logo
المعرفة في القرار السياسي

المعرفة في القرار السياسي

الاتحاد١٩-٠٣-٢٠٢٥

المعرفة في القرار السياسي
كانت الحرب مشروعة بين الدول حتى عام 1928، وكانت تُعد أداة من أدوات حلّ النزاعات، سواء حول الحدود أو المصالح. وكانت الدول تتعامل مع نتائج الحرب على أنها أمر واقع. فالحرب هي التي ترسم الحدود، وهي التي تحسم الجدل حول مَن هو على حق، ومَن هو على باطل، لكن في الوقت ذاته كانت الدول المتصارعة أو المتحاربة تحرّم المقاطعة، أو العقوبات الاقتصادية خاصة قبل نشوب الحروب.
مؤتمر صغير انبثقت عنه وثيقة سياسية جديدة أدى إلى تغيير الموقف رأساً على عقب. وتتجسد نتائج هذا المؤتمر في وثيقة تُعرف باسم وثيقة «كيلوغ-برياند»، وهما وزيرا خارجية الدولتين الكبيرتين في ذلك الوقت، الولايات المتحدة وبريطانيا.
ورغم إيمان دول العالم، خاصة الدول الكبرى، بأن معاهدة 1928 لن تمنع نشوب الحروب، فإن جميع دول العالم سارعت إلى إقرار المعاهدة الدولية الجديدة، واعتمادها أساساً من أسس سياساتها الخارجية.
بين عامي 1862 و1945 تبادلت فرنسا وألمانيا السيادة على منطقة الإلزاس أربع مرات. ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية ما تزال فرنسا (المنتصرة) تحتفظ بها كجزء منها، وهو أمر تتقبّله ألمانيا (المنهزمة) على مضض.. لكن إلى متى؟
تحيي فرنسا سنوياً ذكرى خمسمئة طفل من الألزاس قُتلوا في معسكرات النازية. وفي كل سنة يتحوّل إحياء الذكرى إلى تجديد حقّ فرنسا باستعادة المنطقة الأغنى بالمعادن في أوروبا، وتضطر ألمانيا إلى الصمت حتى لا يُفسَّر نفيُها لقصة الخمسمئة طفل على أنه دفاع عن النازية. وبعد الحرب العالمية الثانية اعتُمدت وثيقة كيلوغ-برياند أساساً لمحاكمة نورمبرغ التي تشكلت بعد الحرب لمحاكمة مجرمي النازية.
وكذلك، فإن معاهدة إنشاء الأمم المتحدة تضمّنت فقرات من هذه الوثيقة، منقولة عنها بالحرف، وبموجب هذه المعاهدة أيضاً، فإن التجسس بين الدول يُعد عملاً شرعياً، ولكن التدخل المباشر في الشؤون الداخلية للدول يُعتبر عملاً غير شرعي. أن تعرف فهذا حق وشطارة، ولكن أن تستخدم المعرفة للعدوان فذلك أمر آخر. فالعدوان مدان، أما المعرفة فحقّ. بمعنى أن التجسّس مشروع، لكن الآن في عصر التقنيات الإلكترونية المتطورة، فإن التجسس أصبح أداة من أدوات الحرب، إذ إنه يكشف عن نقاط ضعف الفريق الآخر التي يمكن التسلل عبرها ومن خلالها. وقد يكون على العكس من ذلك، أداة لردع العدوان إذا ما كشف عن عناصر قوة الآخر وإمكاناته. وخلال المرحلة الانتقالية من الاتحاد السوفييتي إلى الاتحاد الروسي، واجه الكرملين صعوبات مالية واقتصادية حتى إنه اضطر إلى التوقف عن دفع رواتب الموظفين. وأدّى ذلك إلى هبوط قيمة العملة (الروبل) إلى الدرك الأسفل. كان الكرملين بحاجة للمال، وفي الولايات المتحدة الكثير منه. وكان البيت الأبيض في واشنطن بحاجة لليورانيوم، وفي روسيا الكثير منه أيضاً. وهكذا أدت الحاجتان إلى تفاهم الخصمين اللدودين. حصل الكرملين على 15 مليار دولار، وحصل البيت الأبيض على 15 ألف طن من اليورانيوم. وهي كمية كانت كافية في ذلك الوقت لتزويد الولايات المتحدة بالطاقة لمدة عامين كاملين. لم تجرِ تفاصيل الصفقة بين وفدين عسكريين روسي وأميركي، ولكنها كانت ثمرة جهود أستاذ العلوم الفيزيائية في جامعة «أم.إي.تي» الدكتور «توماس نيف» مع زميل له من جامعة موسكو.
توافقت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (ومن بعده الاتحاد الروسي) على قبول مبدأ التجسس على الآخر، على أن تجري عملية التجسس بصورة علنية عبر طائرات استطلاع مزوّدة بأجهزة رصد عالية الدقة. مهمة هذه هذه الطائرات التحليق في فضاء الدولة الأخرى والتقاط الصور، حول مرابض الصواريخ العابرة للقارات، وللاطمئنان الذاتي بأن هذه الصواريخ ليست مهيأة للإطلاق. ومن شروط «حق التجسس» تزويد الدولة التي تجري عملية التجسّس عليها بنسخة عن الصور التي تلتقطها طائرات الاستطلاع. فالروس يتلقون المعلومات عن أوضاع صواريخهم من الطائرات الأميركية، وبالعكس.
لكن هذا الاتفاق الذي أدى اعتماده بين موسكو وواشنطن إلى تبريد صراعاتهما وإلى احتواء خلافاتهما، انهار منذ سنوات قليلة. وأدى انهياره إلى انقطاع المعرفة، وبالتالي إلى تضخم حجم الهواجس والمخاوف.. حتى وصلت إلى درجة التهديد المباشر باستخدام السلاح النووي في الحرب الأوكرانية.
كانت كل الدول الواقعة بين روسيا والولايات المتحدة تطّلع على الصور التي تلتقطها طائرات التجسس الأميركية أو الروسية لمجرد أن هذه الطائرات تحلّق في أجواء هذه الدول، وهي في طريقها إلى أهدافها. يعكس هذا التوافق روحية معاهدة «كيلوغ-برياند» التي صدرت في عام 1928. في ذلك الوقت لم يكن هناك سلاح نووي أو صاروخي عابر للقارات، ولم تكن هناك طائرات استطلاع ولا أجهزة إلكترونية تتسلل إلى أعماق المؤسسات العسكرية والسياسية، إلا أن المبدأ العام الذي أقرته وتبنّته دول العالم فيما بعد، وضع الأسس التي لا تزال صالحة من حيث المبدأ للتعامل مع المستجدات في الصراعات الدولية. فالمعرفة لا تشجع على العدوان دائماً. قد تكون المعرفة رادعة. ومن هنا أهمية تعريف الآخر، إما لطمأنته أو ردعه. وفي الحالتين يضطر إلى إعادة النظر في حساباته قبل أن يقدم على عمل ما.
وعلى السطح تبدو العلاقات بين دول العالم المختلفة منضبطة وخاضعة للقانون الدولي وتوازن القوى.. وفي العمق يبدو الوضع أشد تعقيداً وأعمق تداخلاً.. ومن هنا أهمية المعرفة في صناعة القرار السياسي.
*كاتب لبناني

