
الصراع بين الهوية المحلية والمعتقدات الشعبية "2"
في مناقشة الصراع الوجودي بين الهوية المحلية والقيم الكونية والمعتقدات الشعبية، أثار المقال الأسبوع الماضي شهية المشتغلين والباحثين في فلسفة التراث، واستكمالاً للنقاش، خصوصاً في مجال التعليم والمعتقد الشعبي، فقد نواجه ما يسمى بـ «الانزياح عن الوظيفة التربوية» وهو أن يصبح التعليم أداة لإنتاج مواطنين عالميين، بدلاً من تعزيز الانتماء الثقافي، وقد نتفق جميعاً أن هذا النهج يهدد بانهيار الذاكرة الجمعية، ويحول المدرسة إلى منتج للاغتراب الثقافي.
إن الانفصام بين التراث والتعليم لا يمثل فشلاً تربوياً فحسب، بل يشير إلى أزمة في فهم العلاقة بين المعرفة والهوية، فالمعرفة كأداة سلطة هي عندما تفرض المعرفة العلمية كأنها الحقيقة الوحيدة ولا شيء غيرها، مما يحول نظم التعليم إلى امتداد لشكل من أشكال الاستعمار الثقافي.
وهنا يبرز السؤال: هل الحل الأفضل وضع الهوية كبناء متغير، بحيث تصبح المعتقدات الشعبية قابلة لإعادة التفسير في ضوء التحديات المعاصرة، أم علينا وضع بديل لا يتضمن إلغاء العلم لصالح التراث، بل خلق حوار بينهما؟
في دراسة تومسون ووتشن نجد نافذة على دراسات علم الأعصاب حول المعتقدات الشعبية وتأثيرها على الفرد والشخصية، وقد قام الباحثان باستخدام تقنيات تصوير الدماغ، ووجدا أن المعتقدات مثل العين أو الحسد تنشط مناطق مرتبطة بالعاطفة والخوف.
وتستخدم في دولة الإمارات معتقدات مثل «الأحجبة» أو «التعويذات» كحماية من الشر، وتظهر هذه الآليات أن المعتقدات الشعبية العميقة هي استجابات تكيفية للبيئة الصحراوية أو الساحلية التي تقدم تفسيرات لظواهر غير مألوفة، حيث أصبحت المعتقدات الشعبية جزءاً من اللاوعي البيولوجي الذي ينظم السلوك.
وقد أبدع كوفمان وليبي (2012) في دراستيهما بعنوان تغيير المعتقدات من خلال اكتساب الخبرة، وكيف أن القصص الشعبية يمكن أن تعيد تشكيل المعتقدات والشخصية والهوية، في دولة الإمارات مثلاً، نعلم أن السيرة (الحكايات التراثية) تروى في المجالس، وكذلك الأمثال الشعبية التي تحمل رائحة أجدادنا وأسلافنا، فتصبح هذه القصص والأمثال أدوات لتفكيك الخرافات عبر تأويلات جديدة وتتحول إلى رمز للذاكرة البيئية التي تربط الإنسان بالصحراء أو البحر، ويبقى التراث مادة مفتوحة للتأويل والبحث والتجديد.
بإسقاط هذه الأفكار على التعليم، ولمواجهة التحديات الكبرى التي قد نواجهها فعلاً، وستواجهها بلا شك أجيالنا القادمة خلال صراعها الوجودي، وحسب النقاشات مع المختصين، خصوصاً نخبة الباحثين المتميزين في جمعية الدراسات الإنسانية، فإن الجميع قد رأى أنه لا بد أن تضطلع مؤسسات التعليم المعنية سواء مجلس التعليم أم الوزارة بمهمات استثنائية من بينها إعادة قراءة متأنية للمناهج، وفحص كفاءة مواد وموضوعات التراث والمعتقدات الشعبية وتوظيفها حسب الفئات العمرية بما يعزز الهوية الوطنية، وكذلك الاهتمام بعمل اختبار تحديد مستوى للمعلمين جميعاً، يحدد فهمهم للتراث الإماراتي وقدراتهم وكفاءتهم في تحويل المواد العلمية وغير العلمية وتطويعها لرسم وترسيخ الهوية الإماراتية في عقول الطلبة ووجدانهم، أو على الأقل وضع برامج تدريبية مكثفة لجميع المعلمين يتم من خلالها تدريبهم وتأهيلهم على كيفية تحقيق الهدف الأسمى، وهو أن تكون مخرجات العمليات والنظم التربوية ترسخ وتعزز الهوية الوطنية التراثية.
أرى أن مهمة إنقاذ الأنظمة التعليمية من الانكسار الثقافي ليست سهلة، لكن لا بد فعلاً من المزيد من العمل لدمج التراث والمعتقدات الشعبية في المناهج كأدوات تدريسية، لا كمحتوى ثانوي، والتأكد من أن المعلمين قادرون على أساليب تربط بين المعرفة العلمية والتراث الرمزي، والذي سيخلق بلا شك فضاءً للحوار بين الأصالة والمعاصرة، تكون شروطه الأساسية تعزيز الهوية الوطنية وعدم المساس بها أو محاولة إلغائها.
