر الانتقام من أهله بالهرب من بيت جده، فظل لأيام طويلة متسكعاً في الأزقة، وينام في الجوامع ويذهب خلسة إلى بيت جده لرؤية شقيقاته الثلاث، إلى أن اصطاده جده وعاقبه بربطه إلى شجرة في البيت وراح يوسعه ضرباً بجريد النخل.
هذا الطفل اليتيم المشاغب، سوف يكبر، ويقرر جده الفقير غير المقتدر على مصاريفه ومصاريف شقيقاته إلحاقه بدار الأيتام بمكة كي يدرس المرحلة الابتدائية وكي يحميه من الصعلكة والانحراف. ويبدو أن البدلي وجد في دار الأيتام ما يسره من الطعام الطيب والملبس النظيف والمرقد المريح والأنشطة الرياضية المتنوعة، ما جعله يواصل دراسته بجد واجتهاد دون تذمر من نظام الدار الصارم لجهة الصحة والنظافة ومواعيد النوم والاستيقاظ وطاعة المدرسين الذين كان أغلبهم من مجاوري الحرم من جاوة ومصر والهند والمغرب. فطلبة الدار كانوا وقتذاك موضع حسد وغبطة الكثيرين لما كان فيها من مزايا معيشية وترفيهية على حد قوله.
وهكذا حصل صاحبنا على الشهادة الابتدائية سنة 1950، وأتبعها بالشهادة الثانوية من المعهد العلمي السعودي بمكة في 1953. وأخبرنا البدلي عن دراسته في هذا المعهد فقال إنه بالتزامن كان مواظباً على حضور دروس الشيخ حسن المشاط في الحرم الملكي، حيث درس على يديه ألفية ابن مالك وغيرها. كما أخبرنا أنه، وهو طالب في المعهد، عمل مذيعاً في الإذاعة السعودية، قائلاً: «أتذكر أنني كنت في السنة الثالثة ألقي محاضرة بعنوان «ثوان مع هنري ديكارت» في إحدى المسامرات، وكانت تلك المحاضرة الجريئة عن الفيلسوف الفرنسي سبباً في أن طلب مني المرحوم الشاعر طاهر عبدالرحمن زمخشري أن التحق بالإذاعة السعودية في القلعة، فقبلت العرض شاكراً، وقد أحسست بشيء من الغرور الخفي، وما هي إلا أيام حتى طلبني المرحوم حامد دمنهوري المشرف على الإذاعة آنذاك في مكتبه لإجراء مقابلة شخصية. وبعد المقابلة أرسلني إلى المرحوم بكر بوقس لإجراء الامتحان اللازم لمعرفة مدى صلاحية صوتي للإلقاء الإذاعي، ومدى قدرتي على الاشتراك في البث المباشر الحي، وقد نجحت ولله الحمد في الامتحان وعينت مذيعاً وكان ذلك سنة 1374 هـ (1953)».
أهله تخرجه من المعهد العلمي بتفوق، الحصول على بعثة دراسية إلى مصر على نفقة الدولة، حيث كان ترتيبه السادس على زملائه الطلبة، فالتحق في مصر بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، والتي تخرج فيها سنة 1959، بتقدير جيد جداً. ومما لا شك فيه أن إقامته ودراسته في مصر في الخمسينات كان لهما تأثير كبير على وعيه الثقافي، حيث نجده يقول إنه استمتع واستفاد كثيراً من محاضرات يوم الأربعاء بكلية آداب القاهرة التي كان يلقيها الدكتور طه حسين أكثر من استمتاعه بحفلات السيدة أم كلثوم الشهرية، مضيفاً أنه يدين بالكثير للمربي محمد عبدالصمد فدا، الذي درسه في المعهد العلمي قبل سفره إلى القاهرة، لأنه هو الذي فتح عينيه على كنوز الأدب المصري وعمالقته، وشجعه على قراءة كتب مثل «حياتي» للدكتور أحمد أمين، و«الأيام» لطه حسين، و«حياة محمد» لمحمد حسين هيكل، وأوصاه بمتابعة أعداد مجلة الرسالة المصرية التي كان يحررها أحمد حسن الزيات، وضرورة القراءة الحرة خارج الفصول الدراسية.
