
صور أطفال فيتنام غيّرت العالم فلماذا لا يهتز لصور أطفال غزة؟
في 30 أبريل/نيسان 2025 تحل الذكرى 50 لنهاية حرب فيتنام التي أسدل الستار على وقائعها الدموية رسميا مع دخول الفيتناميين الشماليين إلى عاصمة الجنوب سايغون عام 1975، بعد عملية إجلاء مذلة للقوات الأميركية التي تكبدت واحدة من أكبر الهزائم في تاريخها.
ومع قدوم الذكرى تبرز إلى المشهد صورة أيقونية يُعتقد أنها أسهمت في تغيير موقف العالم تجاه الحرب وتعريفه بحقائقها الصادمة والدموية.
ففي يوم الجمعة 8 يونيو/حزيران 1972، هاجمت الطائرات الفيتنامية الجنوبية المدعومة من الولايات المتحدة قرية الطفلة فان ثي كيم فوك (9 أعوام) وأحرقتها حرقا، ما دفع الطفلة للركض والصراخ بحروقها البالغة وهي عارية تماما، إذ أذابت الحروق ملابسها وطبقات من جلدها، وقد سمعها مصور وكالة أسوشيتد برس، نيك أوت، وهي تهرول وتصرخ، فالتقط صورة المشهد المأساوي.
وهي الصورة التي انتشرت واشتهرت في كل أنحاء العالم، ونقلت له دون كلمات كثيرة؛ مدى الأهوال التي يعيشها الأبرياء في فيتنام بسبب الحرب التي تصر واشنطن على تحقيق المكاسب السياسية فيها إلى آخر لحظة، على حساب حقوق وحياة الفيتناميين الذين يبعدون عنها آلاف الكيلومترات.
الصورة التي اعتبر المصور الألماني الشهير الحائز على جائزة بوليتزر مرتين، هورست فاس، أنها الصورة الأشهر في حرب فيتنام، لعبت دورًا كبيرًا في زيادة الضغط الشعبي والعالمي على الولايات المتحدة من أجل إنهاء الحرب، وقد وصفتها صحيفة "ذا هندو"، وهي الصحيفة الأوسع انتشارًا في الهند، بأنها "الصورة التي غيّرت مسار الحرب".
بالطبع، لا يمكن لصورة أن تنهي حربا، لكنها ساهمت مع قريناتها، بالإضافة إلى ظروف موضوعية، في خلق أجواء مناهضة للتدخل الأميركي في الحرب، ما مهد الطريق لتوحيد فيتنام واستقلالها، لتصبح اليوم واحدة من أبرز القوى الاقتصادية الصاعدة على مستوى العالم.
لكن التأثير الضخم الذي أحدثته صورة كيم فوك، فشلت في إحداثه لاحقا صورٌ لا تقل بشاعة، ولم تفلح في هز ضمير العالم ودفعه للانتفاض ضد الحرب والإبادة، وفي مقدمتها الصور التي تتقاطر يوميا من قطاع غزة.
على سبيل المثال، في يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول 2024، انتشر مقطع مشابه يظهر الطفلة الفلسطينية أسماء، النازحة من قطاع غزة، وهي تسير حافية تحت أشعة الشمس الحارقة، حاملة شقيقتها المصابة، نحو خيمة عائلتها التي تبعد عنها قرابة كيلومترين كاملين قطعتهما الطفلة بحملها الثقيل في تلك الأجواء الصعبة.
لم تُحدث صورة أسماء، وغيرها من مئات وآلاف الصور التي التقطت على مدار 19 شهرا من حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، والتي خلفت حتى الآن أكثر من 51 ألف شهيد، و117 ألف مصاب، فضلًا عن مئات الآلاف من المشردين والجائعين؛ لم تُحدث تأثيرا يذكر في وقف الجرائم الإسرائيلية، فرغم كل المناشدات والمظاهرات الضخمة التي خرجت في العالم من شرقه إلى غربه.
ورغم كل القرارات الدولية، يستمر مشروع الإبادة الإسرائيلي على قدم وساق، هادفا ليس فقط إلى إلحاق العقاب الجماعي بالفلسطينيين بعدما تجرؤوا على ممارسة حقهم في مقاومة المحتلين لأرضهم، وإنما يسعى أيضًا للقضاء التام على أحلام الفلسطينيين العادلة لأجيال كثيرة قادمة، من خلال درس تأديبي استعماري شديد القسوة، وهو ما يدفعنا للتساؤل: ما الذي اختلف حقا اليوم عن زمان حرب فيتنام؟
عالم مختلف
بادئ ذي بدء، بين الصورتين عالم اختلف على نحو واضح في أشياء كثيرة، ففي حرب فيتنام كانت هناك قوتان عظميان على قمة العالم: الولايات المتحدة الأميركية ، و الاتحاد السوفياتي ، وكان لكل قوة منهما مشروع أيديولوجي تحاول خلق العالم على صورته، فبينما قدمت الولايات المتحدة نفسها باعتبارها زعيمة العالم الحر، حيث الديمقراطية السياسية والحريات الفردية والسوق الحرة والازدهار الاقتصادي، كان الاتحاد السوفياتي يقدم نموذجه الاشتراكي باعتباره واحة المساواة والعدالة الاجتماعية والترابط المجتمعي والتعاون الإنساني.
كان التنافس على أشده بين المعسكرين اللذين سُميا الاشتراكي والرأسمالي -رغم أن تلك المسميات ربما لا تصمد تماما أمام الفحص الدقيق- لكسب المواقع في العالم، وسرعان ما تشكلت ملامح الحرب الباردة بينهما لتشمل تقريبًا كل مكان في العالم، إذ صارت كل أراضي العالم وبحاره وسماواته مسرحًا للصراع على النفوذ من أجل اكتساب بقعة جديدة من النفوذ لهذا المعسكر أو ذاك.
بحسب دائرة المعارف البريطانية، فإن الحرب البادرة لا بد أن تفهم إلى حد كبير باعتبارها مواجهة أيديولوجية. وبينما كان للمعسكر الشرقي فيها أيديولوجية واضحة وهي الشيوعية، كانت أيديولوجيا الغرب آنذاك غير واضحة تمامًا، إذ كانت بالأساس معادية للشيوعية أكثر من كونها بناء أيديولوجيا متماسكا وموحدا.
والواقع أن هذا الفارق هو ما جعل المعسكر السوفياتي بالأخص في البداية أنجح في اجتذاب الشعوب والدول النامية التي تحاول اللحاق بركب التنمية بعد عقود من التجارب الاستعمارية المريرة، إذ قدم الاتحاد السوفياتي نفسه لدول العالم الثالث باعتباره القوة المعادية للإمبريالية التي لا تمارس نفس السياسات الاستغلالية التي تمارسها الولايات المتحدة، وريثة القوى الاستعمارية الغربية.