كذلك لا بد أن تنشط مؤسسات التعليم في زيادة تخصيص أقسام ودوائر تعمل على مدار الساعة في الأبحاث والدراسات المتخصصة التي يمكنها أن تدرس الوضع الحالي لدى المدارس والمعلمين والطلبة في مدى تأثير عناصر التراث الإماراتي على تشكيل هوية الطالب الثقافية الوطنية وترسيخ القيم وغرس الانتماء، وتعزيز النموذج القدوة المتمثلة في القيادات الحكيمة التي أسست الدولة والقيادات الرشيدة التي تحمل اللواء بحكمة وعدالة ورعاية واهتمام بلا حدود.
لا أريد أن أطيل، ولكن أيضاً لا بد من التأكيد على دور الأسرة والمجتمع في التكامل مع دور مؤسسات التعليم، والعمل المسؤول والجاد في بث روح التراث الأصيلة لدى الناشئة، وقد سمعت خلال المناقشات، أن هناك أجيالاً جديدة من أطفال الإمارات وأطفال المقيمين فيها، لا يعلمون أي شيء عن حكايات وألعاب الإمارات التراثية الشعبية، وهذا في الحقيقة مؤلم، ونحن نرى الأجيال القادمة تمضي نحو المجهول بلا هوية وطنية ثقافية راسخة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

روسيا اليوم
منذ 15 دقائق
- روسيا اليوم
دراسة تحذيرية: إدمان مواقع التواصل الاجتماعي قد يكون علامة على النرجسية
تعرف النرجسية بأنها سمة شخصية تتسم بالأنانية والشعور بالعظمة ونقص التعاطف والحاجة المستمرة للإعجاب. وأجرى فريق البحث في جامعة غدانسك ببولندا، دراسة على 665 مستخدما لمنصات التواصل الاجتماعي، بهدف دراسة العلاقة بين أشكال النرجسية وإدمان استخدام هذه المواقع. وأظهرت النتائج أن الأشخاص الذين يتمتعون بسمات نرجسية، مثل حب الإعجاب والتنافس والبحث عن الثناء، كانوا أكثر عرضة للإدمان. كما لوحظ أن سمات أخرى، مثل العداء والعزلة قد تنشأ كأثر جانبي للإدمان. ويرجع ذلك إلى ميل النرجسيين للهوس بصورة الذات، خصوصا مع تركيز مواقع التواصل الاجتماعي على كيفية إدراك الآخرين لهم. وحذر العلماء من أن إدمان هذه المواقع يرتبط بمشكلات صحية نفسية وعزلة اجتماعية واضطرابات في النوم وصعوبات في الأداء الدراسي أو المهني. وأشارت الدراسة إلى أن أعراض الإدمان تشمل التدقيق القهري وعدم القدرة على التوقف رغم العواقب السلبية والاعتماد العاطفي على التفاعلات عبر الإنترنت. كما أوضحت أن هذا الاضطراب شائع بين من يعانون من تدني احترام الذات والشعور بالوحدة. وتضمنت الدراسة تحليل 6 أنواع من النرجسية، بينها الإعجاب والتنافس والعداء والعزلة والبطولة والقداسة (الترويج للذات)، ووجد العلماء أن معظمها مرتبط بإدمان وسائل التواصل، عدا "القداسة". وشدد فريق البحث على أن النرجسيين قد يظهرون سلوكيات متلاعبة وسيطرة وتقلبات مزاجية، قد تؤثر سلبا على علاقاتهم الأسرية والاجتماعية. نشرت الدراسة في مجلة أبحاث الشخصية. المصدر: ديلي ميل شارك علماء النفس مجموعة من العلامات التحذيرية التي تدل على أن شريك الحياة قد يكون نرجسيا. يسمى الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الشخصية النرجسية بالنرجسيين، ما يعني الافتقار إلى التعاطف والرغبة في تأكيد الذات من خلال إذلال الآخرين.