ومن جانب آخر أخبرنا الرجل في حواره مع صحيفة عكاظ (المصدر السابق) عن الفارق بين الطلبة السعوديين وزملائهم المصريين في آداب القاهرة فقال ما مفاده، إنهم كطلبة سعوديين كانوا يشعرون بشيء من التفوق على زملائهم المصريين فيما يتعلق بالدراسات النحوية والبلاغية والدينية، بينما كان المصريون يتفوقون عليهم في الدراسات النقدية والاجتماعية والتاريخية، علاوة على الإنجليزية، التي لم يتعلموا منها سوى النذر اليسير في المعهد العلمي على يد معلم مصري، لذا فإنهم اضطروا لأخذ دروس خصوصية على يد أحد الأساتذة من العاملين في المعهد الثقافي البريطاني بالقاهرة.
عاد البدلي إلى وطنه مكللاً بشهادة ليسانس الآداب، فتمّ تعيينه في عام 1960 معيداً بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة الملك سعود. وفي العام التالي أرسل في بعثة دراسية إلى لندن لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه في اللغة الفارسية وآدابها من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (ساواس Soas) التابعة لجامعة لندن. عن أسباب تخصصه في اللغة الفارسية، يقول البدلي إنه كان يسمعها على ألسنة الحجاج الإيرانيين، زمن عمله مطوفاً للحجيج بمكة، فيطرب لها، مضيفاً: «وجدت في لغتهم جرساً خاصاً في إذني لما تحتويه من كلمات عربية كثيرة، فأحببت اللغة الفارسية وتعلقت بها وتمنيت أن أتعلمها في يوم من الأيام، وعندما كبرت اكتشفت أن أقرب لغة إلى اللغة العربية في الأرض هي اللغة الفارسية بسبب أن 90 % من حملة الثقافة الإسلامية من الفرس. ولو كان لي من الأمر شيء فلن أطلب من الطالب السعودي أو العربي أن يدرس الفرنسية أو الألمانية، وإنما اللغة الفارسية، لأنها اللغة الأقرب للغة العربية».
حلّ البدلي في لندن برفقة مبتعث سعودي آخر هو زميله الدكتور منصور الحازمي، لكنه تركها بعد سنة دراسية كاملة، لم يفلح خلالها في دراسة كتاب «المقالات الأربع» باللغة الفارسية. يقول البدلي إن المشرفة عليه السيدة لامبتون، نصحته بالذهاب إلى إيران والالتحاق بجامعة طهران، إنْ كان راغباً فعلاً في التخصص في الفارسية، بدلاً من إضاعة وقته في لندن، كما فعلت هي. ولعل ما شجعه على تنفيذ نصيحة معلمته هو تعرضه لمواقف عنصرية من قبل بعض الإنجليز الذي كانوا يتجنبوه وينادونه بكلمة «نغرو Negro» بسبب سواد بشرته، ناهيك عن ترددهم في إسكانه بعقاراتهم، بحسب كلامه.
