logo
"الكبّة الحديدية" لنضال بدارنة.. "ستاند أب" كوميدي "حرّاق"!

"الكبّة الحديدية" لنضال بدارنة.. "ستاند أب" كوميدي "حرّاق"!

جريدة الايام٠٨-٠٥-٢٠٢٥

تحت عنوان "الكبّة الحديدية"، قدم الفنان نضال بدارنة، عرضاً سياسياً ساخراً، في قاعة الشارقة بمقر معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، مؤخراً، ضمن فعاليات مهرجان "الياسمين" 2025، وسط تفاعل كبير من الجمهور الذي قدم من عدّة مناطق تمثل كامل الجغرافيا الفلسطينية.
وكشف بدارنة، الذي بدأ عرضه بتوجيه تحية إجلال لأرواح شهداء فلسطين، عن أنه يتعذر عليه إقامة عرض كهذا في الداخل الفلسطيني، كونه منذ السابع من أكتوبر وحتى يومنا هذا، تم خلق حالة من الرعب وصلت إلى حد الخوف من التعبير بكافة أشكاله، ولدرجة أن أشياء كثيرة فينا تغيّرت، وهناك أشخاص لا يتغيرون، من بينهم قيادات سياسية، وعاملون في بعض المهن كموظفي البنوك، الذين يتابعون الرواتب وغيرها لتحصيل القروض، بصرف النظر عن الحروب والكوارث الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرها، حتى تحوّل احدهم تبعاً لسنيّ عمله، وللنظام العام، إلى رجل آلي أو يكاد.
وفي نهاية شباط الماضي، اعتقلت شرطة الاحتلال الكوميديان نضال بدارنة، من منزله في حيفا، بعد أيام من تهديدها له بعدم تقديم عرضه الذي كان مقرراً في الناصرة، بحيث تواصل احتجازه والتحقيق معه عدة ساعات، بحجة "التصرف بطريقة قد تخل بسلامة الجمهور"، وفي أعقاب حملة تحريضية واسعة وشرسة شنتها جهات يمينية متطرفة ضده، سعت من خلالها إلى إلغاء عروضه، وهو ما نجحت فيه حيث احتجز للحيلولة دون إتمام عرض الناصرة، بعد منع إقامة العرض ذاته في حيفا، في حين ذهب بعض المحرّضين ضد بدارنة إلى المطالبة بسحب حقه في المواطنة، وترحيله إلى قطاع غزة، علاوة على إرسال تهديدات مباشرة له بالقتل والملاحقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وسرد بدارنة بأسلوب ساخر التحقيق معه تبعاً لتقديمه هذا العرض في مدن بالداخل الفلسطيني، ومن بين ما ورد في التحقيق سؤاله عن أغنية "يا ابني" لوديع الصافي التي وظفها فيه، واتهامه بالترويج عبرها لـ"حزب الله"، وكيف تبعا للخوف من الاعتقال، الذي بات سياسة دارجة أكثر من أي وقت سابق، منذ الطوفان، حوّلها إلى "لبنة بلادك لابنك أعطيها كل يوم الصبح ع المدرسة ادهنوا فيها، وإن ما حبها اللبنة بخبز شراك حطها ع إيديك وامعسوا فيها".
