logo
الصفويون.. تاريخ وتحوُّلات

الصفويون.. تاريخ وتحوُّلات

جريدة الرؤية١٢-٠٥-٢٠٢٥

د. هيثم مزاحم **
ألقى المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي محاضرة عام 1971 بعنوان «التشيّع الصفوي والتشيّع العلوي» حوّلها لاحقًا إلى كتاب بالعنوان نفسه. كانت منطلقات شريعتي للتمييز بين التشيّعين سياسية وثورية ترتبط بصراع الحركات الثورية المعارضة لحكم الشاه محمد رضا بهلوي آنذاك. وأراد شريعتي في كتابه القول إن التشيّع العلوي هو التشيّع لأهل البيت الرافض للظلم والاستبداد والذي لا يخشى أتباعه من الشهادة والتضحية في سبيل الحق والحقيقة، مستشهدًا بمواقف الإمام علي ونجليه الحسن والحسين وابنته زينب خلال صراعهم مع الظالمين في عصورهم. ويذهب شريعتي إلى أن ذلك الخط الشيعي الثوري المعارض تواصل خلال ثمانية قرون ضد مختلف الحكومات المستبدة القائمة، من الأمويين إلى الإيلخانيين، إلى أن جاء الحكم الصفوي وأقام حكمه في إيران باسم التشيّع وأيده بعض رجال الدين الشيعة، برغم استبداده وفساده وعدم اختلافه عن السلاطين السابقين الذين حكموا باسم أهل السنّة والجماعة.
ويرى شريعتي أن التشيّع تحوّل في عهد الصفويين من تشيّع حركة ونهضة إلى تشيّع حكومةً ونظامًا، وبدأ الحكم الجديد بتبنّي طقوس المواطنين الشيعة ويشجع على زيارة المراقد ويقوم بتشييدها وزيارتها.
وكانت الحركة الصفوية قد بدأت كحركة صوفية سنّية مع الشيخ صفي الدين الأردبيلي ثم تحوّلت مع حفيده الشيخ الجنيد إلى حركة شيعية وغدت لاحقًا سلالة ملكية تعتمد المذهب الشيعي الإمامي رافعة دينية لحكمها.
يذهب الباحث الإنكليزي كولن تيرنر في دراسته المنقولة إلى العربية بعنوان «التشيّع والتحوّل في العصر الصفوي» (منشورات الجمل – 2008)، إلى أن "ثمة مفارقة أساسية في التاريخ الديني الإيراني هي أن ما ظل دينًا للدولة في القرون الخمسة الأخيرة، أي التشيّع البراني الطابع، قد فُرض على الغالبية السنية من قبل حاكم غير شيعي الظاهر ولا براني التوجّه. كما أن الصفويين ما كانوا فرسًا بالمعنى الأدق، مع أن الأصول الجغرافية الصحيحة للسلالة لم تحدد نهائيًا بعد".
إذن ليس هناك اتفاق بين الباحثين والمؤرخين بصدد عدد من المسائل المتعلقة بالصفويين. المسألة الأولى هي جذور السلالة الصفوية؛ إذ يذهب البعض إلى أنهم من سكان إيران الأصليين ومن عرق آري نقي، غير أنهم كانوا يتكلمون الآذرية، اللغة المحلية في آذربيجان. فيما ذهب آخرون إلى أن أسلاف الصفويين هم أكراد رافقوا الأمير الكردي ماملان بن وهسودان عندما احتل هذا الأخير مدينة أردبيل عام 1025م. أما البعض الثالث فيقول بالأصول التركمانية للصفويين.
لكن من المتفق عليه أن الصفوية كانت في بادئ أمرها طريقة صوفية في بلدة أردبيل في آذربيجان عند بداية القرن الثامن الهجري. دخل مؤسسها الشيخ صفي الدين أو صفي (توفي عام 1335م) في التصوّف على يد الشيخ تاج الدين إبراهيم زاهدي (توفي 1301م)، وهو مرشد من جيلان زوّج ابنته للشيخ صفي. وبعد وفاة عمه وشيخه تاج الدين، غدا الشيخ صفي رأسًا للطريقة التي عُرفت باسمه بعدها.
يقول تيرنر في دراسته إن الطريقة الصفوية كانت محترمة من قبل السلطات الحاكمة المعاصرة من الإيلخانيين إلى الجلايرية والتيموريين، حيث كانت الحركات الصوفية الجوانية مشجعة ما دامت غير سياسية، إذ كان القادة الصفويون الأوائل كسنّة وكصوفية من أتباع التوجّه العام، حيث كان أكثر سكان أردبيل ينتمون إلى المذهب الشافعي فقهيًا وكما كانوا أتباعًا للشيخ صفي. وقد فاخرت الطريقة بامتناعها عن الدخول في المشاجرات المذهبية، مفضلة اتباع أصح الأحاديث إسنادًا من المذاهب السنية الأربعة.
لكن كيف حصل تحوّل الصفوية من طريقة سنية صوفية إلى الغلو؟ يقول تيرنر إنه "مع استخلاف الشيخ الجنيد (توفي عام 1460م)، حفيد الشيخ صفي، على رأس الحركة الصفوية، دخلت الطريقة في تحوّل هائل ليس من السهل تفسيره، ولا تُعين المصادر في ذلك الزمان كثيرًا على فهمه. كان التغيّر في الميل الديني دراميًا: تراجَع التصوّف المتأمل الجواني أمام غلوّ هرطقي في شكل صارخ". وينقل تيرنر عن ابن روزبهان خونجي، الكاتب السنّي في بلاط السلطان يعقوب بن أوزون حسن آق قوينلو، أن أتباع الطريقة الصفوية دعوا صراحة الشيخ جنيد إلهًا وابنه ابن الله.
ويرى تيرنر أنه لا يمكن شرح تحوّل الصفويين من طريقة سنية - صوفية إلى فرقة تتبنّى الغلوّ في الإمام علي كمجرّد تعديل بسيط في التوجّه الديني. بل كان هذا التبدل الجذري المفاجئ مصحوبًا بتغيّر جذري في ميول الطريقة الصفوية حوّلها إلى حركة مسلحة استطاعت في أقل من نصف قرن أن تنصّب إسماعيل، حفيد الجنيد، شاهًا على العرش في تبريز. ويذهب تيرنر إلى أن هذا التحوّل الديني يجب أن يفهم في ضوء التحوّل السياسي أي كستار للطموح السياسي للجنيد.
لكن لماذا يختار الجنيد الغلوّ العلوي كرافعة سياسية في مجتمع ذي غالبية سنية وصوفية أرثوذكسية، إذ يصر الباحث تيرنر على أن إيران كانت في غالبيتها الساحقة سنية. يحاول تيرنر تفسير ذلك بأن الجنيد قد انتقل إلى منطقة الأناضول حيث قاد أتباعه المنضوين في فرقة من الغزاة واستقر به المطاف في ديار بكر حيث تلقاه حاكمها الآق قوينلو، أوزون حسن، بحرارة. وكانت الأناضول قد تحوّلت إلى أرض خصبة لكل البدع الدينية نتيجة الوضع السياسي المزعزع للدولة العثمانية بعد زوال دولة السلاجقة الروم، إضافة إلى التدفق الهائل للقبائل المغولية التركمانية بعقائدها الدينية المبهمة. وكان الغلو العلوي الهوى منتشرًا يعضده تاريخ من الثورات على الحكم قادتها شخصيات كاريزمية ذوات ميول شيعية إمامية ضد الحكام السلاجقة والعثمانيين. وقد انتشرت تعاليمهم بين تركمان الأناضول الذين تبنى بعضهم لاحقًا فرقًا كالصفوية والبكتاشية، ذات الغلو الشيعي.
إذًا في أرض البدع الخصبة هذه، حاول الجنيد الحصول على الدعم لطموحاته السياسية والعسكرية الناشئة، وكانت القبائل التركية الرّحل في ريف الأناضول مع تاريخها المحارب للدولة وتطرفها الديني مادة خصبة للجنيد كي يبني مجموعة من المقاتلين، وكان طبيعيًا أن يهجر الجوانية المسالمة، أي عموم التصوّف والتسنّن ويأخذ عوضًا عنها بدعاوى مغالية. هذا هو تفسير تيرنر لتحوّل الجنيد الذي تزوج من أخت الحاكم أوزون حسن، وبذلك مهّد لأن يصبح الصفويون لاحقًا أمراء البلاد.