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

«أونروا»: اقتحام إسرائيليين مقر الوكالة بالقدس انتهاك واستفزاز
«أونروا»: اقتحام إسرائيليين مقر الوكالة بالقدس انتهاك واستفزاز

الاتحاد

timeمنذ 27 دقائق

  • الاتحاد

«أونروا»: اقتحام إسرائيليين مقر الوكالة بالقدس انتهاك واستفزاز

رام الله (وكالات) دان مدير شؤون وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا» في الضفة الغربية، رولاند فريدريش، أمس، اقتحام إسرائيليين مقر الوكالة الأممية في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية، واعتبره «انتهاكاً واستفزازاً غير قانوني». وقال فريدريش في منشور على منصة إكس: «قرابة منتصف نهار أمس الأول، دخلت مجموعة من الإسرائيليين بقيادة عضو في الكنيست، برفقة وسائل إعلام إسرائيلية، دون تصريح، إلى مقر الأونروا في الشيخ جراح بالقدس الشرقية»، مضيفاً «‏يُمثل هذا الدخول غير المصرح به انتهاكاً آخر لالتزامات إسرائيل، كدولة عضو في الأمم المتحدة، بحماية منشآتها وتسهيل العمل الإنساني»، كما شدد على إدانة «الأونروا» لهذا الاستفزاز غير القانوني. ولفت إلى أن المقر تعرض خلال الأشهر الماضية لمضايقات شديدة عقب دخول القانونين الصادرين عن «الكنيست» ضد «الأونروا» حيز التنفيذ في يناير 2025، ما اضطر الوكالة الأممية إلى إخلاء مقرها وسحب موظفيها الدوليين احتجاجاً على ذلك، وفق قوله. في السياق، اقتحمت القوات الإسرائيلية، أمس، عدداً من مدن الضفة الغربية وداهمت محلات صرافة. وأفادت وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية «وفا» بـ «اقتحام قوات الاحتلال مدن جنين، ونابلس، وطوباس، وقلقيلية»، مشيرة إلى مداهمة عدد من محلات الصرافة.

