logo
اللُحمة الوطنية والوعي الفردي

اللُحمة الوطنية والوعي الفردي

جريدة الرؤية١٢-٠٤-٢٠٢٥

د. محمد بن خلفان العاصمي
منذ قيام النهضة المباركة بقيادة المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- في مطلع سبعينيات القرن الماضي، اهتمت سلطنة عُمان وبتوجيه وفكر من السلطان الراحل- رحمه الله- بمنظومة القوانين والتشريعات التي تؤسِّس العلاقة بين عناصر الدولة وتؤطر الحقوق والواجبات بشكل لا يترك مجالاً لأي اجتهاد، فيما يتعلق بالحقوق والواجبات والحريات، وبما يضمن وجود علاقة نموذجية بين عناصر المجتمع المدني ويحقق أهداف التنمية الوطنية ومبادئ النهضة التي جعلت الإنسان في صدارة اهتمامها ومحور العملية التنموية.
ومن أجل تحقيق ذلك وضعت المؤسسات الوطنية المختصة، وأوكلت لها مهمة تحقيق الحياة الاجتماعية الكريمة والعادلة وتطبيق مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، وهو ما ترسخ خلال فترة وجيزة في المجتمع العُماني وأصبح الأساس والأصل الذي بنيت الدولة عليه.
وفي العهد المُتجدد من مسيرة النهضة العُمانية بقيادة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أعزه الله- ارتسمت السياسة العامة للدولة نفس النهج السابق وعززت من مبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة، وأكدت على قيم التعايش والتسامح والتضامن الاجتماعي، وشددت على أهمية بقاء هذا النسيج الاجتماعي للمجتمع، كما أكدت أن الحريات وحقوق ممارسة المواطن والمقيم لجميع أنشطتهم التي نصت عليها القوانين والتشريعات هو مكفول من قبل الدولة ترعاه وتحميه ولا تسمح بالاعتداء عليه، كما شددت على أهمية الانتباه لما يدور حولنا من أحداث سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، وقراءتها بشكل متمعن وفهما، وعدم ترك المجال لها للتشويش على المجتمع خاصة مع وصول التكنولوجيا لمراحل من التطور بحيث لم يعد بالإمكان تجاهل تأثيرها وقدرتها على نشر المعلومات على نطاق واسع وفي زمن قصير.
لقد أسهم هذا التنظيم التشريعي والفكر التقدمي للدولة في نشر الوعي وتطور مفاهيم المواطنة، ورغم أن نسيج المجتمع العُماني متعدد الأطراف والثقافات إلا أن هذا التنظيم استطاع أن يصهر هذه العناصر في بوتقة واحدة وهي سلطنة عُمان، مما ساهم في صنع مجتمع مُتسامح مُتعايش مُخلِص لأرضه وسلطانه، يحمل أفراده قيم المواطنة الصالحة التي تسعى لرفعة الوطن وتقدمه، متمتعين بحقوقهم المشروعة كما بينتها القوانين، وقد مارس العُماني حقه في التعبير عن آرائه وكثيرًا ما ساهمت هذه الآراء في تحسين وتطوير العمل داخل أجهزة الدولة، كما إنها كانت دائمًا نموذجًا للعلاقة الصحيحة بين الحكومة وأبناء الشعب.
وفي مقالي السابق، تحدثتُ عن أن الوطن والمواطن خط أحمر لا يجيب تجاوزه، مهما كانت الأسباب والمبررات، وراهنت على الوعي لدى المواطنين كأحد العناصر التي يُعوَّل عليها في مواجهة دعوات التحريض والاستثارة التي تمارسها مجموعة من الأشخاص الذين يرغبون في إحداث الفوضى داخل المجتمع لأهداف شخصية غُلِّفت بغلاف المصلحة العامة. ونظرًا لأن عملية تشكيل الوعي في أي مجتمع تستغرق وقتًا ليس بالقصير؛ فمن مرحلة الوعي الذاتي إلى الوعي العقلي وصولًا إلى الوعي الاجتماعي الكامل يمر المجتمع بمراحل متعددة من تشكيل القناعات والإيمان المطلق بالمصلحة العامة التي تسمو على مصلحة الفرد وتغليب هذه المصلحة على اعتبارها النتيجة التي يرغب الإنسان فيها.
لقد أدرك العُمانيّ منذ بزوغ النهضة المباركة أن الوطن للجميع وأن الاختلاف أمر محمود وجزء رئيسي من التفاعل الاجتماعي الذي يُشكِّل نمط الحياة الاجتماعية، وأن هذا التقاطع هو ما يبرز جمالية النسيج الاجتماعي الذي يشكل المجتمع العُماني، وهذا الانصهار الكامل نشاهده واقعًا يوميًا هنا في سلطنة عُمان؛ حيث لا يشكل اختلاف المذاهب- على سبيل المثال- أدنى تحدٍ اجتماعي في الحياة اليومية، كما لا يشكل اختلاف اللهجات بين فئات المجتمع أي عائق للتواصل والتفاهم، وفي الحقوق والواجبات يقف الجميع عند خط واحد، ويمارس جميع أبناء الوطن دورهم في بناء الدولة صفًا واحدًا لا تفضيل فيه لأحد على أحد.
لقد اكتسب العُمانيّ القدرة على استيعاب الاختلاف مع الآخر وقبول الآراء والأفكار والتعامل مع هذا الاختلاف من منظور ذي سعة كبيرة وحق من حقوق الآخر، هذه القدرة مكنته على تقدير قيمة الآخرين والتعايش معهم بشكل تام دون الحاجة إلى اختلاق صراعات مع الآخرين، ولذلك نادرًا ما تصادف مواقف شجار وخلافات واعتداء على الآخرين في الطرقات والأماكن العامة كما نشاهده في كثير من المجتمعات التي فقدت هذه القيم وأصبحت بلا حدود أخلاقية على مستوى تقبُّل الآخر ومساحة الاختلاف بين الناس، وهذا الجانب لم يكن وليد الصدفة؛ بل هي سلسلة متتابعة من الأحداث والمواقف التي شكلت الوعي الفردي لدى أفراد المجتمع.
إنَّ انعكاس هذا الوعي على اللُحمة الوطنية كان بارزًا في كثير من المواقف التي مرَّت بها بلادنا العزيزة، فما شاهدناه من مواقف أثناء الأزمات مثل الأنواء المناخية التي تعرضت لها البلاد عدة مرات وفي مجال التكافل الاجتماعي، وفي فترة وباء "كوفيد-19"، كلها تُثبت أن الوعي بالمسؤولية الوطنية خير زاد لدى أبناء هذا الوطن في سبيل الحفاظ على لُحمتهم الوطنية والحفاظ على مكتسبات الوطن، لذلك عندما جاءت هذه الدعوات النشاز المغلفة بغلاف المصلحة الزائفة وحاولت النيل من ثقة المواطن بوطنه لم تجد الأذن الصاغية، ووجه العُماني رسالته الواضحة أن الوطن أغلى من المساومة والتجارة الرخيصة التي يرى البعض فيها مقاييس لوطنيَّتِهم وانتمائهم وولائهم للوطن.
إنَّ تعزيز الوعي الفردي لا بُد أن يكون موضع اهتمام من قبل الجميع، وعلى رأسهم حكومتنا الرشيدة بمؤسساتها الرسمية كالمدارس والجامعات والمعاهد والمساجد والجوامع وغيرها، كما إنه يجب على مؤسسات المجتمع المدني أن تؤدي دورها في هذا الجانب، وخاصةً الأندية والجمعيات وغيرها من المؤسسات التي تُعنى بقضايا الأمة والمجتمع، وأن تتكامل هذه الجهود في إطارٍ مُنظَّمٍ من خلال البرامج الوطنية التي تُعزز من قيم التسامح والتعايش بين أفراد المجتمع الواحد، وهذه الجهود هي التي ستحمي المجتمع من الأفكار الخاطئة والسلبية ومن الدعوات التي يبُثها المُغرضون بين الحين والآخر، رغبةً في الفت في عضُدِ لُحمةِ هذا البناء الاجتماعي الرصين.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