تحت قيادة حيدر إبن الجنيد تبلوّرت الطريقة الصفوية كحركة سياسية ذات ميول دينية مغالية باطّراد حيث اعتبره أتباعه إلهًا وعرفوا باسم القزلباش أي الرؤوس الحمراء، وذلك بسبب القلنسوة الحمراء التي أمرهم حيدر بارتدائها. نصب حيدر على أردبيل عام 1469م من قبل خاله أوزون حسن الذي كان قد هزم الحاكم الإيلخاني جهان شاه وسلالة قره قوينلو واستولى على أراضيهم. كما أدت عودة الطريقة الصفوية إلى أردبيل إلى تدفق أتباع الطريقة من الأناضول وشمال سورية إليها. وتوثقت علاقة حيدر بسلالة آق قوينلو بزواجه من ابنة خاله أوزون حسن.
لم يستلم الصفويون الملك إلا في عام 1499م بقيادة إسماعيل نجل حيدر الذي تمكن من السيطرة على تبريز بمساعدة قبائل التركمان التي شكلت عصب القزلباش حيث أعلن إسماعيل نفسه شاهًا، وبحلول عام 1508م عندما استولى إسماعيل على بغداد، كانت البلاد بأجمعها تقريبًا تحت حكمه. يقول تيرنر إن إيران كانت في ذلك الوقت تحت سيطرة تيارين دينيين شعبيين هما: التصوّف «الراقي» أو السنّي العام، والتصوّف الشعبي مع طابع شيعي قوي. وكان معظم السنّة الإيرانيين على فقه المذهبين الشافعي والسني.
ثمة خلاف آخر بين المؤرخين والباحثين في شأن مدى انتشار التشيّع في إيران قبل الصفويين ومدى فرض التشيّع بالقوة خلال حكم الصفويين. يذهب تيرنر إلى أن تشيّع الفقهاء الإمامي البراني الأرثوذكسي قد أثّر في شكل ضئيل في الإيرانيين، بينما كان ميل الإيرانيين أكثر إلى الحركات الجواّنية الصوفية السنّية والشيعية منها، وخصوصًا المولوية والنقشبندية والنعمة اللهية، وكان واضحًا فيها الولاء لآل علي على غرار غيرها من الطرق الصوفية، ويرفض تيرنر وصفها بالتشيّع.
أميل إلى الرأي القائل إن أرضية التشيّع كانت مهيأة في إيران قبل تولّي الصفويين للحكم، وذلك لأسباب عدة هي: أولًا العلاقة الوثيقة بين التشيّع والتصوّف العائدة إلى اعتبار المتصوّفة الإمام علي والأئمة الآخرين من أقطابهم. وثانيًا، الولاء التاريخي للفرس لآل البيت منذ بداية النزاع بين العرب والموالي الفرس في عهد الخلفاء الراشدين. ثالثًا، قيام دول شيعية عدة في أجزاء مختلفة من إيران قبل الصفويين بعضها كان إماميًا وبعضها كان زيديًا، مثل الدولة المشعشعية والدولة السربدارية ودولتي طبرستان وجيلان. وأخيرًا لا ينبغي إغفال وجود التقية لدى الشيعة في إخفاء تشيّعهم خلال فترات الاضطهاد الديني، وهو قد يكون اعتمده قسم من الإيرانيين الشيعة خلال عهود الحكام السنة في إيران. لكن ذلك لا ينفي قيام بعض الحكام الصفويين بنشر التشيّع في إيران بالدعوة والحسنى تارة وبالقوة والإكراه تارة أخرى.
يذكر تيرنر أن التحوّل الظاهري للإيرانيين كان سريعًا، إذ أن كثيرًا ممن اعتنق الإمامية ظاهرًا قد حافظ على تسنّنه سرًا، ويستدل على ذلك بالدعم الذي استطاع الشاه إسماعيل الثاني (حكم 1576 – 1577م) حشده في محاولته إعادة تمكين التسنّن دينًا رسميًا بعد حوالى سبعين سنة. إذًا أصبحت التقية تقليدًا يمارسه السنّة هذه المرة. وفجأة أعلنت الطريقة النعمة اللهية تشيّعها ودخلت في حلف طويل نسبيًا مع الصفويين.
كان الشاه إسماعيل ومستشاروه جاهلين تمامًا بالفقه الإمامي عندما تبنوا مذهب الإمامية دينًا جديدًا للدولة، فإسماعيل نفسه كان منتميًا إلى الغلو. ويرى تيرنر أن تبنيهم الإمامية كشكل من أشكال البرانية الإسلامية مع الحفاظ على موقفهم العلوي الهوى، يعود إلى أن مذهب الإمامية يمتلك إطارًا فكريًا محددًا وحبكة عقائد مفصلة يمكن بسهولة نسبية إزدراعها في شكل الحكومة التي ينوي الصفويون إنشاءها. وهكذا يجب النظر إلى تبنّي الشاه إسماعيل للإمامية كعمل سياسي نفعي أكثر منه رغبة منه في نشر المذهب بذاته.
كان أبرز فقهاء الإمامية وأهمهم تاريخيًا في العصر الصفوي الأول الشيخ علي الكركي العاملي اللبناني (توفي نحو 1534م) الذي دعاه الشاه إسماعيل للانتقال من جبل عامل إلى إيران من أجل نشر مذهب الإمامية. ويعتبر تيرنر أن الكركي هو الأب المؤسس للبرانية الإمامية في إيران الصفوية وأول علماء الشيعة الذين نشروا المذهب على نطاق واسع في البلاد.
ويفسّر تيرنر ملاءمة الإمامية الأرثوذكسية لأهداف الحكام الصفويين الجدد بأن هذا المذهب يساعدهم على توطيد حكمهم واستئصال مكامن المقاومة المحتملة المتمثلة في التسنن والتصوّف وكذلك في قبائل القزلباش، الذين سيتحوّل غلوّهم عبئًا على الصفويين. ويروي الباحث أن الشاه إسماعيل وجد حليفًا صلبًا في الشيخ الكركي وفقهاء الإمامية البرانيين الوافدين من خارج إيران، الذين كتبوا رسائل ضد التصوّف وبخاصة الطرق السنّية منها.
يحاول تيرنر في كتابه أن يثبت أن التحوّل في التشيّع من التشيّع الجواني أي الصوفي العرفاني إلى التشيّع البراني المرتكز على الفقه والشريعة، قد حصل خلال العصر الصفوي، وأن التحوّل الأهم في التشيّع هو تمحور التشيّع حول مركزية الإمامة بدلًا من مركزية الله، حتى لدى بعض الحركات الصوفية الشيعية.
ويكرّس تيرنر جزءًا كبيرًا من دراسته حول دور الشيخ محمد باقر المجلسي، صاحب كتاب «بحار الأنوار»، في سيادة التشيّع البراني الأخباري المستند إلى الحديث والمبتعد عن إعمال العقل والمعرفة الجوانية.
ولكن تيرنر نفسه يظهر أن ثمة تفاوتًا في عداء الحكام الصفويين للتسنّن والتصوّف، فكان بينهم من هو أقرب إلى التسنّن كالشاه إسماعيل الثاني الذي رفض الطعن بالخلفاء الثلاثة الأوائل، ومن حارب الغلو كالشاه طهماسب والشاه عباس. وكان بينهم من حارب الحركات الصوفية أو من كان صوفي الهوى ودعم التصوّف.
وبرغم المآخذ على الحكام الصفويين، فإن تبنيهم للمذهب الشيعي الإمامي بدلًا من الغلو ومحاربتهم للغلو لاحقًا تُحسب لهم. أما دعمهم لما يسمّيه تيرنر بالإسلام البراني، أي التقليدي الأرثوذكسي على حساب التصوّف، فهو غير مذموم بالمطلق، وخصوصًا لما ينطوي عليه بعض التصوّف من غلوّ وشطحات.
أما استغلال الحكام الصفويين للإسلام والتشيّع لحفظ سلطانهم فهو شأن جميع الحكام في الماضي والحاضر. ويبقى أن التعميم مرفوض في الحكم على حقبة تاريخية كاملة، فلا يمكن إطلاق التعميمات وإدانة الحكم على جميع الحكام الصفويين بإسقاط الخلافات السياسية والقومية والمذهبية الحالية على التاريخ، وتحميلهم مسؤولية التحوّل في التشيّع إن صحّ هذا الرأي، فهم لم يقوموا إلا بتمكين التشيّع الإمامي من الانتشار في إيران، ولكنهم استعانوا في ذلك بأبرز فقهاء الشيعة آنذاك والذين كانوا عربًا من لبنان والعراق والإحساء، حيث لعب علماء جبل عامل الدور الأبرز في ذلك.
** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية في لبنان