ووصف ما يعيشه الفلسطيني في الداخل بحالة "بدك وبدكاش"، كأن تكون من الداخل راغباً بأن يصيب الصاروخ هدفه، وفي الوقت ذاته لا يرغب بذلك خشية أن يسقط الصاروخ فوق رأسه في حيفا، أو غيرها، وكيف فقد صديقه أحد أطرافه نتيجة صاروخ قادم من لبنان أطلقه "حزب الله" في حرب سابقة، وهي ذات الحرب التي برز جليّاً إعجاب والدته فيها بحسن نصر الله، قبل استشهاده، حد أنها عند كل خطاب له، كانت تقوم بتنظيف المنزل و"تعزيله"، وحين كان يسألها عن سبب ذلك، كانت تخبره بأن "نصر الله بدو يخطب"، وكان يجيبها بأنه لن يلقي الخطاب في المنزل "هون"، وكيف كانت تتذمر من تأخير القصف وسقوط الصواريخ، وسط قهقهات الجمهور التي تواصلت قرابة ساعة ونصف الساعة.
وبأسلوبه المحبّب لدى الكثيرين، تطرق بدارنة ليوميّات الحرب للفلسطينيين في الداخل، وتعاطيهم مع ما يسمى "تعليمات الجبهة الداخلية الإسرائيلية"، مطلقاً نكات سياسية على شكل مواقف كوميدية سردها بطريقة انتزعت القهقهات من جمهور مهرجان "الياسمين" 2025، متحدثاً عن "بابا نويل" الفلسطيني الملثّم، من مسقط رأسه في "عرابة البطوف"، مشيراً بوضوح غير ساخر إلى أن فكرة التعايش بين الفلسطينيين والإسرائيليين فيما يعرف بـ"المدن المختلطة"، تحطمت في ظل الحرب المستمرة في غزة ومخيمات الضفة، قبل أن يسرد الحكايات مجدداً بأسلوبه الساخر، حول التعليمات الخاصة بأن كل من يقطن بجانب مسنين عليه مساعدتهم بالاختباء في الملاجئ عند سماع صفارات الإنذار، متسائلاً، كيف سيُقنع رجل أمن إسرائيليا، إذا ما شاهده يحمل جارته الإسرائيلية المسنة، أنه غير متوجه بها إلى غزة!
وتطرق بدارنة في عرضه إلى الحديث عن "السابع من أكتوبر" والأسرى من الإسرائيليين والتايلانديين في غزة، وأحداث الحفلة الشهيرة، وهو ما كان أثار حفيظة الكثير من أنصار اليمين المتطرف، باعتباره تطرق إلى مواضيع تندرج في إطار "التابو".
ومن أجواء حرب الإبادة المستمرة، قدّم عرض "ستاند أب" كوميدي يمكن وصفه كما أشار البعض بالدارجة "حرّاق" أو "بشعط شعط"، تحدث فيه عن "القبة اللي عملت منا كبة".

