
البشر عاشوا في الغابات المطيرة الأفريقية قبل 150 ألف سنة
في حين نعلم أن جنسنا البشري ظهر وعاش في أفريقيا منذ أكثر من حوالي 300 ألف عام، قبل أن ينتشر ليشغل جميع المناطق الأحيائية في العالم، من الصحاري إلى الغابات المطيرة الاستوائية الكثيفة، فإن العلماء لا يملكون حتى الآن صورة واضحة عن نوع البيئة الطبيعية التي عاش فيها البش.
في البحث عن إجابات، تُشكك دراسة جديدة أجراها فريق دولي من الباحثين في الأفكار السائدة حول صلاحية الغابات الاستوائية القديمة للسكن، وتشير إلى أن غرب أفريقيا ربما كان مركزا مهما لازدهار جنسنا البشري.
وفي الدراسة المنشورة في مجلة "نيتشر"، أظهر الباحثون أن الجماعات البشرية كانت تعيش بالفعل في الغابات المطيرة في أفريقيا قبل 150 ألف عام، أي قبل وقت أطول مما كان يُعتقد سابقا.
إعادة استكشاف الموقع
وفقا للفريق البحثي، لطالما أُهملت الغابات المطيرة كمكان لازدهار جنسنا البشري، فحتى وقت قريب، كانت الفكرة السائدة أن الإنسان العاقل استقر في السافانا بشكل أساسي، وكان يُعتقد أن المناطق الأحيائية وبيئات الغابات المطيرة الرطبة، بظروفها المناخية والبيئية القاسية، شكَّلت حواجز طبيعية أمام التوسع البشري، ولم تُسكن إلا في وقت متأخر جدا من تاريخ البشرية.
وللوقوف على مدى صحة هذه الاعتقادات، فحص الباحثون في دراستهم موقعا أثريا يُطلق عليه اسم "بيتي 1" في منطقة أنياما فيما يُعرف اليوم بجمهورية كوت ديفوار، بالقرب من الساحل الجنوبي لغرب أفريقيا. ويُعد هذا الموقع من المواقع القليلة في أفريقيا التي تتميز بتاريخ طويل من ترسب الطبقات الأرضية.
وتم التنقيب في هذا الموقع الأثري لأول مرة في ثمانينيات القرن الماضي من قِبل بعثة إيفوارية-سوفياتية مشتركة، برئاسة عالم الآثار البروفيسور فرانسوا يودي جيدي، من جامعة فيليكس هوفويت بوانيي في منطقة كوكودي بأبيدجان، والذي شارك أيضا في الدراسة الجديدة.
كشفت نتائج هذه الدراسة الأولية، التي نُشرت عام 2000، عن موقع ذي تسلسلات رسوبية عميقة يبلغ طولها حوالي 14 مترا، وتضم عدة طبقات تحتوي على أدوات حجرية محفوظة في منطقة تقع اليوم ضمن غابة مطيرة.
وعُثر في هذا الموقع على مجموعة أدوات حجرية تتكون من أكثر من 1500 قطعة، بما في ذلك معاول وأدوات أصغر مُعدّلة، خلال عمليات التنقيب التي استمرت حتى أوائل التسعينيات، لكنها فُقدت لاحقا خلال الحرب الأهلية الإيفوارية الثانية عام 2011. في ذلك الوقت، لم يتسن تحديد عمر هذه الأدوات بدقة ولا بيئة الموقع عند ترسبها فيه.
وأوضحت إليانور سكيري، الباحثة في معهد ماكس بلانك لعلم الإنسان الجيولوجي، والمؤلفة المشاركة بالدراسة، في بيان صحفي رسمي، أن العديد من نماذج المناخ الحديثة أشارت إلى أن المنطقة ربما كانت ملاذا للغابات المطيرة في الماضي أيضا، حتى خلال فترات الجفاف التي شهدت تجزئة الغابات (عملية تغير الغابات على مستوى المناظر الطبيعية)".
وتضيف "كنا نعلم أن الموقع يُمثل أفضل فرصة ممكنة لنا لمعرفة إلى أي مدى امتدت مساكن الغابات المطيرة في الماضي البعيد". لذلك، شرع فريق النظم القديمة البشرية في مهمة لإعادة استكشاف الموقع.
