
جيل دولوز مائة عام على ولادته
في الرابع عشر من شهر نوفمبر 1995، ألقى الفيلسوفُ الفرنسي الكبير جيل دولوز نفسَه من نافذة شقته الكائنة في الدائرة السابعة عشرة في باريس، مُنْهيًا بذلك عذابَ سنواتٍ طويلة من المرض. وكان آنذاك في السبعين من عمره. وقد علق جاك دريدا على ذلك الانتحار الفاجع بالقول: «جيل دولوز مُفكر بالدرجة الأولى. مفكر الحَدَث. ودائمًا هذا الحدث. وقد ظل ثابتًا في موقفه هذا من البداية وحتى النهاية (...) منذ البداية لم تكُن كتبه بالنسبة إليَّ تحريضًا قويًا على التفكير فقط، وإنما كانت أيضًا دالة على تقارُبِ تَجاربنا».
أما فرانسوا رينو فقد قال: «الفيلسوف الكبير هو الذي يُقنع قراءه والمُستمعين إليه بأن يعيشوا مُستقبلًا حياةً فلسفية. وجيل دولوز يُقْنعهم بذلك. وليس مُهمًا أن يتوصل جميعهم إلى هذه النتيجة. يكفي أن يتلمسَ الذين يقرؤونه، أو يستمعون إليه أن الحياة مفتوحة بالنسبة إليهم». نحن قراء نيتشه
وُلد جيل دولوز في باريس في الثامن من يناير 1925. وفي فترة شبابه، وهو يدرسُ الفلسفة في جامعة السربون، تعرف إلى كتاب وفلاسفة سيكون لهم تأثير على مساره الفكري، والفلسفي. من بين هؤلاء يمكن أن نذكر جان هيبولت، وميشال بيتور، وميشال تورنييه، وفرانسوا شاتليه الذي سيخصص له فيما بعد كتابًا يعرف بفلسفته العقلانية، والتي علق عليها فرانسوا إيفالد قائلًا: «يقول فرانسوا شاتليه إنه عقلاني. والعقل عنده ضرورة قَبل كل شيء: مرورًا من القوة إلى الفعل الذي يَمنع الفوضى، ويُبعد شبحَ اليأس، ويَسمح بعلاقاتٍ إنسانية لا تَترك أحدًا ضحيةً للسلبية، لكنها تَسمح له بأن يُجدد قوَتَهُ. لهذا السبب في العلاقة مع الآخر، يكون العقلُ لياقةً وطيبة. لياقة لأنه شرط المساواة الحقيقية مع الآخرين، وطيبة لأنه يمتلك القدرة التي تساعد الإنسان على للخروج من نَفَقِ اليأس، ويَهِبه فرصةَ تجديد القوة التي فيه».
وفي مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، عمل جيل دولوز أستاذًا للفلسفة في المعاهد الثانوية، ثم أستاذًا مساعدًا في جامعة «السربون»، ثم باحثًا في «مركز البحوث والدراسات الاجتماعية» الذي ظل فيه حتى العام 1964. وفي العام 1962، تعرف إلى ميشال فوكو الذي قال عنه بعدما أصدر مؤلفَيْه «الاختلاف والتكرار» و«منطق المعنى»، ما مفاده أن القرن العشرين سيكون «قرنًا ديولوزيا» (نسبة إلى دولوز). وانطلاقًا من الستينيات من القرن الماضي، لَمَعَ اسم دولوز في مجال الفلسفة، وذلك بعدما أصدر كتابًا عن نيتشه مُثيرًا للجَدل، وفيه كتبَ: «نحن قراء نيتشه، علينا أن نتجنب أربعة تفاسير خاطئة مُحتمَلة:
1: حول إرادة القوة (الاعتقاد بأن إرادة القوة تعني «الرغبة في الهَيْمَنة»، أو «الرغبة في القوة»).
