
داعش والجولاني: قراءة في خطاب الكراهية والتكفير المتبادل
تمثل هذه الافتتاحية نموذجًا مكثفًا لما يمكن تسميته بـ"الخطاب التكفيري التعبوي"، الذي لا يكتفي برصد الأحداث وتفسيرها، بل يعيد تأويلها ضمن منظومة مغلقة من المفاهيم الدينية المؤدلجة. وهذا ما يستدعي قراءة تحليلية معمّقة، لا تكتفي بسطح النص، بل تنفذ إلى بناه العميقة، وتفكك استراتيجياته البلاغية والتأويلية، وتكشف السياقات التي يعمل ضمنها، والوظائف التي يؤديها، وما يخفيه من رسائل خبيثة تدفع نحو مزيد من العنف والانقسام.
في هذا السياق، تعتمد الدراسة على منهج تحليل الخطاب (Discourse Analysis) كأداة منهجية لفهم البنية الداخلية للنص، وتحديد وظائفه التداولية، والكشف عن الرسائل المسكوت عنها، وكذلك تتبع التأثيرات الاجتماعية والسياسية لهذا الخطاب على المشهدين السوري والإقليمي. وينقسم التحليل إلى خمسة محاور أساسية: السياق السياسي والأمني للنص، تفكيك بنية الخطاب، الرسائل الضمنية والمسكوت عنها، الوظائف التداولية، ثم الأثر الاجتماعي والسياسي.
تهدف هذه الدراسة إلى إبراز خطورة هذا النوع من الخطابات التي لا تُنتج فقط الكراهية، بل تُضفي عليها شرعية دينية مغلوطة، وتُسهم في تمديد أمد الصراع، وزيادة تعقيد المشهد، وتوسيع رقعة الإرهاب العابر للحدود. كما تسعى إلى فضح البنية الذهنية التي يُغذّي بها التنظيم أتباعه، ويدفعهم بها نحو العنف الدموي الممنهج، مستخدمًا نصوص الدين في غير موضعها، ومتلاعبًا بالتراث والرموز لخدمة مشروع إقصائي شمولي.
أولاً: السياق السياسي والأمني للنص
تأتي افتتاحية العدد 506 من صحيفة النبأ في إطار تصعيد خطابي يعكس حالة التوتر العسكري والأمني المتفاقم في الشمال السوري، وتحديدًا في مدينة الباب الخاضعة لنفوذ فصائل المعارضة المدعومة من تركيا، وفي مقدمتها "الجيش الوطني السوري". تشير الافتتاحية إلى "عملية أمنية مشتركة" قادها التحالف الدولي ضد ما تصفه بـ"بيت للمسلمين"، وتتهم هيئة تحرير الشام والجولاني تحديدًا بأنه رأس الحربة في هذه العملية، مستخدمة عبارات مثل: "غزو بيت للمسلمين بمدينة الباب"، و"مقتل مجاهد ونجليه وأسر ذويه"، في محاولة لبناء صورة ضحية للتنظيم، وتقديم العملية كدليل جديد على "العدوان الصليبي" المتواصل ضد ما تسميه "الدولة الإسلامية".
النص، وإن كان مكسوًا برداء ديني، إلا أنه في جوهره خطاب سياسي موجه بوضوح ضد هيئة تحرير الشام وأجهزتها الأمنية. فداعش لا يهاجم فحسب العملية الأمنية، بل يربطها بسياق أوسع من "الردة والعمالة"، حيث يعتبر أن ما جرى في الباب هو "مظاهرة ومعاونة وموالاة صريحة للمشركين على المسلمين"، في تكرار لمعادلة التكفير التي يُجريها التنظيم تلقائيًا على أي فصيل يتعامل مع القوى الدولية، سواء بالتحالف العسكري أو التنسيق الأمني.
