
مقامة ما طار طير
يتردد في بلاغة العرب وحكمتهم , صدى قول مأثور يحمل في طياته عمق التجربة ومرارة الواقع : (( ما طار طير وارتفع , إلا كما طار وقع )) , ليختزل حقيقة كونية تلامس طبيعة النفس البشرية التي قد يغريها العلو المؤقت بنسيان الأصل والمصير, ويوجد هذا المثل في ديوان الإمام محمد بن إدريس الملقب بالشافعي , ويقال للشخص الذي يأخذه غروره وعزته بنفسه الى درجة الكبرياء فيشبهه بالطير الذي يطير ويسمو لكنه احيانا بعد طيرانه يقع , فكما يحدث ان يكون الانسان في قمة قوته لكنه يكون ايضا في اضعف حالاته , كما ان هذا البيت منسوب للشاعر ابو العتاهية.
قال تعالى في سورة الحاقة عن المتكبرين ( مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) , وفي قصة قارون : ( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ , فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ, لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا , وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82 ).
((ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع (( , تلك هي حكمة الدهر في تقلبات الأحوال التي تعد من أبلغ الحكم وأكثرها دلالة على طبيعة الحياة وتقلباتها , إنها تلخص في بضع كلمات فلسفة عميقة الصعود والهبوط , والنجاح والفشل , والتواضع والغرور , هذا المثل , ببساطته وعمقه , يتردد على ألسنة الناس في مختلف المواقف ليذكرهم بحقيقة مؤكدة : (( أن كل ارتفاع مصيره إلى انخفاض , وأن الدوام على حال واحد أمر مستحيل )) , والصورة البلاغية في هذا المثل واضحة وقوية , فشبه الإنسان أو الموقف الذي يبلغ أوج عزّه ونجاحه بالطائر الذي يحلق عاليًا في السماء , هذا الارتفاع قد يكون في السلطة , أو الثروة , أو الشهرة , أو حتى في لحظة من الفرح والانتصار , لكن المثل لا يكتفي بتصوير هذا الصعود , بل يتبعه بحقيقة لا مفر منها : (( إلا كما طار وقع )) , فالطائر مهما بلغ من علو, فإنه في النهاية سيعود إلى الأرض.
(( إذا ما ارتقى طيرٌ يوماً محلقاً فلا بدَّ يوماً أن يعود إلى القَعِ )) .
يحمل الجزء الثاني من المثل في طياته عدة معانٍ , زوال النعمة وتقلب الأحوال , حيث يشير إلى أن أي نعمة أو منصب أو قوة مهما عظمت , فهي ليست دائمة , فالدنيا بطبيعتها متغيرة , وما هو في القمة اليوم قد يكون في القاع غدًا , والتاريخ مليء بالأمثلة على إمبراطوريات انهارت , وقادة عُزلوا , وأثرياء افتقروا , ويحذر المثل أيضا من الغرور والتكبر والتعالي الذي قد يصيب الإنسان عند بلوغه مكانة مرموقة , فالغرور هو بداية السقوط , لأنه يجعل الإنسان يغفل عن الحقائق ويتجاهل احتمالات الفشل , ويدعو الى التواضع والشكر عند تحقيق النجاح , فالتواضع يحفظ النعمة ويجعل الإنسان أكثر استعدادًا لمواجهة تقلبات الزمن , وعلى الجانب الآخر, يمكن أن يكون هذا المثل تذكيرًا بأن الفشل ليس نهاية المطاف , فكما أن الارتفاع يعقبه انخفاض , فإن الانخفاض قد يعقبه ارتفاع .آخر.
(( فلا تغترر بالعزِّ إن نلتَ رفعةً , فكم من رفيعٍ شامخِ الرأسِ قد هَوَى )) .
نجد تطبيقات هذا المثل في مختلف جوانب حياتنا , ففي السياسة , كم من زعيم وصل إلى قمة السلطة ثم انتهى به الأمر معزولًا أو منبوذًا؟ وفي الاقتصاد , كم من شركات عملاقة انهارت وأفلست بعد سنوات من الازدهار؟ وفي العلاقات الاجتماعية , كم من صداقات قوية انتهت بالخصام والبعد؟ وفي الحياة الشخصية , كم من لحظات فرح وسعادة تلتها لحظات حزن وأسى؟ وهكذا تبقى رسالة المثل الخالدة , بمثابة تذكير دائم للإنسان بضرورة التعامل مع تقلبات الحياة بحكمة وتعقل , وإنه يدعونا إلى عدم الاغترار بالنجاح المؤقت , والاستعداد لمواجهة الصعاب , والتواضع في أوج قوتنا , إنها دعوة إلى فهم طبيعة الدنيا الفانية , ويمكن القول إن هذا المثل ليس مجرد عبارة شعبية عابرة , بل هو خلاصة تجارب الأمم وحكمة الأجيال , إنه مرآة تعكس حقيقة الوجود الإنساني وتقلباته , ويبقى صداه يتردد في أذهاننا ليذكرنا بأن كل صعود مهما طال , فإنه حتمًا سيتبعه هبوط .
