logo
رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصالة والمعاصرة

رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصالة والمعاصرة

الجزيرة١٩-٠٧-٢٠٢٥
توفي في العاصمة السعودية الرياض، صباح أمس الجمعة، المفكر الإسلامي السوداني البروفيسور جعفر شيخ إدريس، الذي وافته المنية عن عمر ناهز 94 عامًا، بعد مسيرة علمية وفكرية حافلة امتدت لعقود، أثرى خلالها الساحة الفكرية بجهوده الرائدة في التوفيق بين الأصالة والمعاصرة.
وقد نعت العديد من المؤسسات الإسلامية حول العالم الفقيد، واصفة إياه بالعالِم والداعية الذي جمع بين عمق العلوم الشرعية ودقة الفهم للفلسفة الغربية، وبقي ثابتًا على منهجه المعتدل حتى آخر أيامه.
النشأة والتكوين الفكري
وُلد جعفر شيخ إدريس عام 1931 في مدينة بورتسودان شرقي السودان، لأسرة متدينة تعود جذورها إلى منطقة نوري شمالي البلاد. ونشأ في بيئة علمية، حيث أتمّ حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وتلقى تعليمه النظامي الذي تُوّج بتخرجه في جامعة الخرطوم، وهناك برز نبوغه العلمي وشخصيته القيادية بتوليه رئاسة اتحاد الطلبة.
في خطوة كانت نادرة في ذلك الوقت، انطلق في رحلته الأكاديمية العليا ليحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة عام 1970 من جامعة الخرطوم، بعد دراسة بحثية في جامعة لندن، وكانت أطروحته حول "مفهوم السببية في الإسلام". بهذا الإنجاز، أصبح من أوائل الأكاديميين السودانيين الذين يجمعون بين علوم الشريعة الإسلامية والفلسفة الغربية الحديثة بمنهجية علمية رصينة.
وخلال دراسته الثانوية في مطلع خمسينيات القرن العشرين، انضم إلى حركة التحرير الإسلامي، وكان عضوًا نشطًا في صفوفها، يلقي الدروس والمحاضرات في مواجهة المد الفكري الشيوعي آنذاك، مما يجعله من الجيل المؤسس للحركة الإسلامية السودانية. هذا المزج المبكر بين النشاط الدعوي والعمق الفلسفي شكّل ملامح مشروعه الفكري فيما بعد.
مسيرة أكاديمية عابرة للقارات
بدأ البروفيسور جعفر شيخ إدريس مسيرته في التدريس الجامعي أواخر الستينيات، متنقلا بين مؤسسات علمية مرموقة. عمل مدرسًا للفلسفة في جامعة الخرطوم بين عامي 1967 و1973، ثم انتقل إلى المملكة العربية السعودية حيث عمل أستاذًا بقسم الثقافة الإسلامية في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حاليًا)، قبل أن ينضم إلى هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