غزة.. سماء بلا أرض
غزة.. سماء بلا أرض

جريدة الرؤية

timeمنذ يوم واحد

  • جريدة الرؤية

غزة.. سماء بلا أرض

سالم البادي (أبو معن) تخيّل المشهد معي، أخي القارئ... يأتيك أمرٌ من جيش العدو عبر اتصال هاتفي أو نداء أو أي وسيلة، يأمرك بإخلاء بيتك في مهلة لا تزيد عن عشر دقائق. تخيّل: عشر دقائق فقط، ثم يُمحى بيتك عن سطح الأرض، تُطمس ذكرياتك، المكان الذي يأويك أنت وأسرتك، أشياؤك التي تحبها، كتبك... كل شيء يختفي في لمح البصر. تخيّل معي، كل هذا يمر أمام عينيك في عشر دقائق فقط—وجع وألم وأسًى وحزن ينهال عليك، وأنت مصابٌ بالدهشة والصدمة من هول الموقف. تخرج لتواجه الموت ألف مرة، أو تبقى لتلقاه مرة واحدة. كنا نقرأ عن قصص الحروب والموت في كتب التاريخ، ونشاهدها في أفلام الرعب، ونتابع قصص الجوع والتهجير والحرق والتعذيب وأبشع أنواع القتل. لكن أن نعيشها اليوم، في هذا العصر؟! هذا لم يخطر ببال أحد! وسائل الإعلام تنقل المجازر والإبادة على الهواء مباشرة! يشاهدها نحو 8 مليارات إنسان على كوكب الأرض، دون أن تتحرك مشاعرهم، دون أن تستيقظ فطرتهم لإنقاذ هذه الأرواح البريئة المحاصرة جوًا وبرًا وبحرًا، في بقعة صغيرة يعيش فيها نحو مليوني إنسان... إنه لأمرٌ يثير العجب! وكأننا أمام فيلم درامي مرعب، كتبته القوى العظمى، وأنتجته ودعمته أمريكا، ونفذه وأخرجه الاحتلال، فأبدع في الإبادة الجماعية والمجازر اليومية، مسجلًا مشاهدات مليونية، ليحصد جائزة الإجرام الدولي، بينما ملايين البشر يرون ويسمعون، لكنهم صمٌّ بكمٌ عُميٌ... لا يبصرون، ولا يعقلون. أين منظمات حقوق الإنسان؟ غاب دورها وانتهى. أين منظمات حقوق المرأة والطفل؟ انطمس ذكرها، وانطوت صفحتها. أين محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية المعنية بجرائم الحرب؟ مجرد أسماء بلا أفعال، ولا سلطة تنفيذية، وأحكامها تذروها الرياح. أين هيئة الأمم المتحدة؟ كيان بلا روح... لا يسمن ولا يغني من جوع. أين منظمة التعاون الإسلامي، التي تضم 57 دولة، وتعدّ ثاني أكبر تكتل دولي؟ أين صوتها في نصرة غزة؟ الأمة الإسلامية أثبتت تفوقها في خذلان شعب غزة، تركته وحيدًا، يواجه الجوع والعطش والقتل والتهجير والتدمير والإبادة، فكان مصيرها الذل والهوان حتى إشعار آخر، فهم لا يعقلون، ولا يفقهون، وهم في سبات عميق... لعلها تفيق يومًا إذا شاءت قدرة الله لها بذلك. غزة، المدينة التي تجسد الصمود في وجه الشدائد، تشهد صراعًا مستمرًا يمزق نسيج الحياة. الحصار المستمر منذ عقود، يفرض قيودًا شديدة على كل جانب من جوانب الحياة، ليحيلها إلى سجن مفتوح. ورغم كل هذه القسوة، تظل روح الشعب الفلسطيني صامدة، يتشبث بالأمل، يحلم بمستقبل أفضل. الظروف الإنسانية في غزة مروعة، لا مثيل لها في عالمنا المعاصر. إن الحصول على الطعام، الرعاية الصحية، المياه النظيفة، والكهرباء، بات أشبه بالمستحيل. الحرب المفروضة على القطاع منذ أكثر من عامين عزلت سكانه عن العالم الخارجي، تاركةً أثرًا عميقًا في سبل عيشهم وصحتهم النفسية. وتشير الإحصائيات إلى نزوح أكثر من 100 ألف شخص، وأن عدد الشهداء تجاوز 50 ألفًا، بينما فاق عدد الجرحى 114 ألفًا، والعدد في صعود مستمر، مع استمرار آلة الحرب بتدمير كل شيء... وسط صمت دولي مخزٍ، وتخاذل غير مبرر. إن الوضع في غزة هو تذكير صارخ بالظلم المستمر. على المجتمع الدولي التحرك فورًا، رفع الحصار، وضمان حصول الفلسطينيين على حقوقهم الأساسية. إنهاء معاناة غزة ليس مجرد واجب أخلاقي، بل ضرورة لتحقيق السلام في المنطقة. ومن الناحية الإنسانية، الأطفال والنساء في غزة يعيشون ظروفًا قاسية لا يمكن تخيلها. الأطفال يواجهون خطر الموت بسبب القصف، كما يعانون من صدمات نفسية شديدة. النساء يتحملن أعباء مضاعفة في هذه الظروف، ويفتقدن الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية. وإنقاذ غزة يتطلب إجراءات عاجلة، منها: 1. إدخال المساعدات الإنسانية بشكل عاجل ومستمر، دون أي قيود أو عراقيل. 2. توفير الأمن والحماية للمدنيين، ووقف استهداف البنية التحتية المتبقية. 3. معالجة جذور الأزمة، والعمل على تحقيق سلام عادل يضمن حقوق الفلسطينيين. 4. تقديم الدعم المالي واللوجستي العاجل، لتمويل الإغاثة وإعادة الإعمار. 5. تفعيل دور المؤسسات الدولية، والضغط على الاحتلال لاحترام القانون الدولي. باختصار.. إنقاذ غزة ليس مجرد مطلب إنساني، بل واجب أخلاقي لا يقبل التأجيل. يجب أن تتضافر الجهود لإنقاذ ما تبقى من البشر والحجر والشجر، حتى لا يسجل التاريخ يومًا أن هناك شعبًا أُبيد أمام أنظار العالم. في غزة... لا أرض قابلة للعيش، لا رغيف خبز، لا هواء، لا ماء، لا دواء. يموت الناس صبرًا، يموت الأطفال جوعًا وعطشًا، تُقتل النساء والشيوخ والأطفال على الملأ... حرقًا. غزة... هذا العار على جبين التاريخ، وهذا الجرح الذي لا يلتئم. التاريخ لا يرحم، وسيسأل العالم عن غزة وشعبها، وعن خذلانه لها. الدعاء وحده لا يكفي، أنصروهم بما أوتيتم من قدرة، تضامنكم معهم يخفف عنهم وجعهم ومعاناتهم. اللهم بردًا وسلامًا على غزة وأهلها، كن لهم عونًا ونصيرًا، وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وانصرهم، يا الله.