(( هي الدنيا لا تدومُ على حالٍ , فكم من سعيدٍ بالأمسِ غدا شَقِي )) .
سجل التأريخ في زمننا المعاصر قصة أحد الأثرياء الأمريكيين , عندما كان صبيًّا في السادسة من عمره ,أخذته أمه معها إلى أحد متاجر الحلوى , وطلب الصبي من أمه قليلاً من الفستق , فقال له صاحب المتجر: (( خذ ما تشاء , هيا املأ يدك من الصندوق )) , فرفض الصبي رفضًا باتًّا رغم إلحاح الرجل , وإلحاح أمه عليه , فلم يسع الرجل إلا أن يملأ يده من الفستق ويضعه في جيب الصبي , وبعدما خرج سألته أمه : (( لماذا لم تأخذ بنفسك؟ )) , فقال لها : (( لأن يد البائع أكبر من يدي , لهذا سوف يكون الفستق أكثر)) , وذكاؤه الفطري هذا هو الذي أهَّله فيما بعد لأن يصبح مليونيرًا , ولكنه استغل ذكاءه وفطرته في الطمع , ومرت الأعوام , وكبر الطفل , وأصبح مليونيرًا , يُشار إليه بالبنان من ضخامة الصفقات التجارية التي يحصل عليها , ولكن في النهاية (( ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع )) , وخصوصًا إذا كان ذلك الطيران مشبوهًا , ويعتمد على أن (الغاية تبرر الوسيلة) , مهما كانت تلك الوسيلة , وغاص التاجر الجشع إلى أخمص قدميه من شدة الطمع , وتكالبت الدنيا عليه , إلى أن أصبح ذلك المليونير ملاحَقًا من البنوك , ولا يستطيع الخروج من بلاده بعد أصبح ملاحَقًا من (الإنتربول) أيضًا.
(( فكنْ حذراً إنْ نلتَ مجداً وسؤدداً فإنَّ التواضعَ للرفيعِ هو البَقَا )) .

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


اذاعة طهران العربية
منذ 8 ساعات
- اذاعة طهران العربية
الحج وأثره في تزكية النفس
يعد الحج من أهم أركان الإسلام، وهو عبادة تتميز عن غيرها من العبادات بصعوبة مناسكها وعاداتها، حتى يكون المؤمنون أكثر عرضة للاختبار الإلهي، وبالتالي ينالون أعظم الثواب. إن شرط الاستطاعة، ترك المصالح الدنيوية وتحمل مشاق رحلة الحج ، يعني أن كل مرحلة من مراحل الحج الإبراهيمي فرصة لتطهير الروح وتزكية النفس. ويصبح حجاج بيت الله الحرام من خلال هذه المراحل الصعبة أكثر استعدادا لتقبل النعم الإلهية، واكتساب فهم أعمق للروحانية، كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف هذه المناسك: « قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً وَاخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَوُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ ». تشير هذه العبارات إلى أن الحج ليس رحلة جسدية فقط، بل هو رحلة روحية عميقة تهدي الإنسان إلى الكمال والتقرب من الله، وتترك آثارا باقية في حياته. تعني عبارة « تَمْحِيصاً بَلِيغاً » في هذا الحديث، التطهير العميق والكامل والتهذيب. وكلمة " تمحيص" مشتقة من فعل « مَحَصَ »، أي تطهير الشيء وتهذيبه، و« مَحَصّه، مَحصاً » تعني التطهير من أي عيب. وقد استشهد الراغب الأصفهاني بآيات من القرآن الكريم واستخدم معنى آخر لمفردة " تمحيص"، وهو " التزكية". ويستشهد بالآيتين ١٤١ و١٥٤ من سورة آل عمران المباركة: « وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا - (آل عمران-141)» « وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ - (آل عمران-154). فـ " التمحيص" هنا ك التزكية أو التطهير، ويوجد مثل هذه الكلمات في الدعاء: « اللَّهُمَ مَحِّصْ عَنَّا ذُنُوبَنَا ». إذن تدل عبارة « تَمْحِيصاً بَلِيغاً » على أن الحج ليس عملاً ظاهريا فحسب، بل هو عملية تشمل كيان الإنسان كله، وتطهره من كل دنس وصدأ الذنوب. إن هذا التطهير والتزكية عميق لدرجة أنه يمكن أن يرفع الإنسان إلى مستوى أعلى من التقوى والقرب من الله سبحانه وتعالى. وفي واقع الأمر، إن الحج فرصة لإزالة غبار المعاصي من القلب والروح، وتجديد العهد مع الله جل شأنه.