وهكذا قدر لصاحبنا أن يمضي 4 سنوات من عمره في إيران بدلاً من بريطانيا، عاش خلالها سعيداً ومندمجاً مع الإيرانيين، يصادقهم، ويزور مناطقهم السياحية، ويتعمق في عاداتهم، ويتعلم لغتهم وألفاظهم، ويتذوق أشعارهم وموسيقاهم، دون أن يخوض معهم في المسائل التي تفرق كالدين والسياسة. ومما قاله عن تجربته الإيرانية، التي انتهت بحصوله في عام 1966 على درجة الدكتوراه باللغة الفارسية عن أطروحة بعنوان «دور الشعر في الدعاية المذهبية في إيران من القرن الخامس إلى القرن السابع الهجري»، إنه انهمك في الهدف الذي جاء من أجله، وسابق الزمن لإكمال أطروحته، فلم يفكر في الاقتران بفتاة إيرانية، لكنه أقر بأن «الإيرانيات من أجمل نساء الأرض، لدرجة أن الفاتحين من العرب المسلمين تزوجوا منهم». ويروي البدلي، أن الإيرانيين إلى الآن لا يصدقون أنه سعودي حينما يتحدث إليهم، ويعتبرونه واحداً من مواطني مناطقهم الساحلية الجنوبية المعروفين ببشرتهم الداكنة.
بعد عودته من طهران سنة 1967 تمّ تعيينه مدرساً للغة الفارسية وآدابها بجامعة الملك سعود، ثم راح يترقى أكاديمياً إلى أن بلغ درجة الأستاذية سنة 1979، ومن المناصب الإدارية التي تسنمها: رئيس قسم الإعلام بكلية الآداب/ جامعة الملك سعود وقت إنشائها عام 1972، رئيس قسم اللغة العربية بالجامعة من 1973 ـ 1975، وكيل كلية الآداب من 1975ـ 1976، الرئيس العام للنشاط الرياضي بالجامعة، ومدير معهد اللغة العربية لغير الناطقين بها من 1981ـ 1984.
وخلال هذه الفترة، وتحديداً ما بين عامي 1969 و1970، تولى تحرير الصفحة الأدبية بجريدة «الجزيرة»، التي كانت تصدر وقتذاك أسبوعياً في الرياض. لكن الأهم أن الرجل استخدم تخصصه، الذي لم يسبقه فيه أحد من مواطنيه، في رفد المكتبة العربية بمؤلفات وترجمات لروائع الأدب الفارسي بهدف تجسير الهوة بين العرب والفرس ومحاولة ملامسة الذائقة العربية في تناوله مثلاً للترجمات العربية لرباعيات الخيام، التي أجزم بأن أفضلها هي ترجمة الشاعر البحريني إبراهيم العريض، تليها ترجمة الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي.
من أعمال البدلي في مجال الترجمة من الفارسية إلى العربية: ترجمة كتاب «إيران في العهد القاجاري» (نشرت على حلقات في مجلة «المنهل» السعودية)، ترجمة قصة «البومة العمياء» للكاتب الإيراني الشهير صادق هدايت، ترجمة «رحلة ناصر خسرو القبادياني»، علاوة على قيامه بتأليف كتاب «دراسة بعض الترجمات العربية لرباعيات الخيام».
أجمع أصدقاؤه ومعارفه وكل من عمل معه أو زامله في سنوات دراسته على أن البدلي شخصية موسوعية وموضوعية، ودودة ونبيلة وصريحة وجريئة، ولا تجيد المراوغة والنفاق، علاوة على أنه محب للطرفة والقفشات، والسخرية حتى من نفسه. وحينما سئل ذات مرة عن سبب ميل كتاباته إلى السخرية، رد قائلاً: «هي محاولة للانتقام من نفسي ومن المجتمع، للمعاناة واليتم والفقر والمرارة التي عشتها في طفولتي»، مضيفاً أن الأمر يرجع أيضاً إلى قراءاته في الكتب الطريفة مثل كتابي «المستطرف في كل فن مستظرف» و«لطائف الظرفاء من طبقات الفضلاء»، ومؤلفات الكتّاب الهزليين من الفرس.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

