
رحيل روبرت بينتون.. السينمائي الذي أعاد تعريف الطلاق ومعاناة المهمشين
توفي المخرج وكاتب السيناريو الأميركي روبرت بينتون، الذي يعد أحد أبرز صُنّاع السينما في هوليود خلال النصف الثاني من القرن الـ20، أمس الثلاثاء عن عمر ناهز 92 عاما، بحسب ما أكدت محاميته هيلاري بيبيكوف.
بينتون اشتهر بفيلمه "كرايمر ضد كرايمر" (Kramer vs. Kramer)، الذي جسد مأساة الطلاق من منظور إنساني حساس، ورسم قصة زوجين يتصارعان على حضانة ابنهما. لم يكن هذا العمل مجرد نجاح جماهيري في شباك التذاكر عام 1979، بل حصد 5 جوائز أوسكار، منها أفضل فيلم، أفضل إخراج، أفضل سيناريو مقتبس (لبينتون)، وأفضل أداء تمثيلي لكل من داستن هوفمان وميريل ستريب.
ووُلد بينتون في ولاية تكساس، وتميز بمزج التأثيرات الأوروبية وخاصة الفرنسية في أعماله، إذ كان من المعجبين بالموجة الجديدة في السينما الفرنسية، لدرجة أن صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية وصفته بأنه "الوريث الأميركي لفرنسوا تروفو". وقد عُرض على تروفو أصلا إخراج "كرايمر ضد كرايمر"، لكنه رفضه، ليترك المجال لبينتون ليحوّله إلى علامة فارقة في السينما الأميركية.
وقبل أن يشتهر كمخرج، صنع بينتون اسمه في عالم الكتابة السينمائية، من خلال مشاركته في تأليف سيناريو فيلم "بوني وكلايد" (Bonnie and Clyde) سنة 1967، الذي تناول قصة الثنائي الخارجين عن القانون خلال الكساد الكبير، والذي يُعتبر من العلامات الفارقة في التحوّل الذي شهده السرد السينمائي الأميركي في نهاية الستينيات.
وأبدع بينتون أيضا في فيلم "أماكن في القلب" (Places in the Heart) عام 1984، حيث تناول قصة أرملة من تكساس تكافح للحفاظ على أرضها خلال فترة الكساد الاقتصادي، مسلطا الضوء على صراع المرأة والتمييز العنصري في الجنوب الأميركي. هذا الفيلم رشّح بدوره لعدة جوائز أوسكار، ما عزز من مكانة بينتون كمخرج إنساني الطابع.
ورغم أن بينتون أخرج نحو 10 أفلام روائية فقط طوال مسيرته، إلا أن تأثيره في هوليود كان كبيرا، إذ عُرف بموهبته العميقة وتواضعه الشديد. وقد قال ذات مرة عن نفسه "هناك مخرجون يعرفون كيف يستخرجون أفضل ما لدى الممثلين، لكني لست واحدا منهم".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
نتنياهو لا يعبد إلا نتنياهو.. هكذا يقامر رئيس الوزراء بمستقبل الاحتلال
في الفيلم الأميركي الشهير "ذيل الكلب" (Wag the Dog-1997) يتعاون خبير تعديل الحقائق السياسية كونراد بريان (يجسد دوره الممثل روبرت دي نيرو) مع المنتج الهوليودي ستانلي موتس (داستن هوفمان) لابتكار حرب وهمية في ألبانيا بهدف صرف انتباه الجمهور عن فضيحة أخلاقية تتعلق بالرئيس الأميركي قبل أيام قليلة من إجراء الانتخابات. يمثّل الفيلم محاولة معدلة لتجسيد رواية الكاتب الأميركي لاري بينهارت بعنوان "البطل الأميركي" الصادرة عام 1993 التي افترضت أن عملية عاصفة الصحراء (التي دشنتها أميركا في أعقاب غزو صدام حسين للكويت) عام 1991 كانت مصممة في جوهرها لتأمين عملية إعادة انتخاب الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش الأب. ويجسد الفيلم والرواية معا مفهوما في العلوم السياسية يدعى "المقامرة من أجل البقاء" (Gambling for resurrection) الذي يصف لجوء القادة السياسيين إلى تصرفات "غير تقليدية" لضمان بقائهم في أوقات الأزمات، بما يشمل إشعال الحروب أو إطالة زمان بقائها. تخيّل معنا مشهدا سياسيا مأزوما: قائد يتراجع حضوره الشعبي، تتوالى فضائحه، وتتراكم أزماته دون أفق واضح للحل، في حين يزداد الخناق السياسي عليه من خصومه الذين يستعدون لاقتناص الفرصة للإجهاز عليه. تَعِدُ الأرقام والمؤشرات بنهاية وشيكة لحياته السياسية، وتبدو الأدوات السياسية التقليدية للتهدئة أو محاولاته لكسب الوقت غير مجدية. ساعتها، وحين يشعر القائد أن خسارته الشخصية مؤكدة في حال استمرت الأوضاع على ما هي عليه، فإنه يُغري نفسه بالذهاب