في جامعة الإمام، تقلّد عدة مناصب علمية، ودرّس مواد العقيدة الإسلامية والمذاهب المعاصرة، وأسهم في تأسيس مركز البحوث بالجامعة. تدرج في مسيرته حتى أصبح من أبرز أساتذتها، وأشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه. وقد تقاعد من العمل الأكاديمي الرسمي في جامعة الإمام عام 1997، بعد مسيرة حافلة امتدت 30 عامًا.
ولم يقتصر عطاؤه على العالم العربي، بل امتد إلى الغرب، حيث تولى إدارة معهد العلوم الإسلامية والعربية في ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة، التابع لجامعة الإمام، وشغل منصب مدير قسم البحث العلمي ثم مستشارًا للمعهد في التسعينيات.
وفي خطوة رائدة، أسس مع نخبة من العلماء الجامعة الأميركية المفتوحة في واشنطن عام 1995، وأصبح رئيس مجلسها التأسيسي، بهدف نشر المعرفة الإسلامية بأساليب التعليم عن بُعد. كما عمل مستشارًا للعديد من المراكز الإسلامية حول العالم، مما يعكس مكانته الدولية كمرجع فكري وتربوي.
حوار العقل والإيمان
امتاز البروفيسور جعفر شيخ إدريس ببصمة فكرية فريدة، تمثلت في قدرته الفائقة على الربط بين الفلسفة الغربية ومفاهيم العقيدة الإسلامية بلغة عقلانية سلسة. وقد ساعده على ذلك إتقانه التام للغتين العربية والإنجليزية، مما جعله قادرًا على مخاطبة العقول الغربية بمنطقها ولغتها دون التنازل عن ثوابت العقيدة.
ركّز في طرحه الفكري على مركزية التوحيد وتنقية العقيدة من الشوائب، وعُرف بنقده الموضوعي والهادئ للتيارات الإلحادية والعقلانية المتطرفة، مؤمنًا بضرورة مواجهة موجات التغريب بالفكر العميق والحوار الرصين بدلًا من الشعارات. وأسهمت مقالاته وأبحاثه في ترشيد الخطاب الإسلامي، داعيا إلى تقديم الإسلام بصورة تتناسب مع العصر الحديث، مما أكسبه لقب "صوت العقل الإسلامي" لدى محبيه وتلاميذه.
ترك البروفيسور جعفر شيخ إدريس إرثًا علميًّا كبيرًا من الكتب والبحوث التي أثرت في أجيال من المفكرين. وتميزت مؤلفاته بالإيجاز والتركيز على الأطر الفكرية العامة.
من أبرز كتبه باللغة العربية: "الفيزياء ووجود الخالق"، "نظرات في منهج العمل الإسلامي"، و"الإسلام لعصرنا". وباللغة الإنجليزية، ألف كتبًا مهمة منها: (The Pillars of Faith) "أعمدة الإيمان"، و"Islamization: Its Philosophy & Methodology) "أسلمة المعرفة: فلسفتها ومنهجيتها".
ويُعدّ من أوائل من كتبوا في موضوع "أسلمة العلوم" خلال السبعينيات، حيث قدم أوراقًا تأسيسية أصبحت مرجعًا لمن جاء بعده. وقد تتلمذ على يديه عدد كبير من الطلاب والباحثين الذين يحملون فكره اليوم في أنحاء العالم.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"تمساح السودان".. اكتشاف نادر على نهر عطبرة عمره 90 ألف سنة
"تمساح السودان".. اكتشاف نادر على نهر عطبرة عمره 90 ألف سنة

