
من نداء المحيطات إلى 'أفريقيا الزرقاء'.. هل يتحول الخطاب البيئي إلى تحالفات عابرة للحدود؟
في مشهد دولي تتسارع فيه التحديات البيئية، برز صوت المغرب خلال مؤتمر الأمم المتحدة الثالث للمحيطات المنعقد بمدينة نيس الفرنسية يوم 12 يونيو 2025، من خلال كلمة ليلى بنعلي، وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة، التي ترأست أشغال اللجنة الثامنة إلى جانب الوزير الإيطالي كلاوديو باربارو. لم تكن الكلمة مجرد خطاب دبلوماسي بروتوكولي، بل جاءت محملة بإشارات قوية لتحولات استراتيجية في تموضع المغرب على خارطة الحوكمة البيئية الإقليمية والدولية.
'المحيطات تطلق نداء استغاثة'
، تقول بنعلي، في توصيف يوحي بأن العالم أمام لحظة بيئية مفصلية، حيث يلقى 22 طناً من البلاستيك في البحار كل دقيقة، وقد يتجاوز وزن البلاستيك وزن الأسماك بحلول 2050، بحسب تقارير الأمم المتحدة. لكن خلف هذا الرقم الصادم، تبرز أسئلة محورية: ما مدى استعداد الدول النامية، خصوصاً في إفريقيا، لتحويل هذه التهديدات إلى فرص سياسية واقتصادية؟ وهل يمكن حقاً تحقيق 'العدالة الزرقاء' في ظل اختلالات التمويل والتكنولوجيا والمعرفة بين الشمال والجنوب؟
'الحدود لا توقف المد الأزرق': قراءة في منطق التعاون الإقليمي
ركزت بنعلي على فكرة أن المحيطات لا تعترف بالحدود، في دعوة واضحة إلى تبني حوكمة مشتركة للموارد البحرية، وهو طرح يتقاطع مع توصيات تقارير دولية أبرزها تقرير
'التنمية المستدامة للمحيطات' الصادر عن البنك الدولي
، الذي أكد أن الاقتصاد الأزرق يمكن أن يوفر 40 مليون فرصة عمل بحلول 2030 إذا تم الاستثمار فيه بشكل عادل وشامل.
لكن على المستوى المغاربي والإفريقي، ما يزال التعاون الإقليمي في المجالات البحرية يعاني من ضعف التنسيق وغياب منصات تنفيذية فعالة، رغم المبادرات الطموحة. ومن هنا، يمكن قراءة دعوة بنعلي إلى إطلاق 'تحالف إفريقي أزرق' كمحاولة مغربية لسد هذا الفراغ وإعادة تشكيل الزعامة البيئية في القارة انطلاقاً من أطروحة 'الواجهة الأطلسية'، التي تشكل إحدى ركائز الدبلوماسية الاقتصادية للمملكة.
إفريقيا الزرقاء: مشروع سياسي أم رافعة تنموية؟
في معرض كلمتها، استحضرت الوزيرة المغربية 'إعلان طنجة' الذي صدر عن قمة 'أفريكا بلو'، والذي دعا إلى توحيد الرؤية الإفريقية في مجال الحوكمة البحرية. هنا يطرح التساؤل: هل يشكل هذا الإعلان بداية تبلور تكتل بيئي إفريقي قادر على فرض مطالبه في مفاوضات التمويل المناخي العالمي، أم أنه سيظل حبيس البلاغات الختامية والمناسبات الدبلوماسية؟
وفق تقارير برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن
أقل من 10% من التمويلات المناخية العالمية تصل إلى إفريقيا
، رغم أن القارة هي من بين أكثر المناطق تضرراً من تغيّر المناخ، خصوصاً في سواحلها الغربية والشرقية. ومن هذا المنظور، يمكن النظر إلى تحرك المغرب ليس فقط كموقف أخلاقي، بل أيضاً كورقة ضغط سياسية لتعزيز المطالب القارية في إعادة هيكلة تدفقات التمويل الأخضر.