بعبارة أوضح، لقد وضعت الأيديولوجية السوفياتية النموذج الغربي في حرج، فبينما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون قد تورطوا لوقت طويل في انتهاكات جسيمة في بلدان مختلفة من العالم لحماية مصالحها، كان الاتحاد السوفياتي يقدم نفسه باعتباره نموذجًا جديدًا للتعاون والتشارك مع دول العالم النامية.
وقد كانت الولايات المتحدة تعاني داخليًا من انتهاكات وعدم مساواة وعنصرية واضطرابات عرقية مُمأسسة قانونيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وهو ما استطاع الاتحاد السوفياتي استخدامه جيدًا للترويج لنفسه في مواجهة ما اعتبرها "الإمبريالية الغربية".
في ظل تلك الصورة، كان من اليسير على القضايا العادلة -و"غير العادلة أيضا- أن تجد حليفًا لها، بل وأن تستفيد الدول النامية من كلا المعسكرين وتلعب على حبالهما، في وقت تتصارع فيه قوتان عظميان على قيادة العالم، بل وكان من السهل أن تنشأ منظمة تحرر وطني تجتمع تحت رايتها 120 دولة غالبيتهم من الدول النامية، وهي منظمة حركة عدم الانحياز، التي أعلنت رفضها تبني مفاهيم القطبين المتصارعين آنذاك، مركزة اهتمامها على استقلال القرارات الوطنية للدول النامية، ورافضة استغلالها أو دفعها ناحية طرح سياسي معين، سواء من المعسكر الشرقي أو الغربي.
قلب الكراهية
أما عالم اليوم فهو عالم لا يزال يتحول تدريجيًا -وببطء- من عالم القطب الواحد المنتصر في الحرب الباردة السابقة إلى عالم متعدد الأقطاب المتنافسة، فكما أوضح عالم السياسة الهندي الشهير، ديليب هيرو، في كتابه "ما بعد الإمبراطورية.. ميلاد عالم تعددي قطبي" الصادر في عام 2012.
فمنذ نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، بدأت أعداد متزايدة من المثقفين في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم يدركون الحقيقة أكثر وأكثر، وبدأت النشوة الأولية التي شعر بها الغرب، والتي عبّر عنها فرانسيس فوكوياما في عنوان كتابه الشهير "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" (1992) تخفُت شيئًا فشيئًا.
دفعت تلك النشوة الغرب، بقياداته ومؤسساته، إلى الاعتقاد -مخطئا على ما يبدو- أن الليبرالية الغربية انتصرت للأبد، وأن العقود القادمة لن تشهد إلا سيادة النموذج الغربي أكثر فأكثر، وضعف المنافسين أكثر وأكثر. لكن مع تتابع الأحداث، ومع بدء المنافسين الجدد في ترتيب أوراقهم، بدأ الغرب يدرك أن حلم السيادة التي لا ينازعها أحد هي مجرد وهم لن يدوم.
ومع مرور الوقت، ظهر المنافسون البارزون الجدد وعلى رأسهم الصين وبدرجة أقل روسيا، هذا فضلًا عن شعوب البلدان الإسلامية التي صارت تمثل صداعًا كبيرًا في الرأس الأميركي. كما بدأت الولايات المتحدة تصوغ سياستها على نحو معاكس لليبرالية عبّر عنه الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، في خطاب له إبان فترة حكمه، قائلًا: "إما أن تكون معنا أو تكون مع الإرهابيين".
مع تقدم الوقت، بدأت تبرز ملامح العالم الجديد، فقد ازدادت الصين قوة، وظهر أن العالم لم يعد فيه فاعل واحد مهيمن كما كان الأمر نسبيًا في تسعينيات القرن 20، وفي نفس الوقت كانت شعوب الدول الإسلامية أحد العوامل التي أزعجت حلم الغرب بنهاية التاريخ وسيادة الليبرالية على شكلها الغربي، فبحسب ديليب هيرو، كلما أتيحت الفرصة للناخبين في الشرق الأوسط على شكل انتخابات نزيهة، كانوا يختارون -في كل الحالات تقريبًا- الإسلاميين الذين زاوجوا بين تعاليم الإسلام وبعض الممارسات السياسية الغربية.
وعلى جانب آخر، كان اليمين المتطرف يسود العالم الغربي ويأخذ أشكالًا أكثر تطرفًا من أي وقت مضى، وواحدة من مبادئه هذه المرة هي تحميل المسلمين كل مشاكل ومخاوف الغرب، ومن ثم إبراز العداء الكبير لهم.
وبعكس اليمينيين في الماضي الذين كانوا يروجون لإحلال الديمقراطية في العالم الإسلامي من خلال الضغط على الحكومات وعبر العنف والاحتلال إذا لزم الأمر، بات اليمينيون الغربيون المتطرفون الجدد يميلون إلى التأكيد على ضرورة وجود حكم استبدادي في العالم الإسلامي لوقاية العالم الغربي شرور هذا العالم كما يتخيلونها.
في ظل هذا المشهد، وفي ظل هذا التحول في القوة العالمية، تظهر الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون في حالة ذعر شديد، خاصة بعدما تجرأت روسيا عليهم وشنت حربها على أوكرانيا، محدثة صدعا غير مسبوق في التحالف الغربي. وفي ظل هذه الظروف، بات الغرب المجروح في حالة من الهوس بالدفاع عن نفسه والشعور بالخطر المحدق، وأن عليه حماية مصالحه بأي صورة ممكنة، حتى لو خالفت تمامًا قيَمه الليبرالية وحقوق الإنسان، في مقابل محاولة الحفاظ على سيادته المتنازع عليها.
كان التطرف اليميني المعادي للإسلام والمسلمين قد وصل إلى حدود غير مسبوقة غربيًا، حين بدأت عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فكما يقول المفكر الفرنسي الشهير فرانسوا بورغا، فإن التجريم الغربي العنيف لحق الشعب الفلسطيني في مقاومة محتليه والتبني المتحيز إلى الرواية الصهيونية تمامًا، فضلًا عن أن قمع تأييد فلسطين في الداخل الغربي، كان في واقع الأمر تجسيدًا للإسلاموفوبيا الغربية المتصاعدة بشدة.
فبحسب بورغا، ارتفعت موجة الكراهية القوية للإسلام في أوروبا خلال العقد الماضي على نحو غير مسبوق، فمن ناحية اقترب اليمين المتطرف من خط الدعم غير المشروط لإسرائيل؛ لأنه وجد في هذا التوجه فرصة جيدة لإشباع كراهيته الشديدة للمسلمين، ومن ناحية أخرى، اقترب تيار واسع من اليسار من هذا الخط الداعم غير المشروط لإسرائيل أيضًا، وتخلى عن مواقفه السابقة بعدما اتخذت المقاومة الفلسطينية شكلًا ولهجة أكثر إسلامية، ومن ثم انضم هو الآخر إلى معسكر تجريم حق المقاومة.