2: حول الضعفاء والأقوياء (الاعتقاد بأن الأكثر «قوة» في نظام اجتماعي هُم «أقوياء» بالضرورة).
3: بشأن العود الأبدي (الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بفكرة قديمة، مستعارة من قدماء اليونانيين، ومن الهنود، ومن البابليين؛ الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بدَورة، أو بعودة «الشيء ذاته»).
4: بشأن الأعمال الأخيرة (الاعتقاد بأن تلك الأعمال مُبالغٌ فيها، أو هي مجردة من القيمة بسبب الجنون). في العام 1969، تعرف جيل دولوز إلى فيليكس غيتاري، ومعًا سيعملان على مدى سنواتٍ طويلة. وعن ذلك علق قائلًا: «فيليكس غيتاري وأنا لم نتعاون مثلما يتعاون شخصان. كنا بالأحرى مثل جدولَيْن يلتقيان ليكونا معًا جدولًا ثالثًا الذي هو نحن!».
وظيفة الفلسفة
مع فيليكس غيتاري، أنجز دولوز العديد من الأبحاث، ومعه ألف كُتبًا مُهمة مثل «نقيض أوديب» الذي يرى ميشال فوكو أنه يقاوم تهديداتٍ خطيرة على مستوى الفكر. وتتمثل هذه التهديدات في نساك السياسة، وفي المُناضلين المُقطبين والكئيبين، وفي إرهابيي النظريات، الذين يريدون المحافظة على النظام الصرف للسياسة، وللخطاب السياسي وبيروقراطيي الثورة، وموظفي الحقيقة.
كما تتمثل التهديدات في تقنيي الرغبة المُثيرين للشفقة، أي عُلماء النفس، وعُلماء السيميولوجيا الذين يسجلون كل إشارة، وكل ظاهرة مَرَضية، والذين يريدون أن يُقلصوا التنظيمَ المتعدد بهدف إخضاعه للقانون الثنائي للتركيبة، ولِما هو ناقص أو مُنعدم.
وأما العدو الثالث الأساسي والإستراتيجي فهو الفاشية. لكن ليست فاشية موسوليني أو هتلر وحدهما، والتي عَرفت كيف تَحشد الجماهير، وكيف تَستغل رغباتها الظاهرة والمخفية، وإنما الفاشية الكامنة فينا جميعًا، والتي تدهم فكرنا وسلوكياتنا اليومية. الفاشية التي تجعلنا نحب السلطة، ونرغب في الشيء ذاته الذي يُهيمن علينا، ويستغلنا».
في العام 1977، أصدر جيل دولوز كتابًا آخر عن سبينوزا؛ وقد علق عليه بالقول: «حول سبينوزا عملتُ بجدية بحسب مُقتضيات تاريخ الفلسفة. غير أنه هو الذي جَعلني أشعر كما لو أن هناك تيارًا هوائيًا يَدفع هذا أو ذاك من الذين يقرؤون كتابًا من كُتبه من الخَلف بمكنسة سحرية، ثم يُجبره على امتطائها. ما أظن أننا شرعنا في فهْم سبينوزا، وأنا لستُ أكثر من الآخرين في هذا المجال». ويُعرف جيل دولوز سبينوزا على النحو التالي: «بإمكان الفيلسوف أن يقيم في دولٍ متعددة بحسب طريقة ناسك متوحد، أو شبح، أو عابر سبيل، أو مؤجر في فنادق صغيرة مؤثثة. لذا علينا ألا نتخيل سبينوزا قاطعًا الصلة بالوسط اليهودي المُغلق افتراضيًا ليَنتسب إلى الأوساط الليبرالية المُتفتحة افتراضيًا (...) ذلك أنه أينما حل، وأينما ذهب، هو لا يُطالب، ودائمًا بقدرٍ معين من الحظ في الحصول على ما يريد، بأن يتم التعامل معه، ومع أهدافه ورغباته المُخالِفة للمألوف بشيءٍ من التسامح. وهو يَحكم على هذا التسامح انطلاقًا من درجة الديمقراطية، ومن درجة الحقيقة التي يُمكن لهذا المُجتمع أو ذاك أن يتحملها، أو عكس ذلك، انطلاقًا من الخطر كما الذي يُهدد الإنسانية جمعاء».