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الصفويون.. تاريخ وتحوُّلات
الصفويون.. تاريخ وتحوُّلات

جريدة الرؤية

time١٢-٠٥-٢٠٢٥

  • جريدة الرؤية

الصفويون.. تاريخ وتحوُّلات

د. هيثم مزاحم ** ألقى المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي محاضرة عام 1971 بعنوان «التشيّع الصفوي والتشيّع العلوي» حوّلها لاحقًا إلى كتاب بالعنوان نفسه. كانت منطلقات شريعتي للتمييز بين التشيّعين سياسية وثورية ترتبط بصراع الحركات الثورية المعارضة لحكم الشاه محمد رضا بهلوي آنذاك. وأراد شريعتي في كتابه القول إن التشيّع العلوي هو التشيّع لأهل البيت الرافض للظلم والاستبداد والذي لا يخشى أتباعه من الشهادة والتضحية في سبيل الحق والحقيقة، مستشهدًا بمواقف الإمام علي ونجليه الحسن والحسين وابنته زينب خلال صراعهم مع الظالمين في عصورهم. ويذهب شريعتي إلى أن ذلك الخط الشيعي الثوري المعارض تواصل خلال ثمانية قرون ضد مختلف الحكومات المستبدة القائمة، من الأمويين إلى الإيلخانيين، إلى أن جاء الحكم الصفوي وأقام حكمه في إيران باسم التشيّع وأيده بعض رجال الدين الشيعة، برغم استبداده وفساده وعدم اختلافه عن السلاطين السابقين الذين حكموا باسم أهل السنّة والجماعة. ويرى شريعتي أن التشيّع تحوّل في عهد الصفويين من تشيّع حركة ونهضة إلى تشيّع حكومةً ونظامًا، وبدأ الحكم الجديد بتبنّي طقوس المواطنين الشيعة ويشجع على زيارة المراقد ويقوم بتشييدها وزيارتها. وكانت الحركة الصفوية قد بدأت كحركة صوفية سنّية مع الشيخ صفي الدين الأردبيلي ثم تحوّلت مع حفيده الشيخ الجنيد إلى حركة شيعية وغدت لاحقًا سلالة ملكية تعتمد المذهب الشيعي الإمامي رافعة دينية لحكمها. يذهب الباحث الإنكليزي كولن تيرنر في دراسته المنقولة إلى العربية بعنوان «التشيّع والتحوّل في العصر الصفوي» (منشورات الجمل – 2008)، إلى أن "ثمة مفارقة أساسية في التاريخ الديني الإيراني هي أن ما ظل دينًا للدولة في القرون الخمسة الأخيرة، أي التشيّع البراني الطابع، قد فُرض على الغالبية السنية من قبل حاكم غير شيعي الظاهر ولا براني التوجّه. كما أن الصفويين ما كانوا فرسًا بالمعنى الأدق، مع أن الأصول الجغرافية الصحيحة للسلالة لم تحدد نهائيًا بعد". إذن ليس هناك اتفاق بين الباحثين والمؤرخين بصدد عدد من المسائل المتعلقة بالصفويين. المسألة الأولى هي جذور السلالة الصفوية؛ إذ يذهب البعض إلى أنهم من سكان إيران الأصليين ومن عرق آري نقي، غير أنهم كانوا يتكلمون الآذرية، اللغة المحلية في آذربيجان. فيما ذهب آخرون إلى أن أسلاف الصفويين هم أكراد رافقوا الأمير الكردي ماملان بن وهسودان عندما احتل هذا الأخير مدينة أردبيل عام 1025م. أما البعض الثالث فيقول بالأصول التركمانية للصفويين. لكن من المتفق عليه أن الصفوية كانت في بادئ أمرها طريقة صوفية في بلدة أردبيل في آذربيجان عند بداية القرن الثامن الهجري. دخل مؤسسها الشيخ صفي الدين أو صفي (توفي عام 1335م) في التصوّف على يد الشيخ تاج الدين إبراهيم زاهدي (توفي 1301م)، وهو مرشد من جيلان زوّج ابنته للشيخ صفي. وبعد وفاة عمه وشيخه تاج الدين، غدا الشيخ صفي رأسًا للطريقة التي عُرفت باسمه بعدها. يقول تيرنر في دراسته إن الطريقة الصفوية كانت محترمة من قبل السلطات الحاكمة المعاصرة من الإيلخانيين إلى الجلايرية والتيموريين، حيث كانت الحركات الصوفية الجوانية مشجعة ما دامت غير سياسية، إذ كان القادة الصفويون الأوائل كسنّة وكصوفية من أتباع التوجّه العام، حيث كان أكثر سكان أردبيل ينتمون إلى المذهب الشافعي فقهيًا وكما كانوا أتباعًا للشيخ صفي. وقد فاخرت الطريقة بامتناعها عن الدخول في المشاجرات المذهبية، مفضلة اتباع أصح الأحاديث إسنادًا من المذاهب السنية الأربعة. لكن كيف حصل تحوّل الصفوية من طريقة سنية صوفية إلى الغلو؟ يقول تيرنر إنه "مع استخلاف الشيخ الجنيد (توفي عام 1460م)، حفيد الشيخ صفي، على رأس الحركة الصفوية، دخلت الطريقة في تحوّل هائل ليس من السهل تفسيره، ولا تُعين المصادر في ذلك الزمان كثيرًا على فهمه. كان التغيّر في الميل الديني دراميًا: تراجَع التصوّف المتأمل الجواني أمام غلوّ هرطقي في شكل صارخ". وينقل تيرنر عن ابن روزبهان خونجي، الكاتب السنّي في بلاط السلطان يعقوب بن أوزون حسن آق قوينلو، أن أتباع الطريقة الصفوية دعوا صراحة الشيخ جنيد إلهًا وابنه ابن الله. ويرى تيرنر أنه لا يمكن شرح تحوّل الصفويين من طريقة سنية - صوفية إلى فرقة تتبنّى الغلوّ في الإمام علي كمجرّد تعديل بسيط في التوجّه الديني. بل كان هذا التبدل الجذري المفاجئ مصحوبًا بتغيّر جذري في ميول الطريقة الصفوية حوّلها إلى حركة مسلحة استطاعت في أقل من نصف قرن أن تنصّب إسماعيل، حفيد الجنيد، شاهًا على العرش في تبريز. ويذهب تيرنر إلى أن هذا التحوّل الديني يجب أن يفهم في ضوء التحوّل السياسي أي كستار للطموح السياسي للجنيد. لكن لماذا يختار الجنيد الغلوّ العلوي كرافعة سياسية في مجتمع ذي غالبية سنية وصوفية أرثوذكسية، إذ يصر الباحث تيرنر على أن إيران كانت في غالبيتها الساحقة سنية. يحاول تيرنر تفسير ذلك بأن الجنيد قد انتقل إلى منطقة الأناضول حيث قاد أتباعه المنضوين في فرقة من الغزاة واستقر به المطاف في ديار بكر حيث تلقاه حاكمها الآق قوينلو، أوزون حسن، بحرارة. وكانت الأناضول قد تحوّلت إلى أرض خصبة لكل البدع الدينية نتيجة الوضع السياسي المزعزع للدولة العثمانية بعد زوال دولة السلاجقة الروم، إضافة إلى التدفق الهائل للقبائل المغولية التركمانية بعقائدها الدينية المبهمة. وكان الغلو العلوي الهوى منتشرًا يعضده تاريخ من الثورات على الحكم قادتها شخصيات كاريزمية ذوات ميول شيعية إمامية ضد الحكام السلاجقة والعثمانيين. وقد انتشرت تعاليمهم بين تركمان الأناضول الذين تبنى بعضهم لاحقًا فرقًا كالصفوية والبكتاشية، ذات الغلو الشيعي. إذًا في أرض البدع الخصبة هذه، حاول الجنيد الحصول على الدعم لطموحاته السياسية والعسكرية الناشئة، وكانت القبائل التركية الرّحل في ريف الأناضول مع تاريخها المحارب للدولة وتطرفها الديني مادة خصبة للجنيد كي يبني مجموعة من المقاتلين، وكان طبيعيًا أن يهجر الجوانية المسالمة، أي عموم التصوّف والتسنّن ويأخذ عوضًا عنها بدعاوى مغالية. هذا هو تفسير تيرنر لتحوّل الجنيد الذي تزوج من أخت الحاكم أوزون حسن، وبذلك مهّد لأن يصبح الصفويون لاحقًا أمراء البلاد. تحت قيادة حيدر إبن الجنيد تبلوّرت الطريقة الصفوية كحركة سياسية ذات ميول دينية مغالية باطّراد حيث اعتبره أتباعه إلهًا وعرفوا باسم القزلباش أي الرؤوس الحمراء، وذلك بسبب القلنسوة الحمراء التي أمرهم حيدر بارتدائها. نصب حيدر على أردبيل عام 1469م من قبل خاله أوزون حسن الذي كان قد هزم الحاكم الإيلخاني جهان شاه وسلالة قره قوينلو واستولى على أراضيهم. كما أدت عودة الطريقة الصفوية إلى أردبيل إلى تدفق أتباع الطريقة من الأناضول وشمال سورية إليها. وتوثقت علاقة حيدر بسلالة آق قوينلو بزواجه من ابنة خاله أوزون حسن. لم يستلم الصفويون الملك إلا في عام 1499م بقيادة إسماعيل نجل حيدر الذي تمكن من السيطرة على تبريز بمساعدة قبائل التركمان التي شكلت عصب القزلباش حيث أعلن إسماعيل نفسه شاهًا، وبحلول عام 1508م عندما استولى إسماعيل على بغداد، كانت البلاد بأجمعها تقريبًا تحت حكمه. يقول تيرنر إن إيران كانت في ذلك الوقت تحت سيطرة تيارين دينيين شعبيين هما: التصوّف «الراقي» أو السنّي العام، والتصوّف الشعبي مع طابع شيعي قوي. وكان معظم السنّة الإيرانيين على فقه المذهبين الشافعي والسني. ثمة خلاف آخر بين المؤرخين والباحثين في شأن مدى انتشار التشيّع في إيران قبل الصفويين ومدى فرض التشيّع بالقوة خلال حكم الصفويين. يذهب تيرنر إلى أن تشيّع الفقهاء الإمامي البراني الأرثوذكسي قد أثّر في شكل ضئيل في الإيرانيين، بينما كان ميل الإيرانيين أكثر إلى الحركات الجواّنية الصوفية السنّية والشيعية منها، وخصوصًا المولوية والنقشبندية والنعمة اللهية، وكان واضحًا فيها الولاء لآل علي على غرار غيرها من الطرق الصوفية، ويرفض تيرنر وصفها بالتشيّع. أميل إلى الرأي القائل إن أرضية التشيّع كانت مهيأة في إيران قبل تولّي الصفويين للحكم، وذلك لأسباب عدة هي: أولًا العلاقة الوثيقة بين التشيّع والتصوّف العائدة إلى اعتبار المتصوّفة الإمام علي والأئمة الآخرين من أقطابهم. وثانيًا، الولاء التاريخي للفرس لآل البيت منذ بداية النزاع بين العرب والموالي الفرس في عهد الخلفاء الراشدين. ثالثًا، قيام دول شيعية عدة في أجزاء مختلفة من إيران قبل الصفويين بعضها كان إماميًا وبعضها كان زيديًا، مثل الدولة المشعشعية