المعرفة والحوكمة: ما مدى قابلية الرؤية المغربية للتنفيذ؟
تشدد الوزيرة بنعلي على 'تحويل المعرفة إلى أداة فعل'، ما يفتح باب النقاش حول فجوة التكنولوجيا والمعلومات في الدول الإفريقية. تقارير وطنية، كمذكرة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المغربي (CESE)، سبق أن نبّهت إلى محدودية البيانات البحرية والقدرات التقنية لدى المملكة نفسها، فكيف السبيل إذن إلى قيادة إقليمية زرقاء في ظل ضعف القاعدة العلمية والبحثية؟ هل يمكن التعويل على شراكات ثلاثية (جنوب-جنوب-شمال) لسد هذا العجز، أم أن الطريق يقتضي إعادة هيكلة أعمق للمنظومات البحثية والمؤسسات المعنية بالمجال البحري؟
نحو تحالفات عابرة للمحيطات أم تحالفات انتقائية؟
في ختام مداخلتها، دعت بنعلي إلى بناء حكامة قائمة على المعرفة والمساءلة والعدالة، وهو ما يضع على الطاولة تساؤلاً حساساً: هل يسمح النظام الدولي الحالي – القائم على تفاوت القوة والتكنولوجيا والموارد – بولادة تحالفات حقيقية قائمة على الإنصاف؟ أم أن التعاون سيظل مرتهناً للرهانات الجيوسياسية الكبرى، التي تجعل من المحيطات ساحة جديدة لصراع النفوذ بين القوى الكبرى، من الصين إلى الولايات المتحدة؟
في انتظار اختبار التنفيذ
يبقى مؤتمر نيس محطة دولية رمزية، لكن اختبار الإرادة الحقيقية للدول، ومنها المغرب، سيكون في ما إذا كانت هذه الدعوات ستترجم إلى مشاريع ملموسة على الأرض: محميات بحرية محمية عابرة للحدود، شبكات رصد بحري مشتركة، صناديق تمويل إقليمية مستقلة، وتمكين حقيقي للمجتمعات الساحلية.
ولعل السؤال الجوهري الذي ينبغي ألا نغفله: هل يمكن تحويل الخطاب البيئي إلى مشروع جيو-اقتصادي حقيقي يقود إفريقيا نحو السيادة الزرقاء؟ أم أن المحيط سيبقى، كما كان دائماً، مرآة للهوة بين الشعارات والواقع؟
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الألباب
منذ ساعة واحدة
- الألباب
الضربات الإسرائيلية على إيران.. معظم قادة العالم يدعون إلى ضبط النفس وخفض التصعيد
الألباب المغربية دعا معظم قادة العالم إلى ضبط النفس، وخفض التصعيد بعد الضربات الإسرائيلية على مواقع نووية في إيران التي يشتبه بسعيها لامتلاك السلاح النووي. أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو في تصريح عبر الفيديو 'نفذنا ضربة افتتاحية ناجحة للغاية، سنحقّق المزيد' مؤكدا أن العملية العسكرية التي استهدفت 'قلب' البرنامج النووي الإيراني ستستمر 'بقدر ما يلزم من أيام'. توعّد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي إسرائيل بمواجهة تداعيات قاسية. الولايات المتحدة أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد الضربات أنه 'لا يمكن لإيران امتلاك قنبلة نووية، ونحن نأمل في أن نعود إلى طاولة المفاوضات. سنرى'، بحسب ما نقلت عنه شبكة فوكس نيوز مضيفة أنه 'شدد على أن الولايات المتحدة مستعدة للدفاع عن نفسها والدفاع عن إسرائيل في حال ردت إيران'. الوكالة الدولية للطاقة الذرية قال المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي إن المنشآت النووية 'يجب ألا تهاجم أبدا' محذرا بأن 'أي عمل يهدد سلامة منشآت نووية وأمنها قد يكون له تداعيات خطرة على المواطنين في إيران والمنطقة وخارجها'. ودعا 'كل الأطراف إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس لتجنب مزيد من التصعيد'. الأمم المتحدة حضّ الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش إسرائيل وإيران على 'التحلّي بأقصى درجات ضبط النفس'. ودان 'أيّ تصعيد عسكري في الشرق الأوسط' مبديا 'قلقه البالغ' إزاء الضربات الإسرائيلية، وفق ما نقل عنه المتحدث باسمه في بيان. حلف شمال الأطلسي أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته أنه 'لأمر جوهري الآن أن يعمل العديد من الحلفاء وبينهم الولايات المتحدة على خفض التصعيد' مشيرا إلى أن الضربات الإسرائيلية تحرك 'احادي'. العراق دانت الحكومة العراقية الضربات الإسرائيلية على إيران داعية المجتمع الدولي إلى اتخاذ 'إجراءات حاسمة' لعدم تكرار 'العدوان' الذي 'يشكل تهديدا للأمن والسلام الدوليين'. الأردن أكد الأردن أنه لن يسمح باستخدام مجاله الجوي ولن 'يكون ساحة لأي صراع'، فيما أعلنت هيئة تنظيم