
التجويع وسيلة فتاكة للإبادة… والأولوية الفلسطينية للانقاذ ومنع التهجير
ينص نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) في المادة 8 (2)(ب)(xxv) على أن 'تجويع المدنيين عمدًا كأسلوب من أساليب الحرب' يُعد جريمة حرب. كما أن المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية (1948) تتضمن الأفعال التي تهدف إلى التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، ومن ضمنها إخضاع الجماعة عمدًا لظروف معيشية يُقصد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا. وهذا يمكن أن يشمل الحصار الشامل، أو منع وصول الغذاء والماء، أو استهداف المنشآت الحيوية مثل المزارع والمخازن ومحطات المياه.
التجويع كسلاح في غزة: جريمة مستمرة
في السياق الفلسطيني، تشير كثير من التقارير الحقوقية الدولية (بما فيها تقارير من الأمم المتحدة ومؤسسات حقوق إنسان مستقلة) إلى أن الحصار المفروض على غزة، خاصة بعد 7 أكتوبر 2023، واستخدام التجويع كسلاح، يرقى إلى جريمة إبادة جماعية، خاصة مع التصريحات العلنية لبعض المسؤولين الإسرائيليين التي تدعو صراحة إلى منع الغذاء والماء عن السكان.
وقد أصبحت هذه الجريمة المتصلة بالتجويع، منذ التاسع من آذار/مارس الماضي، الوسيلة الأكثر فتكًا بالمدنيين الفلسطينيين، لا سيما الأطفال والنساء والمرضى وكبار السن، حيث اخترقت إسرائيل اتفاق يناير، بدعم غير مسبوق من إدارة ترامب، في شراكة واضحة مع فاشيي تل أبيب بمواصلة الإبادة الجماعية.
'مؤسسة غزة الإنسانية': أداة إضافية للإبادة
ولم تتمكن واشنطن من التغطية على هذه الجريمة الأشد خطورة، رغم تشغيل ما يسمى بـ'مؤسسة غزة الإنسانية'، التي باتت وسيلة إضافية لحرب الإبادة، حيث تحولت إلى مصائد للموت في أبشع صور استخدام حاجة الناس للطعام والتجويع الذي يتعرضون له.
أولوية غزة: وقف القتل وضمان الكرامة
ومع ذلك، فأهل غزة، ورغم حاجتهم لإعلاء الصوت ضد التجويع والإبادة، فإن أولويتهم تتركز في وقف القتل الذي يحيط بهم من كل حدب وصوب، وضمان وصول الطعام والمساعدات الإغاثية المنقذة للحياة بطريقة تحفظ إنسانيتهم وكرامتهم المستباحة. وهم يدركون أن ذلك لن يتحقق ما لم تصبح هذه الأولوية مسؤولية الجميع دون استثناء، والأهم تحرير حياتهم ومعاناتهم من الحسابات السياسية الداخلية، كي يُوضَع الجميع أمام مسؤولياته في مواجهة ما تخطط له حكومة تل أبيب الفاشية، لا سيما لجهة مخططاتها لاستكمال نكبة 1948 بتهجير الناس خارج فلسطين.
وقد تم الكشف عن أن هذه الخطط كانت محل بحث بين تل أبيب وإدارة ترامب خلال زيارة رئيس الموساد إلى واشنطن قبل أيام. يأتي ذلك في وقت تواصل فيه حكومة تل أبيب مخططات الضم والتهويد، بما يشمل سعيها لتفكيك السلطة في سياق شطب أي صيغة للكيانية الفلسطينية.