والدولة السربدارية ودولتي طبرستان وجيلان. وأخيرًا لا ينبغي إغفال وجود التقية لدى الشيعة في إخفاء تشيّعهم خلال فترات الاضطهاد الديني، وهو قد يكون اعتمده قسم من الإيرانيين الشيعة خلال عهود الحكام السنة في إيران. لكن ذلك لا ينفي قيام بعض الحكام الصفويين بنشر التشيّع في إيران بالدعوة والحسنى تارة وبالقوة والإكراه تارة أخرى. يذكر تيرنر أن التحوّل الظاهري للإيرانيين كان سريعًا، إذ أن كثيرًا ممن اعتنق الإمامية ظاهرًا قد حافظ على تسنّنه سرًا، ويستدل على ذلك بالدعم الذي استطاع الشاه إسماعيل الثاني (حكم 1576 – 1577م) حشده في محاولته إعادة تمكين التسنّن دينًا رسميًا بعد حوالى سبعين سنة. إذًا أصبحت التقية تقليدًا يمارسه السنّة هذه المرة. وفجأة أعلنت الطريقة النعمة اللهية تشيّعها ودخلت في حلف طويل نسبيًا مع الصفويين. كان الشاه إسماعيل ومستشاروه جاهلين تمامًا بالفقه الإمامي عندما تبنوا مذهب الإمامية دينًا جديدًا للدولة، فإسماعيل نفسه كان منتميًا إلى الغلو. ويرى تيرنر أن تبنيهم الإمامية كشكل من أشكال البرانية الإسلامية مع الحفاظ على موقفهم العلوي الهوى، يعود إلى أن مذهب الإمامية يمتلك إطارًا فكريًا محددًا وحبكة عقائد مفصلة يمكن بسهولة نسبية إزدراعها في شكل الحكومة التي ينوي الصفويون إنشاءها. وهكذا يجب النظر إلى تبنّي الشاه إسماعيل للإمامية كعمل سياسي نفعي أكثر منه رغبة منه في نشر المذهب بذاته. كان أبرز فقهاء الإمامية وأهمهم تاريخيًا في العصر الصفوي الأول الشيخ علي الكركي العاملي اللبناني (توفي نحو 1534م) الذي دعاه الشاه إسماعيل للانتقال من جبل عامل إلى إيران من أجل نشر مذهب الإمامية. ويعتبر تيرنر أن الكركي هو الأب المؤسس للبرانية الإمامية في إيران الصفوية وأول علماء الشيعة الذين نشروا المذهب على نطاق واسع في البلاد. ويفسّر تيرنر ملاءمة الإمامية الأرثوذكسية لأهداف الحكام الصفويين الجدد بأن هذا المذهب يساعدهم على توطيد حكمهم واستئصال مكامن المقاومة المحتملة المتمثلة في التسنن والتصوّف وكذلك في قبائل القزلباش، الذين سيتحوّل غلوّهم عبئًا على الصفويين. ويروي الباحث أن الشاه إسماعيل وجد حليفًا صلبًا في الشيخ الكركي وفقهاء الإمامية البرانيين الوافدين من خارج إيران، الذين كتبوا رسائل ضد التصوّف وبخاصة الطرق السنّية منها. يحاول تيرنر في كتابه أن يثبت أن التحوّل في التشيّع من التشيّع الجواني أي الصوفي العرفاني إلى التشيّع البراني المرتكز على الفقه والشريعة، قد حصل خلال العصر الصفوي، وأن التحوّل الأهم في التشيّع هو تمحور التشيّع حول مركزية الإمامة بدلًا من مركزية الله، حتى لدى بعض الحركات الصوفية الشيعية. ويكرّس تيرنر جزءًا كبيرًا من دراسته حول دور الشيخ محمد باقر المجلسي، صاحب كتاب «بحار الأنوار»، في سيادة التشيّع البراني الأخباري المستند إلى الحديث والمبتعد عن إعمال العقل والمعرفة الجوانية. ولكن تيرنر نفسه يظهر أن ثمة تفاوتًا في عداء الحكام الصفويين للتسنّن والتصوّف، فكان بينهم من هو أقرب إلى التسنّن كالشاه إسماعيل الثاني الذي رفض الطعن بالخلفاء الثلاثة الأوائل، ومن حارب الغلو كالشاه طهماسب والشاه عباس. وكان بينهم من حارب الحركات الصوفية أو من كان صوفي الهوى ودعم التصوّف. وبرغم المآخذ على الحكام الصفويين، فإن تبنيهم للمذهب الشيعي الإمامي بدلًا من الغلو ومحاربتهم للغلو لاحقًا تُحسب لهم. أما دعمهم لما يسمّيه تيرنر بالإسلام البراني، أي التقليدي الأرثوذكسي على حساب التصوّف، فهو غير مذموم بالمطلق، وخصوصًا لما ينطوي عليه بعض التصوّف من غلوّ وشطحات. أما استغلال الحكام الصفويين للإسلام والتشيّع لحفظ سلطانهم فهو شأن جميع الحكام في الماضي والحاضر. ويبقى أن التعميم مرفوض في الحكم على حقبة تاريخية كاملة، فلا يمكن إطلاق التعميمات وإدانة الحكم على جميع الحكام الصفويين بإسقاط الخلافات السياسية والقومية والمذهبية الحالية على التاريخ، وتحميلهم مسؤولية التحوّل في التشيّع إن صحّ هذا الرأي، فهم لم يقوموا إلا بتمكين التشيّع الإمامي من الانتشار في إيران، ولكنهم استعانوا في ذلك بأبرز فقهاء الشيعة آنذاك والذين كانوا عربًا من لبنان والعراق والإحساء، حيث لعب علماء جبل عامل الدور الأبرز في ذلك. ** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية في لبنان