نحو تصعيد غير محسوب، عبر فتح جبهة صراع جديدة أو توسيع نطاق صراع قائم بشكل يتجاوز المعقول سياسيا أو إستراتيجيا. تظهر هذه السمات جلية في حالة بعينها على أرض الواقع حاليا، وهي قرار بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بالاستمرار في حرب الإبادة ضد قطاع غزة لمدة ناهزت 20 شهرا. وبينما فشلت الحرب في تحقيق أهدافها السياسة باعتراف الإسرائيليين أنفسهم، يستمر نتنياهو في تغذية حلقة الدم لتفادي الخسارة الشخصية، ويقوم بتوسيع الصراع بصورة لا تتلاءم مع الأهداف العسكرية والإستراتيجية التي يمكن تحقيقها. المقامرة من أجل البقاء ظهر مصطلح "المقامرة من أجل البقاء"، أو "المقامرة من أجل البعث" كما تقول الترجمة الحرفية التي ترمز إلى عملية إحياء سياسي بعد الموت، رسميا لأول مرة في تسعينيات القرن الماضي على يد عالمي السياسة جورج دبليو داونز وديفيد م. روك، اللذين لاحظا كيف يسعى القادة الذين يواجهون خسارة وشيكة لمناصبهم إلى اتخاذ تدابير صادمة ويائسة على أمل تحقيق نجاح باهر ينقذ مسيرتهم المهنية، وقدما هذه الرؤية في كتابهما "النقص الأمثل؟.. عدم اليقين الداخلي والمؤسسات في العلاقات الدولية" (Optimal Imperfection? Domestic Uncertainty and Institutions in International Relations) الصادر عام 1995. بحسب رؤية داونز وروك، يمكن لشن مغامرة عسكرية أن يحشد الناس عن طريق توحيدهم ضد عدو خارجي وتشتيت انتباههم عن إخفاقات القائد في الداخل. وفي حالة حرب قائمة بالفعل، قد يرفض القائد تقليل الخسائر أو صنع السلام لأن ذلك يعني سقوطه الشخصي، وبدلا من ذلك، يُواصل القتال بهدف حشد الناس حول قضية ما، آملا في تغير الموازين. يدعى ذلك الاحتشاد الجماهيري بـ"تأثير الالتفاف حول الراية" (Rally 'round the flag)، وهو يعني زيادة (عادة ما تكون قصيرة الأمد) في الدعم الشعبي لقادة أو حكومة بلدٍ ما خلال أوقات الأزمات الوطنية أو الحروب، ويتجلى هذا التأثير بشكل خاص خلال التهديدات الخارجية، مثل الصراعات العسكرية، والهجمات الإرهابية والكوارث الطبيعية واسعة النطاق. في أوقات الأزمات، يشعر المواطنون بشعورٍ أقوى بالهوية والوحدة، مما يؤدي -في الغالب- إلى دعم القيادة الحالية بغض النظر عن كفاءتها ونزاهتها. وفي هذا السياق، يُنظر إلى انتقاد القيادة في هذه الأوقات تحديدا على أنه عمل غير وطني، مما يعزز في المُحصلة من كتم الأصوات المناوئة والمعارضة. كما أن وسائل الإعلام تُكثر من التركيز على تصرفات الحكومة الإيجابية وبطولاتها، مما يمنح القادة إطارا جذابا يصرف الأنظار عن الإخفاقات والأزمات الداخلية. واليوم يعد "تأثير الالتفاف حول الراية" من المسلمات في علم الاجتماع السياسي التي أثبتتها التجارب والاستطلاعات في بيئات ومجتمعات وسياقات مختلفة. فمثلا بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول، ارتفعت نسبة تأييد جورج بوش الابن من 51% إلى قرابة 90% خلال أيام فقط على الهجمات، وظلت تتأرجح فوق نسبة الـ80% خلال الأشهر التالية، وفقا لدراسة بعنوان "11 سبتمبر وتأثير الراية" صدرت عام 2002. وقبل ذلك خلال أزمة الصواريخ الكوبية ، ارتفعت نسبة تأييد الرئيس جون كينيدي إلى 74%، وبلغت ذروتها في ديسمبر 1962 عند 76%، قبل أن تنخفض تدريجيا وصولا إلى مستوى ما قبل الأزمة وهو 61% في يونيو/ حزيران 1963. وبالمثل حقق الرئيس فرانكلين روزفلت زيادة قدرها 12 نقطة مئوية في نسبة التأييد من 72% إلى 84% بعد الهجوم على بيرل هاربر في ديسمبر/ كانون الأول عام 1941. دعونا ننوّه هنا، أن كل ما سبق قد حصل مع قادة لم يواجهوا تحديات شخصية غير تقليدية لمستقبلهم السياسي، لكنهم استفادوا وفق ما استجد من أحداث من الأزمات لتعزيز حظوظهم، فكيف الحال بقائد يواجه أصلا مشكلات سياسية ليس أقلها الفساد وسهام المحاكمات مسلّطة عليه من كل جانب؟ هنا يصبح التصعيد أكثر جاذبية من السلام، ذلك أن القائد يتعاظم لديه الشعور بأنه ليس ثمّة ما يخسره، أما إذا انسحب الآن، فقد انتهى أمره بالضرورة، في حين إذا واصل مسيرته وانتصر بطريقة ما، فلربما ينجو سياسيا. يشبه الأمر حال لاعب بوكر يُراهن بكل شيء بعد خسارته لجولات عدة، لأن الانسحاب يعني هزيمة مؤكدة. وبالمثل، وبمجرد أن يُدرك القائد أن رحيله أو عزله شبه مؤكد، لا يبقى هناك أي خطر شخصي في المقامرة على نصر أخير. تصف ورقة بحثية بعنوان "صراعات الإلهاء: شيطنة الأعداء أم إظهار الكفاءة؟" نُشرت في مجلة "إدارة الصراعات وعلوم السلام" (Conflict Management and Peace Science) هذا الأمر بأنه اقتراح منخفض المخاطر وعالي المكافأة من وجهة نظر القائد، فعندما تكون على وشك فقدان السلطة على أي حال، فإن "الجانب السلبي" لمغامرة فاشلة يكون ضئيلا، لكن الجانب الإيجابي للنجاح قد يكون الاحتفاظ بالمنصب رغم كل الصعاب. باختصار، اليأس يُولّد الجرأة، وضعف موقف القائد نفسه يجعله أكثر استعدادا لتبني حلول متطرفة قد يتجنبها قائد واثق راسخ الحال. علم نفس المخاطرة تحت الضغط تؤكد الأبحاث النفسية أن البشر يتصرفون بشكل مختلف عندما تكون المخاطر عالية والنتائج المنتظرة تبدو قاتمة. والسبب في ذلك أن التوتر والأزمات يضعفان القدرة على الحكم السليم ويشجعان على خوض مخاطرة أكبر. بعبارة أخرى، عندما نشعر بالضيق أو التهديد، قد تميل أدمغتنا نحو اتخاذ إجراءات جريئة وغير محسوبة بدلا من التراجع الحذر. ولا شك أن القائد الذي يقف على حافة الفشل يتعرض لضغط شديد، مما يُضيّق تركيزه حول فكرة البقاء على الأمد القصير ويجعل خيار "النجاة الشخصية" يبدو جذابا فطريا. تُساعد فكرة رئيسية من علم الاقتصاد السلوكي، تُعرف بـ" نظرية التوقعات" (Prospect theory)، على توضيح هذا الأمر، وتعد من أهم النظريات التي فسّرت الكيفية التي يتخذ الناس من خلالها قراراتهم في مواقف تتضمن المخاطرة أو عدم اليقين في حياتهم اليومية. وتتلخص الفكرة الأساسية للنظرية في أن الناس لا يتخذون قراراتهم بشكل منطقي تماما، بل يتأثرون بأشياء كثيرة منها مشاعر الخسارة والربح. فمثلا، توضح النظرية أن الناس يكرهون الخسارة أكثر من حبهم للربح، بمعنى أن خسارة مبلغ معين من المال "توجع" أكثر بكثير (ربما 3 أضعاف) من فرحة ربح المبلغ نفسه، وهذا يسمى "النفور من الخسارة". عندما يشعر الشخص أنه يخسر (أو خسر بالفعل شيئا مهما)، فإنه لا يتصرف بمنطق وعقلانية، بل يدخل فيما يُسمى "منطقة الخسارة" بحسب النظرية، حيث يصبح الخوف من الخسارة أكبر من الرغبة في المكسب، ومن ثم يكون مستعدا للمخاطرة أكثر بكثير من أي وقت مضى لتجنب الخسارة فقط، وذلك بغض النظر عن أي مكسب يمكن تحقيقه. في الواقع، هذا التأثير واسع النطاق، ولا ينحصر في السياسة فقط، حيث إن فكرة "المقامرة من أجل البقاء" لا تقتصر على الحرب أو حتى السياسة، لكنها تجري على كل شيء. لأنها تقوم بالأساس على أمرين، الأول هو طبيعتنا النفسية والثاني هو نظرية الألعاب، التي يمكنها تفسير الكيفية التي ندير بها قرارات الربح والخسارة. تخيل مثلا مدرب كرة قدم يعلم أنه سيُطرد إذا خسر الفريق المباراة التالية (احتمال خسارة 100%)، هنا ستجد أنه بدلا من اللعب بأمان، قد يلجأ إلى تكتيك مجنون، حتى لو كان من غير المرجح أن ينجح. مثلا، إن كانت فرص نجاح هذا التكتيك 0.001%، فإنها تظل أفضل من احتمالية خسارة موقعه بنسبة 100% استخدم الاقتصاديون مفهوما مشابها لوصف سلوك الأفراد وحتى الكيانات خلال الأزمات المالية. على سبيل المثال، خلال حالات فشل البنوك أو شركات التأمين في الأزمات الاقتصادية الكبرى قد تُقدم البنوك أو الشركات المتعثرة على أخطار مالية متهورة أملا في تحسين أوضاعها. خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008 على سبيل المثال، لاحظ الباحثون أن بعض البنوك التي تواجه الانهيار تخلصت من شبكات الأمان (التحوطات) الخاصة بها لتعزيز أرباحها قصيرة الأجل، مُتحملة بذلك مخاطر أكبر. إذا نجحت هذه