أحمد خالد البدلي.. أول سعودي يتخصص في الفارسية وآدابها
أحمد خالد البدلي.. أول سعودي يتخصص في الفارسية وآدابها

البيان

time٠٤-٠٥-٢٠٢٥

  • البيان

أحمد خالد البدلي.. أول سعودي يتخصص في الفارسية وآدابها

تنتمي اللغة الفارسية إلى عائلة اللغات الهندو ـ أوروبية، بينما تنتمي العربية إلى عائلة اللغات السامية، وعلى الرغم من ذلك فإن الفارسية هي أقرب اللغات إلى العربية لوجود مشتركات كثيرة بينهما، من أبرزها تشابه أبجديتهما، ناهيك عن استعارة كل منهما من الآخر آلاف المفردات المستخدمة في اللغة الفصحى أو اللهجات اليومية الدارجة، والتي يرجع أسبابها إلى روابط الشعبين الدينية المشتركة، واحتكاكهما ببعضهما البعض عبر القرون. غير أن الفارسية وآدابها، على الرغم مما سبق، لم تحظ بالاهتمام الكافي من جانب الجامعات والمراكز العلمية العربية إلا لماماً، على عكس العصور الإسلامية الزاهية، حينما كان الخلفاء المسلمون يشجعون على دراستها وترجمة جواهر آدابها وعلومها إلى العربية. وفي البلاد العربية، التي دشنت مراكز لتعليم الفارسية ضمن كليات جامعاتها، سرعان ما تمّ إغلاقها أو تقليصها بحجة قلة المقبلين على دراسة الفارسية كلغة أجنبية، وهذا ربما كان سببه محدودية مجال العثور على عمل مناسب للمتخصص فيها، ناهيك عن أسباب سياسية ودينية أخرى. ومناسبة الحديث عن هذا الموضوع، هو مرور تسعة أعوام على رحيل الأديب والأكاديمي والإعلامي الأستاذ الدكتور أحمد خالد حامد البدلي (توفي بتاريخ 26 نوفمبر2016)، الذي يعد قامة علمية ومعرفية كبيرة، وأول منْ تخصص أكاديمياً في اللغة الفارسية من السعوديين، ونال شهادة الدكتوراه في آدابها، ودرّسها لطلبة جامعة الملك سعود. ولد البدلي في مكة المكرمة، ابناً لعائلة فقيرة بائسة سكنت الحجاز منذ عام 1882، من بعد نزوحها إلى مكة من بوركينا فاسو هرباً من طغيان المستعمر الأوروبي، وطلباً للأمن والأمان بجوار الحرم الشريف، وهو ما يذكره صاحبنا بفخر ودون حرج. كان ميلاده في عام 1935 بحي «الطندباوي»، وهو أحد أحياء مكة العشوائية البائسة التي كانت وقتذاك مكونة من العشش والأكواخ، وتكثر فيها الحرائق والضجيج والفوضى وشقاوة الصبية والأطفال. ويتذكر البدلي، في حواره مع بدر الغانمي المنشور في صحيفة عكاظ (18/7/2009) أنه كان يلعب مختلف الألعاب الشعبية مع أقرانه، وهو طفل، في براحة «يسلم بافرج»، وكان رفاقه يسمونه «الكبش» ويسخرون من لونه الداكن، ويطالبونه بأداء حركات التيوس. نشأ البدلي في كنف جده «سمبودودو» يتيماً، بعد أن فقد والده، الذي كان يعمل في ورشة بسوق المعلاة في سبك الأمهار وبيعها من خلال دكان شخص آخر. وصادف رحيل والده اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939، وتأزم الأوضاع المعيشية، وتدهور الأعمال والمصالح. ويتذكر البدلي في هذا السياق أنه عمل، وهو صبي، في ورشة والده كمبرد أمهار ونافخ كير، وأنه، في زمن الحرب وصرف المواد التموينية من دقيق وسكر وخبز بالبطاقات، كان مكلفاً بإحضارها من مصادرها إلى بيت العائلة، وأن والدته توفيت بعد عام من رحيل والده، دون أن يخبره أهله بذلك إلا بعد أيام، فحزن كثيراً ووجد نفسه تائهاً، وقرر الانتقام من أهله بالهرب من بيت جده، فظل لأيام طويلة متسكعاً في الأزقة، وينام في الجوامع ويذهب خلسة إلى بيت جده لرؤية شقيقاته الثلاث، إلى أن اصطاده جده وعاقبه بربطه إلى شجرة في البيت وراح يوسعه ضرباً بجريد النخل. هذا الطفل اليتيم المشاغب، سوف يكبر، ويقرر جده الفقير غير المقتدر على مصاريفه ومصاريف شقيقاته إلحاقه بدار الأيتام بمكة كي يدرس المرحلة الابتدائية وكي يحميه من الصعلكة والانحراف. ويبدو أن البدلي وجد في دار الأيتام ما يسره من الطعام الطيب والملبس النظيف والمرقد المريح والأنشطة الرياضية المتنوعة، ما جعله يواصل دراسته بجد واجتهاد دون تذمر من نظام الدار الصارم لجهة الصحة والنظافة ومواعيد النوم والاستيقاظ وطاعة المدرسين الذين كان أغلبهم من