الجزيرة

time٠٥-٠٨-٢٠٢٥

  • الجزيرة

"تمساح السودان".. اكتشاف نادر على نهر عطبرة عمره 90 ألف سنة

في كشف علمي نادر يعيد تسليط الضوء على التنوع الحيوي القديم في القارة السمراء، أعلن فريق بحثي سوداني- ألماني عن اكتشاف نوع جديد من التماسيح المنقرضة في شرق السودان، يعود تاريخه إلى ما قد يصل إلى 90 ألف عام، خلال أواخر العصر البليستوسيني. ويعد هذا النوع، الذي أطلق عليه اسم "كروكودايلوس سوداني"، أول تمساح يصنف رسميا من هذه الحقبة في أفريقيا. الدراسة ، التي نشرت في الأول من أغسطس/آب في مجلة "ساينتفك ريبورتس"، اعتمدت على جمجمة شبه مكتملة وجدت ضمن تكوينات رسوبية موثقة جيولوجيا على نهر عطبرة. ويؤكد الباحثون أن الخصائص التشريحية الفريدة لهذا التمساح تميزه عن أي نوع معروف حاليا، وهو ما يشير إلى سلالة مستقلة ربما ظلت مغمورة لزمن طويل. تشريح يكشف سلالة مميزة ويشرح الباحث المشارك في الدراسة "خلف الله صالح" -الباحث الجيولوجي في متحف التاريخ الطبيعي ببرلين وجامعة النيلين في السودان، وأحد المؤلفين المشاركين في الدراسة- لـ"الجزيرة نت" أن الفريق العلمي توصل إلى هذا الاكتشاف بعد تحليل شامل للجمجمة المكتشفة باستخدام الفحص المقطعي الدقيق، ودراسة السمات المورفولوجية الدقيقة. وأضاف صالح: "لاحظنا خصائص فريدة لم تسجل في أي من أنواع التماسيح الأفريقية المعروفة، من بينها ارتفاع واضح في الجزء العلوي من الفك، وغياب عظم الجزء الخلفي والسفلي من سقف الجمجمة، بالإضافة إلى فتحات أنف أمامية متجهة لأعلى، وبروزات عظمية مميزة في مقدمة الجمجمة". وبحسب الباحث، فإن الاكتشاف يكشف عن "تنوع مورفولوجي (شكلي) في جنس "كروكودايلوس" في أفريقيا خلال العصر البليستوسيني لم يكن معروفا من قبل". وعلى الرغم من أن الدراسة استندت إلى عينة واحدة من موقع واحد، إلا أن الفريق يرى في ذلك مؤشرا على وجود سلالات تمساح إقليمية متميزة، ربما أغفلت سابقا بسبب التشابه الظاهري مع تمساح النيل أو تمساح غرب أفريقيا. ويضيف: "نحن لا نعمم وجود هذا النوع على كامل القارة، ولكننا نعتقد أنه قد يمثل سلالة محلية ظلت في عزلة تطورية نسبية". ظروف الحرب تعرقل البحث ويؤكد الباحث أن الفريق يطمح إلى توسيع نطاق البحث ليشمل مواقع أخرى على امتداد حوض النيل، ويأمل في مراجعة عينات قديمة محفوظة في المتاحف. لكنه يوضح أن الأوضاع الأمنية الراهنة في السودان، وخاصة بسبب الحرب، "تسببت في تعليق كافة الأنشطة الميدانية لمشروع "باليونايل"الذي يهدف إلى توثيق الحياة الفطرية في السودان خلال العصور القديمة". ورغم هذه التحديات، يعتقد الفريق أن هذا الاكتشاف يشكل نقطة انطلاق لإعادة تقييم تصنيف التماسيح في أفريقيا، والدعوة إلى استخدام أدوات تحليل وراثي وتشريحي متكاملة لتوثيق هذا التنوع البيولوجي الغني. ويعتقد صالح أن الاكتشاف "يسد ثغرة كبيرة في سجل الحفريات بالقارة"، ويضيف أن ذلك يمنح العلماء فرصة لفهم أعمق لمسار الزواحف الكبرى في شرق أفريقيا على مدى ملايين السنوات. ويختتم المؤلف المشارك في الدراسة بالتأكيد على أهمية دعم البحث العلمي في السودان، قائلا: "بلادنا تملك سجلا طبيعيا مذهلا، يحتاج فقط إلى عين علمية هادئة، وظروف مستقرة تُمكننا من اكتشافه وحمايته".

الأردن والعراق وسوريا.. تحالف جيولوجي يكشف خبايا "الصفيحة العربية"
الأردن والعراق وسوريا.. تحالف جيولوجي يكشف خبايا "الصفيحة العربية"

الجزيرة

time٢٨-٠٧-٢٠٢٥

  • الجزيرة

الأردن والعراق وسوريا.. تحالف جيولوجي يكشف خبايا "الصفيحة العربية"