كييف تضع شرطا للمفاوضات مع موسكو.. وترامب لا يريد «إفسادها»
كييف تضع شرطا للمفاوضات مع موسكو.. وترامب لا يريد «إفسادها»

العين الإخبارية

timeمنذ 2 ساعات

  • العين الإخبارية

كييف تضع شرطا للمفاوضات مع موسكو.. وترامب لا يريد «إفسادها»

تم تحديثه الخميس 2025/5/29 12:01 ص بتوقيت أبوظبي حددت أوكرانيا شرطا للمشاركة في مفاوضات اقترحتها روسيا، في وقت أبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ترددا في فرض عقوبات على موسكو. وأبدت أوكرانيا الأربعاء استعدادها لإجراء جولة جديدة من المفاوضات المباشرة مع روسيا، ولكنّها طالبت بأن تقدّم موسكو شروطها للسلام مسبقا لضمان أن يسفر اللقاء عن نتائج. وقال وزير الدفاع الأوكراني رستم عمروف، في منشور على منصة إكس: "نحن لا نعارض عقد اجتماعات أخرى مع الروس، وننتظر مذكرتهم"، مضيفا "أمام الجانب الروسي أربعة أيام على الأقل لتزويدنا بوثيقته لمراجعتها". وكان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف قال اليوم الأربعاء إن روسيا اقترحت عقد الجولة القادمة من المحادثات المباشرة مع أوكرانيا في إسطنبول في الثاني من يونيو/حزيران المقبل بهدف التوصل إلى تسوية سلمية دائمة. ضغوط واشنطن وبضغط من الرئيس ترامب لإنهاء الصراع الأكثر دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، التقى مندوبون من البلدين المتحاربين في وقت سابق هذا الشهر في إسطنبول للمرة الأولى منذ مارس/آذار 2022، أي بعد شهر من إرسال روسيا قوات إلى جارتها. وفشلت المحادثات التي أجريت في 16 مايو في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار سعت إليه كييف وحلفاؤها الغربيون. وقالت موسكو إنه يجب توفر شروط محددة قبل تحقيق هذه الخطوة. عرض روسيا وقال لافروف في بيان "نأمل أن يدعم كل من يهتم بصدق، وليس فقط بالكلام، بنجاح عملية السلام، عقد جولة جديدة من المفاوضات الروسية الأوكرانية المباشرة في إسطنبول". وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد اتصال هاتفي مع ترامب في 19 مايو إن موسكو مستعدة للعمل مع أوكرانيا على مذكرة حول اتفاق سلام مستقبلي. وفي وقت سابق من اليوم الأربعاء، ذكر فلاديمير ميدينسكي، رئيس وفد روسيا في محادثات السلام بشأن أوكرانيا على تطبيق "تليغرام"، أنه اتصل بوزير الدفاع الأوكراني رستم أوميروف وقدم له مقترحات بشأن موعد الاجتماع المقبل ومكانه. وقال ميدينسكي "اسمحوا لي أن أؤكد: نحن مستعدون على الفور لبدء مناقشة جوهرية وموضوعية لكل نقطة من نقاط اتفاق الحزمة بشأن وقف إطلاق النار المحتمل". وأضاف أنه يتوقع ردا من أوكرانيا. وقال وزير الدفاع الأوكراني إن بلاده سلمت بالفعل نسختها من مذكرة السلام إلى الوفد الروسي وتحث موسكو على تسليم نسختها دون تأخير. وقالت وزارة الخارجية الروسية إن لافروف تحدث إلى وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو اليوم الأربعاء حول إعداد "مقترحات ملموسة" لجولة جديدة من المحادثات المباشرة مع كييف. تردد ترامب من جانبه، عبر الرئيس الأمريكي عن تردده بشأن فرض عقوبات جديدة على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا، قائلا إنه لا يريد أن تتعارض العقوبات مع التوصل إلى وقف إطلاق النار. وفي حديثه مع الصحفيين في المكتب البيضاوي، ذكر ترامب حول العقوبات "إذا كنت أعتقد أنني على وشك التوصل إلى اتفاق، فأنا لا أريد إفساد الأمر بفعل ذلك". وأضاف ترامب اليوم أيضا إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ربما تعمد تأخير المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار، وعبر عن خيبة أمله بسبب القصف الروسي. وتابع "سنكتشف ما إذا كان يتلاعب بنا أم لا؟، وإذا كان يفعل ذلك، فسنرد بشكل مختلف قليلا". aXA6IDgyLjI0LjIxOC45MyA= جزيرة ام اند امز GB