كما خصَّص دولوز كتابًا لغوتفريد لايبنتز، ولديفيد هيوم. وهدفه من ذلك تقديم إيضاحاتٍ وقراءاتٍ جديدة ومعمقة للفلاسفة الذين أثروا في الفكر الإنساني في فتراتٍ مُختلفة من التاريخ. ومُقدمًا تفسيره الخاص للفلسفة، قال دولوز في أحد الحوارت التي أُجريت معه: «الفلسفة تَعني دائمًا استكشاف مفاهيم جديدة. وأنا لم أشعر أبدًا بأي نوعٍ من القلق بخصوص تجاوُز الميتافيزيقا، وموت الفلسفة. وأعتقد أن للفلسفة وظيفةً تظل دائمًا فاعلة في الحاضر. وهي تتمثل في ابتداع مفاهيم. ولا أحد يُمكنه أن يقوم بذلك مكانها». ويُواصل دولوز تعريفه للفلسفة قائلًا: «الفلسفة ليست إبلاغية، وتأملية، ولا استبطانية، وإنما هي خلاقة، بل ثورية بطبيعتها لأنها لا تنقطع أبدًا عن ابتكار مفاهيم جديدة (...) المفهوم هو الذي يَمنع الفكرة من أن تكون مجرد رأي، ونقاش، وثرثرة...».
وقَبل وفاته بعامَيْن، تحاورَ جيل دولوز مع ديديه إيريبون حول قضايا فلسفية، وأيضًا حول بعض الشخصيات الفكرية. وفي ذلك الحوار تحدث عن الكتابة قائلًا: «أنا لا أكتب ضد شخص، أو ضد شيء ما. بالنسبة إلي، الكتابة حركة إيجابية مطلقًا، أي أنها تهتم بما نحن نعشقه، ولا تحاول أن تُحارب ما نحن نكرهه. الكتابة الحقيقية هي تلك التي تَضع الوشاية في أسفل مستويات الكتابة وأحقرها. صحيح أن الكتابة تنطوي على أن هناك شيئًا ما ليس على ما يرام في المسألة التي نرغب بمعالجتها، وأننا لسنا راضين. باستطاعتي في مثل هذه الحالة أن أقول: أنا أكتب ضد الفكرة الجاهزة. ونحن نكتب دائمًا وأبدًا ضد الأفكار الجاهزة».
سارتر الذي أبهرَ جيلي
وتحدث جيل دولوز عن سارتر قائلًا: «كان سارتر كل شيء بالنسبة إلي. وهو يختص بشيءٍ استثنائي خلال فترة الاحتلال النازي لباريس، كان موقف سارتر طريقةً للعيش في المجال الفكري. والذين لاموه على أنه سمحَ للمُخرجين بإخراج المسرحيات التي كتبها في تلك الفترة، لم يقرؤوا تلك المسرحيات. مسرحية «الذباب» مثلًا تُشبه موسيقى جوزيي فيردي التي كانت تُعزف أمام النمساويين. كان الإيطاليون حين يسمعونها يصيحون: «برافو» لأنهم يدركون جيدًا أنها تُعبر عن موقف مُقاوَمة. وكان ذلك مُنسجمًا مع وضعية سارتر. وكان كتاب «الوجود والعدم» بمثابة القنبلة بالنسبة إليَّ. ليس لأنه مثل مسرحية «الذباب» التي تُعبر بشكلٍ مباشر تقريبًا عن فعل المُقاومة، بل لأنه كان مُبهرًا، وجذابًا. لقد كان كتابًا ضخمًا، متضمنًا أفكارًا جديدة... ويا لهول الصدمة!... قرأتُ «الوجود والعدم» حال صدوره. أتذكر أنني ذهبت مع ميشال ترونييه لشرائه، ثم قمنا بالتهامه للتو. أَبهر سارتر كل أبناء جيلي. كان يَكتب روايات ومسرحيات. الجميع كانوا يقلدونه، وكثيرون كانوا يغارون منه. أما أنا فقد كنتُ شديد الانبهار به. وأعتقد أنه يمتلك شيئًا جديدًا لا يُمكن أن يفعل فيه الزمن... إنه جديد دائمًا وأبدًا».