بالصور.. تعازي الشيخ محمد بن زايد إلى جلالة السلطان في وفاة والدة السيدة الجليلة
بالصور.. تعازي الشيخ محمد بن زايد إلى جلالة السلطان في وفاة والدة السيدة الجليلة

جريدة الرؤية

timeمنذ يوم واحد

  • جريدة الرؤية

بالصور.. تعازي الشيخ محمد بن زايد إلى جلالة السلطان في وفاة والدة السيدة الجليلة

الرؤية- غرفة الأخبار استقبل صاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد وزير الثقافة والرياضة والشباب، اليوم، سمو الشيخ ذياب بن محمد بن زايد آل نهيان نائب رئيس ديوان الرئاسة للشؤون التنموية وأسر الشهداء، رئيس مجلس الشؤون الإنسانية الدولية، الذي نقل تعازي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، إلى حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أبقاه الله- في وفاة والدة السيدة الجليلة.

جلالة السلطان يتلقى رسالة خطية من رئيس جمهورية القمر
جلالة السلطان يتلقى رسالة خطية من رئيس جمهورية القمر

جريدة الرؤية

timeمنذ 2 أيام

  • جريدة الرؤية

جلالة السلطان يتلقى رسالة خطية من رئيس جمهورية القمر

مسقط - العمانية تلقى حضرة صاحب الجلالة السّلطان هيثم بن طارق المعظّم /حفظه الله ورعاه/ رسالة خطية من فخامة رئيس جمهورية القمر المتحدة، تتصل بالعلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين. تسلّم الرسالة معالي السيد وزير الخارجية، خلال استقباله معالي وزير الشؤون الخارجية والتعاون الدولي في #جمهورية_القمر_المتحدة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store