«النفوذ التكنولوجي»..كيف أفل أميركياً؟
«النفوذ التكنولوجي»..كيف أفل أميركياً؟

الاتحاد

timeمنذ 2 ساعات

  • الاتحاد

«النفوذ التكنولوجي»..كيف أفل أميركياً؟

«النفوذ التكنولوجي»..كيف أفل أميركياً؟ بالنسبة للمثقفين من نمط فكري معين، لا يوجد ما هو أكثر إثارة من لعبة اكتشاف القوة «الحقيقية» وراء السلطة. من يُحرّك الخيوط؟ أي مصالح طبقية يخدمها النظام؟ من هو «المتحكم الفعلي»؟ مثل هذه الأسئلة تُلهم نقاشات متعمقة، ونظريات مؤامرة. حتى الآن، كان الهدف المفضل في إدارة ترامب هو صناعة التكنولوجيا. يتحدث «إيان بريمر»، رئيس مجموعة أوراسيا للاستشارات السياسية، عن «اللحظة التكنولوجية أحادية القطب» و«الاندماج المخيف بين قوة التكنولوجيا وقوة الدولة». ويأسف «ستيف بانون»، المستشار السابق لترامب، لتأثير «التكنولوجيين الإقطاعيين العالميين المصممين على تحويل الأميركيين إلى أقنان رقميين». أما الجلسة الافتتاحية لمؤتمر معهد أسبن إيطاليا حول مستقبل الرأسمالية، الذي عُقد في ميلانو في 16 مايو، فقد تناولت موضوع «رأسمالية التكنولوجيا: العصر الذهبي الجديد لأميركا». (التكنولوجيا الإقطاعية هو مصطلح يصف نظاماً اقتصادياً وسياسياً جديداً، حيث تتصرف شركات التكنولوجيا القوية، مثل جوجل وأمازون، مثل اللوردات الإقطاعيين، وتتحكم في الوصول إلى «الأرض الرقمية» (الحوسبة، والبيانات الضخمة، والمنصات) وتستخرج القيمة من المستخدمين، على غرار الطريقة التي استخرج بها اللوردات الإقطاعيون القيمة من الأقنان في العصور الوسطى. من السهل إدراك جاذبية هذه الحجة. تمارس صناعة التكنولوجيا الأميركية نفوذاً استثنائياً على الاقتصاد الأميركي: تُمثل الشركات السبعة الكبرى ما يقارب ثلث قيمة مؤشر ستاندرد آند بورز 500. وقد ساهم رواد التكنولوجيا بسخاء في حملة إعادة انتخاب ترامب وحفل تنصيبه. حتى أن إيلون ماسك اكتسب لقب «الرئيس المشارك»، وهو يجول في المكتب البيضاوي. لكن كلما تعمقنا أكثر في تحليل «اللحظة التكنولوجية أحادية القطب»، كلما بدت أقرب إلى السراب. وربما أكثر ما يثير الدهشة في الصناعة التكنولوجية الأميركية، رغم هيمنتها الاقتصادية، هو افتقارها النسبي إلى النفوذ السياسي. يبدو أن ماسك لم يعد ضمن الدائرة المقربة لترامب رغم إنفاقه ما يقارب 300 مليون دولار لدعم إعادة انتخابه. كان بريقه السياسي قصيراً وغير مثمر. ولم تكن وزارة الكفاءة الحكومية (DOGE) سوى ضجيج بلا نتائج. أما وعده بخفض 2 تريليون دولار من الإنفاق الحكومي فقد تقلص إلى 150 مليار دولار، وربما يتقلص أكثر. وليس السبب في ذلك فقط أن المحاكم أبطلت حملة الإقالات التي شنّها ماسك، بل أيضاً لأن المشروع برمته كان سيء التخطيط: وكما اعترف «ماسك» نفسه، فإن الطريقة الوحيدة لتوفير مبالغ كبيرة هي عبر إصلاح نظام الاستحقاقات الاجتماعية – وهو أمر يتطلب سنوات من بناء التحالفات. وفشل «ماسك» أيضاً في إقناع ترامب بإلغاء التعريفات الجمركية. وحتى الآن، مغامرة «ماسك» السياسية الديمقراطية كلفته نحو ربع ثروته، بعد انهيار أسهم تسلا وتخلي جمهورها عنه. فلا عجب أن ماسك أعلن مؤخراً رغبته في التراجع والانسحاب، ما يعكس فشل قطاع التكنولوجيا بشكل أوسع في تحديد الأجندة الاقتصادية. إن اهتمام ترامب بالتعريفات يضر بطبيعة الحال بصناعة تعتمد على الإمداد العالمي. فكرت أمازون