أقدم الأدلة
بعد 36 عاما، أعاد الباحثون استكشاف الموقع الأثري في غرب أفريقيا، وتبيّن أن عودتهم جاءت في الوقت المناسب، إذ دُمّرَ الموقع منذ ذلك الحين بسبب أنشطة التعدين خلال جائحة كورونا (كوفيد-19).
وحصل الباحثون على عينات من الرواسب التي عُثر فيها على الأدوات الحجرية، ودرسوها باستخدام مجموعة متنوعة من أحدث الأساليب التحليلية التي لم تكن متاحة قبل 30 إلى 40 عاما، للحصول على صورة أكثر دقة لعمر العينة ونوع البيئة التي كانت فيها أصلا.
ولتحديد تاريخ الرواسب، استخدم الباحثون عدة تقنيات للتأريخ، بما في ذلك التلألؤ المُحفَّز بصريا (تقنية لقياس جرعات الإشعاع المؤين، وتستخدم لتأريخ حبيبات الرمل)، والرنين المغزلي للإلكترون (طريقة لدراسة خواص مواد في ذرتها إلكترون منفرد).
باستخدام هاتين التقنيتين، كشف تحليل حبيبات الكوارتز من الطبقات التي استُعيدت منها الأدوات الحجرية أنها ترسبت في نقاط مختلفة من طبقات الرواسب منذ حوالي 150 ألف عام.
في الوقت نفسه، تم فحص عينات الرواسب التي تم جمعها في الموقع بشكل منفصل، بحثا عن حبوب اللقاح، وشمع الأوراق، وبقايا النباتات المتحجرة التي تُسمى "الحصوات النباتية"، والمعروفة باسم "الفيتوليثات"، وهي أحافير نباتية مجهرية تتكون من ترسب ثاني أكسيد السيليكا المائي غير المتبلور في الخلايا.
وأشارت هذه التحليلات مجتمعة إلى أن المنطقة كانت كثيفة الأشجار في زمن الاستيطان البشري القديم، وأن عينات حبوب لقاح وشمع أوراق الشجر تتوافق مع أنواع النباتات الموجودة في الغابات المطيرة الرطبة في غرب أفريقيا.
علاوة على ذلك، أظهرت المستويات المنخفضة من حبوب لقاح العشب المُكتشفة أن الموقع لم يكن يقع ضمن شريط ضيق من الغابات فحسب، بل كان يقع ضمن غابة كثيفة مليئة بالنباتات المهمة في هذا النوع من النظم البيئية، مثل نخيل الزيت.
وجاءت هذه المعلومات البيئية من عينات على طول التسلسلات الرسوبية، وفي المستوى نفسه الذي عُثر فيه على أعمق الأدوات، مما مكّن الباحثين من إرجاع تاريخ عيش البشر في الغابات المطيرة إلى 150 ألف عام، أي قبل 80 ألف عام من التاريخ المُكتشف في مواقع الغابات المطيرة الأخرى حول العالم.
وقبل الوصول إلى هذه النتائج، كان أقدم دليل قاطع على وجود البشر في هذه الغابات الاستوائية الرطبة في أفريقيا يعود إلى حوالي 18 ألف عام، على الرغم من وجود أدلة على انتشار واسع لتجمعات من العصر الحجري الأوسط في مناطق الغابات المطيرة الأفريقية الحالية.
وفي آسيا، يعود أقدم دليل على وجود البشر في بيئة الغابات المطيرة في سومطرة بإندونيسيا إلى ما يقرب من 70 ألف عام، وهذا يشير إلى أن البشر كانوا قادرين على العيش في الغابات المطيرة قبل مغادرتهم أفريقيا، موطن جنسنا البشري.
دحض ادعاءات الماضي
تُجادل الدراسة بأن الغابات المطيرة الاستوائية لم تكن عائقا أمام انتشار الإنسان الحديث، وتدعم نظرية أن النشاط البشري حدث عبر مجموعة متنوعة من الموائل والمناطق.
وتُظهر الأدلة المتقاربة أن التنوع البيئي يكمن في صميم الجنس البشري، وهذا يعكس تاريخا معقدا من التقسيم السكاني، حيث استطاعت مجموعات سكانية مختلفة العيش في بيئات مختلفة منذ مرحلة مبكرة من تاريخنا.
ويُبرز وقوع هذا الاكتشاف في غرب أفريقيا أهمية استكشاف مختلف المناطق الأفريقية للحصول على صورة أشمل لأقدم عصور ما قبل التاريخ البشري.