السياسة وجهود التقارب بين المذاهب الإسلامية!
السياسة وجهود التقارب بين المذاهب الإسلامية!

جريدة الرؤية

time٠٨-٠٣-٢٠٢٥

  • جريدة الرؤية

السياسة وجهود التقارب بين المذاهب الإسلامية!

صالح البلوشي جاءت تصريحات فضيلة الإمام الأكبر الشيخ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر قبل عدة أيام، حول الخلاف بين المذاهب الإسلامية، في إطار موقف الأزهر التاريخي حول أهمية الحوار والتعارف بين المذاهب الإسلامية والتحذير من الخطابات المتشددة التي تروجها بعض الأوساط المعروفة بتوجهاتها الطائفية. ولقد قال شيخ الأزهر في ثاني حلقات برنامجه الرمضاني "الإمام الطيب": "إن الخلاف بين السنة وإخوانهم الشيعة لم يكن خلافا حول الدين، وعلى كل من يتصدى للدعوة أن يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: 'من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا، فذلكم المسلم الذي له ذمة الله ورسوله فلا تخفروا الله في ذمته'، ويتقن فهمه الفهم الصحيح"، مؤكدا "أن الأمة الإٍسلامية حاليا في أشد الحاجة إلى الوحدة في القوة والرأي لمجابهة تحديات العصر والانتصار على أعداء الأمة، فهناك كيانات عالمية اتحدت دون وجود ما يوحدها، كما اتحدت دول الاتحاد الأوروبي وغيرها، ليس لشيء سوى أنها رأت ذلك ضرورة من الضرورات الحياتية العملية، ونحن أولى منهم بذلك بكل ما بيننا من مشتركات". وقد كان لشيوخ الأزهر وعلمائها دور كبير في دعم دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التي تأسست في القاهرة عام (1368هـ / 1947م) على يد نخبة من العلماء المسلمين من السنة والشيعة وضم عند تأسيسها 20 عضوا من كبار العلماء من مختلف المذاهب. ولكن من يتابع مسيرة التقريب بين المذاهب الإسلامية في العصر الحديث يجد أنها مرتبطة بالأجواء السياسية في المنطقة، فدار التقريب بين المذاهب الإسلامية- مثلًا- تم تجميد عملها بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين مصر وإيران سنة 1980، كما يجد أن الخطابات المتشددة والطائفية تخفت في لحظات الهدوء وتظهر بدلا منها الخطابات التي تدعو إلى وحدة الصف والمصير، وأن هذه الأمة يجب أن تقوم من غفوتها وتعيد أمجادها وأن ذلك لن يتحقق إلا بوحدة الأمة ووقوفها صفا واحدا أمام الأعداء، وفي هذه اللحظات تتكرر مشاهد العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية وهم يلقون الكلمات العصماء والخطب الرنانة حول أهمية الوحدة وترك الخلافات الفرعية جانبا، ولكن ما أن تظهر مشكلة سياسية حتى تصحو الطائفية مجددا من غفوتها فإنها تعيد إنتاج خطاباتها السابقة ولكن بثوب جديد يلائم الوضع الحاضر. من يقرأ الصفحات الدامية من التاريخ الإسلامي يجد بوضوح أن الطائفية هي سلاح سياسي تستخدمه الأنظمة والحكومات وحتى أحزاب المعارضة أيضا عندما تجد نفسها في خطر أو تريد تحقيق غاية سياسية معينة، وقد استخدمت في السنوات الأخيرة بالحرب الأهلية السورية من جميع أطراف الصراع بدون استثناء، ومنهم مثقفون وأدباء محسوبون على الفكر العلماني، مما يؤكد بأن الطائفية من الممكن أن تُستخدم ثقافيًا وأدبيًا أيضًا وليس دينيًا فحسب، ولذلك لا يمكن القضاء عليها بقرار سياسي أو فتوى دينية أو ندوة ثقافية أو مؤتمر للتقريب بين المذاهب أو صلاة مشتركة؛ وإنما بثورة معرفية تنويرية تفصل ما بين السياسة والقضايا الدينية وتؤكد أن المذاهب الدينية ليست وحيا من السماء وإنما اجتهادات بشرية ظهرت في سياقات زمكانية معينة، وأنها جميعها تنبع من منبع واحد وهو الكتاب والسنة، فليختلف السياسيون ما شاؤا أن يختلفوا فالسياسة في طبيعتها تقوم على الاختلاف ولكن دون أن يزجوا باسم الدين أو المذاهب في خلافاتهم من أجل شرعنتها للقضاء على الآخر المختلف.