مجاوري الحرم من جاوة ومصر والهند والمغرب. فطلبة الدار كانوا وقتذاك موضع حسد وغبطة الكثيرين لما كان فيها من مزايا معيشية وترفيهية على حد قوله. وهكذا حصل صاحبنا على الشهادة الابتدائية سنة 1950، وأتبعها بالشهادة الثانوية من المعهد العلمي السعودي بمكة في 1953. وأخبرنا البدلي عن دراسته في هذا المعهد فقال إنه بالتزامن كان مواظباً على حضور دروس الشيخ حسن المشاط في الحرم الملكي، حيث درس على يديه ألفية ابن مالك وغيرها. كما أخبرنا أنه، وهو طالب في المعهد، عمل مذيعاً في الإذاعة السعودية، قائلاً: «أتذكر أنني كنت في السنة الثالثة ألقي محاضرة بعنوان «ثوان مع هنري ديكارت» في إحدى المسامرات، وكانت تلك المحاضرة الجريئة عن الفيلسوف الفرنسي سبباً في أن طلب مني المرحوم الشاعر طاهر عبدالرحمن زمخشري أن التحق بالإذاعة السعودية في القلعة، فقبلت العرض شاكراً، وقد أحسست بشيء من الغرور الخفي، وما هي إلا أيام حتى طلبني المرحوم حامد دمنهوري المشرف على الإذاعة آنذاك في مكتبه لإجراء مقابلة شخصية. وبعد المقابلة أرسلني إلى المرحوم بكر بوقس لإجراء الامتحان اللازم لمعرفة مدى صلاحية صوتي للإلقاء الإذاعي، ومدى قدرتي على الاشتراك في البث المباشر الحي، وقد نجحت ولله الحمد في الامتحان وعينت مذيعاً وكان ذلك سنة 1374 هـ (1953)». أهله تخرجه من المعهد العلمي بتفوق، الحصول على بعثة دراسية إلى مصر على نفقة الدولة، حيث كان ترتيبه السادس على زملائه الطلبة، فالتحق في مصر بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، والتي تخرج فيها سنة 1959، بتقدير جيد جداً. ومما لا شك فيه أن إقامته ودراسته في مصر في الخمسينات كان لهما تأثير كبير على وعيه الثقافي، حيث نجده يقول إنه استمتع واستفاد كثيراً من محاضرات يوم الأربعاء بكلية آداب القاهرة التي كان يلقيها الدكتور طه حسين أكثر من استمتاعه بحفلات السيدة أم كلثوم الشهرية، مضيفاً أنه يدين بالكثير للمربي محمد عبدالصمد فدا، الذي درسه في المعهد العلمي قبل سفره إلى القاهرة، لأنه هو الذي فتح عينيه على كنوز الأدب المصري وعمالقته، وشجعه على قراءة كتب مثل «حياتي» للدكتور أحمد أمين، و«الأيام» لطه حسين، و«حياة محمد» لمحمد حسين هيكل، وأوصاه بمتابعة أعداد مجلة الرسالة المصرية التي كان يحررها أحمد حسن الزيات، وضرورة القراءة الحرة خارج الفصول الدراسية. ومن جانب آخر أخبرنا الرجل في حواره مع صحيفة عكاظ (المصدر السابق) عن الفارق بين الطلبة السعوديين وزملائهم المصريين في آداب القاهرة فقال ما مفاده، إنهم كطلبة سعوديين كانوا يشعرون بشيء من التفوق على زملائهم المصريين فيما يتعلق بالدراسات النحوية والبلاغية والدينية، بينما كان المصريون يتفوقون عليهم في الدراسات النقدية والاجتماعية والتاريخية، علاوة على الإنجليزية، التي لم يتعلموا منها سوى النذر اليسير في المعهد العلمي على يد معلم مصري، لذا فإنهم اضطروا لأخذ دروس خصوصية على يد أحد الأساتذة من العاملين في المعهد الثقافي البريطاني بالقاهرة. عاد البدلي إلى وطنه مكللاً بشهادة ليسانس الآداب، فتمّ تعيينه في عام 1960 معيداً بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة الملك سعود. وفي العام التالي أرسل في بعثة دراسية إلى لندن لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه في اللغة الفارسية وآدابها من كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (ساواس Soas) التابعة لجامعة لندن. عن أسباب تخصصه في اللغة الفارسية، يقول البدلي إنه كان يسمعها على ألسنة الحجاج الإيرانيين، زمن عمله مطوفاً للحجيج بمكة، فيطرب لها، مضيفاً: «وجدت في لغتهم جرساً خاصاً في إذني لما تحتويه من كلمات عربية كثيرة، فأحببت اللغة الفارسية وتعلقت بها وتمنيت أن أتعلمها في يوم من الأيام، وعندما كبرت اكتشفت أن أقرب لغة إلى اللغة العربية في الأرض هي اللغة الفارسية بسبب أن 90 % من حملة الثقافة الإسلامية من الفرس. ولو