سعورس
منذ 16 دقائق
- سعورس
اللجنة الوزارية بشأن غزة برئاسة وزير الخارجية تعقد اجتماعًا مع وزير الخارجية الفرنسي
في إطار جهود اللجنة الوزارية المكلّفة من القمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية بشأن التطورات في قطاع غزة ، عقد وفد اللجنة الوزارية برئاسة صاحب السمو الأمير فيصل بن فرحان بن عبدالله، وزير الخارجية، ومعالي نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية وشؤون المغتربين في المملكة الأردنية الهاشمية أيمن الصفدي، ومعالي وزير الخارجية والهجرة وشؤون المصريين بالخارج في جمهورية مصر العربية الدكتور بدر عبدالعاطي، اجتماعًا، اليوم، مع معالي وزير أوروبا والشؤون الخارجية في الجمهورية الفرنسية السيد جان نويل بارو، وذلك في مقر وزارة الخارجية الفرنسية بالعاصمة باريس. وجرى خلال الاجتماع بحث الجهود الدولية الرامية إلى إنهاء الحرب على قطاع غزة ، والسماح بتدفق المساعدات الإنسانية إلى القطاع، ومناقشة تعزيز الجهود المشتركة لوقف كافة الانتهاكات التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني والأراضي المحتلة ، والتي تخالف القوانين والأعراف الدولية والقانون الدولي الإنساني. وناقش الاجتماع دعم المساعي الرامية إلى إحلال السلام في المنطقة، وتنفيذ حل الدولتين وفقًا للقوانين الدولية ذات الصلة، بما يحقق الأمن والازدهار للمنطقة. كما بحث الاجتماع التحضيرات الجارية للمؤتمر الدولي رفيع المستوى لحل الدولتين، الذي سيُعقد في مقر الأمم المتحدة خلال شهر يونيو المقبل بمدينة نيويورك ، برئاسة مشتركة من المملكة العربية السعودية والجمهورية الفرنسية. حضر الاجتماع سمو مستشار وزير الخارجية للشؤون السياسية الأمير مصعب بن محمد الفرحان. انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.


إقتصاد اليوم
منذ 17 دقائق
- إقتصاد اليوم
ترامب يعيد تشكيل مجلس الأمن القومي .. صلاحيات جديدة للخارجية والدفاع - بوابة إقتصاد اليوم ::: بوابة المال والحياة
شرعت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم الجمعة، في تنفيذ عملية واسعة النطاق لإعادة هيكلة مجلس الأمن القومي داخل البيت الأبيض، وهي خطوة وُصفت بأنها تحمل أبعادًا استراتيجية وإدارية في آنٍ معًا، لكنها أثارت جدلاً كبيرًا داخل الأوساط السياسية الأمريكية. ووفقًا لما نقلته وكالة 'رويترز' عن خمسة مصادر مطلعة، فقد تم إبلاغ عشرات الموظفين العاملين على ملفات حساسة تمس قضايا جيوسياسية كبرى، بإشعارات فصل فوري. وفي التفاصيل التي كشفت عنها شبكة 'سي إن إن'، أُعطي أكثر من 100 موظف إجازة إدارية وأُمروا بإخلاء مكاتبهم خلال أقل من ساعتين. وتراوحت ردود الأفعال بين الصدمة والاستياء، حيث وصف أحد المسؤولين هذا الإجراء بأنه 'غير مهني ومتهور'، بالنظر إلى حساسية المجلس وارتباطه المباشر بأمن وسياسة البلاد الخارجية. الخطوة تأتي بعد أسابيع قليلة من تعيين وزير الخارجية ماركو روبيو في منصب مستشار الأمن القومي، خلفًا لمايك والتز. ومن المتوقع، وفق المصادر، أن تؤدي إعادة الهيكلة إلى توسيع صلاحيات وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووكالات أخرى، في مقابل تقليص دور المجلس الذي لطالما كان المحور التنسيقي الرئيسي بين الوكالات الفيدرالية. وتهدف العملية إلى تقليص عدد موظفي مجلس الأمن القومي إلى العشرات فقط، بعد أن كان يضم مئات الأفراد في بعض الإدارات السابقة. وقال مصدران لـ'رويترز' إن غالبية الموظفين الذين شملهم القرار لن يتم فصلهم من الحكومة نهائيًا، بل سيُنقلون إلى وظائف بديلة داخل مؤسسات الدولة. ويشير متابعون إلى أن هذه التغييرات جاءت في أعقاب لقاء جمع الرئيس ترامب بالناشطة اليمينية المتطرفة لورا لوومر في أبريل الماضي، والتي أعربت عن قلقها من وجود موظفين 'غير موالين' داخل مجلس الأمن القومي. ويُعتقد أن هذه المخاوف ساهمت في تسريع قرار الإقالة الجماعية الذي مسّ أفرادًا كانوا قد خضعوا مؤخرًا لمقابلات تقييم شخصية من قبل مكتب شؤون الموظفين الرئاسي، تركزت حول نظرتهم لدور المجلس وحجمه المثالي. منذ بداية ولاية ترامب، تراجع الدور التقليدي لمجلس الأمن القومي كمؤسسة تُعنى بتقديم الخبرات والنصائح في ملفات السياسة الخارجية والأمن القومي، مع سعيه لتقليص نفوذه لصالح وزارات تنفيذية. ويتوقع محللون أن تعمّق هذه الخطوة التوجه نحو إضعاف المجلس، وتحويله إلى هيئة محدودة التأثير، تقتصر مهامها على التنسيق الإداري دون دور استراتيجي فعّال. مقالات ذات صلة