على جانب آخر، تنافس الحزبان الرئيسيان في الولايات المتحدة خلال تلك الحرب على إظهار الدعم غير المشروط لدولة الاحتلال الإسرائيلي في حربها الإبادية، ورغم أن الرئيس الأميركي السابق جو بايدن (الذي بدأت الحرب خلال عهدته) ينتمي إلى المعسكر الديمقراطي المشهور باعتداله النسبي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية مقارنًة بنظيره الجمهوري، فإنه سطر هو وحكومته أسماءهم في التاريخ كداعمين رئيسيين لحرب الإبادة، رغم انتهاك دولة الاحتلال جلّ جوانب القانون الدولي، ثم جاءت إدارة دونالد ترامب الجمهورية لتكمل العزف على أوتار الإبادة دون خجل أو مواربة.
وبحسب الباحث في القانون بجامعة ميشيغن، إلياس خوري، فإن السبب الرئيسي لمخاطرة واشنطن بتورطها في هذا "العار"، هو بداية تبلور التعددية القطبية في العالم، الأمر الذي صاحبه تعثر الولايات المتحدة في مواجهتها مع روسيا في أوكرانيا، فضلًا عن انسحابها من أفغانستان وعودة حركة طالبان إلى السلطة وتحوّل حكومات أميركا اللاتينية التي تعد منطقة حساسة للولايات المتحدة نحو اليسار، وباتت الصين تؤكد كل يوم زيادة نفوذها على الساحة العالمية، كما توسعت مجموعة البريكس مؤخرًا لتنضم إليها مصر والإمارات وإيران وإثيوبيا، ومن ثم بدت واشنطن في موقف مهتز للغاية، ورأت في غزة فرصة أخيرة لإثبات نفسها وقوتها في هذا العالم المتغير.
غير أن القوى الجديدة الصاعدة في العالم، وهي الصين وروسيا، لا تزال منشغلة في خططها الخاصة، وغير راغبة في تحدي الولايات المتحدة، مقارنة بزمان الحرب الباردة. ومن ثم فلم يعد الوضع الآن كما كان وقت فيتنام، إذ لا يوجد ملجأ من الغرب إذا استجمع قواه التامة ضد شعب فقير محاصر ليعاقبه على مقاومته لاحتلال أراضيه.
والأهم أن روسيا والصين، بعكس الاتحاد السوفياتي في السابق، هما قوتان براغماتيتان بالأساس أكثر من كونهما قوتين أيديولوجيتين تمتلكان نموذجا تحاول تصديره للعالم، ومن ثم فإن صراعهما مع الغرب هو صراع مصالح في مناطق متفرقة من العالم، ولا يتضمن داخله صراعًا على تصدير القيم والسيطرة الأيديولوجية كما كان في السابق، إذ شكل الإمداد اللوجستي والعسكري السوفياتي والصيني في السابق لفيتنام الشمالية، على سبيل المثال، عاملًا شديد الأهمية، ساهم في نجاحها في الحرب ضد الولايات المتحدة.
وكما يوضح آدم غارفينكل، من مجلة "أميركان إنترست"، فإن واشنطن لم تتوقف في حرب فيتنام بشكل أساسي بسبب المظاهرات أو السخط الشعبي داخلها، وإنما حين وجدت عمليًا أن تكلفة الحرب صارت أعلى بكثير من ثمارها.
ولهذه الأسباب المعقدة فإن عالم صور أطفال فيتنام يختلف عن عالم صور أطفال فلسطين، إذ اجتمعت الظروف لتضمن استمرار الإبادة وتقمع صوت الشعب المحتل، وتجعل غزة مسرحًا تستعرض فيه إسرائيل وحلفاؤها الغربيون قوتهم أمام العالم؛ على شعب أعزل، ويضمدون بآلامه جراحهم السابقة وفزعهم من اقتراب صعود المنافسين وتشكل العالم متعدد الأقطاب على نحو أعمق.
الضحية تختلف!
أكثر من ذلك، حين شنت الولايات المتحدة غارات جوية أثناء حرب فيتنام فاق عددها 3000 غارة بين عامي 1969 و1970، وبلغ ضحاياها نحو 600 ألف مدني في كمبوديا، و300 ألف مدني في لاوس، بحسب منظمة "هيومن رايتس ووتش"، لم تكن تدّعي أن هناك حقًا دينيًا لحكومة فيتنام الجنوبية التي ترعاها في إنشاء دولتها، ولم يكن أحد حول العالم يدعي مثل هذا الحق، ومن ثم كان من السهل على الكثيرين حول العالم ببساطة أن يتفهموا ضرورة إنهاء هذه المأساة فورًا ووقف تلك الحرب التي ترعاها واشنطن.
إعلان
لكن في الواقع الحالي، يعتقد الكثيرون في العالم الغربي -أو هكذا يزعمون- أن لدولة الاحتلال حقا دينيا في احتلال الأراضي الفلسطينية، ومن ثم فالتعاطف مع الضحايا الفلسطينيين سيصطدم دائمًا مع فكرة يتم غرسها بقوة؛ مفادها أن لدولة الاحتلال الحق في الدفاع عن نفسها، وهو الحق الذي يمتد ليجعلها مخولة بإبادة الشعب المُستعمر إذا ما شكل تهديدًا لمحتليه، ومن ثم سيرى الكثيرون الضحايا الفلسطينيين الذين ارتكبت بحقهم الإبادة والتجويع؛ مجرد عرض جانبي لهدف أكبر هو بقاء وأمن إسرائيل.
ولقد صرح رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون -بصراحة- أن مساندة إسرائيل واجب ديني إنجيلي، وأن هناك توجيها في الإنجيل -حسب زعمه- بالوقوف إلى جانب إسرائيل.
في دراسة مطولة بعنوان "عن الإرهابيين ومقاتلي الحرية" منشورة على "هارفارد لو ريفيو"، يشرح أستاذ القانون بجامعة ولاية أريزونا، خالد بيضون، أن العالم في ظل هيمنة القطب الأميركي والسيادة الغربية، قد تم تكييفه على أساس التطبيع مع موت المسلمين وآلامهم باعتباره حدثًا عاديًا، بينما يُنظر إلى أي معاناة تلحق بالرجل الأبيض بوصفها وضعا شاذا وغير مقبول.
ويظهر ذلك -بحسب بيضون- من خلال حجم الدعم الكبير والمساعدات السريعة الذي تُقدّم حين تكون هناك معاناة للإنسان الأبيض، حيث نجد تصريحات كالتي ظهرت وقت حرب أوكرانيا من مسؤولين كبار تصف مدى عاطفية ودرامية المشهد، لأن من يُقتلون كل يوم في أوكرانيا هم من البيض ذوي الأعين الزرقاء.