تخيل أن الأرض بحجم التفاحة، في هذه الحالة ستكون القشرة الأرضية بحجم قشرة التفاحة الرقيقة، لكنّ هناك اختلافا، فقشرة الأرض مقسمة إلى "صفائح تكتونية" متداخلة كما تتداخل قطع الأحجيات الورقية التي يطلب منك تجميعها للحصول على صورة جميلة. الصفائح التكتونية هي قطع ضخمة من صخور القشرة الأرضية تطفو فوق طبقة منصهرة جزئيا تُسمى "الوشاح". تتحرك هذه الصفائح ببطء بسبب تيارات حرارية في باطن الأرض، وقد تصطدم أو تبتعد أو تنزلق بجانب بعضها، وتسبب حركتها الزلازل والبراكين وتُشكّل الجبال والمحيطات على مدى ملايين السنين. ومن ضمن هذه الصفائح توجد "الصفيحة العربية"، ومن اسمها يتضح موضعها، فهي كتلة ضخمة من القشرة الأرضية تتحرك ببطء إلى الشمال الشرقي، وتشكل جزءا كبيرا من منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك شبه الجزيرة العربية والأردن وسوريا والعراق، ويؤدي تحركها وتفاعلها مع الصفائح المجاورة إلى نشوء ظواهر طبيعية مهمة مثل الزلازل، وتكون السلاسل الجبلية، كما تلعب دورا رئيسيا في تشكيل الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز في المنطقة. وخلال دراسة نشرت بدورية"مارين آند بيتروليوم جييولوجي"، اقتحم فريق بحثي دولي الصمت الظاهري لمناطق مهمة بتلك الصفيحة، وبتعاون بين علماء علوم السطح وباطن الأرض من السعودية والأردن وبريطانيا، قرأ العلماء لغة الطبقات والصخور والصدوع في باطن الأرض، ليتمكنوا من بناء نموذج زمني دقيق لطبقات الصخور الممتدة من أواخر العصر الطباشيري (أي منذ حوالي 100 إلى 66 مليون سنة) إلى الإيوسين (الذي بدأ قبل نحو 56 مليون سنة واستمر حتى حوالي 34 مليون سنة مضت). 4 أدوات تحليلية واستعان الباحثون في دراستهم بـ4 أدوات تحليلية، هي بيانات بيوستراتيغرافية "أعمار الأحافير"، ونسب الكربون والأكسجين والسترونشيوم، إلى جانب بيانات زلزالية وسجلات آبار النفط، لبناء هذا النموذج الذي أعاد كتابة تاريخ الصفيحة العربية. وتساعد البيانات البيوستراتيغرافية على دراسة توزع الأحافير وترتيبها داخل طبقات الصخور، حيث تستخدم أعمار الأحافير كدلائل زمنية تساعد العلماء على تحديد عمر الطبقات الصخرية ومقارنتها بين مناطق مختلفة، فالأحافير التي تعود إلى فترات زمنية معروفة تتيح معرفة متى تكونت كل طبقة صخرية، وهذا أمر مهم لبناء تسلسل زمني دقيق. أما نظائر الكربون والأكسجين والسترونشيوم، فهي طريقة تعتمد على تحليل النسب المختلفة لهذه النظائر داخل المعادن والصخور، ويعكس ذلك ظروف المناخ والبيئة التي سادت في تلك الفترات، كما يساعد في تحديد الفترات الزمنية بدقة، لأنها تتغير وفقا