كما يفتح هذا الاكتشاف آفاقا جديدة من الأسئلة ليس فقط حول كيفية تأثير العيش في الغابات المطيرة على حياة أسلافنا القدماء، بل أيضا حول كيفية تأثير هذه التوسعات البشرية المبكرة على النباتات والحيوانات التي تشاركت معهم البيئات الطبيعية نفسها المحيطة بهم.
وإذا تعمقنا أكثر في غرب أفريقيا، نجد أن علماء الآثار اكتشفوا أيضا العديد من السلوكيات الثقافية المميزة في هذه المرحلة المبكرة من المنطقة.
فعلى سبيل المثال، في عام 2021، يُظهر موقع "رافين بلانك 1" الأثري في وادي فاليمي بالسنغال حِرَفا يعود تاريخها إلى حوالي 125 ألف عام، بأدوات حجرية تبدو مختلفة تماما عن تلك الموجودة في موقع "بارغني 1" على الساحل السنغال.
كما أنها تختلف عن تلك الموجودة في موقع "بارغني 3" في السنغال، والتي يعود تاريخها إلى 140 ألف عام، أي أقدم بقليل من "رافين بلانك". وتختلف الثقافة المادية في هذه المواقع عما هو موجود في موقع "بيتي 1" الأبعد والأكثر اختلافا بيئيا.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 11 ساعات
- الجزيرة
خسائر قياسية للغابات الاستوائية في عام 2024
تبرز صور وتحليلات جديدة للأقمار الصناعية أن الغابات الاستوائية في العالم التي توفر حاجزا أساسيا ضد تغير المناخ اختفت بشكل أسرع من أي وقت مضى في العام الماضي، جراء عمليات الإزالة المتعمدة وخصوصا الحرائق. وقدر الباحثون بناء على التحليلات أن 67 ألف كيلومتر مربع من هذه الغابات القديمة البكر قد فقدت في عام 2024، وهي مساحة تعادل تقريبا مساحة جمهورية أيرلندا، أو 18 ملعب كرة قدم في الدقيقة. وكانت الحرائق لأول مرة هي السبب الرئيسي في فقدان الغابات، متجاوزة عمليات إزالة الأراضي الزراعية، حيث عانت غابات الأمازون بشكل خاص من الحرائق وسط الجفاف القياسي. وتُخزّن الغابات المطيرة الاستوائية مئات مليارات الأطنان من الكربون في التربة وجذوع الأشجار. لكن هذا الرقم القياسي العالمي الجديد يثير المزيد من التساؤلات عن قدرتها على الصمود في ظل ارتفاع درجة حرارة كوكبنا. يشعر العديد من الباحثين بالقلق من أن بعض الغابات المطيرة والاستوائية، مثل أجزاء من الأمازون، ربما تقترب من "نقطة التحول" التي قد تتدهور بعدها بشكل لا رجعة فيه. وقال البروفيسور ماثيو هانسن، المدير المشارك لمختبر "غلاد" (GLAD) في جامعة ميريلاند، الذي أتاح البيانات: "أعتقد أن فكرة نقطة التحول أصبحت صحيحة بشكل متزايد". ووصف النتائج الجديدة بأنها "مخيفة"، محذرا من احتمال تحول الغابات المطيرة إلى "سافانا"، حيث تموت الغابات الاستوائية القديمة، وتتحول بشكل دائم إلى السافانا (سهول عشبية وأشجار متناثرة). إعلان وكانت تقارير مماثلة قد أصدرت تحذيرا من احتمال تدهور كبير لغابات الأمازون إذا تجاوزت ظاهرة الاحتباس الحراري الهدف الدولي البالغ 1.5 درجة مئوية، وهو ما سيؤدي إلى تهديد مجموعة متنوعة من الحياة البرية التي تعيش في هذه الموائل الأكثر تنوعا بيولوجيا، ويجلب عواقب وخيمة على المناخ العالمي. وتقدم منطقة الأمازون خدمة جليلة للبشرية، إذ كانت تمتص كميات من ثاني أكسيد الكربون المسبب للاحتباس الحراري أكبر من تلك التي تطلقها، لكن حرق هذه الغابات يؤدي إلى انبعاث كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون، مما يزيد من ظاهرة الاحتباس الحراري بدلا من الحد منها. وفي عامي 2023 و2024، شهدت منطقة الأمازون أسوأ موجة جفاف على الإطلاق، بسبب تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة، وذلك ما وفر الظروف المثالية لانتشار الحرائق خارج نطاق السيطرة، وكانت البرازيل وبوليفيا الأكثر تضررا. بين الحرائق والإزالة وتشير التقارير إلى أنه يتم إشعال العديد من الحرائق عمدا لإخلاء الأراضي للزراعة، خاصة فول الصويا، وتربية الماشية، مما يجعل من الصعب الفصل بين الاثنين. وقال رود تايلور من معهد الموارد العالمية في الولايات المتحدة، والذي شارك في التقرير، "أعتقد أننا في مرحلة جديدة، إذ لم تعد إزالة الغابات من أجل الزراعة هي المحرك الرئيسي فقط، فقد أصبحت الحرائق أكثر كثافة وأكثر شراسة مما كانت عليه في أي وقت مضى". ويقدر الباحثون أن الخسارة القياسية للغابات الاستوائية القديمة (الأساسية) في العالم أطلقت 3.1 مليارات طن من الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وهو ما يعادل تقريبا انبعاثات الاتحاد الأوروبي. وبعكس غابات الأمازون، خالفت بلدان جنوب شرق آسيا هذا الاتجاه العالمي، حيث انخفضت مساحة الغابات الأولية المفقودة في إندونيسيا بنسبة 11% مقارنة بعام 2023، على سبيل المثال، رغم ظروف الجفاف. إعلان وجاء ذلك نتيجة لجهود متضافرة بذلتها الحكومات والمجتمعات المحلية للعمل معا لتطبيق قوانين "عدم الحرق"، وفقا لإليزابيث غولدمان، المديرة المشاركة لمشروع مراقبة الغابات العالمية في المعهد العالمي للموارد. ويرى غابرييل لاباتي، رئيس التخفيف من آثار تغير المناخ في برنامج الأمم المتحدة للغابات (UNREDD)، أن "الإرادة السياسية هي عامل رئيسي للنجاح، ومن المستحيل تحقيق النجاح بخلاف ذلك". وكانت بلدان أخرى، منها البرازيل، قد حققت نجاحا في الماضي باتباع نهج مماثل، ولكنها بدأت تشهد زيادة في الخسائر مرة أخرى في عام 2014 بعد تغيير في السياسات الحكومية. ويرى الباحثون أن قمة المناخ للأمم المتحدة "كوب 30" (COP30) التي تستضيفها منطقة الأمازون هذا العام ستكون حاسمة لتبادل خطط حماية الغابات وتعزيزها، وقد تطرح فيها مقترحات بمكافأة الدول التي تحافظ على الغابات الاستوائية من خلال دفع مبالغ مالية.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
"غروك" ينشر معلومات مغلوطة عن إبادات جماعية في مسقط رأس "ماسك" ويدافع عنها
انتشرت في الأيام الماضية عبر منصات التواصل الاجتماعي مجموعة من لقطات الشاشة التي تظهر روبوت الدردشة "غروك" (Grok) الخاص بمنصة " إكس" والمملوك لشركة "إكس إيه آي" (xAi)، وفي هذه الردود يشير روبوت الدردشة إلى وجود حملات إبادة جماعية للبيض في جنوب أفريقيا والاضطهاد الذي يتعرضون إليه هناك، حسب موقع "سي إن بي سي". في العادة، تكون مثل هذه التعليقات ناتجة عن عملية هلوسة من خوارزمية الذكاء الاصطناعي، ولكن مع "غروك" تخطى الأمر الهلوسة المعتادة، إذ قام الروبوت بنشر هذه التعليقات في العديد من المناسبات والمواضع المختلفة حتى وإن لم يكن السؤال متعلقا بجنوب أفريقيا أو حالات الإبادة الجماعية، فضلا عن الدفاع عن رأيه في هذا الأمر ورفض أي رأي مغاير. تسبب الاستهجان الواضح لهذه الردود وطريقة الوصول إليها في موجة غضب عارمة اجتاحت منصات التواصل الاجتماعي العالمية، وذلك حتى خرجت إدارة "إكس إيه آي" لتقول إن شخصًا ما قام بالعبث في برمجة الروبوت بشكل مباشر لينشر هذه الردود ويدافع عنها، وقد قامت الشركة بإعادة الكود إلى