كان لي من الأمر شيء فلن أطلب من الطالب السعودي أو العربي أن يدرس الفرنسية أو الألمانية، وإنما اللغة الفارسية، لأنها اللغة الأقرب للغة العربية». حلّ البدلي في لندن برفقة مبتعث سعودي آخر هو زميله الدكتور منصور الحازمي، لكنه تركها بعد سنة دراسية كاملة، لم يفلح خلالها في دراسة كتاب «المقالات الأربع» باللغة الفارسية. يقول البدلي إن المشرفة عليه السيدة لامبتون، نصحته بالذهاب إلى إيران والالتحاق بجامعة طهران، إنْ كان راغباً فعلاً في التخصص في الفارسية، بدلاً من إضاعة وقته في لندن، كما فعلت هي. ولعل ما شجعه على تنفيذ نصيحة معلمته هو تعرضه لمواقف عنصرية من قبل بعض الإنجليز الذي كانوا يتجنبوه وينادونه بكلمة «نغرو Negro» بسبب سواد بشرته، ناهيك عن ترددهم في إسكانه بعقاراتهم، بحسب كلامه. وهكذا قدر لصاحبنا أن يمضي 4 سنوات من عمره في إيران بدلاً من بريطانيا، عاش خلالها سعيداً ومندمجاً مع الإيرانيين، يصادقهم، ويزور مناطقهم السياحية، ويتعمق في عاداتهم، ويتعلم لغتهم وألفاظهم، ويتذوق أشعارهم وموسيقاهم، دون أن يخوض معهم في المسائل التي تفرق كالدين والسياسة. ومما قاله عن تجربته الإيرانية، التي انتهت بحصوله في عام 1966 على درجة الدكتوراه باللغة الفارسية عن أطروحة بعنوان «دور الشعر في الدعاية المذهبية في إيران من القرن الخامس إلى القرن السابع الهجري»، إنه انهمك في الهدف الذي جاء من أجله، وسابق الزمن لإكمال أطروحته، فلم يفكر في الاقتران بفتاة إيرانية، لكنه أقر بأن «الإيرانيات من أجمل نساء الأرض، لدرجة أن الفاتحين من العرب المسلمين تزوجوا منهم». ويروي البدلي، أن الإيرانيين إلى الآن لا يصدقون أنه سعودي حينما يتحدث إليهم، ويعتبرونه واحداً من مواطني مناطقهم الساحلية الجنوبية المعروفين ببشرتهم الداكنة. بعد عودته من طهران سنة 1967 تمّ تعيينه مدرساً للغة الفارسية وآدابها بجامعة الملك سعود، ثم راح يترقى أكاديمياً إلى أن بلغ درجة الأستاذية سنة 1979، ومن المناصب الإدارية التي تسنمها: رئيس قسم الإعلام بكلية الآداب/ جامعة الملك سعود وقت إنشائها عام 1972، رئيس قسم اللغة العربية بالجامعة من 1973 ـ 1975، وكيل كلية الآداب من 1975ـ 1976، الرئيس العام للنشاط الرياضي بالجامعة، ومدير معهد اللغة العربية لغير الناطقين بها من 1981ـ 1984. وخلال هذه الفترة، وتحديداً ما بين عامي 1969 و1970، تولى تحرير الصفحة الأدبية بجريدة «الجزيرة»، التي كانت تصدر وقتذاك أسبوعياً في الرياض. لكن الأهم أن الرجل استخدم تخصصه، الذي لم يسبقه فيه أحد من مواطنيه، في رفد المكتبة العربية بمؤلفات وترجمات لروائع الأدب الفارسي بهدف تجسير الهوة بين العرب والفرس ومحاولة ملامسة الذائقة العربية في تناوله مثلاً للترجمات العربية لرباعيات الخيام، التي أجزم بأن أفضلها هي ترجمة الشاعر البحريني إبراهيم العريض، تليها ترجمة الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي. من أعمال البدلي في مجال الترجمة من الفارسية إلى العربية: ترجمة كتاب «إيران في العهد القاجاري» (نشرت على حلقات في مجلة «المنهل» السعودية)، ترجمة قصة «البومة العمياء» للكاتب الإيراني الشهير صادق هدايت، ترجمة «رحلة ناصر خسرو القبادياني»، علاوة على قيامه بتأليف كتاب «دراسة بعض الترجمات العربية لرباعيات الخيام». أجمع أصدقاؤه ومعارفه وكل من عمل معه أو زامله في سنوات دراسته على أن البدلي شخصية موسوعية وموضوعية، ودودة ونبيلة وصريحة وجريئة، ولا تجيد المراوغة والنفاق، علاوة على أنه محب للطرفة والقفشات، والسخرية حتى من نفسه. وحينما سئل ذات مرة عن سبب ميل كتاباته إلى السخرية، رد قائلاً: «هي محاولة للانتقام من نفسي ومن المجتمع، للمعاناة واليتم والفقر والمرارة التي عشتها في طفولتي»، مضيفاً أن الأمر يرجع أيضاً إلى قراءاته في الكتب الطريفة مثل كتابي «المستطرف في كل فن مستظرف» و«لطائف الظرفاء من طبقات الفضلاء»، ومؤلفات الكتّاب الهزليين من الفرس.