ومن خلال استدعاء حادثة الباب كمحور للخطاب، يعيد التنظيم رسم خريطة العداء من جديد. فعدوه الأول لم يعد فقط التحالف الدولي أو الأنظمة الإقليمية، بل التنظيمات الجهادية الأخرى التي تمارس نوعًا من البراجماتية السياسية، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام. ويأتي وصف الجولاني بـ"الطاغوت" و"الخائن" و"جندي في التحالف الصليبي"، ليدشن فصلًا جديدًا في الصراع الداخلي بين الفصائل الإسلامية، معتمدًا على "تحقيق مناط الردة" كما ورد في النص، لاستخدامه كسلاح لشرعنة استهدافهم وتصفيتهم.
ما يكشفه هذا الخطاب هو أن التنظيم يُطوّع الأدوات الدينية لتكفير خصومه السياسيين، ويرتّب على ذلك أحكامًا خطيرة تمهّد للعنف والاقتتال. فالهجوم على الجولاني وهيئته لا يقف عند حدود النقد السياسي أو الفكري، بل يتحول إلى توثيق شرعي للحكم عليهم بالردة، مما يعني إباحة دمائهم واستباحة مناطقهم، وهو ما نراه في العبارة الصريحة: "وما جرى في واقعة الباب... هو مناط كفر وردة وناقض من نواقض الدين".
ويجب ألا نغفل عن أن هذا النوع من الخطاب ليس معزولًا عن واقع النزاع الإقليمي والدولي على الأرض السورية. فعملية الباب لم تكن سوى ذريعة لإعادة طرح خطاب المظلومية الجهادية وتأكيد سردية "التآمر العالمي على الدولة الإسلامية"، وتقديم داعش بوصفه الضحية الوحيدة التي لا تزال ترفع راية الشريعة. بهذا، يصبح النص جزءًا من حرب ناعمة تُخاض بالكلمات والآيات، لكنها تجهّز الأرض لمزيد من سفك الدماء وتحشيد الأنصار، كما جاء في قولهم:
"لقد بات ثابتًا لدى الجميع أن التعاون بين الطاغوت الجولاني والصليبيين في الحرب على الإسلام ليس جديدًا... فما جرى في واقعة الباب مظاهرة ومعاونة وموالاة صريحة للمشركين على المسلمين".
ثانيًا: تفكيك بنية الخطاب
تكشف افتتاحية النبأ عن خطاب متماسك ظاهريًا، لكنه مشحون بالأحكام المطلقة، والأساليب البلاغية التحريضية، والانتقائية التأويلية، التي تُستخدم لتغليف مشروع سياسي عنيف بغطاء ديني. هذا الخطاب يتأسس على ثلاث ركائز رئيسية: التكفير، التجريد من الإنسانية، والتلاعب بالتاريخ. من خلال تحليل هذه الركائز، يمكن فهم كيف يبني التنظيم شرعية زائفة لعملياته، ويبرر عنفه، ويشيطن خصومه ضمن سردية دينية مغلقة.
1. التحريض الديني عبر تكفير الخصم
يرتكز الخطاب منذ بدايته على ما يُعرف بـ"تحقيق مناط الردة"، وهو مفهوم فقهي خطير حين يُنزّل على الخصوم السياسيين دون معايير علمية أو اجتهادية. فيقول النص:
"ما جرى في واقعة الباب مظاهرة ومعاونة وموالاة صريحة للمشركين على المسلمين، وهي مناط كفر وردة وناقض من نواقض الدين".
هنا لا يكتفي الكاتب بتوصيف سلوك الخصوم، بل يصدر حكمًا دينيًا نهائيًا لا رجعة فيه، يُسقط فيه الفعل السياسي على قواعد "الولاء والبراء"، التي طالما استخدمها التنظيم لبناء معادلة "نحن مقابل الكفار".
ويعزز الكاتب هذا التوجه بانتقاء نصوص قرآنية لتأكيد حكمه، من أبرزها قوله تعالى:
"وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ"،
ثم يستشهد بابن حزم في المحلى ليؤكد أن الآية "على ظاهرها" وتعني الكفر الصريح. لكن النص يتجاهل تمامًا سياق الآية في سورة المائدة، وإجماع جمهور العلماء على أن "التولي" هنا له ضوابط، وأنه لا يجوز استسهال التكفير دون إقامة الحجة ووجود الشروط وانتفاء الموانع. إلا أن التنظيم يُقصي هذا المنهج العلمي ويستبدله بآلية ميكانيكية للتكفير الفوري.