في النهاية، يخلص بيضون إلى حقيقة صعبة وهي أن أعمال المقاومة والتحرر الوطني والبطولة، ينظر إليها غربيا بريبة وخوف إذا كان من يقوم بها مسلمون، حتى حين تكون متسمة بكل الشرعية الأخلاقية. وتتعاظم تلك الريبة وتصل إلى العداء، بالأخص حين يتعلق الأمر بالمسلمين الذين يقفون على الجانب الآخر من المصالح الأميركية وعلى الجانب المتحدي لبراعتها العسكرية، في أماكن مثل اليمن أو العراق.. أو قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
٢٨-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
صور أطفال فيتنام غيّرت العالم فلماذا لا يهتز لصور أطفال غزة؟
في 30 أبريل/نيسان 2025 تحل الذكرى 50 لنهاية حرب فيتنام التي أسدل الستار على وقائعها الدموية رسميا مع دخول الفيتناميين الشماليين إلى عاصمة الجنوب سايغون عام 1975، بعد عملية إجلاء مذلة للقوات الأميركية التي تكبدت واحدة من أكبر الهزائم في تاريخها. ومع قدوم الذكرى تبرز إلى المشهد صورة أيقونية يُعتقد أنها أسهمت في تغيير موقف العالم تجاه الحرب وتعريفه بحقائقها الصادمة والدموية. ففي يوم الجمعة 8 يونيو/حزيران 1972، هاجمت الطائرات الفيتنامية الجنوبية المدعومة من الولايات المتحدة قرية الطفلة فان ثي كيم فوك (9 أعوام) وأحرقتها حرقا، ما دفع الطفلة للركض والصراخ بحروقها البالغة وهي عارية تماما، إذ أذابت الحروق ملابسها وطبقات من جلدها، وقد سمعها مصور وكالة أسوشيتد برس، نيك أوت، وهي تهرول وتصرخ، فالتقط صورة المشهد المأساوي. وهي الصورة التي انتشرت واشتهرت في كل أنحاء العالم، ونقلت له دون كلمات كثيرة؛ مدى الأهوال التي يعيشها الأبرياء في فيتنام بسبب الحرب التي تصر واشنطن على تحقيق المكاسب السياسية فيها إلى آخر لحظة، على حساب حقوق وحياة الفيتناميين الذين يبعدون عنها آلاف الكيلومترات. الصورة التي اعتبر المصور الألماني الشهير الحائز على جائزة بوليتزر مرتين، هورست فاس، أنها الصورة الأشهر في حرب فيتنام، لعبت دورًا كبيرًا في زيادة الضغط الشعبي والعالمي على الولايات المتحدة من أجل إنهاء الحرب، وقد وصفتها صحيفة "ذا هندو"، وهي الصحيفة الأوسع انتشارًا في الهند، بأنها "الصورة التي غيّرت مسار الحرب". بالطبع، لا يمكن لصورة أن تنهي حربا، لكنها ساهمت مع قريناتها، بالإضافة إلى ظروف موضوعية، في خلق أجواء مناهضة للتدخل الأميركي في الحرب، ما مهد الطريق لتوحيد فيتنام واستقلالها، لتصبح اليوم واحدة من أبرز القوى الاقتصادية الصاعدة على مستوى العالم. لكن التأثير الضخم الذي أحدثته صورة كيم فوك، فشلت في إحداثه لاحقا صورٌ لا تقل بشاعة، ولم تفلح في هز ضمير العالم ودفعه للانتفاض ضد الحرب والإبادة، وفي مقدمتها الصور التي تتقاطر يوميا من قطاع غزة. على سبيل المثال، في يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول 2024، انتشر مقطع مشابه يظهر الطفلة الفلسطينية أسماء، النازحة من قطاع غزة، وهي تسير حافية تحت أشعة الشمس الحارقة، حاملة شقيقتها المصابة، نحو خيمة عائلتها التي تبعد عنها قرابة كيلومترين كاملين قطعتهما الطفلة بحملها الثقيل في تلك الأجواء الصعبة. لم تُحدث صورة أسماء، وغيرها من مئات وآلاف الصور التي التقطت على مدار 19 شهرا من حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، والتي خلفت حتى الآن أكثر من 51 ألف شهيد، و117 ألف مصاب، فضلًا عن مئات الآلاف من المشردين والجائعين؛ لم تُحدث تأثيرا يذكر في وقف الجرائم الإسرائيلية، فرغم كل المناشدات والمظاهرات الضخمة التي خرجت في العالم من شرقه إلى غربه. ورغم كل القرارات الدولية، يستمر مشروع الإبادة الإسرائيلي على قدم وساق، هادفا ليس فقط إلى إلحاق العقاب الجماعي بالفلسطينيين بعدما تجرؤوا على ممارسة حقهم في مقاومة المحتلين لأرضهم، وإنما يسعى أيضًا للقضاء التام على أحلام الفلسطينيين العادلة لأجيال كثيرة قادمة، من خلال درس تأديبي استعماري شديد القسوة، وهو ما يدفعنا للتساؤل: ما الذي اختلف حقا اليوم عن زمان حرب فيتنام؟ عالم مختلف بادئ ذي بدء، بين الصورتين عالم اختلف على نحو واضح في أشياء كثيرة، ففي حرب فيتنام كانت هناك قوتان عظميان على قمة العالم: الولايات المتحدة الأميركية ، و الاتحاد السوفياتي ، وكان لكل قوة منهما مشروع أيديولوجي تحاول خلق العالم على صورته، فبينما قدمت الولايات المتحدة نفسها باعتبارها زعيمة العالم الحر، حيث الديمقراطية السياسية والحريات الفردية والسوق الحرة والازدهار الاقتصادي، كان الاتحاد السوفياتي يقدم نموذجه الاشتراكي باعتباره واحة المساواة والعدالة الاجتماعية والترابط المجتمعي والتعاون الإنساني. كان التنافس على أشده بين المعسكرين اللذين سُميا الاشتراكي والرأسمالي -رغم أن تلك المسميات ربما لا تصمد تماما أمام الفحص الدقيق- لكسب المواقع في العالم، وسرعان ما تشكلت ملامح الحرب الباردة بينهما لتشمل تقريبًا كل مكان في العالم، إذ صارت كل أراضي العالم وبحاره وسماواته مسرحًا للصراع على النفوذ من أجل اكتساب بقعة جديدة من النفوذ لهذا المعسكر أو ذاك. بحسب دائرة المعارف البريطانية، فإن الحرب البادرة لا بد أن تفهم إلى حد كبير باعتبارها مواجهة أيديولوجية. وبينما كان للمعسكر الشرقي فيها أيديولوجية واضحة وهي الشيوعية، كانت أيديولوجيا الغرب آنذاك غير واضحة تمامًا، إذ كانت بالأساس معادية للشيوعية أكثر من كونها بناء أيديولوجيا متماسكا وموحدا. والواقع أن هذا الفارق هو ما جعل المعسكر السوفياتي بالأخص في البداية أنجح في اجتذاب الشعوب والدول النامية التي تحاول اللحاق بركب التنمية بعد عقود من التجارب الاستعمارية المريرة، إذ قدم الاتحاد السوفياتي نفسه لدول العالم الثالث باعتباره القوة المعادية