وتحدث دولوز في الحوار المذكور عن ثورة ربيع 1968 الطلابية على النحو الآتي: «كانت تلك الفترة غنية جدًا بالنسبة إليَّ. وإذا ما أنا تناولتُ حياتي بالدرس، فإنه باستطاعتي أن أقول إن هناك فترة فقيرة جدًا، ألا وهي فترة الحرب العالمية الثانية. وعقب انتهاء تلك الحرب، حدثَ انفجارٌ هائل على المستوى الثقافي والأدبي. ثم كانت هناك صحراء سنوات الخمسين... ثم من جديد، جاءت فترة قوية تمثلت بمرحلة الستينيات (موجة السينما الجديدة، والرواية الجديدة..). أما في الفلسفة فقد كان هناك ميشال فوكو، ولاكان. خلال تلك الفترة حدثت حركةٌ هائلة على مستوياتٍ متعددة...
أما اليوم فقد عُدنا إلى الصحراء مرةً أخرى... غير أن هذا لا يتفاعل مع اتجاهٍ واحد. لذا علينا أن نُميز بين حالتَيْن. فبخصوص أولئك الذين أَنجزوا جزءًا كبيرًا من عملهم، يُمكن القول إنه ليست هناك مشكلة بالنسبة إليهم؛ إذ إنه بإمكانهم أن يُواصلوا الكتابة، وأن يتجاوزوا الصحراء.
أما بالنسبة إلى مَن هُم أقل سنًا، فإن الأمر لا يعدو أن يكون كارثةً حقيقية. فالولادة والوصول أمران صعبان في زمن الأزمات، والفراغ».
لم يمُت ماركس
أما عن ماركس فقال دولوز: «لم أنتسب البتة إلى الحزب الشيوعي، ولم أكُن ماركسيًا قط قَبل سنوات الستين. وما منعني من أن أكون ماركسيًا هو ما كان يقوم به الشيوعيون تجاه مثقفيهم، ثم علي أن أضيف أنني لم أكُن ماركسيًا، لأنني في الحقيقة لم أكُن أعرف ماركس في تلك الفترة. وقد قرأتُ ماركس في الفترة التي قرأتُ فيها نيتشه. وقد وجدته عبقريًا. وأعتقد أن المفاهيم التي ابتَكرها ماركس لا تزال حية ومناسبة. في كتاباته هناك نقدٌ جذري. وثمة كُتب لم أبدُ فيها متأثرًا بماركس كثيرًا. واليوم بإمكاني الاعتراف بأنني ماركسي تمامًا (...) وأنا لا أفهم أولئك الذين يقولون إنه مات. ثمة أعمال يتحتم القيام بها الآن: علينا أن نُحلل وضْع السوق العالمية وتحولاتها. وإذا ما نحن سَعَيْنا إلى القيام بمثل هذا العمل، فإنه يتوجب علينا عندئذ أن نرتكز على ماركس بالأساس».