بهذا، يتحول الخطاب من كونه تحليلاً سياسيًا لما جرى في الباب، إلى دعوة مبطّنة لاستباحة الدماء. فعندما يُوسم الجولاني وأتباعه بالردة، فإن كل من ينتظم في فصيله أو يُنسَب إليه يصبح حلال الدم والمال وفق منطق التنظيم. وهذا النوع من التكفير الممنهج هو ما يمهّد الطريق نفسيًا وشرعيًا لأي هجوم إرهابي لاحق.
2. شيطنة الآخر ووصمه
واحدة من أكثر الأدوات وضوحًا في خطاب الافتتاحية هي التجريد التام من الإنسانية. إذ لا يتعامل النص مع الخصم بوصفه فاعلًا سياسيًا له رؤية، ولا حتى منحرفًا عن الصواب، بل يصوّره ككائن نجس، دخيل على الإسلام، عميل للغرب، وخادم للصهاينة. يستخدم الخطاب ألفاظًا مثل:
"جنودها الكفرة الفجرة"، "رعاة خنازير الإفرنج"، "خدم للتحالف الصليبي"، "الطاغوت الجولاني"، "من ركع تحت أقدام أمريكا الصليبية"، وكلها تهدف إلى سحب أي صفة شرعية أو أخلاقية من الآخر.
هذا التجريد يُعد أداة مركزية في كل خطاب متطرف، لأنه يزيل أي حاجز نفسي يمنع الأتباع من قتل الخصوم. حين يصبح الآخر "خنزيرًا"، لا يعود قتله جريمة، بل "تطهيرًا". وحين يتحوّل الجولاني إلى "طاغوت"، لا يُعد الخروج عليه فتنة، بل فريضة دينية. هذه الاستراتيجية البلاغية تُغلق باب التسامح، وتفتح باب الجهاد الدموي.
كما أن الخطاب لا يكتفي بالتجريد اللغوي، بل يُعيد إنتاجه بصريًا عبر الوصف الرمزي. فحين يقول مثلًا:
"بات يسعى إلى رعي خنازير اليهود"،
فهو لا يعبّر عن نقد سياسي لعلاقات الجولاني الإقليمية، بل يُنتج صورة كاريكاتورية تهدف إلى صدم الأتباع واستفزاز مشاعرهم، ودفعهم باتجاه "الثأر" ممن يوصف بهذا الشكل. إنها بلاغة محمّلة بالكراهية والمجاز الدموي.
3. التلاعب بالتاريخ لتثبيت سردية دينية
في محاولة لصناعة شرعية تاريخية "نقية" لمشروع داعش، يستدعي الخطاب حادثة المعتمد بن عباد في الأندلس، والذي رفض الاستعانة بالصليبيين على خصومه المسلمين، رغم الخطر المحدق به. وينقل عن المعتمد قوله الشهير:
"لأن يرعى أولادنا جمالهم، أحب إلينا من أن يرعوا خنازير الإفرنج!"
ثم يقارن ذلك بسلوك الجولاني قائلًا:
"أما لسان حال الجولاني وجنوده اليوم: لأن نرعى خنازير الإفرنج أحب إلينا من بقاء الدولة الإسلامية".
هذه المقارنة، رغم جاذبيتها البلاغية، تتجاهل تمامًا الفروقات السياقية والزمنية. فالمعتمد كان حاكمًا في ظل تهديد استئصال سياسي وثقافي من قوة غازية، بينما الجولاني يتحرك في واقع دولي وإقليمي مركب، تسوده تحالفات ظرفية وتوازنات ميدانية دقيقة. لكن التنظيم يُعيد تدوير القصة التاريخية لتثبيت فكرة "الخيانة الكبرى" وتكريس صورة "داعش" كآخر معاقل الإسلام الصافي.
التلاعب بالتاريخ هنا ليس بريئًا، بل مقصود لبناء سردية ملحمية تصنع ثنائية "الأبطال والخونة"، "الطهر والتلوث"، و"الشريعة والديمقراطية". فداعش لا يستخدم التاريخ للعبرة أو التأمل، بل لخدمة أيديولوجيا الكراهية والفرز الديني. هكذا يتحول المعتمد بن عباد من شخصية تاريخية معقدة إلى رمز في معركة معاصرة ضد من يوصفون بـ"عملاء الغرب".