للإمبريالية التي لا تمارس نفس السياسات الاستغلالية التي تمارسها الولايات المتحدة، وريثة القوى الاستعمارية الغربية. بعبارة أوضح، لقد وضعت الأيديولوجية السوفياتية النموذج الغربي في حرج، فبينما كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون قد تورطوا لوقت طويل في انتهاكات جسيمة في بلدان مختلفة من العالم لحماية مصالحها، كان الاتحاد السوفياتي يقدم نفسه باعتباره نموذجًا جديدًا للتعاون والتشارك مع دول العالم النامية. وقد كانت الولايات المتحدة تعاني داخليًا من انتهاكات وعدم مساواة وعنصرية واضطرابات عرقية مُمأسسة قانونيًا وسياسيًا واقتصاديًا، وهو ما استطاع الاتحاد السوفياتي استخدامه جيدًا للترويج لنفسه في مواجهة ما اعتبرها "الإمبريالية الغربية". في ظل تلك الصورة، كان من اليسير على القضايا العادلة -و"غير العادلة أيضا- أن تجد حليفًا لها، بل وأن تستفيد الدول النامية من كلا المعسكرين وتلعب على حبالهما، في وقت تتصارع فيه قوتان عظميان على قيادة العالم، بل وكان من السهل أن تنشأ منظمة تحرر وطني تجتمع تحت رايتها 120 دولة غالبيتهم من الدول النامية، وهي منظمة حركة عدم الانحياز، التي أعلنت رفضها تبني مفاهيم القطبين المتصارعين آنذاك، مركزة اهتمامها على استقلال القرارات الوطنية للدول النامية، ورافضة استغلالها أو دفعها ناحية طرح سياسي معين، سواء من المعسكر الشرقي أو الغربي. قلب الكراهية أما عالم اليوم فهو عالم لا يزال يتحول تدريجيًا -وببطء- من عالم القطب الواحد المنتصر في الحرب الباردة السابقة إلى عالم متعدد الأقطاب المتنافسة، فكما أوضح عالم السياسة الهندي الشهير، ديليب هيرو، في كتابه "ما بعد الإمبراطورية.. ميلاد عالم تعددي قطبي" الصادر في عام 2012. فمنذ نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، بدأت أعداد متزايدة من المثقفين في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم يدركون الحقيقة أكثر وأكثر، وبدأت النشوة الأولية التي شعر بها الغرب، والتي عبّر عنها فرانسيس فوكوياما في عنوان كتابه الشهير "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" (1992) تخفُت شيئًا فشيئًا. دفعت تلك النشوة الغرب، بقياداته ومؤسساته، إلى الاعتقاد -مخطئا على ما يبدو- أن الليبرالية الغربية انتصرت للأبد، وأن العقود القادمة لن تشهد إلا سيادة النموذج الغربي أكثر فأكثر، وضعف المنافسين أكثر وأكثر. لكن مع تتابع الأحداث، ومع بدء المنافسين الجدد في ترتيب أوراقهم، بدأ الغرب يدرك أن حلم السيادة التي لا ينازعها أحد هي مجرد وهم لن يدوم. ومع مرور الوقت، ظهر المنافسون البارزون الجدد وعلى رأسهم الصين وبدرجة أقل روسيا، هذا فضلًا عن شعوب البلدان الإسلامية التي صارت تمثل صداعًا كبيرًا في الرأس الأميركي. كما بدأت الولايات المتحدة تصوغ سياستها على نحو معاكس لليبرالية عبّر عنه الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، في خطاب له إبان فترة حكمه، قائلًا: "إما أن تكون معنا أو تكون مع الإرهابيين". مع تقدم الوقت، بدأت تبرز ملامح العالم الجديد، فقد ازدادت الصين قوة، وظهر أن العالم لم يعد فيه فاعل واحد مهيمن كما كان الأمر نسبيًا في تسعينيات القرن 20، وفي نفس الوقت كانت شعوب الدول الإسلامية أحد العوامل التي أزعجت حلم الغرب بنهاية التاريخ وسيادة الليبرالية على شكلها الغربي، فبحسب ديليب هيرو، كلما أتيحت الفرصة للناخبين في الشرق الأوسط على شكل انتخابات نزيهة، كانوا يختارون -في كل الحالات تقريبًا- الإسلاميين الذين زاوجوا بين تعاليم الإسلام وبعض الممارسات السياسية الغربية. وعلى جانب آخر، كان اليمين المتطرف يسود العالم الغربي ويأخذ أشكالًا أكثر تطرفًا من أي وقت مضى، وواحدة من مبادئه هذه المرة هي تحميل المسلمين كل مشاكل ومخاوف الغرب، ومن ثم إبراز العداء الكبير لهم. وبعكس اليمينيين في الماضي الذين كانوا يروجون لإحلال الديمقراطية في العالم الإسلامي من خلال الضغط على الحكومات وعبر العنف والاحتلال إذا لزم الأمر، بات اليمينيون الغربيون المتطرفون الجدد يميلون إلى التأكيد على ضرورة وجود حكم استبدادي في العالم الإسلامي لوقاية العالم الغربي شرور هذا العالم كما يتخيلونها. في ظل هذا المشهد، وفي ظل هذا التحول في القوة العالمية، تظهر الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون في حالة ذعر شديد، خاصة بعدما تجرأت روسيا عليهم وشنت حربها على أوكرانيا، محدثة صدعا غير مسبوق في التحالف الغربي. وفي ظل هذه الظروف، بات الغرب المجروح في حالة من الهوس بالدفاع عن نفسه والشعور بالخطر المحدق، وأن عليه حماية مصالحه بأي صورة ممكنة، حتى لو خالفت تمامًا قيَمه الليبرالية وحقوق الإنسان، في مقابل محاولة الحفاظ على سيادته المتنازع عليها. كان التطرف اليميني المعادي للإسلام والمسلمين قد وصل إلى حدود غير مسبوقة غربيًا، حين بدأت عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فكما يقول المفكر الفرنسي الشهير فرانسوا بورغا، فإن التجريم الغربي العنيف لحق الشعب الفلسطيني في مقاومة محتليه والتبني المتحيز إلى الرواية الصهيونية تمامًا، فضلًا عن أن قمع تأييد فلسطين في الداخل الغربي، كان في واقع الأمر تجسيدًا للإسلاموفوبيا الغربية المتصاعدة بشدة. فبحسب بورغا، ارتفعت موجة الكراهية القوية للإسلام في أوروبا خلال العقد الماضي على نحو غير مسبوق، فمن ناحية اقترب اليمين المتطرف من خط الدعم غير المشروط لإسرائيل؛ لأنه وجد في هذا التوجه فرصة جيدة لإشباع كراهيته الشديدة للمسلمين، ومن ناحية أخرى، اقترب تيار واسع من اليسار من هذا الخط الداعم غير المشروط لإسرائيل أيضًا، وتخلى عن مواقفه السابقة بعدما اتخذت