وضعه الطبيعي وتأمينه بشكل إضافي. ولكن، تصريح الشركة يسلط الأضواء على أزمة مختلفة تماما، وهي مدى إمكانية تزويد روبوتات الذكاء الاصطناعي بمعلومات خاطئة بفعل بشري مقصود وسرعة نشر هذه المعلومات المغلوطة للمستخدمين دون وجود منقحات للتيقن من صحة هذه المعلومات. وتقول ديدري موليجان، أستاذة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي وخبيرة في حوكمة الذكاء الاصطناعي، في حديثه مع موقع "سي إن بي سي"، أن ردود "غروك" الخاطئة تحظى بأهمية خاصة نظرا الخلفية العرقية التي يأتي منها إيلون ماسك، كونه من أصحاب البشرة البيضاء المولودين في جنوب أفريقيا ومن أهم المؤيدين لنظرية التطهير العرقي التي كانت تتم ضد البيض في جنوب أفريقيا. وأضافت موليجان أن هذا الأمر أيضا يسلط الضوء على القوة التي تحظى بها الشركات المسؤولة عن تطوير الذكاء الاصطناعي، إذ تستطيع نشر أي معلومات ترغب بها في ثوان معدودة ودون أي عوائق تذكر.


الجزيرة
منذ 4 أيام
- الجزيرة
البروفيسور أنس باري للجزيرة نت: يجب إنشاء جامعة ووزارة للذكاء الاصطناعي في المغرب
في عالم تتزايد فيه أهمية التكنولوجيا والتقنيات الحديثة، أصبح الذكاء الاصطناعي بمثابة عصا سحرية تتمتع بالقدرة على إحداث نقلة نوعية وإحداث ثورة في مجالات مختلفة، بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم والمالية والسياسة. ومن بين الشخصيات العربية البارزة في مجال الذكاء الاصطناعي والتحليل التنبئي، أثبت البروفيسور والباحث المغربي أنس باري مكانته في الابتكار والأبحاث بالولايات المتحدة، ويشغل حاليا منصب أستاذ في جامعة نيويورك (NYU) ومدير مختبر التحليل التوقعي والذكاء الاصطناعي في الجامعة. وفي لقاء خاص مع الجزيرة نت، أشار باري إلى ضرورة اهتمام الشباب ببناء أسس قوية في الرياضيات وعلوم الحاسوب واستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أخلاقي، مؤكدا على ضرورة إنشاء أول جامعة ووزارة متخصصة في الذكاء الاصطناعي في المنطقة العربية. المسار الأكاديمي وُلد أنس باري في مدينة طنجة بالمغرب حيث درس في المدارس الحكومية وتخصص في الرياضيات. وأشار أنس في حديثه للجزيرة نت إلى أنه أكمل دراسته في جامعة الأخوين بإفران بتمويل من قرض طلابي، وحصل على بكالوريوس في علوم الحاسوب، متخرجا في صدارة دفعته عام 2007. وعند التحاقه للعمل بشركة "ميرسك"، كان باري من أوائل الموظفين الذين أسهموا في بناء البنية التحتية لميناء طنجة المتوسط، وهو أحد أكبر الموانئ الصناعية في العالم وأكبر ميناء في أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط. ولتحقيق طموحاته الأكاديمية، تقدم بطلبه في برنامج فولبرايت ـوهو أحد أكثر المنح الدراسية شهرة في العالمـ وحصل على المنحة الدراسية في المحاولة الثانية. وفي عام 2010، انتقل إلى واشنطن العاصمة ليكمل دراسة الماجستير ثم الدكتوراه في علوم الحاسوب بجامعة جورج واشنطن، وتخرج في صدارة دفعته بمعدل 99%. وقد ركز بحثه في الدكتوراه على التنقيب في البيانات والذكاء الجماعي، وهما فرعان من الذكاء الاصطناعي. وأصبح من أوائل الباحثين الذي طوروا خوارزميات مستوحاة من الطبيعة، وتحديدا سلوك الطيور، لتصميم نماذج تحليل تنبؤية. ويعتقد باري أن حلول العديد من مشاكل العالم موجودة في الطبيعة "هذا الإيمان قادني إلى التخصص في الذكاء الجماعي ودراسة السلوك الجماعي للأنواع الذكية