وفي نهاية هذا البناء الرمزي، يظهر "مشروع الدولة الإسلامية" بوصفه الامتداد الوحيد للحكم بالشريعة، بينما جميع المشاريع الأخرى، سواء كانت ثورية أو إصلاحية، تتحول إلى نُسخ مخففة من الكفر العالمي. وهنا يكمن الخطر الأكبر: فقدرة هذا الخطاب على تبسيط الواقع وتحويله إلى ثنائيات قاتلة، هي ما يجعله جذابًا وقاتلًا في آنٍ معًا.
ثالثًا: الرسائل المسكوت عنها
بالاعتماد على افتتاحية النص التي تمثل جوهر الخطاب الداعشي – حيث تُعلن "الدولة الإسلامية" نفسها طليعةً مقدّسة، باقيةً رغم الانهيارات، وأنها تعيش "مرحلة الابتلاء بعد الطهر" – يمكن تبيّن ثلاث رسائل مسكوت عنها تتغلغل في السطور، دون أن تُصرّح بها صراحة، لكنها تؤدي دورًا بالغ الخطورة في تشكيل وعي أتباع التنظيم. هذه الرسائل تكشف كيف يحاول الخطاب التمويه على الجرائم، والتملص من الفشل، وكبت التفكير النقدي، بما يعكس سلوكًا تبريريًا مقصودًا، يخدم بقاء الأيديولوجيا حتى في لحظات الهزيمة.
1. طمس جرائم التنظيم
يستدعي النص واقعة قتل الدروز لا بوصفها مأساة إنسانية أو جرمًا في حق الأقليات، بل كـ"تنفيذ لحكم الله". لا يُظهر الخطاب أي ندم، ولا حتى تبريرًا سياسيًا، بل يعرض الفعل كدليل على "طهارة المنهج". الإشارة عابرة ولكنها كافية لتثبيت الفكرة: أن قتل المختلفين عقائديًا جزءٌ مشروع من "نقاء الصف".
المُلفت أن المجازر التي ارتُكبت في حق الدروز، والدمار الذي طال قراهم، وتهجير آلاف المدنيين، يتم القفز عليه بالكامل. لا ذكر للضحايا، ولا للمعاناة، ولا لأي أثر إنساني لما جرى. بهذا الشكل، يتعمد النص محو الذاكرة الجمعية للضحايا، وتقديم جريمة إبادة طائفية كعلامة إيمان.
هذه المقاربة تُحوّل المذابح من واقع مُدان إلى سردية نصر عقائدي، يُمكّن التنظيم من فرض هيمنته الرمزية على الماضي. إنها عملية "تبييض للعنف" تجري بلغة دينية، لتُظهر القتل كجزء من بناء الأمة المسلمة، لا كجريمة سياسية وأخلاقية.
2. إسقاط الفشل على الآخرين
رغم أن التنظيم انهار جغرافيًا وخسر قاعدته الشعبية، إلا أن النص لا يواجه هذا الانهيار مواجهةً واقعية. بل يُعيد تدوير خطاب "الاصطفاء" ويعرض الهزيمة كـ"ابتلاء بعد طهر"، كما ورد في الافتتاحية. هذه الحيلة النفسية تبرّر العزلة وتُقنع الأتباع بأنهم ضحايا "حرب كونية على الإسلام".
النص يُحمّل الآخرين مسؤولية الفشل: الصحوات، الحركات الإسلامية، الدول الغربية، القبائل، وحتى الجهاديين "غير الملتزمين بالمنهج". الكل متآمر، والتنظيم وحده "الثابت". بذلك، يتم تجريد الجماعة من أي مسؤولية، وتُخلق بيئة ذهنية مغلقة ترفض النقد أو المراجعة.