المقاومة الفلسطينية شكلًا ولهجة أكثر إسلامية، ومن ثم انضم هو الآخر إلى معسكر تجريم حق المقاومة. على جانب آخر، تنافس الحزبان الرئيسيان في الولايات المتحدة خلال تلك الحرب على إظهار الدعم غير المشروط لدولة الاحتلال الإسرائيلي في حربها الإبادية، ورغم أن الرئيس الأميركي السابق جو بايدن (الذي بدأت الحرب خلال عهدته) ينتمي إلى المعسكر الديمقراطي المشهور باعتداله النسبي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية مقارنًة بنظيره الجمهوري، فإنه سطر هو وحكومته أسماءهم في التاريخ كداعمين رئيسيين لحرب الإبادة، رغم انتهاك دولة الاحتلال جلّ جوانب القانون الدولي، ثم جاءت إدارة دونالد ترامب الجمهورية لتكمل العزف على أوتار الإبادة دون خجل أو مواربة. وبحسب الباحث في القانون بجامعة ميشيغن، إلياس خوري، فإن السبب الرئيسي لمخاطرة واشنطن بتورطها في هذا "العار"، هو بداية تبلور التعددية القطبية في العالم، الأمر الذي صاحبه تعثر الولايات المتحدة في مواجهتها مع روسيا في أوكرانيا، فضلًا عن انسحابها من أفغانستان وعودة حركة طالبان إلى السلطة وتحوّل حكومات أميركا اللاتينية التي تعد منطقة حساسة للولايات المتحدة نحو اليسار، وباتت الصين تؤكد كل يوم زيادة نفوذها على الساحة العالمية، كما توسعت مجموعة البريكس مؤخرًا لتنضم إليها مصر والإمارات وإيران وإثيوبيا، ومن ثم بدت واشنطن في موقف مهتز للغاية، ورأت في غزة فرصة أخيرة لإثبات نفسها وقوتها في هذا العالم المتغير. غير أن القوى الجديدة الصاعدة في العالم، وهي الصين وروسيا، لا تزال منشغلة في خططها الخاصة، وغير راغبة في تحدي الولايات المتحدة، مقارنة بزمان الحرب الباردة. ومن ثم فلم يعد الوضع الآن كما كان وقت فيتنام، إذ لا يوجد ملجأ من الغرب إذا استجمع قواه التامة ضد شعب فقير محاصر ليعاقبه على مقاومته لاحتلال أراضيه. والأهم أن روسيا والصين، بعكس الاتحاد السوفياتي في السابق، هما قوتان براغماتيتان بالأساس أكثر من كونهما قوتين أيديولوجيتين تمتلكان نموذجا تحاول تصديره للعالم، ومن ثم فإن صراعهما مع الغرب هو صراع مصالح في مناطق متفرقة من العالم، ولا يتضمن داخله صراعًا على تصدير القيم والسيطرة الأيديولوجية كما كان في السابق، إذ شكل الإمداد اللوجستي والعسكري السوفياتي والصيني في السابق لفيتنام الشمالية، على سبيل المثال، عاملًا شديد الأهمية، ساهم في نجاحها في الحرب ضد الولايات المتحدة. وكما يوضح آدم غارفينكل، من مجلة "أميركان إنترست"، فإن واشنطن لم تتوقف في حرب فيتنام بشكل أساسي بسبب المظاهرات أو السخط الشعبي داخلها، وإنما حين وجدت عمليًا أن تكلفة الحرب صارت أعلى بكثير من ثمارها. ولهذه الأسباب المعقدة فإن عالم صور أطفال فيتنام يختلف عن عالم صور أطفال فلسطين، إذ اجتمعت الظروف لتضمن استمرار الإبادة وتقمع صوت الشعب المحتل، وتجعل غزة مسرحًا تستعرض فيه إسرائيل وحلفاؤها الغربيون قوتهم أمام العالم؛ على شعب أعزل، ويضمدون بآلامه جراحهم السابقة وفزعهم من اقتراب صعود المنافسين وتشكل العالم متعدد الأقطاب على نحو أعمق. الضحية تختلف! أكثر من ذلك، حين شنت الولايات المتحدة غارات جوية أثناء حرب فيتنام فاق عددها 3000 غارة بين عامي 1969 و1970، وبلغ ضحاياها نحو 600 ألف مدني في كمبوديا، و300 ألف مدني في لاوس، بحسب منظمة "هيومن رايتس ووتش"، لم تكن تدّعي أن هناك حقًا دينيًا لحكومة فيتنام الجنوبية التي ترعاها في إنشاء دولتها، ولم يكن أحد حول العالم يدعي مثل هذا الحق، ومن ثم كان من السهل على الكثيرين حول العالم ببساطة أن يتفهموا ضرورة إنهاء هذه المأساة فورًا ووقف تلك الحرب التي ترعاها واشنطن. إعلان لكن في الواقع الحالي، يعتقد الكثيرون في العالم الغربي -أو هكذا يزعمون- أن لدولة الاحتلال حقا دينيا في احتلال الأراضي الفلسطينية، ومن ثم فالتعاطف مع الضحايا الفلسطينيين سيصطدم دائمًا مع فكرة يتم غرسها بقوة؛ مفادها أن لدولة الاحتلال الحق في الدفاع عن نفسها، وهو الحق الذي يمتد ليجعلها مخولة بإبادة الشعب المُستعمر إذا ما شكل تهديدًا لمحتليه، ومن ثم سيرى الكثيرون الضحايا الفلسطينيين الذين ارتكبت بحقهم الإبادة والتجويع؛ مجرد عرض جانبي لهدف أكبر هو بقاء وأمن إسرائيل. ولقد صرح رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون -بصراحة- أن مساندة إسرائيل واجب ديني إنجيلي، وأن هناك توجيها في الإنجيل -حسب زعمه- بالوقوف إلى جانب إسرائيل. في دراسة مطولة بعنوان "عن الإرهابيين ومقاتلي الحرية" منشورة على "هارفارد لو ريفيو"، يشرح أستاذ القانون بجامعة ولاية أريزونا، خالد بيضون، أن العالم في ظل هيمنة القطب الأميركي والسيادة الغربية، قد تم تكييفه على أساس التطبيع مع موت المسلمين وآلامهم باعتباره حدثًا عاديًا، بينما يُنظر إلى أي معاناة تلحق بالرجل الأبيض بوصفها وضعا شاذا وغير مقبول. ويظهر ذلك -بحسب بيضون- من خلال حجم الدعم الكبير والمساعدات السريعة الذي تُقدّم حين تكون هناك معاناة للإنسان الأبيض، حيث نجد تصريحات كالتي ظهرت وقت حرب أوكرانيا من مسؤولين كبار تصف مدى عاطفية ودرامية المشهد، لأن من يُقتلون كل يوم في أوكرانيا هم من البيض ذوي الأعين الزرقاء. في النهاية، يخلص بيضون إلى حقيقة صعبة وهي أن أعمال المقاومة والتحرر الوطني والبطولة، ينظر إليها غربيا بريبة وخوف إذا كان من يقوم بها مسلمون، حتى حين تكون متسمة بكل الشرعية الأخلاقية. وتتعاظم تلك الريبة وتصل إلى العداء، بالأخص حين يتعلق الأمر بالمسلمين الذين يقفون على الجانب الآخر من المصالح الأميركية وعلى الجانب المتحدي لبراعتها العسكرية، في أماكن مثل اليمن أو العراق.. أو قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة.