*كاتب وروائي من تونس
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
١١-٠٥-٢٠٢٥
- الشرق الأوسط
جامعات أميركية في أزمة بسبب ضغوط إدارة ترمب
تخشى بيليانا، وهي طالبة أجنبية في جامعة كولومبيا، من أن تلاقي مصير مئات من أقرانها أوقفتهم سلطات الهجرة الأميركية أو ألغت تأشيراتهم على خلفية مشاركتهم في نشاطات داعمة للفلسطينيين على خلفية الحرب في غزة. تسود أجواء مشحونة حرم جامعة كولومبيا مع اقتراب نهاية الفصل الدراسي، في ظل اتهامات البيت الأبيض للجامعة المرموقة، وغيرها من جامعات «آيفي ليغ»، بمعاداة السامية واعتناق آيديولوجيات «ليبرالية متطرفة»، بينما يسعى أساتذة الجامعة جاهدين لإنقاذ تمويل أبحاثهم. ووفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، تم تهديد مئات من الطلاب الأجانب على مستوى البلاد بإلغاء تأشيراتهم، بينما استُهدف آخرون، وتعرَّض بعضهم للاعتقال، بمَن في ذلك في جامعة كولومبيا؛ بسبب مشاركتهم في احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين، أو حتى مخالفات مرورية بسيطة. قالت بيليانا، وهي طالبة قانون تبلغ 29 عاماً، إنها تشعر برعب شديد، لدرجة أنها طلبت عدم الكشف عن اسمها الحقيقي أو بلدها الأصلي في أميركا اللاتينية، وأضافت: «الوضع مرعب حقاً. تشعر كأنك لا تستطيع قول أي شيء أو مشاركة أي شيء». وتابعت: «لم نعد أنا وأصدقائي ننشر شيئاً على (إكس)، وكثير منا حذفوا منشوراتهم القديمة خوفاً من تجاوز خط أحمر غير مرئي». وأضافت أنها وزملاءها يحاولون فقط «حضور صفوفنا كأي يوم عادي». مع اقتراب الامتحانات النهائية الأسبوع الماضي، اعتُقل 80 متظاهراً مؤيداً للفلسطينيين بعد محاولتهم احتلال المكتبة الرئيسية. وسارعت الرئيسة المؤقتة للجامعة إلى إدانة هذه الاحتجاجات. أكدت بيليانا أنها حرصت على الابتعاد تماماً عن مثل هذه المظاهرات، خوفاً من أن تظهر في صورة، ويتم ربطها بالحدث زوراً. من جهته، قال وزير الخارجية ماركو روبيو، إن السلطات تراجع أوضاع التأشيرات الخاصة بـ«المخربين» المشاركين، مضيفاً أن «بلطجية (حماس) لم يعودوا موضع ترحيب في أمتنا العظيمة». وبسبب الاضطرابات، أغلقت جامعة كولومبيا أبوابها أمام العامة، على الرغم من أنها عادة ما تستقطب الآلاف إلى حرمها في مانهاتن. اتهمت إدارة ترمب الجامعة بالسماح بانتشار معاداة السامية، وهو اتهام تنفيه كولومبيا بشكل قاطع؛ وعلى أثر هذا الاتهام، قامت الإدارة بقطع نحو 400 مليون دولار من التمويل الفيدرالي المخصص للجامعة. أما جامعة هارفرد، فقد واجهت الإدارة بتحدٍّ، ورفعت دعوى قضائية لوقف تجميد منح بقيمة مليارَي دولار. وقالت أستاذة الطب النفسي، ريبيكا موليه، إن منحتها لمشروع بحثي حول التوحد «لم تُلغَ، لكنها لم تُموّل أيضاً. إنها في حالة جمود». وأضافت: «هناك كثير من المنح في هذا الوضع. إنها حالة فوضى، ولا يمكنك إجراء بحث علمي جيد وسط الفوضى». قال البروفسور ماثيو كونلي، المتخصص في سياسات السرية الحكومية ورفع السرية، إن الصندوق الوطني للعلوم الإنسانية ألغى تمويل منحتين دون تقديم «سبب حقيقي». وأوضح أن المنحتين كانتا تهدفان إلى تدريب الباحثين على تحليل وحفظ السجلات التاريخية، خصوصاً الرقمية منها، واصفاً ذلك بأنه «أحد التحديات الكبرى التي تواجه الباحثين». ويرى رئيس اتحاد الطلاب، وولف، أن الأمر أكبر من ذلك، وأن «هذا ليس هجوماً (عابراً) على كولومبيا فحسب، بل هو مشهد أول لهجوم أوسع على المجتمع المدني».