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

دردشة مع الشاعر السوري هاني نديم: أنا أكتب وحسب.. ولدي خال فلسطيني اسمه مصطفى
دردشة مع الشاعر السوري هاني نديم: أنا أكتب وحسب.. ولدي خال فلسطيني اسمه مصطفى

جريدة الايام

timeمنذ يوم واحد

  • جريدة الايام

دردشة مع الشاعر السوري هاني نديم: أنا أكتب وحسب.. ولدي خال فلسطيني اسمه مصطفى

أعرف هاني من عصر ما قبل الفيسبوك، من زمن حرائق ماسنجر الهوت ميل والمدونات الشخصية حيث التواصل بالثرثرة والغموض والتخفي الحلو وغياب البيانات ومطاردة الصديقات، وممارسة ألذ أنواع الانتقام العاطفي والتشفي (البلوك)، كان اسم هاني يتردد على ألسنة الصديقات بحماسة وإثارة، أضفته على الماسنجر لأعرف هذا الساحر، أو لاستكشف ما يميزه ويجعله حديث الألسنة. لم أحدثه مطلقاً، وظل ضوؤه الأخضر في مدار مراقبتي، أحترق بنجوميته وأموت بظلامي، فيما بعد، بعد انفجار العالم بالفيسبوك والواتس أب والتويتر، والإيميل، صار هاني صديقي، التقيته في معارض الكتب محاطاً بالمحبين، اكتشفت فيه مثقفاً كبيراً بدم خفيف ودماثة وطيبة قلب كبيرة، شتمت الصديقات اللواتي أعطينني عنه صورة خارجية سطحية عنوانها (كيتشي) صريح: شاعر المرأة اللطيف، قرأت لهاني نصوصه بتركيز، بعيداً عن تقييمات الذائبات، فوجدت فيه عمقاً كبيراً، بالنسبة لي كان شاعر الهشاشة الإنسانية الجميلة، صوره الشعرية لا أثر (لكيتش) فيها، ممتلئة بأفكار وصور تزعزع ولا تستقر، تشكك ولا تهنئ.. هذه دردشة مع هاني: • نديم، كل هذا الحب من الناس.. ما مصدره ولماذا وكيف؟ هل أنت ملاك؟ - يا لهذا السؤال في بداية الحوار، إنه يجعلني أذهب معك حيث أردت. أتعلم؟ عشت حياة قاسية عكس ما يبدو ربما، خبرت كافة المآسي، وخاصة الموت، موت أهلي وأعز أصحابي بمتتالية يصعب تصديقها، هذا كفيل بأن تفهم أن العمر أقصر من أي شرّ. لدي شروري بالتأكيد، لست ملاكاً أبداً. إنما أفعل كل شيء إلا أن أوذي أحداً أو أضرّ به.. أخاف على ما بنيته داخلي من قيم، هذا أهم لدي من أي إنسان خانني أو خذلني، أكتفي بالابتعاد وإن ذهبت لا أعود. هذا أقسى ما لدي. الحياة قصيرة وحربي المستمرة داخلي تشغلني عن العراك مع الآخرين. • قصيدتك لذيذة وطعمها كطعم فطيرة التفاح، وأنت ذكي بما فيه الكفاية لتعرف أن الطعم الحلو لا يكفي. ثمة حريق تدسه داخل الفطيرة، ما مفهومك لخلود وتأثير الشعر على الناس؟ - أنا لدي موقف مع التعالي بكل أشكاله، التعالي البشري، والجمالي في الزي والزخرف والحياة، وبطبيعة الحال، لا أحب التعالي اللغوي على الإطلاق، ابتذال البلاغات وفرد المعاجم وهدر الفرائد والموارد اللغوية أمام السامعين، ثمة جانب مزيف في هذا. من وجهة نظري، على الشعر أن يكون عبقرياً يفكك قنبلة اللغة العنقودية تلك ويطيّرها فراشات بين أيدي الطيبين والحزانى، أشعر الشعراء عندي من لا يلبس كامل عدته البلاغية ويظهر إلى الناس، من تتلامع أثواب نبوغه في خزائنه ولكن يلبس جلاليب التردد! أشعر الشعراء بالنسبة لي من يخاطب الناس بلسانهم دون أن يتخلى عن هيبة البلاغة. البلاغة التي يصفها ابن المقفع بأنها لفظ إذا سمعه الجاهل، ظنّ أنه يحسن قول مثله! ولا بد لي من الإشارة، إلى أنني متذوق رفيع للقصائد الذهنية والفلسفية والتي تطرح أسئلة وجودية كبرى، ولكن لا أحب كتابتها أو لا أجيدها ربما، فهي لا تشبهني بساطة ولا لغة. • أنت سوري. بما فيه الكفاية لكنك فلسطيني جداً باستمرار، كيف تعرفت على الألم الفلسطيني الكبير، أو لمسك الجرح الفلسطيني.. متى وكيف؟ - أنا من أبٍ سوري، ومن أم فلسطينية، هذا يفسر الأمر ربما، وقد وصفت تلك العلاقة العجائبية في نصٍ لي، أقول فيه: وكنتُ ثاني اثنين/ إذ أنا في الغار، أنينٌ في مواجهة أنين/ نصفٌ سوريٌ ونصفٌ من فلسطين/ كنت أضحكُ وأبكي، لم تبض حمامةٌ، ولا عشّشت عنكبوت/ فقط، كان الثاني يمسحُ شعرَ الأولِ كيتيم ويهمس له: "لا تحزن.. إن الله معنا". لدي خالٌ اسمه مصطفى، وهو جنرال سابق، كان يصرّ دوماً على ذكر فلسطين ولو كان الحديث عن هونولولو، هذا التشبّث باللهجة والأرض، هذا التواطؤ الضمني في دار جدي على الحديث باللكنة الفلسطينية وذكر النكبة والنكسة والحروب والعمليات الفدائية، أقحمتني قسراً في القضية بعيداً عن البعد الجيني. • أغار من تدفق المعجبين حولك يا هاني كيف تصنف المعجبين؟ هل تصدقهم؟ عما يبحثون فيك؟ - أخاف حقاً من مصطلح "معجبين"! من حسن حظي أنني أول عمري عملت بالقرب من المثقفين الكبار، ورأيت في الكثير منهم بأم عيني التي سيأكلها الدود، أمراضهم ونرجسيتهم وزيفهم، ومن قرفي هذا كقارئ قبل أن أصبح كاتباً، حرصت على أن أكون كما أنا بـ"عجري وبجري"، لا أخدع ولا أقدم شخصاً غيري في نصوصي، هذا أنا، من يضحك رغم حزنه، ويردّ بكل محبة وصدق على الجميع رغم هذا الكم المهول من الأعمال، وذلك بوصفهم أصدقاء لا معجبين. بيننا تبادل روحي ونفعي إن شئت. أنا بحاجة لهم وهم بحاجة لي. هكذا أعيش وهكذا أنا بطبعي. أصادف الكثير ممن يقرؤون لي بالمطارات والمطاعم وغير ذلك، ونصبح أصدقاء حقيقيين على الفور، إذ إنه يعرف أنني أحب القهوة ومونيكا بيلوتشي وعمر سليمان والمتنبي والنساء الجميلات والنكتة الذكية. لا مسافة بيننا سوى الشاشة.. وقطعناها. • من هو الشاعر الفلسطيني الأول الذي أحرق سهولك وجمد الدم في عروقك طرباً وجمالاً؟ - الجواب كلاسيكي جداً، محمود درويش طبعاً، ذلك الشاعر الأسطوري الذي فتح الباب على مصراعيه لتعلقي بالأدب الفلسطيني، لاحقاً غسان كنفاني وتوفيق زياد وسميح القاسم، إلا أنني وبصدق أحب هذا الجيل المعاصر أكثر وتعرفهم اسماً اسما، فجيل اليوم أكثر تعباً وصدقاً ولا منافع له حزبية أو غيرها. • متى ستزور فلسطين يا هاني ونقرأ معاً على شاطئ عكا؟ هل تتخيل هذه الأمسية حدثني عنها. ماذا حدث بالضبط فيها؟ - ارتعدت مرتين في حياتي، واحدة منها وأنا أقف جنوب لبنان وأرى سهوب فلسطين وأشم هواءها المحمّل برائحة الزعتر البرّي، بكيت بمرارة طفلٍ وقهر رجلٍ لا يقوى على التقدم خطوتين باتجاه بلاده المنهوبة. في عملي كرئيس تحرير لمجلة طيران، زرت ثلثي العالم، وما زالت حرقتي فلسطين. سأزور أولاً حيفا، كرمى لأمي، وإن جئت عكّا، سأقبل المدافع كلها وأقبل السور، ونشرب قهوة في المدينة القديمة قبل الأمسية، أنا وأنت مع أصحابنا الكثر هناك، ثم سأقرأ من كل قلبي.. من كل كل قلبي. • نصوصك حرة مبتهجة تركض بين الحقول كالأطفال. عم تبحث نصوصك يا صديقي؟ - صدقني أنني أكتب وحسب، لا أفكر تماماً بأي اتجاه ستذهب تلك النصوص، ولا من سيقرؤها، ولا ماذا سيقولون عنها، وحالما أفكر بالمكان والزمان والأشخاص، أفشل فشلاً ذريعاً. أنا أكتب وحسب، مرة شعراً عمودياً، مرة تفعيلة، مرة نثراً، ومرة من كل هذا غير آبه لا بالمناهج ولا بالنقد. هذا أنا أكتب ما يشبه أناشيد الرعاة، مرة تسوقني ومرة أسوقها، مرة إلى الغدران والماء السلسبيل، ومرة إلى الظمأ والهلاك، ومرة أفشل وأخرى أنجح. إنما ربما، أقول ربما، أبحث عن نفسي من خلال لغتي.