الطيران المدني الأردنية في بيان 'إغلاق أجواء المملكة بشكل موقت وتعليق حركة الطيران'. سلطنة عمان أكدت سلطنة عمان التي تتوسط بين الولايات المتحدة وإيران في محادثاتهما بشأن برنامج طهران النووي، إدانتها الشديدة للضربات الإسرائيلية معتبرة أنها 'تصعيد خطير' يهدّد 'بإقصاء الحلول الدبلوماسية وتقويض أمن واستقرار المنطقة'. السعودية شجبت السعودية 'الاعتداءات الاسرائيلية السافرة' على إيران التي 'تمثّل انتهاكا ومخالفة صريحة للقوانين والأعراف الدولية'، مؤكدة أن 'على المجتمع الدولي ومجلس الأمن مسؤولية كبيرة تجاه وقف هذا العدوان بشكل فوري'. قطر أعربت قطر عن إدانتها الشديدة للضربات مؤكدة أنها 'تعرقل الجهود الرامية لخفض التصعيد' في المنطقة. الصين أعربت الصين عن 'قلقها البالغ' جراء الضربات الإسرائيلية على إيران، ونددت بـ'انتهاك' السيادة الإيرانية محذرة من 'العواقب الخطيرة' للهجوم. ودعت إلى 'بذل المزيد من أجل إحلال السلام والاستقرار في المنطقة وتفادي تصعيد جديد في التوتر'. روسيا أعربت روسيا عن 'قلقها' على ما أفاد المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف مؤكدا أن موسكو 'تدين التصعيد الحاد في التوتر' بين إسرائيل وإيران. تركيا حذّر الرئيس التركي رجب طيب اردوغان من أن إسرائيل تسعى إلى جرّ العالم إلى 'كارثة' بعد ضرباتها على إيران، وحثّ المجتمع الدولي على وضع حدّ لسلوك 'قطاع الطرق' الإسرائيلي. وقال في مقابلة تلفزيونية 'هجمات إسرائيل على جارتنا إيران استفزاز واضح يتجاهل القانون الدولي'. الاتحاد الأوروبي حذرت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كايا كالاس بأن 'الوضع في الشرق الأوسط خطير' وحضت 'كل الأطراف على ممارسة ضبط النفس وتفادي المزيد من التصعيد' مؤكدة أن 'الدبلوماسية تبقى أفضل سبيل للمضي قدما'. ألمانيا حض المستشار الألماني فريدريش ميرتس إسرائيل وإيران على تفادي 'المزيد من التصعيد' والامتناع عن أي أعمال يمكن أن 'تزعزع استقرار المنطقة بكاملها'، مشددا في الوقت نفسه على 'حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها'. فرنسا قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجمعة إن لإسرائيل 'الحق في الدفاع عن نفسها وضمان أمنها'، مذكّرا بأنه 'أدان عدة مرات' البرنامج النووي الإيراني. وكتب ماكرون في منشور على منصة إكس 'لتجنب تعريض استقرار المنطقة بأسرها للخطر، أدعو جميع الأطراف إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس وخفض التصعيد'، مضيفا أنه تحدث مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجمعة. قبيل ذلك، دعا وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو 'كل الأطراف إلى ضبط النفس وتفادي أي تصعيد قد يقوض الاستقرار في المنطقة'، مضيفا أنه 'من الأساسي تحفيز كل السبل الدبلوماسية لنزع فتيل التوتر'. إيطاليا أجرى وزير الخارجية الإيطالي أنتونيو تاياني محادثة هاتفية مع نظيره الإيراني عباس عراقجي، الجمعة، حسبما أعلنت وزارته، داعيا إياه إلى 'العودة إلى المفاوضات في أقرب وقت ممكن'. بريطانيا دعا رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الجمعة إلى 'ضبط النفس' و'العودة إلى الدبلوماسية'، مؤكدا في بيان أن 'التصعيد لا يخدم مصلحة أحد في المنطقة'. الاتحاد الإفريقي حذر الاتحاد الإفريقي بأن الضربات الإسرائيلية 'تشكل تهديدا خطيرا للسلام والأمن الدوليين' داعيا 'جميع الأطراف إلى لزوم أقصى قدر من ضبط النفس'. الهند أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الهندية راندير جايسوال إن بلاده 'تحض الطرفين على تفادي أي تصعيد' مؤكدا أن 'ثمة قنوات للحوار والدبلوماسية، يجب استخدامها'. باكستان نددت وزارة الخارجية الباكستانية 'بحزم' بالضربات الإسرائيلية مؤكدة 'تضامنها' مع إيران، في بيان. أفغانستان نددت أفغانستان بالضربات محذرة بأنها 'تشكل انتهاكا واضحا للمبادئ الأساسية للقانون الدولي وخصوصا السيادة الوطنية'. اليابان أعلن وزير الخارجية الياباني تاكيشي إيوايا للصحافيين 'ندين بشدة هذا العمل الأخير الذي يمثل تصعيدا… من المؤسف للغاية أن يتم اتخاذ تدابير عسكرية' مضيفا أن طوكيو 'تحض كل الأطراف المعنية على إبداء أكبر قدر من ضبط النفس'.