هذا الإسقاط ليس بريئًا، بل يُعيد إنتاج منطق التمايز والطهر. فالفشل ليس ناتجًا عن خطأ استراتيجي أو غلوّ فكري، بل عن خيانة الخارج. وهكذا يُعاد ضبط العلاقة مع العالم من منطق المواجهة الدائمة، فيتحوّل التنظيم إلى "قلعة محاصَرة"، مما يُمهّد لعودة أكثر تطرفًا.
3. إسكات أي خطاب عقلاني أو نقدي
في لحظة ما، كانت بعض الأوساط الجهادية قد بدأت بمراجعات داخلية، وظهرت مناظرات ونقاشات عن شرعية البيعة، وأساليب العنف، وشرعية الدولة. لكن النص الذي نحن بصدده يُهاجم هذا المسار، ويصفه بـ"السفسطائية" و"الارتياب"، بل يُلمّح إلى أن هذه المراجعات خطرٌ على الطهارة العقائدية.
الخطاب يشن حملة على "الجهاديين المرتابين"، ويصف التفكير المستقل كعلامة ضعف أو خيانة. في المقابل، يُكرّس الانصياع للنصوص "كما فُهمت من قِبل الدولة" باعتباره واجبًا شرعيًا. بهذا، يتم دفن أي أفق للاجتهاد، ويُحوَّل التنظيم إلى منظومة مغلقة من الطاعة المطلقة.
هذه النزعة التكفيرية المضادة للنقد تخلق بيئة فكرية خانقة، تُعيد تدوير الغلوّ وتمنع أي تصحيح داخلي. فحتى النقد من داخل الدائرة الجهادية يُعامل كرجس يجب استئصاله. النتيجة: خطاب يعادي العقل، ويُؤسس لدكتاتورية دينية ترفض حتى أقرب مقاتليها إذا تساءلوا أو تردّدوا.
رابعًا: الوظائف التداولية للخطاب
بالنظر إلى افتتاحية داعش، يتّضح أن الخطاب ليس مجرد تحليل ظرفي أو تعليق عابر على "خيانات الجولاني" كما يسميها، بل هو جزء من استراتيجية أيديولوجية مدروسة تهدف إلى إعادة ضبط البوصلة القتالية والشرعية لدى جمهور التنظيم. في هذا السياق، تتجلّى الوظائف التداولية للنص، ليس باعتباره أداة للتواصل فقط، بل كوسيلة للتأثير والتوجيه والتجنيد وإعادة إنتاج الصراع.
1. التحريض على القتل باسم الدين
النص يُعيد إنتاج البنية الفقهية التي طالما اعتمد عليها التنظيم لتبرير العنف، إذ يقدّم هيئة تحرير الشام ليس فقط كخصم عسكري، بل كعدو عقدي "مرتد"، ما يفتح الباب أمام تسويغ استهدافها وتصفيتها بوصف ذلك "حكمًا شرعيًا". لا يكتفي الخطاب بوصف الجولاني بالخيانة، بل يربط موقفه بالخروج عن الدين، وهو تأصيل مقصود يهدف إلى إزالة أي حرج ديني من عمليات الاغتيال أو القتال الموجهة ضد فصائل أخرى، بل يجعل منها واجبًا دينيًا. بهذه الطريقة، يهيئ النص الأرضية النفسية والفقهية لأي عمليات انتقامية مقبلة ضد هذه الفصائل.
2. تثبيت الهوية الداعشية مقابل الآخر المرتد
الخطاب لا يترك مساحة رمادية في تحديد الهويّات، بل يرسم حدودًا صارمة بين "الفرقة الناجية" – أي داعش – و"المرتدين والخونة"، وهو ما يُعيد التأكيد على مركزية التنظيم باعتباره المُمثل الأوحد للإسلام الصحيح، حسب زعمه. يُوظّف النص لغة حصرية تُمجّد "الطهر العقائدي" لداعش مقابل "التلوث" الذي أصاب الفصائل الأخرى، ما يُعزز من شعور النخبوية لدى عناصره ويُبرّر قطيعة تنظيمية وعقدية مع كل من لا ينتمي لهم.