الشوكولاتة وبحّارة
الشوكولاتة وبحّارة

جريدة الايام

timeمنذ يوم واحد

  • جريدة الايام

الشوكولاتة وبحّارة

كيف سأشرحُ موتَك الكثير يا سليم؟ فأنت لستَ قصيدة عموديّة في منهاجٍ مدرسي، ولستَ مسألة رياضيّة، ولستَ طقساً مضطرباً سببه حَوَلٌ مفاجئٌ في الفصول، أنت عائلة يا صديق، كيف إذاً سأشرحُ موتَ عائلة يا سليم؟، لا أمتلكُ – واللهِ – رفاهيةَ هذا الشرح: أن أقول شيئاً عنك وعن سلوى ومصطفى وليلى ولمى وجمانة، تمهل تمهل هل قلتُ «جُمانة!!1»؟ يا الله… جُمانة، جُمانة، جُمانة، جُمانة! حسناً، سأبدأ من جُمانة. جُمانة التي من اثنين وعشرين عاماً من المطر، من عصافير في اللغة، ورد من الأمنيات، ومن نهرٍ من الشوكولاتة؛ جُمانة التي من أبيها، من غزّة، من فلسطين.. قبل خمسةَ عشرَ عاماً، وفي رام الله، على هامش معرض كتاب، كنتُ أجلس مع سليم – أو لأكن واقعياً: كنتُ أجلس في صوت سليم – وهو يحكي عن ابنته جُمانة. كان صوته من الاتساع والحماسة والحيوية بحيث يمكن أن أجلس فيه متربعاً على أريكة، وأن تجلسَ في صوت صديقٍ يحكي بحرارةٍ عن ابنته ذاتِ السبعة أعوام، فهذا يعني أنك تجلسُ في عين الزمن: "- هل تعرف يا زياد أن جُمانة عبقرية في الرسم؟ ترفع البحر ليصير سماءً، وتُسقط السماء لتصبح بحراً. هل تتخيّل المشهد يا زياد؟ هذا المشهدُ من اختراع ابنتي جُمانة. جُمانة حياتي يا زياد… حياتي، حياتي. هل تعرف ماذا تقول معلّمةُ اللغة العربيّة عن جُمانة يا صديقي؟ تقول إن بنات الشعراء قصائد، وإنها فخورة لأنها تُعلّم قصيدة من قصائد غزّة. هل تعرف ماذا تُحبّ جُمانة، يا صديقي؟ تُحبّ الله وغزة والمطرَ وآذنة مدرستها أم أيوب، ومحمود درويش، وصديقتها نسرين والقواربَ، وكُتب أبيها، والشوكولاتة.. هل تعرف بماذا تحلمُ جُمانة، يا صديقي؟ أن تصبح جِنّيّةً ترشدُ بحّارةَ غزّة الفقراءَ إلى بقع السمك الكثير، تحفظُ جُمانة أسماءَ البحّارة الفقراء، وتعرفهم شَهقةً شَهقة، وسُعالاً سُعالاً، وتميّزهم من خطواتهم وظلالهم وأصواتهم وقواربهم النحيلة، ونعاسهم وخوفهم وتعبهم وأفواههم قليلة الأسنان..". على هامشِ معرض كتابٍ قبل خمسةَ عشرَ عاماً في رام الله، جلستُ مع سليم النفّار: كان سليم جبلاً ضخماً من النار وكتلة عالية من القطن. كلما كتب سليم قصيدة شَبَّ فينا وفيه حريق، نَهض سؤال، والتَمعت عينا طفل. سمّيتُه «شاعر الطفولة والحرائق»، حافظ التوازن العبقريّ بين جبل النار داخله الضخم وكتلة القطن العالية.. سيغادر سليم رام الله عائداً إلى بيته في غزّة، مُحمَّلاً بقوالب شوكولاتة إلى جُمانة، هدية من «عمّها زوزو»، كما تُخاطبني. ستصل الشوكولاتة إلى جُمانة، ستتصل بي وتشكرني بصوتها الذي يشبه صوت غزّة. ولا تسألوني عن صوت غزّة؛ قلتُ لكم إنني عاجز عن الشرح.. ستستمرُّ قوالب الشوكولاتة في رحلاتها السنويّة مع كلّ معرضِ كتابٍ يحدث في رام الله عبر قلب سليم سيستمرُّ قلبُ «عمّو زوزو» في الفرح، لأن