"زراعة الشارقة" تطلق برنامج دعم المزارع العضوية
"زراعة الشارقة" تطلق برنامج دعم المزارع العضوية

البيان

time٠١-٠٥-٢٠٢٥

  • البيان

"زراعة الشارقة" تطلق برنامج دعم المزارع العضوية

دشن سعادة الدكتور المهندس خليفة مصبح الطنيجي رئيس دائرة الزراعة والثروة الحيوانية في مركز خدمات المتعاملين اليوم برنامج دعم المزارع العضوية في إمارة الشارقة التي تأتي وفقاً لرؤية وتوجيهات صاحب السموّ الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة في توسيع منظومة الشارقة للأمن الغذائي العضوي المستدام وفي إطار سعيها إلى تعزيز التنمية الزراعية المستدامة وتوفير حلول آمنة ومستدامة لأصحاب المزارع للإسهام في تعزيز الأمن الغذائي العضوي وفق أعلى المعايير العالمية. حضر حفل الإطلاق سعادة سالم عبدالله الكعبي مدير دائرة الزراعة والثروة الحيوانية وموظفو الدائرة من المهندسين والمرشدين الزراعيين وعدد من المزارعين. ويهدف البرنامج الذي يُعدّ أحد أهم ممكنات التنمية الزراعية المستدامة في الشارقة إلى الارتقاء بمنظومة الأمن الغذائي العضوي ودعم المزارع العضوية والراغبين من أصحاب المزارع في التحول إلى الزراعة العضوية في الإمارة ويتمثّل الدعم في توفير مستلزمات الإنتاج الزراعي العضوي وأدلة إرشادية شاملة للزراعة العضوية بما يسهم في الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية المتاحة إضافة إلى البذور العضوية التي تتناسب مع الظروف المناخية والبيئية لدولة الإمارات مع بداية الموسم الزراعي ومساعدة أصحاب المزارع في توفير منافذ لبيع منتجاتهم. وأكّد سعادة الدكتور المهندس خليفة مصبح الطنيجي رئيس دائرة الزراعة والثروة الحيوانية حرص صاحب السموّ حاكم الشارقة على تقديم الدعم لكل ما يسهم في استدامة القطاع الزراعي الآمن والعضوي ويحقق التنوع واستدامة الغذاء ويحافظ على الموارد الطبيعية ويعزز صحة المجتمع وينعكس إيجاباً على البيئة وجودة الحياة. وقال في تصريح لوكالة أنباء الإمارات 'وام'.. " نطلق اليوم حزمة من حزم الدعم لمزارعي إمارة الشارقة وهي حزمة مختلفة عن الحزم التقليدية أو الطريقة التقليدية في دعم المزارعين عن طريق توزيع الأسمدة أو بذور أو معدات واليوم نعتزم تحويل المزارع من المزارع التقليدي إلى مزارع تتبع أفضل الأساليب الآمنة والعضوية والابتعاد عن المبيدات الكيماوية وصولا إلى تقديم غذاء آمن عضوي ونظيف مشيرا إلى أن الدائرة ستتابع توزيع البذور العضوية على 9 مزارع عضوية في الوقت الحالي إضافة إلى البرامج الإرشادية وصولا إلى تسويق منتجاتهم ودعمهم ضمن منافذ البيع. وأوضح أن البذور التي سيتم توزيعها على المزارعين تم جلبها من أفضل المزارع الحاصلة على المركز الأول في أوروبا ومن أفضل مزرعة ومركز بذور متوارث حيث تواجدت في الفترة ما قبل الحرب العالمية الثانية مؤكدا أهمية نشر ثقافة الأغذية و الزراعة العضوية بين المجتمع الإماراتي. وأضاف الطنيجي أن الزراعة العضوية تمثّل نظاماً يشجع على إنتاج الغذاء في إطار بيئي واجتماعي واقتصادي للحد من استخدام المدخلات الكيميائية حيث تعتمد على استخدام الدورة الزراعية والأسمدة العضوية لتحسين خصائص التربة وعلى الرغم من التحديات التي تواجه الزراعة فإن الشارقة تعمل على مواجهة هذه التحديات بالتقنيات الحديثة وتوفير الدعم للمزارعين وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص للإسهام في تحقيق أهداف إستراتيجيتها في الزراعة العضوية وتعزيز استدامتها للعودة إلى الطبيعة. من جانبها قالت رزان الحمادي مديرة إدارة التنمية الخضراء في دائرة الزراعة والثروة الحيوانية بالشارقة لـ"وام" إنه سيتم توزيع البذور العضوية على المزارعين بدءا من الموسم القادم في شهر سبتمبر وما نشهده اليوم هو بداية الفترة التحضيرية والتعريفية والتدريبية للمزارعين من أصحب المزارع وسيتم تقديم ورش عمل توجههم للطرق الصحيحة لإنجاح محاصيلهم الزراعية العضوية وستقوم دائرة الزراعة والثروة الحيوانية بالشارقة بإعداد دليل إرشادي لاصناف الخضروات والفواكه العضوية في مواسمها المحددة وبالكميات والأنواع المطلوبة في السوق المحلي وسيتم في الفترة اللاحقة عقد لقاء عمل مفتوح بين المزارعين ومنافذ البيع لسماع ملاحظات اقتراحات الجانبين. وقال أحد أصحاب المزارع إنه يمتلك مزرعة عضوية من ثمانية أعوام في منطقة الذيد ويتم من خلالها زراعة 29 صنفا من الخضروات والفواكه ومن أصناف النخيل مشيرا إلى حرصة الدائم على متابعة كل ما هو جديد في جانب الإرشادات الزراعية الصادرة من الدوار الحكومية مشيدا بمبادرة دائرة الزراعة والثروة الحيوانية بالشارقة وصولا لتحقيق الأهداف المنشودة من الجانبين. وتخلل إطلاق البرنامج ورشة تدريبية عن برامج الزراعة العضوية وأهميتها في تعزيز الاستدامة الغذائية وتوجيه المزارعين حول ضرورة تبني الزراعة العضوية المستدامة.

الكفن المقدس بتورينو.. بين التاريخ والعلم والإيمان
الكفن المقدس بتورينو.. بين التاريخ والعلم والإيمان