3. خلق عدو دائم
لا يكتفي الخطاب بإدانة الجولاني أو هيئة تحرير الشام، بل يوسّع من دائرة "العدو المرتد"، لتشمل كل من تعاون مع هذه الفصائل أو سكت عن "انحرافها"، ما يُبقي التنظيم في حالة استنفار وجودي دائم. هذه التقنية تُعد من أدوات التعبئة المركزية لدى داعش: تحويل كل نزاع سياسي أو تنظيمي إلى معركة دينية حتمية، تُبرّر استمرار القتال وتُضفي عليه قداسة. إنها آلية لإبقاء الحرب مفتوحة دائمًا، حتى في حال غياب عدو مباشر.
4. استقطاب الهامش المتطرف
في لحظة تراجع التنظيم وتفكّك أذرعه، يخاطب النص من تبقّى من المتشددين الذين لم يجدوا في الجولاني أو غيره "خصمًا كافرًا"، ويحثّهم على اتخاذ موقف قاطع وحاسم. يستخدم خطابًا عاطفيًا وعقائديًا يلامس مخاوف هؤلاء من "الذوبان"، ويُقدّم داعش كآخر معاقل الصفاء العقائدي. بهذا المعنى، لا يسعى النص إلى كسب جمهور واسع، بل إلى اجتذاب الشريحة الأكثر تطرفًا التي قد تشعر بالتيه أو خيبة الأمل من فصائل المعارضة، وبالتالي تميل إلى العودة لأحضان تنظيم أكثر راديكالية.
خامسًا: الأثر الاجتماعي والسياسي للخطاب
يفاقم الخطاب الداعشي الانقسامات الأيديولوجية والتنظيمية بين الفصائل الجهادية، لا سيما بين تنظيم "الدولة" وهيئة تحرير الشام، التي يصفها النص بأنها "سلالة صحوات الردة". عبر هذه اللغة، لا يكتفي الخطاب بتكفير "العدو"، بل يشيطنه بأبشع الأوصاف، ما يغلق أبواب المصالحة أو التهدئة بين الفصائل المتصارعة، ويحول الصراع من تنافس نفوذ إلى صراع وجودي، حيث كل طرف يسعى لإلغاء الآخر ماديًا ومعنويًا. وهذا يطيل أمد الحرب الأهلية في سوريا، ويجعل من أي مشروع سياسي لحل النزاع أمرًا بعيد المنال.
الخطاب يكرّس كراهية طائفية حادة، ليس فقط ضد العلويين الذين يُتهمون صراحةً بموالاة "النصيرية الصفوية"، بل يمتد ليشمل الشيعة والإسماعيليين والدروز، وحتى المسلمين الذين لا يتبنّون رؤية التنظيم. في ظل هذا التصنيف، تصبح دماء هؤلاء مباحة، ويجري استدعاء مفردات فقهية مثل "التترس" و"الولاء والبراء" لتبرير أعمال إبادة جماعية ممنهجة، تُصوَّر على أنها جهاد تطهيري لا بد منه لتثبيت "التوحيد الخالص" على الأرض.
يعيد النص توظيف مفاهيم دينية مثل "تحكيم الشريعة" و"الطاغوت" و"الحاكمية" في سياق سياسي صرف، يخدم أجندة التنظيم في نزع الشرعية عن خصومه، وفرض تصور أحادي للإسلام. في الافتتاحية، يُقدَّم مشروع التنظيم على أنه امتداد لـ"دولة الإسلام"، في مقابل ما يُسمّى بـ"ديمقراطيات الكفر" أو "أنظمة الردة"، ما يجعل أي شكل من أشكال المشاركة السياسية أو التعددية مرفوضًا شرعًا. وبهذا يتحول الدين إلى أداة للإقصاء والسيطرة لا وسيلة للهداية أو الإصلاح.
لا يتوقف الخطاب عند حدود الساحة السورية، بل يتعمد تصدير النموذج الداعشي بوصفه المثال الأعلى لأتباع التنظيم في مناطق أخرى مثل الساحل الإفريقي وولايات خراسان وآسيا الوسطى. الرسالة تتجاوز المحلي لتخاطب "الموحدين في كل مكان"، مطالبةً إياهم بتكرار التجربة، واستهداف "المرتدين" في مجتمعاتهم. بهذا الشكل، يتحول الخطاب إلى وقود لعنف عابر للحدود، يعيد إنتاج الفوضى في أماكن مختلفة، ويوفر شرعية "عقائدية" للهجمات الإرهابية التي تنفذها خلايا مرتبطة بالتنظيم في بلدان لا علاقة مباشرة لها بالصراع السوري.