الجزيرة
٢٦-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
محللان: ترامب وصل لطريق مسدود مع الحوثيين وربما يلجأ للتهدئة قبل زيارته للمنطقة
بعد نحو 6 أسابيع من الغارات الأميركية المكثفة على المناطق والمدن الخاضعة لسيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن ، لا تزال الجماعة تؤكد أن عملياتها في البحر الأحمر وضد الأهداف الإسرائيلية لن تتوقف إلا بوقف الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة. وفي هذا السياق، أعلن المتحدث العسكري باسم الحوثيين، يحيى سريع، استهداف قاعدة نيفاتيم الجوية الإسرائيلية في النقب بصاروخ باليستي وموقعين آخرين في منطقة تل أبيب ومنطقة عسقلان، كما أعلن استهداف قطع حربية في حاملة الطائرات الأميركية "إس إس هاري ترومان" شمالي البحر الأحمر. في المقابل، شنت الطائرات الأميركية الليلة الماضية غارتين على ميناء رأس عيسى النفطي بمحافظة الحُديدة الساحلية، وهو الميناء الذي تعتبره واشنطن مصدرا رئيسيا للوقود الذي يستخدم في تمويل أنشطة جماعة أنصار الله. وحسب الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات، لقاء مكي، فإن الولايات المتحدة الأميركية فشلت فشلا ذريعا في ضرباتها على الحوثيين، بدليل أنها أعلنت عدم قدرتها على الانتقال للمرحلة الثانية، وتحدثوا عن سيناريو بديل وهو إيقاف الحملة العسكرية على الحوثيين، الذي يقول مكي إنهم نجحوا في ظل هذا الفشل الأميركي. واعتبر أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصل لطريق مسدود، وتبيّن أن السقف الذي وضعه بشأن الحوثيين غير واقعي، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة، ورغم قوتها العسكرية عجزت في اليمن، لأنها تقاتل جماعة وليس دولة. ووفق الخبير العسكري والإستراتيجي، العميد إلياس حنا، فإن الطرفين خاسران، لكن صورة الولايات المتحدة الأميركية هي التي تضررت، بالنظر إلى حجم الحملة العسكرية، وخوض ترامب الحرب على الحوثيين، وهو الذي قال: "سنخرج من كل حروب العالم". وقدرت بعض التقارير أن الغارات الجوية التي ينفذها الجيش الأميركي على مواقع الحوثيين بلغت كلفتها المالية نحو مليار دولار أميركي في الأسابيع الثلاثة الأولى فقط من الحملة العسكرية. وأفادت وكالة أسوشيتد برس، بأن قيمة المسيّرات الأميركية السبع التي جرى إسقاطها تزيد على 200 مليون دولار، وأنّ الخسارة المستمرة في المسيّرات الأميركية تجعل من الصعب على القيادة الأميركية تحديد مدى دقة تضرّر مخزونات الأسلحة التابعة للحوثيين. وقال العميد حنا إن واشنطن تفتقد إلى إستراتيجية كبيرة في تعاطيها مع الحوثيين، والهدف السياسي الذي أعلنت عنه لم يتحقق وهو استرداد الردع وفتح أبواب الملاحة. كما أشار إلى أن الجيش الأميركي يستهدف مراكز الثقل في المنظومة العسكرية للحوثيين من أجل تعطيلها، وهو أمر تستخدمه إسرائيل مع المقاومة الفلسطينية وفشلت في ذلك. إرضاء الحوثيين وعلى ضوء عجز واشنطن عن تحقيق أهدافها ضد الحوثيين، يعتقد العميد حنا أن الضغط الذي يمارس على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بخصوص إدخال المساعدات إلى قطاع غزة يدخل في إطار إرضاء الحوثيين حتى يوقفوا عملياتهم في البحر الأحمر وضد الأهداف الإسرائيلية. كما أن الزيارة المرتقبة لترامب إلى المنطقة تستلزم التهدئة، فلا يمكن أن يأتي الرئيس الأميركي والحوثي يقوم بإطلاق الصواريخ، وفقا للخبير العسكري والإستراتيجي. وفي السياق نفسه، يرجح الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات، أن تحصل تهدئة قريبة في قطاع غزة قبل زيارة ترامب، ليوقف الحوثيون عملياتهم، خاصة وأنهم ربطوا منذ البداية وقف عملياتهم بوقف الحرب على غزة ووقف الضربات الأميركية عليهم. ويذكر أن مسؤولين أميركيين كشفوا لشبكة "سي إن إن" في وقت سابق أن الجيش الأميركي ضرب منذ بدء الحملة منتصف مارس/آذار الماضي أكثر من 700 هدف للحوثيين ونفذ 300 غارة جوية، مما "أجبرهم على البقاء تحت الأرض وأحدث ارتباكا وفوضى بصفوفهم".