ما العمل؟ وما هي السياسة المطلوبة فلسطينيًا؟
منذ الشهور الأولى للعدوان على غزة، والسلطة تعلن استعدادها لتولي مسؤولياتها في القطاع. ولكن التعبير عن الاستعداد ليس بالضرورة أن يعني القدرة على الاضطلاع بمثل هذه المسؤوليات. فما الذي قامت به السلطة حتى تكون قادرة على ذلك؟ كما هو معلوم، فإن مفتاح هذه القدرة والمرتكز الأساسي لها هو تمكين السلطة سياسيًا من القيام بما هو مطلوب. الأمر الذي لم يتحقق ولن يتحقق دون لمّ الشمل الفلسطيني على قاعدة ما تم التوافق عليه وطنيًا من قبل كافة الفصائل، وخاصة ما اتُّفق عليه قبل عام في بكين. هذا من الناحية السياسية. وأما لجهة القدرة على ممارسة هذا الدور عمليًا لجهة الإغاثة والإعمار ومداواة جروح الناس وآلامهم، فليس من الواضح كيف يمكن أن تمتلك السلطة مثل هذه القدرة، في الوقت الذي تتصاعد فيه سياسات الاحتلال التي أدت إلى مزيد من إضعافها، مما أدى إلى تدهور حاد في قدرتها على القيام بمسؤولياتها حتى على صعيد الضفة الغربية، كما عبّر عن ذلك البيان الأخير لحكومة السلطة بهذا الشأن. فكيف سيكون الحال لمثل هذه القدرة، والجميع يعلم طبيعة التحديات الكبرى الناجمة عن الإبادة المستمرة في قطاع غزة؟
ألم يحن الوقت، على خلفية ذلك كله، للإقلاع مرة وإلى الأبد عن الوهم بأن 'سياسة ملاحقة العيار لباب الدار' لن تجدي نفعًا؟ لا، بل من المؤكد أنها تقذف بقضيتنا إلى وبال محتوم. هذا بالإضافة إلى أن استراتيجية حكومة تل أبيب ماضية في تفكيك السلطة ذاتها، بينما تواصل ضم الأرض .
في المقابل، هل تعتقد حماس أن الوقت يعمل لصالحها؟ وأن حصولها على ضمانات أمريكية سيمنع نتنياهو من العودة للقتال، إن كان ذلك ما يخطط له؟ ومن المؤكد أنه يخطط لذلك.
صحيح أن ترامب، بفعل الانتفاضة الشعبية الكونية في أصقاع الأرض، بما في ذلك في الولايات المتحدة نفسها، وأيضًا بفعل أن هذه الحرب تحمل نُذر انفجار المنطقة، ربما بات يميل لإجمال صفقة تُعيد الأسرى الإسرائيليين، وربما أيضًا أنه يريد وقف الحرب.
ولكن ذلك لا يُلغي أن ترامب يقف إلى جانب إسرائيل لتصفية المقاومة وسلاحها، تمهيدًا لمزيد من استباحة غزة وأهلها بالتهجير.
فهل تعتقد حماس أنها قادرة لوحدها على مواجهة هذا الخطر الوجودي على شعبنا وقضيته؟ هذه ليست دعوة للاستسلام للمخططات الإسرائيلية، أو تنازلًا عن القضايا المفصلية التي تمس مستقبل الوجود الفلسطيني وحقوق شعبنا الوطنية المشروعة، ولكنها بالتأكيد دعوة مخلصة للبحث الجدي في السبل السياسية التي تمكّن شعبنا من الصمود، والقدرة على مواجهة المخاطر والمخططات التي تقودها تل أبيب وواشنطن، دون رادع جدي من الأطراف الإقليمية والدولية.
نحو إجابة فلسطينية موحدة لليوم التالي
السؤال الجوهري هنا هو: هل يكفي موقف حماس بترداد أنها منفتحة على وحدة الموقف، سواء ما يسمى بلجنة الإسناد المجتمعي أو حكومة توافق، مقدمةً الأولى على الثانية رغم أنها لا تحظى بذات الإجماع، وذلك يأتي في سياق انتظاري، وكأن تحقيقه مسؤولية أطراف مجهولة؟ أو تستمر في تعليق عدم إنجازها على مشجب نأي السلطة بنفسها عن كل ما يجري؟
هذا أيضًا ليس تشكيكًا بموقف حماس إزاء متطلبات المواجهة الوطنية، ولكنه بالتأكيد تكرار واجب للنداء الذي سبق وقدمناه لقيادتها السياسية، بأن المسؤولية الملقاة على عاتقها، لا سيما أن حماس هي من انفردت بالطوفان، هي مسؤولية استثنائية بألّا تُبَدَّد التضحيات الهائلة التي قدّمها شعبنا وما زال يقدّمها.