خاتمة: بين الكفر السياسي والتقديس الدموي
تكشف افتتاحية النبأ عن خطاب هجين يجمع بين التكفير، والتاريخ المشوّه، والرمزية اللاهوتية، والدعاية السياسية. لا ينطق النص باسم الدين، بل باسم مشروع سياسي مهووس بالدماء والخراب.
وبينما يُكرّس الخطاب مبدأ الطهارة عبر الإبادة، فإنّه في الحقيقة ينتج منظومة عنف دائمة لا تعرف إلا التشظي، ويغلق كل أبواب الحوار والاجتهاد، ويقود الأتباع إلى طريق تفخيخ الجغرافيا والوعي معًا.
لقد آن الأوان لمواجهة هذا الخطاب بما هو أكثر من الردّ الأمني، إذ يحتاج الأمر إلى تفكيك لغوي ومعرفي يُظهِر زيف ادعاءاته، ويفضح استغلاله للنصوص، ويحرّر العقول من أسر التقديس الزائف للسلاح.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


وكالة الصحافة المستقلة
منذ 44 دقائق
- وكالة الصحافة المستقلة
ترامب وبوتين يتفقان على عقد لقاء في الأيام المقبلة
المستقلة/- صرح مسؤول في الكرملين يوم الخميس بأنه تم الاتفاق على عقد لقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومن المحتمل أن يُعقد الأسبوع المقبل في مكان تم تحديده 'مبدئيًا'. وصرح مستشار بوتين للشؤون الخارجية، يوري أوشاكوف، للصحفيين بأنه 'بناءً على اقتراح الجانب الأمريكي، تم الاتفاق مبدئيًا على عقد اجتماع ثنائي على أعلى مستوى في الأيام المقبلة'. وأضاف أوشاكوف أن الأسبوع المقبل هو الموعد المستهدف لعقد القمة، مشيرًا إلى أن تنظيم مثل هذه الفعاليات يستغرق وقتًا ولم يتم تأكيد موعدها بعد. وقال إن المكان المحتمل سيُعلن عنه 'لاحقًا'. كما قلل من احتمال انضمام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى اجتماع القمة لمناقشة إنهاء الغزو الروسي المستمر منذ ثلاث سنوات، وهو الأمر الذي قال البيت الأبيض إن ترامب مستعد للنظر فيه. قال أوشاكوف: 'نقترح، أولاً وقبل كل شيء، التركيز على التحضير لاجتماع ثنائي مع ترامب، ونرى أن من الأهمية بمكان أن يكون هذا الاجتماع ناجحًا ومثمرًا'. سيكون هذا الاجتماع بين بوتين وترامب الأول لهما منذ عودة الرئيس الجمهوري إلى منصبه هذا العام. وسيكون نقطة تحول مهمة في الحرب، مع أنه لا يوجد ما يضمن إنهاء القتال، نظرًا لتباعد مواقف روسيا وأوكرانيا بشأن مطالبهما. وقد اتهم المسؤولون الغربيون بوتين مرارًا وتكرارًا بالمماطلة في مفاوضات السلام لإتاحة الوقت للقوات الروسية للسيطرة على المزيد من الأراضي الأوكرانية. ولم يقدم بوتين في الماضي أي تنازلات، ولن يقبل إلا بتسوية بشروطه.