البوابة

time١٧-٠٤-٢٠٢٥

  • البوابة

الكفن المقدس بتورينو.. بين التاريخ والعلم والإيمان

يقول المؤرخ الكنسي ماجد كامل في شرحه وتفسيره لقصه الكفن المقدس ففي قلب مدينة تورينو الإيطالية، يحتفظ التاريخ بواحد من أعظم الشهادات المادية المرتبطة بحياة السيد المسيح: الكفن المقدس. فهذا الكفن الذي يُعتقد أنه لفّ به جسد يسوع بعد صلبه، يثير حتى اليوم الجدل والبحث العلمي والإيمان العميق. في هذا التقرير نستعرض قصة الكفن منذ لحظة ظهوره التاريخي، وحتى تطورات البحث العلمي المعاصر حوله. البدايات الأولى لقصة الكفن تبدأ الحكاية مع الملك أبجر الخامس ملك أديسا (الرها)، الذي طلب شفاءه من السيد المسيح، غير أن يسوع وعده بإرسال أحد تلاميذه. بعد الصعود، أُرسل الكفن المقدس إلى الملك على يد الرسول تداوس، حيث حدثت معجزة شفاء الملك وانتشار الإيمان بالمسيحية في المدينة، ووضعت لوحة تصور وجه المسيح على بوابة المدينة. اختفاء الكفن وإعادة ظهوره ظل الكفن محفوظًا في أديسا حتى تغيرت الظروف السياسية والدينية، فاختفى لفترة، ثم أعيد اكتشافه بعد هجوم كسرى الفارسي. وفي عهد الإمبراطور جستنيان، بُنيت كاتدرائية لحفظ الكفن، وظل يُعرض للشعب. مع دخول المسلمين إلى أديسا عام 639م، نجا الكفن من تحطيم الأيقونات، ثم نُقل إلى القسطنطينية عام 944م، حيث لقي تقديسًا واسعًا. الكفن في أيدي الصليبيين وفرسان المعبد بعد الحملة الصليبية الرابعة، نُهب الكفن ونُقل إلى عكا ثم إلى صيدا فقبرص، ثم استقر لفترة في فرنسا. وتحديدًا مع الملك جون الطيب، ثم انتقل إلى أسرة سافوي عام 1453م، وبقي في حوزتهم حتى اليوم. حادثة الحريق وحماية الكفن في ديسمبر 1532، شبّ حريق مروع في الكنيسة التي تحتضن الكفن، لكن تم إنقاذه بمعجزة رغم تعرض بعض أجزائه لأضرار، عولجت لاحقًا على يد راهبات الكنيسة. تكررت عروض الكفن للشعب لدحض الشائعات التي شككت في صورته. انتقال الكفن إلى تورينو نُقل الكفن إلى مدينة تورينو عام 1568، وظل هناك، وشهد عرضًا كبيرًا عام 1933 بمناسبة مرور 1900 عام على صلب المسيح، ونُقل مؤقتًا أثناء الحرب العالمية الثانية حفاظًا عليه من القصف، ثم أُعيد بعد الحرب. بدايات الدراسة العلمية للكفن بدأ الاهتمام العلمي بالكفن منذ عام 1898، حين التقط المصور بيا أول صورة فوتوغرافية له. وتلتها دراسات علمية أظهرت تفاصيل مدهشة عن الأثر، أبرزها في عام 1902 على يد الدكتور إيفيس ديلاج، رغم كونه ملحدًا، إلا أنه أقر بأصالة الكفن. تكوين لجان بحثية علمية لفحص الكفن 1969: أول لجنة علمية تجتمع لفحص الكفن. 1973: أول عرض تلفزيوني للكفن 1978 تشكيل فريق علمي موسع ضم 40 عالمًا، تلاه عرض عام استثنائي، وانتهت الأبحاث بإثبات أن الصورة لم ترسمها يد بشرية، وأن الكفن يعود إلى قرون خلت. دراسة تشريحية دقيقة للصورة على الكفن الوجه: كدمات متعددة، تورمات، جروح في الصدغ، إصابة في الأنف. الجلد: آثار السياط واضحة، يتراوح عدد الجلدات بين 90-120، قام بها جلادان من جهتين. المسامير: ثبتت في الرسغ وليس الكف، كما اعتقد سابقًا اكليل الشوك الشوك: ليس تاجًا دائريًا، بل أشواك غُرست في الرأس مباشرة طعنه الحربة: جرح في الجانب الأيمن للصدر، بعمق 8 سم، تم بعد الوفاة. عدم غسل الجسد حافظ على معالم الكفن ذكرت الأناجيل أن جسد السيد المسيح لم يُغسل قبل دفنه، مما حافظ على كل آثار الجروح، وترك لنا شاهدًا حيًا على الآلام. الكفن دليل القيامة المجيدة تشير الدراسات إلى أن الصورة على الكفن تكونت نتيجة انفجار طاقة عظيمة خرجت من الجسد، يربطها العلماء بقيامة السيد المسيح. أبرز الكتب والأفلام الوثائقية حول الكفن اول من قدم الكفن في مصر: القمص جورجيوس عطا الله، بكتابه المترجم 'الكفن المقدس بتورينو' للمؤرخ إيان ويلسون توالت الكتب بعد ذلك من مطرانيات مختلفة، كما ظهرت مسرحية 'الشاهد الصامت'. موسوعه الأب ميلاد صدقي 'كفن السيد المسيح' في 3 مجلدات ضخمة أنشأ الأب ميلاد متحفًا للكفن بمقر دير الآباء اللعازريين بشبرا. الكفن في السينما: فيلم 'آلام المسيح' للمخرج ميل جيبسون عام 2004، عرض الفيلم العالمي 'The Passion of the Christ'، المستوحى بالكامل من تفاصيل الكفن المقدس، ليكون أصدق تصوير لعذابات السيد المسيح، باللغة الآرامية، وبموافقة خاصة من المفكر المصري جابر عصفور. يبقى كفن تورينو، رغم الجدل، أحد أعمق الشواهد المادية على أحداث مركزية في الإيمان المسيحي، وموضوعًا يربط بين التاريخ والعقيدة والعلم، ويجمع حوله الباحثين والمؤمنين على حد سواء.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store