أخبارنا
منذ 2 ساعات
- أخبارنا
تقرير استخباراتي يكشف تورط الجزائر في فضيحة تبييض أموال إيرانية مشبوهة لتمويل برنامجها النووي
في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية المحيطة بالبرنامج النووي الإيراني، كشفت مصادر دولية عن معطيات صادمة تفيد بتحول الجزائر إلى منصة رئيسية لتبييض أموال إيرانية مشبوهة، في خرق صارخ للعقوبات الدولية المفروضة على طهران. ووفقاً لتقرير استخباراتي نشره موقع "Sahel Intelligence"، فإن تحقيقات سرية تقودها وكالات دولية متخصصة في مكافحة تبييض الأموال، أظهرت تورط شبكات مالية معقدة تنشط على التراب الجزائري في عمليات تهدف إلى تمويه مصادر أموال إيرانية يُعتقد أنها مرتبطة بأنشطة نووية وعسكرية محظورة. التقرير أشار إلى أن إيران تستخدم شركات واجهة مقرها الجزائر، وتلجأ إلى وسائل مالية متقدمة مثل الفواتير الوهمية، والتحويلات المصرفية المتعددة، والاستثمارات في قطاعات حساسة كالعقار والبنية التحتية والصناعات الاستخراجية، من أجل ضخ أموال ضخمة يصعب تتبعها. وتُستخدم هذه الأموال -وفق المصدر ذاته- في تمويل مشاريع تعتبرها الأسرة الدولية "مثيرة للقلق"، خاصة في المجال النووي والعسكري. هذا الدور المالي الملتبس، الذي يُعتقد أنه يتم بعلم أو غض طرف من بعض الجهات داخل النظام الكابرانات، يضع الجزائر في موقف محرج أمام المجتمع الدولي، لاسيما في ظل تعهداتها السابقة باحترام قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالعقوبات على طهران. كما حذّر التقرير ذاته من أن هذا التحالف المالي الخفي بين الجزائر وإيران لا يهدد فقط مصداقية الجزائر إقليمياً ودولياً، بل يُضعف أيضاً الجهود الدولية الهادفة إلى كبح جماح البرنامج النووي الإيراني، الذي عاد إلى الواجهة بعد إعلان طهران إنشاء منشأة ثالثة لتخصيب اليورانيوم، متحدية بذلك قرارات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وفي تطور مقلق، لمّح الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" في وقت سابق إلى إمكانية توجيه ضربات عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، في حال فشل الجهود الدبلوماسية لاحتواء البرنامج الإيراني المتسارع. المراقبون يرون أن استمرار الجزائر في لعب هذا الدور المالي المظلم قد يضعها مستقبلاً في قلب أزمة دولية جديدة، خاصة إذا ثبت تورطها في تسهيل تمويل مشاريع تنتهك التزامات منع الانتشار النووي.