طفلة من غزّة تفرح هناك، لأن بحارة فقراء سيفرحون هناك، ولأن بنات البحارة سيفرحن هناك، ستكبر جُمانة كلَّ عام، لكن الشوكولاتة لن تكبر، ستظلّ الطفلةَ الصديقةَ لجُمانة، ثابتةَ المذاق، كاملةَ الاستعداد للذوبان السعيد في قلب أجملِ طفلاتِ غزّة.. ستواصل جِنّيّةُ غزّة الغامضة – كلَّ عام – وهي تطلُّ في فجر القطاع من شرفتها على الشاطئ، إرشادَ بحّارة غزّة الفقراء قليلي السمك والأسنان، إلى مناطق السمك الكثير، وستواصل طفلةٌ اسمها «ميار»، ابنة والدها البحّار الفقير أسعد، رواية قصة السماء التي تمطر شوكولاتة لذيذة، وقصة السمك الكثير الذي يلمع فجأةً على الشاطئ في ما يشبه تدخّلاً إلهياً رحيماً أو حظاً غريباً.. لم تتوقّف رحلاتُ الشوكولاتة من رام الله إلى غزّة؛ صار عمرُ جُمانة اثنين وعشرين قالبَ شوكولاتة. في معرض الكتاب الأخير، صيفَ 2023، وفي فندق «بيوتي إن» – حيث ينزل سليم طيلة أيام المعرض – جلستُ معه في آخرِ ليلةٍ له قبل أن يغادر إلى عصر الإبادة هناك. ستّ ساعاتٍ من الحديث مع سليم: دخّن فيها نصفَ مليون سيجارة، وغيّر جلسته على كرسيه ألفَ مرّة، وحكى لي بالتفصيل الذابح قصةَ استشهاد والده في لبنان، تحشرج صوتُه فيها آلاف المرّات، مُقسماً – بشرف مجلة «الكرمل»، حيث مكتب محمود درويش أمامه تماماً في مبنى مؤسسة «السكاكيني» – أن يواصل النضالَ بأشعاره إلى أن تعود البلادُ إلى بلادها. وحكى قصةَ انتقاله من تنظيمٍ إلى آخر بحثاً عن «الصدق المُطبِق»، كما قال، لكنه لم يجدْ هذا الصدق المثالي في أي تنظيم؛ لكمَ سليم الحائطَ أثناء هذه الحكاية آلافَ اللكمات، فوجد نفسَه أخيراً في حِضن تنظيمٍ قاده إليه صديقٌ لوالده الشهيد، قائلاً هنا أفضلُ الموجودين، فكن هنا، وانعم بدفء صغير ما يا سليم)». أولَ الحرب، اتصلتُ بسليم وجُمانة، قائلاً لهما: «ستصل الشوكولاتة كما كلّ عام، فلا تقلقا». سمعتُ ضحكةَ الجِنّيّة من غرفةٍ مجاورة، وشممتُ دخانَ سيجارة سليم ورائحةَ الكفتة بالطحينيّة، الأكلة التي تعشقها جُمانة. ثم فجأةً سمعتُ انفجاراً ضخماً قريباً.. بعد أسبوع، سأسمع عن قتل لعمارةٍ سكنيةٍ وسط غزّة، وسأعرف أن سليم وعائلته كلها، وشقيقه وعائلته كلها، قد دُفِنوا تحت العمارة.. بعد أسبوع، سأجد بالصدفة في هاتفي رسائل غير مقروءة من سليم. من هاتفه سأقرأ الرسالةَ الأخيرة، وهي الأهمّ: «عزيزي زياد، نحاول الاتصال بك. جُمانة كتبت قصيدة عنوانها "شوكولاتة وبحّارة"، وهي تريد قراءتها لك على الهاتف». بعد أشهر طويلة من قتل غزة أفكر في طفل ووالده يمران شاحبين مترنحين أمام عمارة سليم المنهارة، يقفان أمام البقايا يقتربان، يمدان أيديهما بحثاً عن كسرة ماء أو فتات خبز أو بقايا قاع علبة فول قفزت من شرفة بيت صار على الأرض. - يابا شامم ريحة شوكولاتة. - آه والله، وأنا كمان، وهي نفس نوع الشوكولاتة اللي كنا أنا وأصحابي الصيادين نتفاجأ فيها على الشط لما كنت أصيد سمك.