اذاعة طهران العربية
١٧-٠٥-٢٠٢٥
- اذاعة طهران العربية
حق الحج في منظور الإمام السجاد (ع)
يعد الحج رحلة روحية إلى الكعبة المقدسة، إلى بيت الله الحرام، حيث يتحرر الإنسان من التعلقات الدنيوية ويتوجه بكل كيانه إلى خالق الكون. إن هذه الرحلة ليست مجرد فريضة، بل هي أيضًا فرصة فريدة للعودة إلى الذات وتجديد العهد مع الله. وكأن الحاج بوضع قدمه على هذا الطريق يهرب من نفسه وخطاياه ويبحث عن ملاذ آمن عند الرحمة الإلهية. يقول الإمام السجاد (عليه السلام) في رسالته عن حق الحج: « وَحَقُّ الْحَجِّ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ وِفَادَةٌ إِلَى رَبِّكَ وَفِرَارٌ إِلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِكَ ». تشير هذه العبارة المضيئة إلى جانبين مهمين من فلسفة الحج: أولاً: إن الحج بمثابة الدخول للضيافة الإلهية. إن الحاج هو ضيف الله، في هذه الرحلة المعنوية، ويحصل على نعمه ورحمته. وتعد هذه الضيافة فرصة لتجديد القوى واكتساب الروحانية والاستفادة من النعم الإلهية. إن الحج وسيلة للهروب من الذنوب واللجوء إلى أحضان الرحمة الإلهية. وأن الحاج بزيارة هذا المكان المقدس وأداء المناسك يتوب من ذنوبه ويعود إلى الله. إن الحج فرصة لتطهير الروح من الشوائب وتحقيق الطمأنينة والثقة في القلب. كما أن الحج في الواقع هو رحلة من الذات إلى الله، من المعصية إلى التوبة، ومن الظلمات إلى النور. ويقول الإمام السجاد (عليه السلام) في مقطع آخر في رسالته عن حق الحج: «وَفِيهِ قَبُولُ تَوْبَتِكَ وَقَضَاءُ الْفَرْضِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْك ». يتضمن هذا الجزء من كلام الإمام السجاد (عليه السلام) بيان أثرين مهمين وقيمين للحج: ومما لا شك فيه أن قبول التوبة يدل على أن الحج فرصة فريدة لتطهير النفس وتطهيرها من الذنوب. يمكن لحجاج بيت الله الحرام، أن يرجوا من الله تعالى أن يقبل توبتهم ويغفر ما مضى بزيارة هذا المكان المقدس وأداء المناسك بإخلاص. وإن قبول التوبة لا يجلب السلام والراحة فحسب، بل يمهد الطريق أيضا لحياة صحية ومباركة. إن أداء الفريضة يدل على أن الحج فريضة إلهية على كل مسلم يملك الاستطاعة المالية والبدنية على أدائه. كما أن القيام بهذا الواجب يدل على الاستسلام والطاعة للأمر الإلهي والالتزام بأداء الواجبات الدينية. إذن أداء هذه الفريضة (فريضة الحج)، بالإضافة إلى كسب الأجر والقرب من الله، يقوي الإيمان ويزيد الوعي الديني. وأن الحج ليس عبادة فقط، بل هو أيضاً حركة اجتماعية وثقافية تلعب دوراً هاما في تشكيل شخصية الفرد وهويته الإسلامية وتكوين مجتمع روحي.