ألا تعتقد القيادة السياسية لحماس أن الضمانة الأكثر واقعية لمنع نتنياهو من تحقيق ما يخطط له، تكمن أساسًا في تقديم إجابة فلسطينية موحدة لما يُسمى بـ'اليوم التالي'؟
وأن تلك الإجابة تتحدد في الإصرار على تشكيل فوري لحكومة وفاق، تبني على التضحيات الهائلة، والمطالب الجامعة لوقف الإبادة ؟ وأن تكون هذه الحكومة هي المفوّضة باستكمال التفاوض حول جميع مكونات ملف غزة، ولسد الثغرات والغموض الذي تسعى إسرائيل إلى فرضه؟
حكومة وفاق وطني: مفتاح استعادة القرار الفلسطيني
قد يقول البعض إن قيادة السلطة، التي نأت بنفسها حتى الآن، لا تريد ذلك، إلا أن إعلان حماس، بالتوازي مع ما سوف يتم التوصل إليه من اتفاق انتقالي، بأن تضع مسؤولية استكمال التفاوض وفق الإجماع الوطني في عهدة حكومة وفاق وطني، من شأنه أن يُعيد وضع الجميع أمام مسؤولياتهم المباشرة، بل وأن يُخرج التفاوض ومستقبل القضية الفلسطينية من دهاليز مخططات التصفية، بما في ذلك للمقاومة وسلاحها، إلى ما يجمع عليه الشعب الفلسطيني، تمهيدًا للذهاب المتعافي نحو انتخابات عامة شاملة، لا انتخابات تُجرى في غياب التوافق الوطني، كما ورد في بيان الجبهة الديمقراطية. ذلك أن انتخابات من هذا النوع لن تؤدي، في غياب التوافق، سوى إلى مزيد من تقويض مكانة منظمة التحرير، التي يُفترض أن تكون جبهة وطنية متحدة لقيادة النضال الوطني، لا أن تتحول إلى محط خلاف داخلي، كما أضحت، بدلًا من أن تكون البيت الجامع للفلسطينيين كافة، كما يجب أن تكون.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


معا الاخبارية
منذ 7 دقائق
- معا الاخبارية
أثر الحرب على سوق العقارات
لا شك أن الأراضي الفلسطينية تشهد تصعيدًا عسكريًا مستمرًا وغير مسبوق، خلّف آثارًا عميقة على مختلف الأصعدة، إلى جانب الكارثة الإنسانية التي يعاني منها أهلنا في قطاع غزة. هذه الحرب الممتدة تركت بصماتها السلبية على معظم القطاعات الحيوية في فلسطين، بل وحتى على بعض الدول المجاورة. وبحكم التخصص، يمكنني التحدث تحديدًا عن قطاع العقارات، الذي أعتقد أنه كان من أكثر القطاعات تضررًا على المستوى الاقتصادي، حيث وصل إلى حالة أقرب ما تكون إلى الشلل، في ظل الانكماش الاقتصادي وتراجع القدرة الشرائية لدى الأفراد والمؤسسات، وهي نتائج مباشرة للحرب الدائرة. لقد لمسنا تأثيرات الحرب بوضوح على حركة البيع والشراء، التي تكاد تكون معدومة في بعض المناطق، لا سيما القريبة من المناطق المصنفة(C). فالغياب التام للبيئة الآمنة والاستقرار الأمني يمثل عائقًا رئيسيًا أمام أي نشاط اقتصادي. يضاف إلى ذلك الدمار الواسع الذي خلفه العدوان في مخيمات ومدن شمال الضفة الغربية، وأدى إلى تضرر العديد من المباني السكنية والتجارية، ما تسبب في أزمة سكنية خانقة زادت الحاجة إلى إعادة الإعمار، رغم التحديات المالية واللوجستية والأمنية المحيطة. أما قطاع الإنشاءات، فقد شهد تراجعًا ملحوظًا، في ظل القيود المتكررة على إدخال مواد البناء إلى الأراضي الفلسطينية، وارتفاع تكاليفها بشكل مستمر، الأمر الذي قلّص من قدرة المستثمرين على تنفيذ مشاريعهم. وعلى صعيد التمويل، فإن تردي الوضع الاقتصادي العام أسهم في تقليل فرص التمويل العقاري، لا سيما مع ضعف قدرة المواطن على الادخار، وغياب الرؤية المستقبلية، وانعدام بيئة آمنة للاستثمار أو الاستقرار. من هنا، أؤكد أن القطاع العقاري في فلسطين بحاجة إلى تدخل جاد وعاجل من جميع الجهات ذات العلاقة، عبر وضع خطة شاملة لإعادة الإعمار، وتوفير حوافز حقيقية للمستثمرين، وتسهيل الإجراءات أمامهم، بما يسهم في استعادة الثقة وتحفيز الحركة الاقتصادية. وقبل كل شيء، لا بد من تضافر الجهود كافة لوقف العدوان على شعبنا، ليتسنى لنا العمل على بناء مستقبل أفضل.