لمراحل زمنية محددة في التاريخ الجيولوجي، وبالتالي فإن تحليل هذه النسب يمكن أن يوفر توقيتًا دقيقًا لتغيرات الصخور عبر الزمن. وتتيح البيانات الزلزالية تسجيل الموجات الزلزالية التي تمر عبر الأرض بعد توليدها بواسطة مصادر اصطناعية أو طبيعية، ويساعد ذلك في تكوين صور ثلاثية الأبعاد لتركيب الأرض تحت السطح، وتحديد مواقع طبقات الصخور والصدوع والتجاويف، مما يساعد في فهم البنية الجيولوجية تحت سطح الأرض بشكل دقيق. وأخيرا، فإن بيانات سجلات آبار النفط تُجمع من خلال أجهزة قياس توضع داخل آبار النفط والغاز، وتقيس خصائص الصخور مثل كثافتها وتركيبتها المعدنية وخصائصها الفيزيائية والكيميائية، وهذه المعلومات تساعد في تعميق فهم التكوينات الصخرية والطبقات الجيولوجية. ماذا وجد الباحثون؟ وباستخدام هذه الأدوات التحليلية، توصل الباحثون إلى أن الأردن، قبل نحو 95 إلى 90 مليون سنة، وتحديدا خلال المرحلة الوسطى من العصر الطباشيري، شهد فترة من الهدوء التكتوني النسبي، وخلال تلك المرحلة بدأت طبقات الصخور الرسوبية تترسب بهدوء، وكانت سماكتها تزداد تدريجيا كلما اتجهنا شمالا وشمال غرب البلاد. لكن هذا الاستقرار لم يدم طويلا، فمع نهاية تلك المرحلة الهادئة، وتحديدا في الفترة الواقعة بين نهاية المرحلة الوسطى وبداية المرحلة المتأخرة من العصر الطباشيري، أي قبل نحو 89 إلى 83 مليون سنة، تعير المشهد الجيولوجي بشكل جذري، حيث بدأت الأرض في التشقق والتمدد، وظهر ما يعرف اليوم بمنخفض "الأزرق-حمزة" في شرق الأردن، وهو صدع ضخم يمتد من شمال غربي البلاد حتى جنوب شرقها، ليصل إلى وادي السرحان داخل الأراضي السعودية. وتقدر الإزاحة الرأسية للصخور داخل هذا المنخفض بحوالي 1800 متر، مما يعد رقما مذهلا يدل على قوة وشدة الحركات الأرضية التي شهدتها المنطقة في ذلك الزمن الجيولوجي العنيف. ويوضح الباحثون في دراستهم أن "هذا المنخفض ليس فقط مفتاحا لفهم تاريخ الأردن التكتوني، بل هو جزء من منظومة متصلة تشمل منخفض الفرات في سوريا وسنجار في العراق، فهذه البُنى تمتد كأنها صدع طويل يروي قصة تشوه الصفيحة العربية من الأطراف إلى القلب". تشابك المصاير التكتونية وما حدث في الأردن وسوريا والعراق ليس بمعزل عن أماكن أبعد، كعُمان وإيران، وهذا ما كشفت عنه هذه الدراسة أيضا. فبينما كانت منطقة الأزرق في شرق الأردن تشهد حركة تمدد للقشرة الأرضية، أي إن الصخور كانت تتباعد وتتشقق نتيجة لقوى داخلية، كانت المنطقة الواقعة إلى الشرق، وتحديدا إيران وعُمان، تمر بعكس ذلك تماما، وهو ضغط شديد أدى إلى تصادم صفائح قارية ضخمة. ووفقا للدراسة، فإنه في تلك