وكالة الصحافة المستقلة
منذ 44 دقائق
- وكالة الصحافة المستقلة
جدل حول الرواية السياسية: هل تستثمر حماس الاعترافات الدولية لخدمة أجندتها؟
أسامة الاطلسي في الآونة الأخيرة، شهدت القضية الفلسطينية تحركات دولية لافتة، تمثلت في اعترافات رسمية من عدة دول أوروبية بدولة فلسطين، في خطوة اعتبرها كثيرون دعمًا رمزيًا ومعنويًا للشعب الفلسطيني وسط استمرار الصراع. غير أن إعلان حركة حماس نسب هذا التطور إلى 'صمودها ومقاومتها'، أثار جدلاً واسعًا على المستويين المحلي والدولي. يرى مراقبون أن محاولة حماس تبنّي هذا الإنجاز الدبلوماسي قد تحمل طابعًا سياسيًا أكثر منه واقعيًا، إذ أن مسار الاعترافات بدولة فلسطين يمتد لسنوات طويلة، وجاء نتيجة جهود دبلوماسية فلسطينية متراكمة من قبل السلطة الوطنية ومنظمة التحرير، إلى جانب تأييد شعبي عالمي متزايد للقضية الفلسطينية، خاصة بعد تصاعد المعاناة الإنسانية في غزة. وتشير تحليلات سياسية إلى أن سعي حماس لربط الاعترافات الدولية بأدائها في الميدان يهدف إلى إعلان 'نصر معنوي' يغطي على حجم الدمار والخسائر التي لحقت بالسكان المدنيين في القطاع نتيجة جولات التصعيد الأخيرة. ويرى هؤلاء أن هذه الرواية تخدم في آنٍ واحد المصالح السياسية لحماس، كما تُسهم من زاوية أخرى في ترسيخ الانقسام الداخلي، وهو ما يتقاطع – وإن بشكل غير مباشر – مع استراتيجية إسرائيلية أوسع تهدف إلى إضعاف وحدة القرار الفلسطيني. من جانب آخر، يشدد محللون على ضرورة التمييز بين الإنجاز الدبلوماسي كمكسب وطني جامع، وبين توظيفه لأغراض فصائلية. ويؤكدون أن استمرار الانقسام الفلسطيني يُضعف من قدرة الفلسطينيين على استثمار الزخم الدولي لبناء موقف موحد قادر على الضغط نحو إنهاء الاحتلال وتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال. في ظل هذه التطورات، تبقى الدعوة إلى مراجعة الخطاب السياسي الفلسطيني وتوحيده مطلبًا ملحًا، إذا ما أُريد تحويل التعاطف الدولي إلى نتائج ملموسة على الأرض، بدل أن يُستهلك في صراعات داخلية تُضعف الهدف الأساس: إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة.


الأنباء العراقية
منذ 44 دقائق
- الأنباء العراقية
القضاء: يمكن اتخاذ الإجراءات القانونية بحق النواب بعد انتهاء عضويتهم لأي سبب كان
بغداد - واع أكد مجلس القضاء الأعلى، اليوم الخميس، أنه يمكن اتخاذ الإجراءات القانونية بحق النواب بعد انتهاء عضويتهم لأي سبب كان. وذكر إعلام القضاء في بيان تلقته وكالة الأنباء العراقية (واع)، أن "مجلس القضاء الأعلى عقد جلسته الحادية عشرة، برئاسة رئيس محكمة التمييز الاتحادية، القاضي فائق زيدان، وجرت خلال الجلسة ترقية عدد من القضاة وأعضاء الادعاء العام بالإضافة إلى منح المناصب القضائية التي يستوجب منحها وحسب الحاجة إليها". وأضاف أن "المجلس قرر تعطيل الدوام الرسمي في رئاستي محكمتي استئناف النجف وكربلاء لمدة خمسة أيام اعتباراً من يوم الأحد الموافق 10 / 8 / 2025 ولغاية يوم الخميس الموافق 14 / 8 /2025 وذلك بمناسبة الزيارة الأربعينية". وبين أن "الجلسة ناقشت موضوع نص المادة (11/ثانياً/4) من القانون رقم (10) لسنة 2024 (تعديل قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969) بخصوص الموافقة من عدمها على اتخاذ الإجراءات القانونية بحق أعضاء مجلس النواب أو رفع الحصانة عنهم، حسب نص المادة (63) من الدستور، وتوصل المجلس إلى أن ذلك لا يعني غلق الدعوى نهائياً إنما يمكن اتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم بعد انتهاء العضوية في مجلس النواب لأي سبب كان".