جريدة الايام
منذ ساعة واحدة
- جريدة الايام
إسرائيل تنهار: حان وقت العصيان المدني
بقلم: إيهود باراك* إسرائيل، التي أعلنت في وثيقة الاستقلال، والتي تمثل جوهر الرؤية الصهيونية، تنهار أمام أعيننا. وحالة الطوارئ التي نعيشها اليوم تتطلب يقظة وطنية شاملة في ظل 5 أسئلة مصيرية: ما الذي يحدث لنا؟ مَن المسؤول؟ ما هو الفعل المطلوب، هدفه ونتيجته؟ مَن هو الذي يجب أن يطلق هذا الفعل ويقوده؟ ومَن الذي يجب عليه أن ينهض لتحقيقه؟ الإجابة عن السؤال الأول: يدرك المواطنون، في أغلبيتهم الساحقة، تماماً ما الذي يحدث. لدينا شعب رائع وجيش حقق إنجازات باهرة في مواجهة "حزب الله" وإيران وسورية. لكننا عالقون في "حرب خداع" في غزة. الدماء تسيل، والعائلات ورجال الأعمال من جنود الاحتياط ينهارون، وفي المقابل، يحتفل المتهربون من الخدمة العسكرية بانتصارهم. ويسير الانقلاب القضائي وسحق حراس البوابة بسرعة. المخطوفون متروكون على مذبح بقاء السلطة التي أفشلت محاولات تحريرهم مراراً. بالنسبة إلى هذه السلطة، من المهم أن تستمر الحرب؛ لأن نهايتها ستكون يوم حساب للحكومة، ومحاكمة سريعة، وتشكيل لجنة تحقيق رسمية، وعزلاً مشيناً. مَن المسؤول؟ المسؤول الحكومة ورئيسها. قيادة عديمة المسؤولية تتأرجح ما بين الرؤية المسيحانية لإيتمار بن غفير وبِتسلئيل سموتريتش، وجشع الحريديم، والمصالح الشخصية لبنيامين نتنياهو الغارق في الفضائح. فمن أجل الدفاع عن بقائه، يسعى لتحويل إسرائيل إلى ديكتاتورية، من خلال تعيين "أشخاص مطيعين" في رئاسة "الشاباك" ومنصب المستشار القانوني للحكومة، وإخضاع المحكمة العليا. لم يعد هناك ما لا يمكن تصوُّره، بما في ذلك إلغاء الانتخابات الحرة وظهور ميليشيات يمينية مسلحة. إن اللحظة الدستورية" حلّت فعلاً. كنا نردد منذ طفولتنا: "شعب إسرائيل حيّ"! واليوم، هناك مَن يضيف: "حيّ في فيلم خيالي". ماذا يجب أن نفعل؟ لا يمكن التوصل إلى تسوية بين مدمّري إسرائيل والمدافعين عنها. ما من شيء مقدس عندما ينهار الحصن، ولا حتى إجازات المحاكم والكنيست. يجب أن يستمر التحقيق في قضايا فساد نتنياهو على مدار خمسة أيام في الأسبوع. يجب على الكنيست مواصلة عمله والتوصل إلى قرارات، بينما يعاني المخطوفون في الأنفاق، وكلّ يوم قد يكون يومهم الأخير، وتتحول إسرائيل إلى دولة منبوذة في العالم، حيث فقدت الأغلبية ثقتها بالحكومة ورئيسها. الاستسلام ممنوع، يجب إسقاط الحكومة الآن. مَن يتردد في إلغاء العطل قد يجد بعدها أن ديمقراطيتنا أصبحت جثة. ما هو الفعل الوحيد القادر على إنقاذ إسرائيل؟ أنه العصيان المدني اللاعنفي. والإضراب الشامل في الدولة حتى استقالة الحكومة، أو رئيسها. فقط عندما تتوقف إسرائيل عن العمل تماماً، ستُلغى الإجازات، وسترضخ الحكومة لإرادة الشعب، وتفسح المجال لحكومة أفضل. مَن يجب أن يقود هذا المسار؟ قيادة الدولة! رئيس الدولة، قادة المعارضة، الهستدروت (اتحاد العمال)، قادة قطاع التكنولوجيا، رجال الأعمال، الأكاديميون، رجال القانون، رؤساء جهاز التعليم والصحة، حركات الكيبوتسات والموشافيم، وطبعاً قادة الاحتجاجات. إذا فشلنا، فسيهبط الظلام على إسرائيل، الذي يهدد هويتها وأمنها ووجودها. وستُحفر وصمة عار على جبين رئيس الحكومة ووزرائه إلى الأبد. لكن العار سيلحق أيضاً بكل مَن وقف جانباً وصمت. الوحيد القادر على النجاح في ذلك هو الشعب. عندما يخرج مليون شخص إلى الشوارع، بعزيمة وإصرار، يمكنهم إسقاط الحكومة. يجب أن نكون كلنا معاً، وعلى مدار الساعة: في الساحات، وفي المفترقات، وعلى الجسور، ويجب الجلوس على الطرقات، في قوافل السيارات، وفي المسيرات، حتى يُطرَد رئيس الحكومة وحكومته، ويذهبون إلى منازلهم. وأكرّر تحذيري: المطلوب عصيان مدني الآن، فبعد العطلة سيكون فات الأوان. عن "هآرتس" ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *رئيس وزراء أسبق.