وكالة أنباء براثا
٠٥-٠٥-٢٠٢٥
- وكالة أنباء براثا
الصلح مع الأعداء كالحديبية والقرآن الكريم عند الشيخ مكارم الشيرازي (ح 1)
الدكتور فاضل حسن شريف عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى "هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَو تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" (الفتح 25) في الاية الاولى إشارة لطيفة تتعلّق بمسألة صلح الحديبيّة وحكمتها إذ تقول الآية: "هم الذين كفروا وصدّوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله". (معكوفاً) مشتق من العكوف ومعناها المنع عن الحركة والبقاء في المكان. كان أحد ذنوبهم كفرهم، والذنب الآخر صدّهم إيّاكم عن العُمرة زيارة بيت الله ولم يجيزوا أن تنحروا الهدي في محله، أي مكّة (الهدي في العمرة ينحر (أو يذبح) في مكّة وفي الحج بمنى) على حين ينبغي أن يكون بيت الله للجميع وصدّ المؤمنين عنه من أعظم الكبائر، كما يصرّح القرآن بذلك في مكان آخر من سورة: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ" (البقرة 114). ومثل هذه الذنوب يستوجب أن يسلّطكم الله عليهم لتعاقبوهم بشدّة! لكنّ الله تعالى لم يفعل ذلك فلماذا؟ ذيل الآية يبيّن السبب بوضوح إذ يقول: "وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ" (الفتح 25) جواب لولا في الجملة الآنفة محذوف والتقدير: لمّا كفَ أيديكم عنهم، أو: لوطأتم رقاب المشركين بنصرنا إيّاكم. ويستطرد الشيخ الشيرازي في تفسيره الآية الفتح 25 قائلا: وهذه الآية تشير إلى طائفة (من الرجال والنساء) المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام في مكّة ولم يهاجروا إلى المدينة لأسباب خاصة. فلو قاتل المسلمون أهل مكّة لأوقعوا أرواح هؤلاء المستضعفين في خطر ولامتدت ألسنة المشركين بالقول: إنّ جنود الإسلام لم يرحموا لا أعداءهم ومخالفيهم ولا أتباعهم ومؤالفيهم، وهذا عيب وعار كبير. وقال بعضهم أيضاً، إنّ المراد من هذا العيب لزوم الكفارة ودية قتل الخطأ، لكنّ المعنى الأوّل أكثر مناسبةً ظاهراً. (المعرّة) من مادة (عرّ) على زنة (شرّ) (والعرّ على زنة الحر) في الأصل معناه مرض الجرب وهومن الأمراض الجلدية التي تصيب الحيوانات أو الإنسان أحياناً ثمّ توسّعوا في المعنى فأطلقوا هذا اللفظ على كلّ ضرر يصيب الإنسان. ولإكمال الموضوع تضيف الآية: "ليدخل الله في رحمته من يشاء". أجل، كان الله يريد للمستضعفين المؤمنين من أهل مكّة أن تشملهم الرحمة ولا تنالهم أية صدمة. كما يرد هذا الإحتمال أيضاً وهو أنّ أحد أهداف صلح الحديبيّة أنّ من المشركين من فيه قابلية الهداية فيهتدي ببركة هذا الصلح ويدخل في رحمة الله. والتعبير بـ (من يشاء) يراد منه الذين فيهم اللياقة والجدارة، لأنّ مشيئة الله تنبع من حكمته دائماً، والحكيم لا يشاء إلاّ بدليل ولا يعمل عملاً دون دقّة وحساب. يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي عن المؤمنين ضمن الكفار في الجهة المقابلة في صلح الحديبية: ولمزيد التأكيد تضيف الآية الكريمة: "لو تزيلوا لعذّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً" (الفتح 25) أي لو افترقت وانفصلت صفوف المؤمنين والكفار في مكّة ولم يكن هناك خطر على المؤمنين لعذّبنا الكفار بأيديكم عذاباً أليماً. صحيح أنّ الله قادر على أن يفصل هذه الجماعة عن الآخرين عن طريق الإعجاز، ولكنّ سنّة الله في ما عدا الموارد الإستثنائية أن تكون الأُمور وفقاً للأسباب العاديّة. جملة (تزيلوا) من مادة زوال، وهنا معناها الإنفصال والتفرّق. ويستفاد من روايات متعدّدة منقولة عن طرق الشيعة والسنّة حول ذيل هذه الآية أنّ المراد منها أفراد مؤمنون كانوا في أصلاب الكافرين والله سبحانه لأجل هؤلاء لم يعذّب الكافرين. ومن جملة هذه الروايات نقرأ في الرواية أنّه سأل رجلٌ الإمام الصادق عليه السلام: ألم يكن علي عليه السلام قوياً في دين الله؟ قال عليه السلام: بلى. فقال: فعلام إذ سُلّط على قوم (في الجمل) لم يفتك بهم فما كان منعه من ذلك؟ فقال الإمام: آية في القرآن. فقال الرجل: وأية آية؟ فقال الصادق عليه السلام قوله تعالى: "لو تزيلوا لعذّبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً" (الفتح 25). ثمّ أضاف عليه السلام: أنّه كان لله عزَّ وجلَّ ودائع مؤمنون في أصلاب قوم كافرين ومنافقين، ولم يكن علي ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع.. وكذلك قائمنا أهل البيت لن يظهر أبداً حتى تظهر ودائع الله عزَّ وجلّ. أي أن اللّه سبحانه يعلم أنّ جماعة سيولدون منهم في ما بعد وسيؤمنون عن إختيارهم وإرادتهم ولأجلهم لم يعذب اللّه أباءهم وقد أورد هذا القرطبي في تفسيره بعبارة اُخرى. ولا يمنع أن تكون الآية مشيرة إلى المؤمنين المختلطين بالكفّار في مكّة وإلى المؤمنين الذين هم في أصلاب الكافرين وسيولدون في ما بعد.