عبث الصراع بين الثنائيات في العالم العربي والإسلامي
عبث الصراع بين الثنائيات في العالم العربي والإسلامي

جريدة الرؤية

time١١-٠١-٢٠٢٥

  • جريدة الرؤية

عبث الصراع بين الثنائيات في العالم العربي والإسلامي

د. عبدالله الأشعل ** يُقصد بالثنائيات التي يضيع الصراع فيها العالم العربي والإسلامي هي الصراع بين القوميين والإسلاميين، وبين القُطرية والقومية، وبين الناصريين والإخوان المُسلمين، وبين العلمانية والإسلام، وبين الشيعة والسنة، وبين العروبة والأقليات الإثنية غير العربية، وبين الأقليات الدينية مقارنة بالإسلام كما يفهمه عامة النَّاس. 1- الصراع بين القوميين والإسلاميين. هناك صراع حقيقي بين الطرفين وظهر ذلك في قمته عام 1967 عندما وقعت المأساة في مصر والعالم العربي والإسلامي وتغول المشروع الصهيوني وتسبب فيما تلى ذلك من تطورات مؤسفة انتهت إلى رهن إرادة العالم العربي والإسلامي، وكشفت ذلك ملحمة غزة التي لم يهب العرب والمسلمون لنجدتها وإنقاذها من الإبادة التي تمارسها إسرائيل بأسلحة أمريكية وتحييد أمريكي للعرب والمسلمين، وكأن إسرائيل انفردت بغزة. وما دام المحيط العربي والإسلامي مقيدًا إرادته فإن العالم كله من ورائه لن يفعل شيئاً والنتيجة هي حرية إسرائيل في إبادة الشعب الفلسطيني أمام مرأى ومسمع المسلمين والعرب أمام العالم كله مادامت الولايات المتحدة ضمنت لإسرائيل حرية العمل بخمسة ضمانات. الأول هو تحييد المحيط العربي والإسلامي. والثاني حماية جرائم إسرائيل في الأمم المتحدة رغم تقارير الأمم المتحدة وهيئاتها العاملة في فلسطين وفي خارجها التي تحث الأمم المتحدة على اتخاذ موقف حازم يوقف الإبادة في غزة. والثالث تقديم الأسلحة الفتاكة المحرمة دوليًا واللازمة لعملية الإبادة؛ فالولايات المتحدة شريكً كامل لإسرائيل في الإبادة. وقد أوضحنا في مقال سابق أن الولايات المتحدة تمارس هذا العمل حنينًا تاريخيًا إلى الإبادة الواسعة التي مارسها الأنجلوسكسون في أمريكا الشمالية بعد اكتشافها عن طريق كريستوفر كولمبس. والرابع يتمثل في إمداد إسرائيل بالأموال اللازمة لدعم اقتصادها الذي تهاوى بسبب طول مدة حرب الإبادة. والخامس إعاقة أي تسوية أو أي وقف لإطلاق النار؛ سواء من خلال المحادثات أو في مجلس الأمن، مع إيهام العالم بأنَّ أمريكا حريصة على المدنيين الذين تقتلهم بيد إسرائيل بأسلحتها. ولذلك طالبنا- في مقال سابق- بأن تصدر الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا باعتبار أمريكا وإسرائيل عدوًا للبشرية؛ وهي مرتبة قصوى بعد وصف إسرائيل بأنها تمارس التطهير العرقي والتمييز بين سكانها من الصهاينة والفلسطينيين؛ حيث أصبحت هذه الأوصاف محتملة، وتدعو إلى تجاوزها إلى المرتبة التي أشرنا إليها. وفي مقال سابق أيضًا، قدمنا عريضة اتهام ضد الولايات المتحدة بتدمير القانون الدولي والاستخفاف بالأمم المتحدة في فلسطين والعالم العربي، وقدمنا أيضًا أدلة الاتهام في هذا الصدد، والمطلوب أن تُترجم هذه الوثيقة وتقدم إلى المحكمة الجنائية الدولية- التي تحاربها الولايات المتحدة- كي تصدر أمرًا بالقبض على الرئيس الأمريكي جو بايدن، حيثما حلَّ؛ باعتباره رأس الإدارة الأمريكية الفيدرالية، على غرار ما أصدرته المحكمة الجنائية الدولية من أمر بالقبض على بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت، وكان يجب أن تصدر المحكمة أمرين في وقت واحد باعتبارهم الثلاثة- أي نتنياهو وجالانت وبايدن- شركاء في حرب الإبادة، وكل منهم له دور أساسي في المشروع الإجرامي. لقد اعتبر التيار الإسلامي هزيمة مصر في عام 1967 هزيمة للتيار القومي وعقابًا من الله للقوميين العلمانيين، والصحيح أنَّ مأساة 1967 كان لها أسباب أخرى لا تدخل في الصراع بين الطرفين؛ فمصر هي التي هُزمت، والقوميون والإسلاميون أعضاء في المجتمع المصري يلحقهم جميعًا عار المأساة وهم جميعًا انتظموا عام 1973 لتصحيح الموقف مع إسرائيل. صحيحٌ أن الطرفين يكرهان إسرائيل ولكن الكُره والحقد الذي يُكنه كل طرف للطرف الآخر عبث، وأكبر من الحقد على إسرائيل. ولا بُد من التركيز على مصر باعتبارها قلب العالم العربي والإسلامي وأن الصراع بين الطرفين يبدد الجهود الواجب تركيزها لسلامة مصر. 2- الصراع بين الناصريين والإخوان المسلمين . هذا الصراع لايزال قائمًا لمجرد أن عبدالناصر رأس التيار القومي تصادم مع الإخوان المسلمين. والواقع أنه صراع على السلطة بين عبد الناصر والإخوان، وقد مات عبد الناصر وتبعثر الإخوان، فما لزوم امتداد الصراع بين ما يسمون بالناصريين ويرفعون قميص عبدالناصر وبين من ينتمون إلى الإخوان المسلمين؟ فقد تجاوزهم الزمن ومصر أصبحت في وضع لا يسمح باستمرار هذا الصراع. 