جريدة الايام
منذ ساعة واحدة
- جريدة الايام
جورج عبد الله يؤكد من بيروت تمسكه بـ"المقاومة" بعد أربعين عاماً في السجن
بيروت - أ ف ب: أكد الناشط اللبناني المؤيد للفلسطينيين جورج إبراهيم عبد الله، الذي أدين بالتواطؤ في اغتيال دبلوماسيَّين أميركي وإسرائيلي في ثمانينيات القرن الماضي، تمسكه بالمقاومة من أجل فلسطين، في أول تصريح فور وصوله إلى مطار بيروت آتياً من فرنسا. وأمضى عبد الله، المدرّس السابق البالغ 74 سنة، أربعين عاماً في سجون فرنسا التي حكمت عليه بالسجن مدى الحياة. وكان مؤهلاً للإفراج المشروط منذ 25 عاماً، لكن 12 طلباً لإطلاق سراحه رُفضت كلها. محاطاً بعدد من أفراد عائلته والناشطين في الحملة التي طالبت بإطلاق سراحه، قال عبد الله الذي وضع وشاحاً بألوان الكوفية الفلسطينية لصحافيين في قاعة الشرف في المطار: "المقاومة من أجل فلسطين يجب أن تستمر وتتصاعد، وتكون بمستوى الهياكل العظمية لأطفال" غزة. وانتقد كيف أن "ملايين العرب يتفرجون" بينما "أطفال فلسطين يموتون جوعاً"، مضيفاً: "هذا معيب للتاريخ وبحق الجماهير العربية أكثر من الأنظمة التي نعرفها". واعتبر عبد الله، بينما وقف إلى جانبه النائبان عن "حزب الله" إبراهيم الموسوي وحركة أمل قبلان قبلان، أنه "انتصرت مواجهة العدو والاستمرار في مواجهة العدو إلى الأبد حتى دحره"، معتبراً أن "اسرائيل تعيش آخر فصول وجودها". هبطت الطائرة التابعة لخطوط شركة "إير فرانس" التي أقلت عبد الله، عند الثانية والنصف بعد الظهر، في مطار رفيق الحريري الدولي، بعد إقلاعها صباحاً من مطار رواسي. وتجمع العشرات أمام قاعة الوصول في المطار، وفق ما شاهد مصور لفرانس برس، رفع بعضهم العلم الفلسطيني وآخرون رايات الحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي، قبل أن يبعدهم الجيش اللبناني، انطلاقاً من منع المظاهر الحزبية في المطار. وقالت المدرّسة سهام أنطون (56 عاماً) التي كانت في عداد أول الوافدين إلى المطار لفرانس برس: "تحوّل جورج عبد الله إلى رمز وملهم لنا جميعاً.. رغم كل الظلم والأسر الذي عانى منه". على بعد أمتار، استذكر الناشط عبد طباع (75 عاماً) سنوات النضال المشتركة مع عبد الله. وقال بفخر: "جورج عبد الله أثبت للعالم كله وللفرنسيين أنه لا يركع". وكان من المقرر الإفراج عن عبد الله السبت، لكن جرى إطلاق سراحه أمس، بعدما أصدرت محكمة الاستئناف في باريس الأسبوع الماضي قرارها بالإفراج عنه، شرط أن يغادر فرنسا وألا يعود إليها. وأفاد فريق وكالة فرانس برس بأن موكباً من ست مركبات، من بينها حافلتان صغيرتان، انطلق من سجن لانميزان في مقاطعة أوت-بيرينه في جنوب غربي فرنسا. وحُكم على عبد الله بالسجن مدى الحياة عام 1987 بتهمة الضلوع في اغتيال دبلوماسي أميركي وآخر إسرائيلي عام 1982. وكان مؤهلاً للإفراج المشروط منذ 25 عاماً، لكن 12 طلباً لإطلاق سراحه رُفضت كلها. وقال القائم بالأعمال في سفارة لبنان في باريس زياد تيان، الذي التقى عبد الله في مطار رواسي قبيل مغادرته: "بدا في صحة جيدة وسعيداً جداً بالعودة إلى لبنان وإلى عائلته، وباستعادة حريته بعد أكثر من 40 عاماً". والتقت وكالة فرانس برس عبد الله