مثل الطيور والنحل والدلافين لتطوير خوارزميات تُستخدم اليوم على نطلق واسع في منصات مثل نتفليكس وأمازون وأنظمة صنع القرار". التدريس والبحث بعد حصوله على الدكتوراه، انضم البروفيسور المغربي إلى مجموعة البنك الدولي في واشنطن العاصمة كعالم بيانات رئيسي، قبل العودة إلى الأوساط الأكاديمية كأستاذ في علوم الحاسوب بجامعة جورج واشنطن، حيث حصل على جائزة أفضل أستاذ للسنة. وقبل 10 سنوات، انتقل إلى جامعة نيويورك ليشغل منصب أستاذ وباحث، ويدير مختبرا يضم أكثر من 29 عالما "أعمل مع نخبة من كبار العلماء في معهد كورانت، الذي يُعد أحد أفضل المراكز عالميا في مجال الذكاء الاصطناعي". وبالتوازي مع التدريس، شغل باري عدة أدوار استشارية مع مؤسسات معروفة، مثل وول ستريت ومنظمات الرعاية الصحية والأمم المتحدة وغيرها. أول جامعة للذكاء الاصطناعي وأكد الأستاذ في جامعة نيويورك للجزيرة نت على ضرورة إحداث تغيير جذري للنظام التعليمي في الدول العربية، من المدارس الابتدائية إلى الجامعات الحكومية بشكل خاص. وقال "يجب على الحكومات إعطاء الأولوية للاستثمارات في الذكاء الاصطناعي لضمان ولوج الطلاب العرب سباق التنافس على المستوى العالمي والاستفادة من الإمكانات التكنولوجية لإعداد جيل جديد من المفكرين واستخدام الذكاء الاصطناعي في قطاعات رئيسية، كالزراعة والسياحة والطاقة المتجددة". وتابع البروفيسور باري "عندما شهدنا 3 ثورات تكنولوجية كبرى في القرن الماضي ـالحاسوب الشخصي والإنترنت والذكاء الاصطناعي- كنا في موقع المستهلك فقط. أما اليوم، فيمثل الذكاء الاصطناعي فرصة استثنائية لقيادة هذه الثورة بدل البقاء في مقعد المتفرجين والتابعين لها فقط". وبالتالي، يقترح باري إنشاء أول جامعة متخصصة في الذكاء الاصطناعي في المغرب أو إحدى الدول العربية، تشمل كلية علوم الكمبيوتر وكلية التحليلات التنبؤية وكلية أخلاقيات الذكاء الاصطناعي. ويعتبر البروفيسور المغربي أن هذه المبادرة ستضمن تخرج الآلاف من الخبراء في هذا المجال "وسيكون ذلك أفضل استثمار تقوم به الدول العربية في تاريخها. ومن موقع الجزيرة نت، أدعو إلى العمل الفوري وأنا مستعد للتعاون بخطة واضحة وقابلة للتنفيذ لتحقيق هذا الطموح واتخاذ خطوات جريئة وفعالة نحو المستقبل". كما حثّ باري كل دول المنطقة على تطوير إستراتيجية وطنية لإنشاء وزارة للذكاء الاصطناعي على غرار وزارة الدولة للذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي وتطبيقات العمل عن بعد في الإمارات العربية المتحدة. ويرى المتحدث أن التجربة الإماراتية نموذج يمكن الاحتذاء به بعد إطلاق جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي في أبو ظبي وتعيين أول وزير للذكاء الاصطناعي في العالم. جوائز وابتكارات وتقديرا لما حققه في التعليم والبحث، حصل أنس باري على جائزة مارتن لوثر كينغ لعام 2025، وتُمنح هذه الجائزة لأعضاء هيئة التدريس المتميزين الذين يُجسدون روح الدكتور كينغ الابن في دراسته وحياته وعمله في مجال العدالة، والذين يُروجون لمبادئ وأخلاقيات مساهمات كينغ العالمية الواسعة في أبحاثهم وتدريسهم وقيادتهم وجهودهم في بناء المجتمع. وتعليقا على ذلك، قال البروفيسور إن "هذا التقدير يحمل معنى كبيرا لي ويعكس القيم التي أسعى لغرسها في طلابي، خاصة خدمة الناس والأمم، وهي قيم نجدها عند المغاربة والشعوب العربية". وقد قاد أنس باري أول فريق