تقرير منزل واحد... سبعون روحًا وقصَّة فجيعة واحدة
تقرير منزل واحد... سبعون روحًا وقصَّة فجيعة واحدة

فلسطين أون لاين

timeمنذ 2 أيام

  • فلسطين أون لاين

تقرير منزل واحد... سبعون روحًا وقصَّة فجيعة واحدة

غزة/ جمال غيث: في إحدى مناطق مخيم جباليا شمال قطاع غزة، يجلس نظير مقبل، شارد الذهن، منكسر القلب، يحدّق في اللا شيء، بينما تمرّ في ذهنه مشاهد الوداع الأخير لعائلته التي لم يكن يعلم أنه سيودّعها إلى الأبد في تلك الليلة المشؤومة. استهدفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي منزل العائلة المجاور لمدرسة نسيبة بنت كعب في منطقة الجرن بمخيم جباليا، بصاروخ حوله إلى كومة من الركام والدماء منتصف الشهر الجاري. في لحظة واحدة، فقد نظير والده محمد، ووالدته ابتسام، وإخوته الثمانية، وعمه محمود وابنته غنى. وحده نجا من المجزرة. يقول بصوت متهدّج وكأنه لا يزال لا يصدق: "أنا الناجي الوحيد". آخر لقاء يسترجع مقبل آخر لحظاته مع العائلة: "كنا نجلس ونتحدث ونضحك.. كانوا فرحين بطريقة غريبة، كأنهم يشعرون بأنهم سيرحلون عن الدنيا"، مضيفًا بمرارة: "كانت كلماتهم خفيفة وجميلة، كأنها رسائل وداع، لكني لم أفهمها إلا بعد فوات الأوان". ويتابع بغصّة لصحيفة "فلسطين": "كنا نعيش بسلام، لم يكن في البيت سوى مدنيين. والدي الستيني، وإخوتي: الحكيم، والصيدلي، والمحامي، والمهندس، والطلاب. شقيقي علاء، وزوجته أسماء، وأطفالهما الثلاثة: محمد، وأحمد، وألما. وأخي أدهم، المحامي الذي كان على موعد مع خطوبته يوم الخميس التالي. وأخي أحمد، المهندس الحافظ لكتاب الله. وأخي كريم، الصيدلي. وأنس، الحكيم. وشقيقتي غادة، التي كان من المفترض أن يكون فرحها الشهر القادم، وآية، وعبد الرحمن. جميعهم رحلوا، وبقيت أنا". ويضيف مقبل: "حتى عمي محمود، رحل هو أيضًا، ومعه ابنته غنى، فقد لجأ إلينا بعد أن دُمّر منزله. كان البيت مزدحمًا، لكنه كان دافئًا. منزلنا كان يأوي أكثر من 70 شخصًا بعدما شردتهم آلة الحرب من منازلهم، فأقاموا لدينا خيامًا أو استأجروا مساكن مؤقتة قبل أيام فقط". ويكمل بحزن مستذكرًا لحظات القصف، قائلًا لمراسل صحيفة "فلسطين": "دوى انفجار هائل في المكان عند الثانية والربع فجرًا، فاستيقظت على صرخات وغبار وركام. لم أجد أحدًا من عائلتي على قيد الحياة. زوجتي وابني أصيبا بجروح طفيفة، لكن الفاجعة لم تكن في الجراح، بل في من رحلوا". ويمضي مقبل، وهو يحاول أن يبدو متماسكًا، لكن صوته يخونه في كل جملة: "لم أتخيّل يومًا أن يُقصف منزلنا. لا