المقامرة، سيستفيد المساهمون، وإذا فشلت ستتحمل الحكومة أو الدائنون الخسائر، أما الانهيار فكان آتيا لا محالة في كل السيناريوهات. لكن المشكلة الرئيسية في مبدأ "المقامرة من أجل البقاء" أنه كثيرا ما يأتي بنتائج مأساوية تتجاوز تأثيراتها القائد المأزوم نفسه. من الأمثلة الكلاسيكية التي يستشهد بها الباحثون على ذلك غزو الأرجنتين لجزر فوكلاند عام 1982. في ذلك الوقت، كان المجلس العسكري الأرجنتيني، بقيادة الجنرال ليوبولدو غاليتييري، يواجه استياء داخليا شديدا، إذ كان الاقتصاد في حالة يرثى لها، وشعبية النظام متدنية. وفي أبريل/ نيسان 1982، شن غاليتييري غزوا لجزر فوكلاند الخاضعة للسيطرة البريطانية، بزعم تأكيد مطالبة الأرجنتين الإقليمية القديمة بالجزر. نجحت الخطة لفترة وجيزة، إذ احتشد الأرجنتينيون في البداية لدعم الحرب، إلا أن هذه المغامرة باءت بالفشل، إذ شنت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر هجوما مضادا وانتصرت في الحرب، وهُزمت القوات الأرجنتينية، وأُزيح غاليتييري من السلطة على الفور. تُبيّن حرب فوكلاند كيف يُمكن للمقامرة من أجل البقاء أن تأتي بنتائج عكسية، مُسرّعة بذلك من تحقيق النتيجة التي كان يخشاها القائد (فقدان السلطة) ومُسببة تكاليف إضافية على طول الطريق. وعلى غرار حرب فوكلاند، هناك العديد من الأمثلة التاريخية التي يصنفها الباحثون ضمن إطار "المقامرة من أجل البقاء"، واحد منها هو الضربات العسكرية الثلاثة التي وجهتها إدارة بيل كلينتون الأميركية ضد العراق (العملية ثعلب الصحراء في يناير/ كانون الثاني عام 1998) وضد أهداف في السودان وأفغانستان (العملية إنفينيت ريتش في أغسطس/ آب 1998) وأخيرا عملية بلغراد التي قادها الناتو ضد يوغوسلافيا عام 1999، والتي رآها معارضو كلينتون وخبراء مستقلون أنها محاولة للقفز إلى الأمام وتجاوز تداعيات الفضيحة الجنسية الشهيرة للرئيس الأميركي، والمعروفة إعلاميا باسم "مونيكا غيت". مقامرة نتنياهو بحرب غزة 2023 لمعرفة كيف تتجلى المقامرة لأجل البقاء في السياسة المعاصرة، لننظر إلى حالة بنيامين نتنياهو خلال حرب غزة 2023، فقبل اندلاع الحرب، كان نتنياهو (أطول رؤساء الوزراء الإسرائيليين خدمة) يمر بأعمق أزمة في حياته السياسية، ففي عام 2023، تراجعت مكانته المحلية بشكل حاد إثر تورطه في عدد من قضايا الفساد المنظورة أمام المحاكم، في وقت أثارت فيه محاولة حكومته إضعاف القضاء احتجاجات جماهيرية غير مسبوقة، وأشارت استطلاعات الرأي إلى أن حزبه الحاكم، الليكود، يواجه مأزقا خطيرا. بحلول أواخر صيف 2023، كان عشرات الآلاف من الإسرائيليين ينزلون إلى الشوارع بانتظام احتجاجا على قيادة نتنياهو؛ وبدت سلطته أكثر هشاشة مما كانت عليه منذ سنوات. ثم في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شنت حماس هجوما مباغتا، مثل صدمة وفشلا أمنيا ألقى الكثيرون باللوم فيه على حكومة نتنياهو، ولكنه خلق أيضا لحظة احتشاد حول الرجل، تتناغم مع "تأثير الالتفاف حول الراية". شكّل نتنياهو على الفور حكومة وحدة وطنية طارئة، وشرع في حرب ضد غزة، لفترة من الوقت، هدأت الانتقادات الموجهة إلى أخطاء الحكومة السابقة، حيث ركز الإسرائيليون على القتال القائم بالفعل. توقفت الاحتجاجات الضخمة المناهضة لنتنياهو؛ وانضم إليه قادة المعارضة في حكومة حرب. في البداية، حظي نتنياهو بتأييد شخصي، حيث توحد الإسرائيليون ضد عدو مشترك ولكن مع استمرار الحرب وتزايد الخسائر ازداد الرأي العام الإسرائيلي انقساما. وبحلول عام 2024، عاد العديد من الإسرائيليين للاحتجاج، مطالبين هذه المرة بوقف إطلاق النار لإنقاذ الأرواح وإعادة الأسرى المحتجزين في غزة. عادت الضغوط المحلية على نتنياهو إلى الظهور: بحلول سبتمبر/أيلول 2024، اعتقد حوالي 70% من الإسرائيليين أن نتنياهو يجب أن يستقيل بسبب تعامله مع الحرب. مع ذلك، رفض نتنياهو التفكير في التنحي أو حتى وقف القتال لفترة طويلة. بدلا