الجزيرة
١٤-٠٤-٢٠٢٥
- الجزيرة
إيران تشاور روسيا وتطالب بضمانات قبل جولة التفاوض الثانية مع أميركا
استبقت إيران جولة التفاوض الثانية مع الولايات المتحدة المقرر عقدها الأسبوع المقبل في العاصمة الإيطالية روما وطالبت اليوم بـ"ضمانات لتنفيذ الوعود برفع العقوبات عنها، معلنة أنها ستستقبل هذا الأسبوع مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي. كما ستجري مشاورات مع روسيا. وتوالت اليوم الاثنين التصريحات المتعلقة بالمفاوضات بين إيران والولايات المتحدة بشأن برنامج طهران النووي حيث صرّح مصدر إيطالي بأن الجولة المقبلة من المفاوضات ستُعقد في روما. ونقلت وكالة أسوشيتد برس عن مصدر في الحكومة الإيطالية رفض ذكر اسمه تأكيده أن الجولة المقبلة من المفاوضات ستُعقد في روما يوم السبت المقبل. أما وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني فصرح للصحفيين في أوساكا باليابان، بأن الحكومة الإيطالية وافقت على استضافة المحادثات. وقال تاجاني "تلقينا طلبًا من الأطراف المهتمة، من عمان، التي تلعب دور الوسيط، وقدمنا ردا إيجابيا، ونحن مستعدون للترحيب، كعادتنا، بالاجتماعات التي يمكن أن تسفر عن نتائج إيجابية، وفي هذه الحالة بشأن القضية النووية". مطالب إيرانية وفي طهران، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، للصحفيين اليوم "من المرجح أن تعقد الجولة المقبلة من المحادثات في مكان آخر غير سلطنة عُمان التي استضافت الجولة الأولى من المحادثات يوم السبت الماضي في العاصمة مسقط". وأكد بقائي على أنه "لا بد من وجود ضمانات للوفاء بالالتزامات"، مضيفا أن "مسألة الضمانات تكتسب أهمية خاصة بالنظر إلى تاريخ الوعود المنقوصة في الماضي. إن شاء الله، سيواصل فريق التفاوض عمله مع مراعاة جميع هذه العوامل والنقاط". وحذر من أنه "ما دامت لغة العقوبات والضغط والتهديد والترهيب مستمرة، فلن تُجرى مفاوضات مباشرة"، معتبرا أن "المواقف الأميركية المتناقضة هي السبب الرئيسي الذي يدفع طهران للحوار بشكل غير مباشر معها". وأكد المتحدث أن المفاوضات غير المباشرة تقتصر على رفع العقوبات والملف النووي دون أي ملفات أخرى، مضيفا أنه "لا يمكن لواشنطن أن تدعي سعيها للحوار، بينما تواصل الضغوط والتهديدات في نفس الوقت". مشاورات إيرانية روسية وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إن وزير الخارجية عباس عراقجي سيزور روسيا خلال الأسبوع الجاري وسيتشاور مع موسكو بشأن المحادثات التي جرت في الآونة الأخيرة بين إيران والولايات المتحدة في سلطنة عُمان. وأضاف بقائي أن زيارة وزير الخارجية لموسكو من المقرر أن تكون بنهاية الأسبوع. وأشار إلى أن الزيارة "كان مخططا لها سلفا، لكن ستكون هناك مشاورات بشأن المحادثات مع الولايات المتحدة". وتلعب روسيا، التي لها مقعد دائم في مجلس الأمن الدولي وتتمتع بحق النقض (الفيتو)، دورا في المفاوضات النووية بين الغرب وإيران بصفتها حليفا لطهران ومن الموقعين على الاتفاق النووي المبرم في 2015 الذي انسحبت منه الولايات المتحدة في 2018. ودعت موسكو إلى التركيز على الاتصالات الدبلوماسية بدلا من الإجراءات التي قد تؤدي إلى تصعيد. وفي الأسبوع الماضي، أجرت روسيا والصين وإيران مشاورات على مستوى الخبراء بشأن البرنامج النووي الإيراني في موسكو. زيارة غروسي وعلى صعيد متصل، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إن بلاده ستستقبل هذا الأسبوع مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي. كما نقلت وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية (إرنا) عن نائب وزير الخارجية كاظم غريب آبادي أن غروسي سيصل إلى إيران مساء بعد غد الأربعاء، وسيلتقي عراقجي والرئيس . من جهته، قال غروسي إنه سيزور إيران في وقت لاحق من الأسبوع الجاري، لمناقشة سبل تحسين وصول مفتشيه إلى برنامج طهران. وكتب غروسي على موقع "إكس" قائلا: "إن استمرار التواصل والتعاون مع الوكالة أمر ضروري في وقتٍ تشتد فيه الحاجة إلى حلول دبلوماسية". ولعب وفد الوكالة دورا محوريا في التحقق من امتثال إيران للاتفاق النووي المبرم عام 2015 مع القوى العالمية، وواصل عمله في الجمهورية الإسلامية، حتى مع تقليص طهران تدريجيا لصلاحياته في الوصول إلى المواقع بعد انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأحادي الجانب من الاتفاق عام 2018. قرار ترامب على الجانب الأميركي، توقع الرئيس دونالد ترامب سرعة اتخاذ قرار بشأن إيران وذلك بعد جولة المباحثات بين بلاده وطهران في مسقط ، وسط توقعات بجولة مباحثات ثانية بينهما في العاصمة الإيطالية روما. وقال ترامب، أمس الأحد، إنه يتوقع اتخاذ قرار بشأن إيران على نحو سريع للغاية، بعد أن ذكر البلدان أنهما عقدا محادثات "إيجابية" و"بناءة" في سلطنة عمان أول أمس السبت واتفقا على الاجتماع مجددا هذا الأسبوع. وأوضح ترامب، في تصريحه للصحفيين على متن طائرة الرئاسة، أنه اجتمع مع مستشاريه بشأن إيران ويتوقع اتخاذ قرار سريعا جدا. ولم يذكر مزيدا من التفاصيل. وقال "سنتخذ قرارا بشأن إيران على نحو سريع للغاية". وأول أمس السبت، قال ترامب للصحفيين إن المحادثات الأميركية الإيرانية مضت على نحو "جيد"، وأضاف "لا شيء يهم حتى ننتهي من المحادثات، لذلك لا أفضل الحديث عنها. لكنها مضت على ما يرام. أعتقد أن الوضع المتعلق بإيران جيد للغاية". ولا يزال تخفيف العقوبات وتخصيب اليورانيوم من أبرز القضايا، وقد شهد الاتفاق النووي لعام 2015 موافقة إيران على خفض مخزونها من اليورانيوم بشكل كبير وتخصيبه بنسبة تصل إلى 3.67% فقط – وهي نسبة كافية لتشغيل محطة بوشهر للطاقة النووية. واليوم، تخصب إيران ما يصل إلى 60%، وهي خطوة تقنية قصيرة من مستويات صنع الأسلحة، ولديها مخزون كافٍ لصنع قنابل نووية متعددة، إذا ما قررت صنعها. وفي حين أن الولايات المتحدة تستطيع تقديم تخفيف للعقوبات على اقتصاد إيران المتعثر، فإنه لا يزال من غير الواضح إلى أي مدى ستكون إيران مستعدة للتنازل.