3- الصراع بين الشيعة والسُنَّة. هذا الصراع تسلطه أمريكا والغرب وإسرائيل على العقول الضعيفة من المسلمين؛ فالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهما المصدران الوحيدان للتشريع الإسلامي ليس فيهما إسلام شيعي وإسلام سُنِّي. وبالتطبيق كان شاه إيران شيعيًا، ومع ذلك كان خادمًا للولايات المتحدة، وكانت هناك شراكة بين الشاه والسعودية لحفظ أمن الخليج، وهو مصطلح مخترع من جانب الغرب للجباية ونهب أموال الخليج، وكان الشاه متزوجًا من الأميرة فوزية أخت الملك فاروق (ملك مصر) وكانت سُنِّية. وعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران لم تقم ضد العرب والمسلمين السنة، وإنما الشيعة والسنة مصطلح تآمري، وكلاهما حدائق تثري الفكر الإسلامي، والذين تصدوا للفرق بين الشيعة والسنة كانوا متطرفين وبلا عقل. وهذا هو الفصيل الذي تريده إسرائيل والغرب، وعندي أن الذي هو ضد إسرائيل والغرب حليف لي، بقطع النظر عن اتجاهه الديني؛ فالمسألة كلها سياسية وليست دينية. فالثورة الإسلامية في إيران بدأت منذ اليوم الأول ضد أمريكا وإسرائيل؛ وهما أعداء المسلمين والعرب؛ بل أعداء البشرية جمعاء، واستجابة بعض السذج لهذه الفتنة تُضيِّع المسلمين والإسلام. صحيح أن مذاهب السنة تختلف فكريًا عن مذاهب الشيعة، لكن القواسم المشتركة الأساسية واحدة؛ فالله واحد والرسول صلى الله عليه وسلم واحد، والقرآن واحد، وأركان الإسلام واحدة، وما وراء ذلك تفاصيل واختلافات فقهية. 4- الصراع بين القُطرية والقومية. اشتد الصراع بين الطرفين في ظل القومية الجامحة، علمًا بأن هذه القومية تفتقر إلى الأساس العلمي والعقلي وتنساق وراء العاطفة والشعارات النارية التي أطلقها زعماء التيار القومي؛ فالقطرية كانت في نظر القوميين تعني الانفصال والغنم الشاردة والخارجين عن الجماعة يوم سادت شعارات هابطة كوحدة الصف بديلاً عن وحدة الهدف والأصل وكان ينظر إلى القوميين من جانب القطريين على أنه اغتصاب للسلطة في بلدهم ولهذا فرح الانقلابيون في سوريا عندما انحلت الوحدة المصرية السورية عام 1961، ويتردد أن تورُّط مصر في اليمن تم بسبب شعور عبدالناصر أنه جُرح وظل اسم الجمهورية العربية المتحدة حتى بعد انفصال سوريا لغاية عام 1971، عندما ضاق أنور السادات بما فعله عبدالناصر وأصدر دستور 71 علمًا بأنَّ مصر شهدت دستورًا لكل رئيس. والصحيح أن الصراع بين القومية والقُطرية وَهْمٌ كبيرٌ وعبثٌ لا طائل من ورائه، وأن القومية يجب أن تسعد بالقُطرية؛ لأن كل الدول العربية ورودٌ في حديقة العروبة، وكلما اختلفت ألوان هذه الورود ورائحتها، كانت حديقة العروبة غناء، ولذلك ليس هناك تناقض بين القومية العاقلة التي لا تطمس هويات الأقطار وبين هذه القُطرية. 5- الصراع بين القومية والإثنيات المختلفة . كلما كانت القومية جامحة ويديرها نظام مُستبد، أعلت شأن العروبة بحيث لا تعترف بالإثنيات الأخرى، وهذا ما حدث بالنسبة للأقليات الإثنية في العالم العربي، والحل أن تكون الدولة ديمقراطية يتساوى فيها كافة المواطنين، بقطع النظر عن أصلهم العرقي أو الثقافي؛ فالعروبة ثقافة وليست عرقًا، ولهذا السبب اصطدمت العروبة بالإثنيات، مثل أكراد العراق وسوريا، والمطلوب أن يتغير الفكر القومي بحيث يشمل ويحتضن كل الإثنيات داخل الدولة الواحدة وأن يكون مبدأ المواطنة مطبقًا بالفعل في جميع الدول العربية. 6- الصراع بين العلمانية والإسلام. يرجع هذا الصراع إلى عدم فهم الإسلام والعلمانية؛ فالإسلام نفسه يعرف العلمانية كما إن العلمانية لها تطبيقات متعددة تصطدم بالإسلام عندما تُنكر العلمانية الدين، كما حدث فى مذهب كمال أتاتورك المأخوذ من العلمانية الأوروبية، خاصة في سويسرا. العلمانية الأوروبية نشأت في تربة وفي ظروف ومناخ مختلف تمامًا، ونحن أخذنا البذرة الأوروبية الخاصة وزرعناها في أرضنا ولم نلتفت إلى الفوارق بين الأصول والفروع. العلمانية في أصلها تعتد بالعلم وبالعقل وحرية العبادة، والإسلام يحث على التفكير العقلي؛ فهو دين العقل. وبهذه المناسبة فإن الشيعة يغلبون العقل على النقل أما السُنَّة فيغلبون النقل على العقل. ولكن في كل الأحوال لا بُد أن تكون أصول المسألة محكومة بالكتاب والسنة؛ فالمسلمون اليوم مطالبون بفهم دينهم وإدراك أن قيم دينهم تستوعب كل الثنائيات. 7- التناقض بين الإسلاميين والأقليات الدينية في العالم العربي والإسلامي. وسبب هذا الصراع يرجع إلى عدم فهم الطرفين للإسلام؛ فالإسلام جامع لجميع الشرائع السماوية من اليهودية إلى الشريعة الإسلامية، أما القرآن الكريم فهو آخر تجليات السماء إلى أهل الأرض، وهو الكتاب الجامع، ولا يمكن المقارنة بين الكتب المقدسة؛ لأن هذه سذاجة وجهل بالحقائق؛ حيث إن القرآن الكريم حافل بالإشارة إلى الرسالات السابقة والشرائع السابقة، ولذلك يجب أن نتأمل الآية الكريمة التي تقول " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا " (المائدة: 3)، والآية الأخرى: " إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ " (آل عمران: 19)، وآية " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " (آل عمران: 85)، ويترتب على ذلك أن الإسلام مكون من مجموعة من الشرائع المتكاملة وأساسها التوحيد من آدم إلى رسولنا الكريم؛ ولذلك ليس هناك أديان، ولا يجوز القول بمقارنة الاديان. أما الشرائع الأرضية وما يسمى بالفلسفات البشرية كالبوذية والكونفوشية والهندوسية وغيرها التي تحض على مكارم الأخلاق، يتسامح الإسلام بشأنها، لكن الفارق بين الإسلام والرسالات السماوية، أي أهل الكتاب، وبين الشرائع الأرضية، هو الشهادة لله ولرسوله، أما القول بالقطيعة بين المسلمين وهذه الشرائع، فإنه ضد الدين وضد شريعة الإسلام. ** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store