من علماء الحاسوب والأطباء لتطوير نظام ذكاء اصطناعي قادر على التنبؤ بالحالات الشديدة من كوفيدـ19 في عام 2020، من خلال الجمع بين التحليلات التنبؤية والبيانات السريرية والعوامل الديمغرافية للمرضى وغيرها. وفي عام 2021، أنشأ أداة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لرصد وتتبع المعلومات المضللة حول فيروس كورونا وقياس مستوى الثقة في اللقاحات. وبعدها بعامين، شارك في إنشاء خوارزمية لإعادة تعريف أنظمة التوصية من خلال برنامج "بايرورانك" (PyRoRank) الذي استلهم سلوكه من الطريقة التي تنتظم بها أسراب الطيور ذاتيا. وخلال الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، قاد البروفيسور فريقا من العلماء لتصميم أداة بيانات مدعومة بالذكاء الاصطناعي لتحليل نتائج الانتخابات والتنبؤ بها. وعند سؤاله عن المشاريع التي يعمل عليها حاليا، قال باري إنه يركز على البحث في الذكاء الاصطناعي والطاقة النووية حيث يتعاون مع خبراء بارزين، من بينهم البروفيسور ديفيد ناغل ـوهو أحد كبار الباحثين العالميين في مجال الطاقةـ لتطوير أدوات ذكاء اصطناعي متقدمة لاستكشاف مصدر جديد واعد للطاقة يُعرف باسم التفاعلات النووية منخفضة الطاقة (LENR). وأضاف "هدفنا هو تسريع البحث والتطوير التجاري لهذا المصدر النووي المبتكر، الذي قد يُحدث ثورة في إنتاج الطاقة العالمي. وقد تم عرض أعمالنا في أهم المؤتمرات الدولية للطاقة النووية، ولا نزال نواصل توسيع آفاق تطبيقات الذكاء الاصطناعي في هذا القطاع". وإلى جانب ذلك، يعمل مختبره البحثي على تطوير أبحاث الذكاء الاصطناعي في مجالات الرعاية الصحية، والتمويل، وعلوم المناخ، وتطوير الذكاء الاصطناعي. وصفة النجاح وعن وصفة النجاح في مجال الذكاء الاصطناعي، أكد أنه بالإضافة إلى الخبرة العملية والعلمية، يُعتبر الإصرار والالتزام وتعزيز حس الفضول والانفتاح على التعاون من كلمات السر للتفوق في هذا المجال. كما ركز في حديثه للجزيرة نت على قيم إنسانية عديدة، مثل التفاني في العمل والصدق، قائلا "والدتي الراحلة رشيدة بارگاش غرست فيّ قيمة النزاهة والصدق في كل الجهود التي أبذلها، وكانت تقول لي دائما: اعمل بجد وأمانة في كل ما تقوم به". وأضاف "المغاربة والشباب العربي شعوب موهوبة وملتزمة بالعمل الجاد لأنه يسري في دمائها. وبما أن الذكاء الاصطناعي مستمر في التطور والانتشار، سيتزايد الطلب على خريجي الجامعات الذين يملكون معرفة ومهارات متخصصة فيه. لذا، أنصحهم ببناء أسس قوية في الرياضيات وعلوم الحاسوب واستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أخلاقي، فعلى الرغم من إمكانياته الهائلة فإنه يأتي مع اعتبارات أخلاقية مهمة للغاية". وقال البروفيسور "طوال مسيرتي المهنية، واجهت العديد من التحديات والرفض. عندما التحقت بجامعة الأخوين، كان تمويل دراستي صعبا ورغم مساعدة والديّ، اضطررت إلى أخذ قرض كبير من البنك. كما تم رفض طلبي للحصول على منحة فولبرايت في المرة الأولى، لكنني تقدمت مرة أخرى ونجحت". وتابع أنس باري "واجهت العديد من الرفض في فرص العمل، وكنت عاطلا عن العمل لمدة تزيد عن سنة. استمرت حالات الرفض والإخفاقات عندما انتقلت إلى الولايات المتحدة. الرحلة لم تكن سهلة قط؛ فالفشل والرفض جزء من التجربة. نحن كبشر لا نفشل، بل نتعلم من إخفاقاتنا. وفي النهاية، أولئك الذين ينجحون هم الذين لا يستسلمون أبدا".