من ذلك، صعّد مطالبه مُصرا، على سبيل المثال، على شروط لوقف إطلاق النار كان يعلم أن حماس سترفضها، مما أدى فعليا إلى إطالة أمد الحرب، جاء ذلك في سياق دعم أميركي كامل للعملية العسكرية على غزة. ويجادل المحللون بأن تعنت نتنياهو خلال حرب غزة مثال ساطع على "مقامرة البقاء" من خلال رفع الرهانات. وفي مواجهة انتقادات داخلية شديدة واحتمال انتهاء مسيرته السياسية إذا ظهر ضعيفا أو إذا انتهت الحرب بشكل سيئ، استمر نتنياهو في رفع الرهانات. وفي هذا السياق كتب غوتام موكوندا ، وهو زميل باحث في مركز القيادة العامة بكلية كينيدي بجامعة هارفارد أن "السبب الوحيد لعدم وجود نتنياهو في السجن هو أنه رئيس وزراء حاليا والبلاد في حالة حرب"، مشيرا صراحة إلى أن الحرب أصبحت درعا لنتنياهو ضد المساءلة الشخصية. في الواقع، طالما بقيت إسرائيل في حالة حرب، يمكن لنتنياهو أن يدعو إلى الوحدة الوطنية ويؤخر "يوم الحساب" حول إخفاقاته السابقة. بصفته رئيس وزراء إسرائيل الحالي، تمكن نتنياهو من تعطيل أو إبطاء الإجراءات القانونية المتعلقة بتهم الفساد الموجهة إليه. ولكن إذا ترك منصبه، فإن تلك المحاكمات (والإدانة المحتملة) ستلوح في الأفق. وبهذا المعنى، فإن البقاء في السلطة، كما وصفها موكوندا هو "أقرب ما يكون إلى بطاقة خروج من السجن" لنتنياهو. طبيعة الحرب يفسر قرار نتنياهو باستمرار الحرب أيضا من خلال كتاب "الحرب والعقاب: أسباب انتهاء الحروب والحرب العالمية الأولى" (War and Punishment: The Causes of War Termination and the First World War) وهو عمل أكاديمي من تأليف هاين غومانز، عالم السياسة المعروف بتطبيقه نظرية الألعاب على الصراعات الدولية. يوضح الكاتب أن قرارات القادة بمواصلة الحروب أو إنهائها لا تتشكل بالنتائج العسكرية فحسب، بل بالعواقب السياسية للخسارة أيضا، وخاصة الخوف من مغادرة السلطة أو العقاب أو حتى القتل. بعبارة أخرى، لا تنتهي الحروب بالضرورة عند "خسارتها" عسكريا، بل تنتهي عندما يرى القادة نتائج سياسية مقبولة لأنفسهم، هذا يتحدى الافتراض العقلاني القائل إن الدول تتوقف عن القتال عندما تفوق تكاليف الحرب فوائدها. تماشيا مع ذلك، وضع غومانز 3 شروط لإنهاء أي حرب، الأول هو تقارب التوقعات (يجب أن يتفق الطرفان على نتيجة استمرار القتال، إذا توقع كل طرف نتائج مختلفة، فسيواصلان القتال)، والثاني هو وجود شروط سلام مقبولة (يجب أن تكون هناك تسوية تفاوضية مُمكنة يُفضّلها الطرفان على استمرار الحرب)، والثالث هو استعداد القادة أنفسهم لقبول شروط السلام، بغض النظر عن أي أمر آخر، ويوضح جومانز أنه حتى في حال استيفاء الشرطين الأول والثاني، قد يرفض القادة السلام إذا خشوا العقاب المحلي بعد انتهاء الحرب. طبق غومانز نظريته على ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى، التي واجهت معارضة داخلية وانهيارا اقتصاديا، وفي النهاية ثورة عارمة. خشيَت النخب الألمانية الانتفاضات الثورية وفقدان النظام الملكي أكثر من خوفها من الهزيمة نفسها، وأجّلت الاستسلام عام 1918 حتى عندما كان الوضع العسكري ميؤوسا منه، ومن ثم شكّل الخوف من العقاب السياسي بعد الحرب قرارات القادة الألمان. وإلى جانب ذلك يشرح غومانز موقف الإمبراطورية النمساوية المجرية، وكانت إمبراطورية متعددة الأعراق تعاني أصلا من ضغوط، وبالتالي خشي القادة من أن يؤدي إنهاء الحرب مبكرا إلى تسريع الانهيار الداخلي والانتفاضات القومية، وبالتالي استمر القتال رغم الإرهاق العسكري. على الجانب الآخر فإن القيصر نيكولاس الثاني أجّل السلام حتى مع انهيار الجبهة الروسية، وأُطيح به في نهاية المطاف في ثورة فبراير/شباط 1917. بيد أنه من المهم ملاحظة أنه ليس كل قائد محاصر سيبدأ حربا أو يُسبب أزمة، فالكثير من السياسيين يقبلون الهزيمة أو يجدون حلولا أخرى. تشير الدراسات إلى أن صراعات "الإلهاء" أو رهانات "البقاء" و"البعث" قليلة نسبيا، رغم حدوثها في ظروف محددة. لكن ما هذه الظروف المحددة؟ لا توجد إجابة واضحة لهذا السؤال لكن يعتقد فريق من الباحثين أن الأمر لا يقف فقط عند حدود نظرية اللعبة ونسبة الاحتمالات، بل له جذور شخصية ونفسية بحتة، فالحاكم الذي يمتلك شعورا مبالغا فيه بأهمية الذات، وحاجة مستمرة للإعجاب، يرى الحرب فرصة لإظهار قوته وهيمنته، وإثبات أنه "القائد الذي لا يُقهر"، مما يعوض شعوره بالنقص أو الفشل الداخلي. بعبارة أخرى، يركز الحاكم النرجسي على تحقيق "انتصارات" تخدم صورته الذاتية المنتفخة، حتى لو كانت هذه الانتصارات وهمية أو مكلفة جدا، خاصة أن القادة النرجسيين غالبا ما يكونون شديدو الدفاعية، وأي نقد قد يدفعهم إلى "المعركة" لإثبات تفوقهم وتفاهة منتقديهم. من ناحية نفسية بحتة، تتفق هذه السمات مع بنيامين نتنياهو، حيث أفادت دراسة من جامعة تل أبيب بأنه يمتلك درجة مرتفعة من التمحور حول الذات، بل لا يتردد في استغلال الآخرين، بمن في ذلك زملاؤه، من أجل تحقيق النجاح الشخصي، ويرى رأيه فقط الصواب، ومن لا يتفقون معه جهلة بالعمليات التاريخية أو السياسية، كما أنه منكب على عالمه الخاص، ومن الصعب عليه التمييز بين الأبعاد الشخصية أو السياسية في حياته، وفق الدراسة.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
باتمان.. من الظلال الإبداعية إلى عرش الشاشة السوداء
عن السينما في الوقت الذي يعترف فيه العالم بالسينمائي بوب كين كمبتكر لشخصية 'باتمان'، فإن تقارير كشفت عن ظلم إبداعي، كون بيل فينجر هو من صمم جوهر الشخصية التي نعرفها اليوم. اقرأ المزيد


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
'أشعر أحيانا أننا نرقص في العتمة'.. حوار مع المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي
لا نطالب بفرص أفضل بل فرصة العيش فقط.. نشارك حكاياتنا مع العالم لفكّ العزلة عن غزة الضوء مسلط بشدة هذه الأيام على غزة، في المدن الفرنسية كافة، ليس بسبب صور المجازر التي لا تعرض منها المحطات التلفزيونية الفرنسية إلا أقلّ القليل، ولا بفضل بعض التظاهرات الداعمة من أناس لم ينسوا إنسانيتهم، بل بفضل فيلمين يعرضان في نحو 100 قاعة فرنسية، ويقدمان قدر المستطاع صورة واقعية معيشة عن الشعب الفلسطيني، في غزة وفي مدن الضفة. ما يميز فيلم 'من المسافة صفر' (2024) كونه آتيا من داخل غزة، مصنوعا بأيدي ناسها، معبرا عن حقيقة الواقع اليومي في صور إنسانية تُعنى بالإنسان، اسمه وشكله وحياته، لا بصورته العابرة رقما من بين آلاف فقدوا الحياة. كانت هذه فكرة المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، فقد طلب من مخرجين ومصورين ومهتمين بالفنون إخراج 22 قصة، ليجمعها في فيلم واحد. في لقاء مع الجزيرة الوثائقية في باريس، يحدثنا مشهراوي عن هذا الفيلم، وعن فيلمه 'أحلام عابرة' (2024)، الذي صوره قبل 7 أكتوبر في الضفة والمخيمات. يعرض الفيلمان في صالات فرنسا، وفي 'بانوراما سينما المغرب والشرق الاوسط'، الذي اختار مشهراوي ضيف شرف في دورته العشرين هذا العام، ليعرض أفلامه ويسلط بها ضوءا مؤثرا على معاناة أفراد وعائلات. دار فيلم 'غزة، المسافة صفر' حول معظم دول العالم، وقدم صورة واقعية مؤثرة عما يعانيه أهل غزة منذ العدوان الإسرائيلي. متى أتتك فكرته؟ وهل كان هدفه مخاطبة الأجنبي بطريقة أكثر فعالية، للحديث عن حياة الفلسطينيين اليومية؟ عندما تقع أحداث كبرى في فلسطين، أسعى -وأنا مخرج- لتحقيق عمل سينمائي روائي أو وثائقي، طويل أو قصير.. لأكون متدخلا لا متفرجا. فبعد 7 أكتوبر فكرت بفيلم وثائقي طويل، وبعد 3 أسابيع كان حجم الإبادة والمجازر كبيرا، لدرجة جعلتني أفكر بأن من الواجب أن يكون الفيلم مشروع مخرجات ومخرجين موجودين هناك. هم يعايشون القصف ويعانون، واحتياجاتهم كبيرة، إنهم أحق مني، فأنا لا أعيش في غزة، وكنت قد قضيت فيها طفولتي وشبابي، وفقدت 37 إنسانا من عائلتي في هذه الحرب، لكن بالمقارنة مع من يعيش هناك، فالكلمة يجب أن تكون لهم. قررت اختيار 22 مخرجا، لعمل فيلم قصير من 3-6 دقائق، لا يهم نوعه، سواء كان تحريكا أو وثائقيا أو روائيا.. ثم أتولى المونتاج مع طاقم فني. كيف اخترتهم؟ وهل كانت لديك رؤية واضحة عن مواضيع الأفلام؟ ما كان دورك؟ فرضت علينا الظروف رؤية واضحة، فكانت لدي 3 أهداف: حكايات لم تُحك بعد. أشخاص بأسماء وأحلام. حياة لا أرقام. تخيلي إلى أين وصلنا، لنقول نحن بشر. (يقولها متأثرا). اشترطت أن يكون صانع فيلم موهوبا اشتغل سابقا في الفن، أو يريد العمل به، فبعضهم كان فنانا تشكيليا، أو مصورا تلفزيونيا، أو مسرحيا، وكان هذا أول فيلم لمعظمهم، واتخذت هذا المشروع ورشة تدريبية، وذلك ما أفعل عادة، إضافة إلى عملي الإخراجي. والآن نحن -برغم المشاق- نصور في غزة فيلم 'من المسافة صفر وأقرب'، وهي عبارة عن 10 أفلام وثائقية طويلة وقصيرة. هل رفضت أفكار بعض المشاركين؟ وهل وضعت شروطا للعمل؟ نعم لأن كثيرين لديهم رغبة في الشكوى بلغة تشبه ما نرى في وسائل الإعلام ليل نهار، أي تقديم قصص بديهية ومتوقعة، وهذه لم تكن تهمنا. في المقابل أعجبتنا أفكار، لكننا لم نتابعها بسبب الظروف على الأرض من تنقلات، أو أوضاع صاحب الفكرة. مثلا فقد أحدهم عائلته وبيته وكل الأجهزة قبل التصوير، فكان همه إيجاد مكان لإنقاذ حياته ومن بقي من عائلته. ففي فيلم 'تاكسي' مات الجميع بعد يومين، وظهر المخرج في النهاية ليعلن هذه المأساة. كما لم أعتمد أي أرشيف للمصورين، ولا أي فيلم مصور قبل الحالة، فقد رغبت بتجربة فنية سينمائية وعمل يدوم. وقد عُرضت الأفلام في أكثر من 300 مهرجان، وفي 150 دار عرض في الولايات المتحدة، ووصل الفيلم للقائمة القصيرة للأوسكار. هل كان هدفك مخاطبة الجمهور الأجنبي في هذا الفيلم؟ رغبت بإدخال الجمهور لتفاصيل حياة الأبرياء اليومية الصغيرة تحت الحرب، بلا شعارات ولا انتماءات لأطراف سياسية داخلية أو خارجية. كان جزءا من الفكرة التعبير عن هذا الشعور الطاغي بأننا متروكون، وأن ثمة صمتا عالميا. سعينا إلى تشارك الحكايات مع العالم، والتأثير على هذه العزلة التي يعيشها أهل غزة، عبر هؤلاء السينمائيين الذين يستحقون الحياة. ها نحن نردد نفس الأقوال بعد 18 شهرا! أعطوهم فرصة للعيش، لا نطالب بفرص أفضل بل فرصة العيش فقط. فيلمك الأخير'أحلام عابرة' عن طفل من المخيمات في الضفة يريد استرجاع الحمامة التي طارت ولم تعد. تدور الأحداث في يوم واحد، ومن خلاله يتأكد ميل لديك لأفلام الطريق، أي الانطلاق في مهمة نكتشف بها حياة الفلسطينين اليومية. صحيح، أميل للأفلام التي تحصل في يوم واحد، مثل 'عيد ميلاد ليلى' (2007)، و'كتابة على الثلج' (2017)، و'حتى إشعار آخر' (1993)، وهو فيلمي الروائي الأول الذي عرض في مهرجان كان. أرى في هذه الأفلام نوعا من التجربة والتحدي النابع من الارتباط بمكان وزمان محددين. ففي 'أحلام عابرة' نرافق الشخصيات خلال يوم واحد، من الصبح إلى الليل، مع تصعيد للأحداث وتطوير للشخصيات. ألا يصعب تطوير الشخصية في يوم؟ ألا يتطلب هذا تكثيفا للأحداث؟ في هذا النوع من الأفلام، تبدو الشخصيات عند الانطلاق في مهمة ما غيرها في الإياب. نعم، ففي النص السينمائي تكثيف، وربما أميل إلى هذا لأني ولدت في مخيم الشاطئ، ولعبت في الأزقة، وكنا 6 نسكن غرفة واحدة، لا مساحات ولا خصوصية. قد يكون هذا تجلى من أفلامي الأولى، ففيلمي القصير 'الملجأ' (1987) عن حكاية في غرفة، تدور في يوم واحد. والآن يدفعني السؤال للتفكير بأني أخذت أشياء من الطفولة وثقافة المخيمات، وهذا يظهر بوعي أو بدون وعي في أفلامي، والمخيم مثلا موجود دائما فيها، و'أحلام عابرة' ينطلق من مخيم قلنديا وإليه يؤوب. كيف اخترت الأمكنة في الفيلم؟ لعلّ لكل منها رمزا معينا. لكل مكان رمزيته، فبيت لحم -بطابعها المسيحي- المدينة التاريخية التابعة للإنسانية جمعاء، أما الاحتلال فلا يحترم أحدا ولا تاريخا ولا ديانات. والقدس بواقعها داخل السور، وحيفا بكونها من أجمل المدن مع جبل الكرمل المطل عليها. كل هذه المدن التي تعبرها شخصيات الفيلم في بحثها عن الحمامة لم تأت صدفة، بل جولة جغرافية في فلسطين، واستعارة بأن كل هذه المدن وهذا الجمال والتاريخ والثقافة تحت احتلال وجدران وحواجز وممنوعات. هذا ما رغبت بإظهاره بشكل غير مباشر، فهو لم يكن الهدف بل الطائر، ولكن الطرق مليئة بالعواقب والتفاصيل الموجعة. بما أنك لا تبحث في السرد عامة عن أحداث مدهشة أو مفاجئة، فما علاقتك مع الزمن في أفلامك؟ أنجزت 9 أفلام روائية، عرضت في أماكن مهمة ومهرجانات كثيرة، لكنني أتتبع الوثائقي، حتى أفلامي الروائية فيها نفس وثائقي، لأني من الواقع وأميل للواقع. أنا من هنا، ولم أدرس في مدارس سينمائية، ولم أتأثر بأحد، وخطي السينمائي يتميز بالبساطة والعمق، أتعمق في دواخلي وفي المجتمع، وأعمل سينما لمفرداتها، وفيها ضحك وعبث. هذا يشبهني، أي السخرية السوداء، وهي نابعة من العبث الذي نعيشه، فنحن على نفس الوتيرة، كمن يضرب بنفس الشاكوش بعد 40 سنة، والوضع يتراجع، لكن السخرية السوداء في التعبير عن النفس هي منفذ لنا. حين تختار -كما قلت- إظهار أشياء محددة على نحو غير مباشر، هل ترغب بتسليط الضوء على أوضاع، أم إنها رسالة ما؟ هل تفكر بهذا قبل الكتابة، أم إنه يحضر تلقائيا؟ ماذا تريد أن يعلق بذهن الجمهور؟ اكتشفت مبكرا من أفلامي -ولا سيما الروائي الطويل الأول- أن للسينما قوة تعبيرية وثقافية، تسهم بحصول تبادل مع العالم، فنحن الفلسطينيين نُرسم بصورة معينة، وأما السينما فتنقل حقيقتنا وواقعنا، نحن غير أقوياء سياسيا ولا عسكريا، ولا يمكن مقارنتنا بأحد، فنحن نعيش اقتصاديا على المعونات. أنا أؤمن بأن أهم العناصر التي تضمن بقاءنا على الأرض هو مشروعنا الثقافي من آداب وفنون، وهو الذي يحصن هويتنا وتاريخنا وعاداتنا، ويمكن للسينما احتواء كل الفنون معا، ويمكن في السينما عمل وطن فلسطيني لا يحتله أحد، منطقة تابعة للخيال والحب والأحلام والأفكار. هم يقتلون البشر ويدمرون البنى التحتية، لكن برغم كل ما يصيبنا فلا خشية لديّ على الوجود الفلسطيني في فلسطين، لأننا نحمل هذه الهوية وهذه الثقافة التي نتشارك بها مع الجمهور في العالم، ليس مهما أن يحبنا الناس، المهم أن يتشاركوا معنا إنسانيتنا. في فيلم 'عيد ميلاد ليلى' مثلا، ثمة تجسيد لعاطفة كونية عن حب أب لابنته، أريد أن يتعرف الجمهور علينا وعلى ثقافتنا، وأن لدينا سينما متعددة بلغات سينمائية مختلفة باختلافنا، فنحن نعيش في مدن أو مخيمات أو منافٍ، ولكل تجربته. أريد أن يعرف الجمهور من هؤلاء الذين يفقدون الحياة، وأن يحسوا بهم. في فيلم 'عيد ميلاد ليلى' مشهد لمحمد بكري وهو يصرخ موجها أنظاره نحو الطيران في السماء: نريد أن نعيش عادي.. أن نربي أولادنا. هذا الكلام كتبته عام 2007، واليوم أكرره وأعمل أفلاما تقول ذات الشيء. تخيلي هذا! وإن اختلفت القصص فالمغزى واحد، أسمع نفسي وأنا أردد أشياء بديهية لكننا بحاجة إليها، يا للأسف! هل لديك أمثلة على ردود أفعال من الجمهور، الفرنسي مثلا؟ رأينا تعاطفا وهيجانا في المشاعر، وإعجابا بالفيلم الذي يحكي حكاياتنا، وما أرجوه أن يولّد هذا مع الوقت شيئا ملموسا لا دعما معنويا فقط، وقد بكى بعضهم وهو يشاهد 'من المسافة صفر'، لكننا لا نرى أشياء ملموسة على الأرض. إنها مشاعر صادقة وقوية، لكن جرحنا مفتوح، وينتابني أحيانا شعور أننا نرقص في العتمة (كناية عن عدم اكتراث الناس بنا)، وحتى السياسيون فهم يشجبون ويدينون، ويثيرون قضية حقوق الإنسان، لكنها كشيكات بلا رصيد. وهل قدمت عروضا للفيلم أمام السياسيين؟ عرضنا في اليونسكو وكلهم تأثروا، لكني في نهاية المطاف أجد نفسي تتساءل: طيب وبعدين؟ ماذا يعني لك الالتزام؟ أن تكون صادقا مع نفسك وما تشعر به، حتى لو كانت حساباتك السياسية خطأ، فالجمهور يغفر لك حين تكون صادقا، وتدافع عن مواقفك. ليس لدي أي التزام لأي سلطة، وأمارس النقد الذاتي، وأضغط على الجروح لتشفى.