هبة بريس
منذ 4 ساعات
- هبة بريس
السياسات العمومية بالمغرب: من الأوراش الكبرى إلى الأعطاب البنيوية
بقلم عبد الحكيم العياط شهد المغرب خلال العقود الأخيرة زخماً متزايداً في إطلاق السياسات العمومية، حيث تم تسويق أوراش كبرى كمشاريع استراتيجية لتحسين مؤشرات التنمية وتقليص الفوارق المجالية والاجتماعية، على غرار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ومخطط المغرب الأخضر، ورؤية 2020 للسياحة، وبرامج إصلاح التعليم والصحة والإدارة. غير أن واقع التنفيذ والتقييم يكشف مفارقات عميقة بين الطموح المؤسساتي والنتائج المحققة، مما يطرح اليوم سؤالاً مركزياً حول قدرة الدولة على صناعة سياسات عمومية ناجعة ودامجة وفعالة في ظل تعقيد السياقات الاجتماعية والاقتصادية. الإشكالية الأساسية التي تطرح نفسها اليوم هي: لماذا، رغم توفر المغرب على رؤية إصلاحية متقدمة ومؤسسات دستورية جديدة بعد 2011، ما تزال السياسات العمومية تعاني من ضعف في النجاعة والالتقائية والتأثير؟ وهل الخلل يكمن في طبيعة التصميم أم في آليات التنزيل والتقييم والمساءلة؟ و يعد غياب التنسيق بين القطاعات الحكومية من أبرز الأعطاب التي تعاني منها السياسات العمومية بالمغرب، حيث تشتغل كل وزارة أو مؤسسة بشكل معزول، دون أي تصور مشترك أو إطار ناظم للعمل المشترك. ويؤدي هذا النمط المجزأ من التدبير إلى تعدد البرامج وتداخل الاختصاصات وتكرار نفس المشاريع في مجالات متقاربة، مما يفرز هدرًا كبيرًا للموارد البشرية والمادية، ويُضعف من أثر هذه السياسات على الأرض. ويكفي التمعن في برامج دعم التمدرس، أو محاربة الفقر، أو التشغيل، لنلحظ تشتت الجهود بين الوزارات والمؤسسات المعنية، وتضاربًا في الأولويات، وغيابًا لمنهجية تقييم موحدة. هذا الواقع يُنتج ما يمكن تسميته بـ'التدبير الانعزالي'، حيث تتحول كل مؤسسة إلى كيان مستقل لا يتفاعل بفعالية مع باقي الفاعلين، ما يفرغ السياسات العمومية من محتواها الإصلاحي. ويتجلى ذلك في غياب قواعد بيانات مشتركة، وفي ضعف تبادل المعلومات والمعطيات بين القطاعات، مما يعمق من بطء التفاعل مع الأزمات، كما حدث خلال جائحة كوفيد-19 في بعض مراحلها، حيث تأخر التنسيق بين وزارات الصحة، والتعليم، والداخلية في معالجة بعض الاختلالات الميدانية. الأخطر من ذلك أن منطق التنافر المؤسساتي لا يخدم رهانات التنمية، بل يُكرس منطقًا بيروقراطيًا يجعل من المواطن آخر اهتمامات الإدارة. فرغم إطلاق برامج إصلاح الإدارة وتعزيز الرقمنة، لا يزال التنسيق ضعيفًا، وهو ما يُفرغ الخطابات الرسمية من مضمونها ويجعل السياسات العمومية مجرد 'إعلانات نوايا' دون ترجمة واقعية، نتيجة غياب إطار مؤسساتي للتقائية السياسات وتكاملها. التقارير الرسمية تؤكد أن جانباً كبيراً من السياسات العمومية يعاني من الأعطاب البنيوية. فحسب المجلس الأعلى للحسابات، فإن 47 في المئة من المشاريع المنجزة في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بين 2019 و2022 لم تكن مبنية على دراسات قبلية كافية، وتم تنفيذها دون تقييم دوري، مما أدى إلى تعثرها أو إلى إعادة برمجتها. وفي السياق ذاته، تبقى نسبة البطالة مرتفعة رغم مجهودات التشغيل، إذ بلغت 13 في المئة سنة 2023، في حين أن البطالة في صفوف حاملي الشهادات تجاوزت 18 في المئة، حسب معطيات المندوبية السامية للتخطيط. أما الفقر متعدد الأبعاد، فرغم تراجعه النسبي، لا يزال يهم أكثر من 4 ملايين مواطن، أغلبهم في العالم