يوم صدور قرار الإفراج عنه في 17 تموز في زنزانته برفقة النائبة عن اليسار الراديكالي أندريه تورينيا. وقال الرجل الذي غزا الشيب لحيته الكثة حينها: "أربعة عقود هي فترة طويلة لكن لا تشعر بها متى كانت هناك دينامية للنضال". وجاء إطلاق سراحه ، أمس، بعدما أعلنت النيابة العامة في باريس، الإثنين الماضي، التقدّم بطعن أمام محكمة التمييز في قرار محكمة الاستئناف. لكن الطعن الذي يستغرق البتّ به أسابيع عدة، لا يعلق تنفيذ الحكم أو يعيق عودة عبد الله إلى لبنان. وقال محاميه جان-لوي شالانسيه الذي التقاه للمرة الأخيرة في السجن، أول من أمس: "بدا سعيداً جداً بالإفراج الوشيك عنه مع أنه يدرك أنه يعود إلى منطقة شرق أوسط عصيبة جداً للبنانيين والفلسطينيين". في الأيام الأخيرة، عمد عبد الله إلى إفراغ زنزانته المزينة بعلم أحمر يحمل صورة تشي غيفارا وفيها الكثير من الصحف والكتب التي سلمها إلى لجنة الدعم الخاصة به. وأعطى غالبية ملابسه إلى سجناء معه وخرج "بحقيبة صغيرة"، وفق محاميه. ومن بيروت، توجه عبد الله إلى مسقط رأسه في بلدة القبيات (شمال)، حيث نظّم له استقبال شعبي ورسمي. واعتبر قضاة محكمة الاستئناف أن مدة احتجاز عبد الله "غير متناسبة" مع الجرائم المرتكبة ومع سنّه. وجاء في الحكم أن عبد الله بات "رمزاً من الماضي للنضال الفلسطيني"، مشيراً إلى أن المجموعة الصغيرة التي تزعمها، وضمّت ماركسيين وناشطين مؤيدين للفلسطينيين، باتت منحلّة "ولم ترتكب أي أعمال عنف منذ 1984". أصيب جورج عبد الله أثناء الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في العام 1978، وانضم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كان يتزعمها جورج حبش. بعدها، أسس مع أفراد من عائلته الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، وهي تنظيم ماركسي مناهض للإمبريالية تبنى خمس هجمات في أوروبا بين العامين 1981 و1982 في إطار نشاطه المؤيد للقضية الفلسطينية. وأوقعت أربع من هذه الهجمات قتلى في فرنسا. اعتُبر عبد الله لفترة طويلة مسؤولاً عن موجة اعتداءات شهدتها باريس بين العامين 1985 و1986 وأوقعت 13 قتيلاً. حُكم عليه في العام 1986 في ليون بالسجن أربع سنوات بتهمة التآمر الإجرامي وحيازة أسلحة ومتفجرات، وحوكم في العام التالي أمام محكمة الجنايات الخاصة في باريس بتهمة التواطؤ في اغتيال الدبلوماسيَّين الأميركي تشارلز راي والإسرائيلي ياكوف بارسيمينتوف عام 1982، ومحاولة اغتيال ثالث عام 1984. وبعد شهرين من الحكم على عبد الله بالسجن مدى الحياة، تم التعرف إلى المسؤولين الحقيقيين عن هذه الاعتداءات وهم على ارتباط بإيران. ولم يُقرّ عبد الله بضلوعه في عمليتَي الاغتيال اللتين صنفهما في خانة أعمال "المقاومة" ضد "الاضطهاد الإسرائيلي والأميركي" في سياق الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) والغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1978. وباستثناء عدد ضئيل من المؤيدين الذين واصلوا التظاهر كل سنة أمام سجن عبد الله وبضعة برلمانيين يساريين، بات المعتقل منسياً على مر السنين بعدما كان في الثمانينيات العدو الأول لفرنسا وأحد أشهر سجنائها.