يوجد فيه أي مقاوم، ولا أحد يشكّل خطرًا، فقط أناس يحاولون النجاة". ويردف: "شقيقي أدهم، كان قد ذهب لرؤية عروسه قبل استشهاده بيوم، وتم الاتفاق على تحديد موعد الخطوبة. كانت أمي سعيدة له، كأنها تزفّه بنفسها"، يتحدث نظير وكأنه يراهم أمامه. "لكنه لم يعد.. رحل قبل أن يكمل فرحته". وداع جماعي وتمضي الكلمات ثقيلة من فمه، وهو يصف كيف دُفنت العائلة كاملة في مقبرة جماعية بجوار مدرسة أربكان في جباليا البلد، حيث غُطّيت القبور بألواح الصفيح لعدم توفر الإسمنت، مضيفًا: "حتى في موتهم، لم ينالوا حقهم؛ لا قبر منفرد، لا وداع لائق، لا بكاء كافٍ". ويعيش مقبل اليوم مع زوجته وابنه في منزل أحد الأقارب في منطقة الجرن، بلا مأوى حقيقي، بلا عائلة، فقط ذاكرة مثقلة وصور لا تغيب. ويقول: "أشعر أني أتنفّس وحدي، أتحدث وحدي، أعيش وحدي.. لقد أخذوا مني كل شيء". ويقول غازي مقبل، أحد أقارب العائلة: إن الاحتلال يستهدف المدنيين عمدًا، ضمن سياسة تهجير وتجويع وإبادة، لإفراغ غزة من أهلها. فالحرب التي اندلعت في 7 أكتوبر 2023 لم تفرّق بين مقاوم ومدني، ولا بين امرأة وطفل، ولا بين بيت ومأوى للنازحين. ويضيف مقبل لـ"فلسطين": "حتى خطيبة شقيقي غادة، التي ودّعها قبل ساعات، كانت تدعوه للصبر والتمسّك بالأمل، وقالت له إن الفرج قريب. لم يكن يعلم أن تلك كانت كلماتهما الأخيرة". وكان منزل العائلة مكوّنًا من عدة طوابق: الطابق الأرضي مضافة، والأول يقطنه علاء وأسرته، والثاني مقسم بين شقة نظير، وأدهم الذي كان يجهزها لزفافه. أما عمه محمود، فقد سكن في الطابق ذاته بعد أن عاد من النزوح إلى جنوب القطاع ووجد منزله مدمّرًا. ويردف: "لا شيء تبقّى، لا بيت، لا أعمدة، لا ذكريات، إلا ما يحمله نظير في قلبه". "لكل رقم حكاية" ويختتم مقبل حديثه قائلًا: "لم يبقَ لي سوى خالاتي، فقد ارتقى عمي وأبناء خالاتي أيضًا. الحرب طحنت كل شيء، ونحن مجرد أرقام على قوائم الشهداء، لكن لكل رقم حكاية، ولكل اسم عائلة، وأنا وحدي بقيت لأروي حكايتي وحكايتهم". ومنذ 18 آذار/ مارس 2025، استأنفت سلطات الاحتلال الإسرائيلي حربها الضروس على قطاع غزة، بعد هدنة استمرت 58 يومًا، ما أدى إلى ارتقاء أكثر من 2876 شهيدًا، جلهم من الأطفال والنساء، وإصابة أكثر من 7957 جريحًا. ومع كل قصف، يتكرر المشهد، وتتكرّر القصص، لكن قصة "نظير" واحدة من أقسى فصول هذه الحرب؛ رجل خسر كل شيء، وبقي حيًا يحمل ذاكرة الراحلين. المصدر / فلسطين أون لاين

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store