الفترة من العصر الطباشيري بدأت "الصفيحة العربية" تتحرك ببطء نحو الشمال الشرقي، حتى اصطدمت مع "الصفيحة الأوراسية" التي تحمل مناطق مثل إيران وأجزاء من آسيا. وهذا التصادم العملاق أدى إلى ما يُعرف جيولوجيا بظاهرة "الطمر والانزلاق القاري"، وهي عملية تندفع فيها إحدى الصفائح تحت الأخرى، ونتيجة لهذا الاصطدام والانزلاق تشكلت سلاسل جبلية شاهقة مثل جبال زاغروس في إيران، كما تكونت أحواض رسوبية ضخمة، وهي مناطق انخفض فيها سطح الأرض وتجمعت فيها كميات هائلة من الطين والرواسب العضوية، فأدى ذلك لاحقا إلى تشكيل احتياطيات ضخمة من النفط والفوسفات. من المعرفة إلى الوقاية ويقول الدكتور شريف الهادي رئيس قسم الزلازل بالمعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية بمصر -لم يشارك بالدراسة- للجزيرة نت: "نستطيع أن نقول باختصار إن ما حدث في الأردن من تمدد جيولوجي كان جزءا من لوحة تكتونية أوسع، فيها مناطق تتوسع وأخرى تنضغط في آن واحد، وكل ذلك نتيجة حركة الصفائح الأرضية الكبرى التي لا تزال تشكل ملامح كوكبنا حتى اليوم". والدراسة بهذه النتيجة ليست مجرد بحث في الماضي، بل هي خريطة لفهم الحاضر واستشراف المستقبل، سواء من حيث استثمار الثروات، أو الحد من المخاطر الطبيعية، كما يوضح الدكتور الهادي. ويضيف أن "فهم كيف وأين تشكلت أحواض الرسوبيات الغنية بالنفط والغاز والفوسفات، ومعرفة أن حركات الطمر والانزلاق أدت إلى تشكل هذه الأحواض، يمكّن فرق التنقيب من استخدام هذه المعرفة لتحديد المناطق الواعدة للاستخراج، ومن ثم يوفر الوقت والمال في أعمال الحفر والمسح الجيولوجي". ويوضح "كما أن فهم كيف تكونت الصدوع مثل صدع (الأزرق-حمزة) يساعد العلماء والمهندسين على تحديد المناطق الأكثر عرضة للزلازل والهزات الأرضية، وهذا مهم لتخطيط المدن، وتصميم المباني والبنية التحتية لتكون أكثر أمانًا في المستقبل". وتسجل تلك المنطقة زلازل ذات طاقة منخفضة نسبيا، إلا أن ازدياد وتيرتها في الفترة الأخيرة، حتى إن لم يشعر بها السكان، يعتبره العلماء "إنذارا صامتا" يشير إلى أن الصخور تُعيد ترتيب نفسها ببطء، وأن الطاقة التكتونية تتراكم، وقد تنفجر في زلزال ضخم مثل زلزال حلب عام 1138 أو زلزال البحر الميت عام 1927. ولأن الهزات الكبرى قد تسبقها زلازل خفيفة، بدأت مراكز الرصد الجيولوجي في الدول الثلاث بالعمل على نماذج تنبئية تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحليل أنماط الزلازل الصغيرة، واستشراف احتمالات وقوع زلازل أكبر في المستقبل، ومثل هذه الدراسات تساعد في بناء تلك النماذج، كما يؤكد الدكتور الهادي.

رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصالة والمعاصرة
رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصالة والمعاصرة

الجزيرة

time١٩-٠٧-٢٠٢٥

  • الجزيرة

رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصالة والمعاصرة

توفي في العاصمة السعودية الرياض، صباح أمس الجمعة، المفكر الإسلامي السوداني البروفيسور جعفر شيخ إدريس، الذي وافته المنية عن عمر ناهز 94 عامًا، بعد مسيرة علمية وفكرية حافلة امتدت لعقود، أثرى خلالها الساحة الفكرية بجهوده الرائدة في التوفيق بين الأصالة والمعاصرة. وقد نعت العديد من المؤسسات الإسلامية حول العالم الفقيد، واصفة إياه بالعالِم والداعية الذي جمع بين عمق العلوم الشرعية ودقة الفهم للفلسفة الغربية، وبقي ثابتًا على منهجه المعتدل حتى آخر أيامه. النشأة والتكوين الفكري وُلد جعفر شيخ إدريس عام 1931 في مدينة بورتسودان شرقي السودان، لأسرة متدينة تعود جذورها إلى منطقة نوري شمالي البلاد. ونشأ في بيئة علمية، حيث أتمّ حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وتلقى تعليمه النظامي الذي تُوّج بتخرجه في جامعة الخرطوم، وهناك برز نبوغه العلمي وشخصيته القيادية بتوليه رئاسة اتحاد الطلبة. في خطوة كانت نادرة في ذلك الوقت، انطلق في رحلته الأكاديمية العليا ليحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة عام 1970 من جامعة الخرطوم، بعد دراسة بحثية في جامعة لندن، وكانت أطروحته حول "مفهوم السببية في الإسلام". بهذا الإنجاز، أصبح من أوائل الأكاديميين السودانيين الذين يجمعون بين علوم الشريعة الإسلامية والفلسفة الغربية الحديثة بمنهجية علمية رصينة. وخلال دراسته الثانوية في مطلع خمسينيات القرن العشرين، انضم إلى حركة التحرير الإسلامي، وكان عضوًا نشطًا في صفوفها، يلقي الدروس والمحاضرات في مواجهة المد الفكري الشيوعي آنذاك، مما يجعله من الجيل المؤسس للحركة الإسلامية السودانية. هذا المزج المبكر بين النشاط الدعوي والعمق الفلسفي شكّل ملامح مشروعه الفكري فيما بعد. مسيرة أكاديمية عابرة للقارات بدأ البروفيسور جعفر شيخ إدريس مسيرته في التدريس الجامعي أواخر الستينيات، متنقلا بين مؤسسات علمية مرموقة. عمل مدرسًا للفلسفة في جامعة الخرطوم بين عامي 1967 و1973، ثم انتقل إلى المملكة العربية السعودية حيث عمل أستاذًا بقسم الثقافة الإسلامية في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حاليًا)، قبل أن ينضم إلى هيئة التدريس في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. في جامعة الإمام، تقلّد عدة مناصب علمية، ودرّس مواد العقيدة الإسلامية والمذاهب المعاصرة، وأسهم في تأسيس مركز البحوث بالجامعة. تدرج في مسيرته حتى أصبح من أبرز أساتذتها، وأشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه. وقد تقاعد من العمل الأكاديمي الرسمي في جامعة الإمام عام 1997، بعد مسيرة حافلة امتدت 30 عامًا. ولم يقتصر عطاؤه على العالم العربي، بل امتد إلى الغرب، حيث تولى إدارة معهد العلوم الإسلامية والعربية في ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة، التابع لجامعة الإمام، وشغل منصب مدير قسم البحث العلمي ثم مستشارًا للمعهد في التسعينيات. وفي خطوة رائدة، أسس مع نخبة من العلماء الجامعة الأميركية المفتوحة في واشنطن عام 1995، وأصبح رئيس مجلسها التأسيسي، بهدف نشر المعرفة الإسلامية بأساليب التعليم عن بُعد. كما عمل مستشارًا للعديد من المراكز الإسلامية حول العالم، مما يعكس مكانته الدولية كمرجع فكري وتربوي. حوار العقل والإيمان امتاز البروفيسور جعفر شيخ إدريس ببصمة فكرية فريدة، تمثلت في قدرته الفائقة على الربط بين الفلسفة الغربية ومفاهيم العقيدة الإسلامية بلغة عقلانية سلسة. وقد ساعده على ذلك إتقانه التام للغتين العربية والإنجليزية، مما جعله قادرًا على مخاطبة العقول الغربية بمنطقها ولغتها دون التنازل عن ثوابت العقيدة. ركّز في طرحه الفكري على مركزية التوحيد وتنقية العقيدة من الشوائب، وعُرف بنقده الموضوعي والهادئ للتيارات الإلحادية والعقلانية المتطرفة، مؤمنًا بضرورة مواجهة موجات التغريب بالفكر العميق والحوار الرصين بدلًا من الشعارات. وأسهمت مقالاته وأبحاثه في ترشيد الخطاب الإسلامي، داعيا إلى تقديم الإسلام بصورة تتناسب مع العصر الحديث، مما أكسبه لقب "صوت العقل الإسلامي" لدى محبيه وتلاميذه. ترك البروفيسور جعفر شيخ إدريس إرثًا علميًّا كبيرًا من الكتب والبحوث التي أثرت في أجيال من المفكرين. وتميزت مؤلفاته بالإيجاز والتركيز على الأطر الفكرية العامة. من أبرز كتبه باللغة العربية: "الفيزياء ووجود الخالق"، "نظرات في منهج العمل الإسلامي"، و"الإسلام لعصرنا". وباللغة الإنجليزية، ألف كتبًا مهمة منها: (The Pillars of Faith) "أعمدة الإيمان"، و"Islamization: Its Philosophy & Methodology) "أسلمة المعرفة: فلسفتها ومنهجيتها". ويُعدّ من أوائل من كتبوا في موضوع "أسلمة العلوم" خلال السبعينيات، حيث قدم أوراقًا تأسيسية أصبحت مرجعًا لمن جاء بعده. وقد تتلمذ على يديه عدد كبير من الطلاب والباحثين الذين يحملون فكره اليوم في أنحاء العالم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store