القروي والمناطق الجبلية. كما تكشف تقارير البنك الدولي عن ضعف حكامة السياسات العمومية في المغرب، حيث جاء في تقرير 2021 أن تداخل الصلاحيات وغياب التنسيق بين القطاعات الحكومية يُفرغان السياسات من فعاليتها، رغم توفر رؤية إصلاحية. ويُعزز هذا الرأي مؤشر ضعف الالتقائية، إذ تعمل وزارات مثل الصحة، والتعليم، والتضامن، والتشغيل على برامج متقاربة تستهدف الفئات نفسها دون تنسيق مؤسساتي أو تبادل للمعطيات، مما يؤدي إلى ازدواجية في الجهود وتبديد الموارد. الجانب الأكثر خطورة هو غياب التقييم المستقل والمنتظم لبرامج الدولة، حيث إن العديد من البرامج تُنجز في غياب آليات دقيقة لرصد الأثر، وتفتقر إلى أدوات لقياس مدى مطابقة الأهداف للنتائج. وفي هذا السياق، تشير بيانات رسمية إلى أن قرابة 60 في المئة من البرامج الحكومية لا تخضع لتقارير تقييم دورية تُعرض على البرلمان، مما يضعف من آليات المحاسبة الديمقراطية. وقد خصص البنك الدولي سنة 2024 مبلغ 600 مليون دولار لدعم تحسين الأداء الإداري في المغرب، منها 350 مليوناً موجهة لإصلاح المؤسسات العمومية و250 مليوناً لتحسين نجاعة الميزانية وتعزيز الشفافية. أما على مستوى علاقة المواطنين بالمؤسسات، فتظهر مؤشرات الثقة هشاشة واضحة. إذ لا تتعدى نسبة ثقة الشباب في المؤسسات الحكومية 49 في المئة، مقارنة بـ60 في المئة لدى من تفوق أعمارهم 35 سنة، وفقاً لمؤشر الثقة المؤسساتية الصادر عن البنك الدولي. بينما يثق 97 في المئة من المغاربة في المؤسسة العسكرية و73 في المئة في أجهزة الأمن، ما يعكس اختلالاً في توزيع الثقة داخل منظومة الدولة. وهذه الفجوة تنذر بتآكل الرابط الاجتماعي والسياسي بين المواطن والدولة، وتطرح تحدياً أمام أي سياسة عمومية تطمح إلى الاستدامة والنجاعة. إضافة إلى ذلك، يتم استبعاد النخب العلمية والأكاديمية، التي من شأنها أن تساهم في بناء السياسات على أسس معرفية وميدانية صلبة. فرغم وجود جامعات ومعاهد متخصصة، ورغم توفر كفاءات وطنية عالية، إلا أن مساهمتها في إعداد السياسات تبقى محدودة جدًا، مقابل الاعتماد المفرط على مكاتب الدراسات الأجنبية التي تُنتج في الغالب توصيات تقنية، لا تراعي الخصوصية المغربية، ولا تتلاءم مع التحديات الاجتماعية والثقافية للمجتمع. ورغم هذه الأعطاب، يسجل المغرب بعض المكتسبات، لا سيما في مجال الموازنة الجندرية، إذ يعد أول بلد في شمال إفريقيا يدمج هذه المقاربة في إعداد الميزانية منذ 2002، وقد غطت سنة 2016 حوالي 80 في المئة من بنود الميزانية العامة. كما يشهد ورش الرقمنة تطوراً متسارعاً من خلال منصات إلكترونية كـ' و' و' التي سهلت الولوج إلى بعض الخدمات الإدارية. إلا أن غياب ربط التحول الرقمي برؤية شمولية للتحديث الإداري يجعل هذه المنصات محدودة الأثر في غياب التكوين والتأطير ومصاحبة المواطن. إن السياسات العمومية في المغرب اليوم تقف عند مفترق طرق حاسم. فإما أن تتحول إلى أداة فعلية للتغيير الاجتماعي والتنمية المستدامة، عبر إعادة الاعتبار للعلم في التخطيط، وتعزيز دور التقييم والمساءلة، وربط البرامج بحاجيات المواطن لا بالأجندات السياسية، وإما أن تظل رهينة لمقاربات موسمية ومرقّعة تعيد إنتاج الهشاشة وتغذي التفاوتات. وحدها إرادة سياسية قوية، تستند إلى مؤسسات مستقلة وتخطيط تشاركي مبني على معطيات دقيقة وتصور استراتيجي بعيد المدى، كفيلة بإعادة الثقة إلى الفعل العمومي وبناء دولة قادرة على الاستجابة لانتظارات مجتمع سريع التحول.