لفترة وجيزة في إدراج تكلفة الرسوم الجمركية ضمن تفاصيل الأسعار، قبل أن يتصل ترامب بالرئيس التنفيذي جيف بيزوس غاضباً. والأسوأ من الرسوم ذاتها هو تقلب ترامب المستمر في تعديلها، مما جعل من الصعب على الشركات التخطيط للمستقبل. كما أن سياساته المعادية للهجرة تعرقل قدرة الشركات على توظيف العمال المهرة الأجانب الذين تعتمد عليهم. وتشير الإحصاءات الحديثة إلى أن الولايات المتحدة لم تعد مستورداً صافياً للمواهب المتخصصة في الذكاء الاصطناعي.أما حرب ترامب على الجامعات – والتي تشمل تجميد أو إلغاء المنح، وتغيير صيغ التمويل – فإنها تهدد النظام الابتكاري الأميركي المزدهر. وقد تتصاعد هذه الحرب. فميزانية ترامب المقترحة لعام 2026 تتضمن خفض تمويل المعاهد الوطنية للصحة بنسبة تقارب 40%، ومؤسسة العلوم الوطنية بنسبة 57%. كما أن مقترحاته لفرض ضرائب على عائدات الوقف الجامعي بنسبة 14% أو 21%، أو إلغاء الإعفاء الضريبي لها، من شأنها أن تعيق محاولات الجامعات سد فجوة التمويل. تدين رئاسة ترامب أكثر للشعبوية منها لقوة التكنولوجيا. صحيح أن الشعبويين من أنصار ترامب يصفقون لماسك عندما يتحدث عن إدخال أجزاء من الحكومة في «ماكينة الفرم»، لكنهم لم ينسوا أنه حتى وقت قريب، كان العديد من رموز التكنولوجيا ليبراليين اجتماعياً وتبرعوا بسخاء للديمقراطيين، كما أنهم نقلوا الوظائف الأميركية إلى الخارج. كانت صناعة التكنولوجيا تتوقع أن يؤدي انتخاب ترامب إلى تفكيك منظومة مكافحة الاحتكار التي أطلقها جو بايدن. لكن العكس هو ما حدث: لجنة التجارة الفيدرالية لا تزال تتابع قضيتها ضد ميتا بسبب شرائها إنستجرام وواتساب لقمع المنافسة الناشئة، ووزارة العدل مصممة على إجبار جوجل على بيع متصفح كروم. وقد تم رفع هاتين القضيتين خلال ولاية ترامب الأولى، واستمرت في عهد بايدن، مما يشير إلى توافق متزايد ضد هيمنة شركات التكنولوجيا. بقدر ما يمتلك ترامب سياسة اقتصادية، فإنه يركز على إعادة التصنيع إلى الداخل أكثر من دعم التكنولوجيا. يريد ترامب إعادة التصنيع لأنه يخدم العمال ذوي الياقات الزرقاء الذين يعتقد أنهم جعلوا أميركا عظيمة، وأيضاً لأن أميركا تحتاج إلى تصنيع المزيد لمواجهة منافستها الصينية. عموماً، لم يفتح كبار التنفيذيين في قطاع التكنولوجيا جيوبهم لترامب لأنهم يشاركونه رؤيته، بل لأنهم أدركوا أن «الديمقراطيين» يسيرون نحو الهزيمة بقيادة بايدن، وكانوا يخشون من أن ينقلب ترامب ضدهم. إذا كان لترامب قاعدة طبقية، وفقاً للمصطلحات الماركسية القديمة، فهي في الشركات العائلية أكثر من عمالقة التكنولوجيا في الساحل الغربي. بيئته الطبيعية هي بين رجال الأعمال الذين ورثوا شركاتهم، والذين يعملون في العقارات والصناعات الاستخراجية. لكن حتى ارتباط ترامب برجال الأعمال التقليديين محدود. فالأمر الأهم لفهم رئاسة ترامب هو أنه لا يمثل مصالح أي قوة اقتصادية، بل يمثل مصالحه الشخصية. والمثير للقلق بشأن رئاسته ليس أن هناك قوى اقتصادية مظلمة تسحب الخيوط من وراء الكواليس، بل إن رجل الأعمال الذي يسحب الخيوط (ويحصد الغنائم) هو ترامب نفسه. *كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية العالمية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنج آند سينديكيشن»

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store