Independent عربية
٢٩-٠٤-٢٠٢٥
- Independent عربية
بعد 100 يوم على حكم ترمب... 8 وعود انتخابية لم تتحقق
على عكس الرؤساء الأميركيين السابقين الذين حرصوا على أداء هادئ لقضاء شهر عسل مع جمهور أكثر استعداداً لرؤيتهم في صورة إيجابية، عمل دونالد ترمب بوتيرة مذهلة، ونفذ خلال 100 يوم وعده الذي أطلقه في خطاب تنصيبه الثاني بموجة كاسحة من التغييرات اجتاحت أميركا والعالم. ومع ذلك خالف بصورة جوهرية كثيراً من التعهدات التي قطعها خلال حملته الانتخابية، ولم يتمكن من إظهار نفوذه في السياسة الخارجية، إذ تعثرت جهوده من أجل السلام في أوكرانيا، وأعطى الضوء الأخضر لإسرائيل لاستئناف قصف غزة بعنف أكبر بعدما نجح في وقف القتال مرحلياً، وشرع في حرب تجارية عالمية وبخاصة مع الصين، ثم بدا متراجعاً معها، مما أدى إلى تراجع شعبيته بسرعة، فلماذا وصفت سياسات ترمب بالفوضى وكسر القواعد؟ وهل تعكس مبادئ السياسة الواقعية أم نتيجة لصراعات الجمهوريين حول السياسة الخارجية؟ 100 يوم تاريخية على رغم أن الأيام الـ100 الأولى لأي رئيس لا تتجاوز سوى سبعة في المئة من إجمال 1461 يوماً في دورة رئاسية واحدة، فإنها تشكل علامة إرشادية مهمة لما ستكون عليه هذه الرئاسة خلال بقية أيامها. لكن نهج ترمب المتسرع وكسر القواعد الذي حظي باهتمام كبير في فترة وجيزة، أحدثا تحولاً جذرياً يتجاوز بكثير التغييرات النمطية التي تحدث كل أربعة أو ثمانية أعوام، بل وأكبر حتى مما فعله ترمب نفسه عام 2017 عندما تولى منصبه للمرة الأولى، فقد غير بصورة جذرية كيفية عمل الاقتصاد الأميركي وكيفية إدارة الدبلوماسية العالمية وكيفية إنفاذ قوانين الهجرة، وأعاد تشكيل البيروقراطية الفيدرالية، وتجاوز حدود السلطة الرئاسية، وشن حرباً على النظام القضائي. أداة ترمب لتحقيق ذلك تمثلت في 142 أمراً تنفيذياً تقترب مما فعله جو بايدن على مدى أربعة أعوام، لكنه لم يوقع سوى تشريع واحد وافق عليه الكونغرس واستضاف 14 زعيماً أجنبياً وألقى أطول خطاب أمام الكونغرس في التاريخ الحديث وتحدث إلى الصحافيين يومياً تقريباً، فضلاً عن عشرات المنشورات التي حدد من خلالها سياساته عبر منصته "تروث سوشيال". وفي حين أن بعض خططه أدت إلى تغييرات بالفعل، إلا أن كثيراً منها لم يتحقق بعد، إذ وجد تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" يتتبع 31 وعداً انتخابياً رئيساً، أن ثمانية منها لم تتحقق، وأن خمسة منها تواجه عقبات، في ظل ما يصفه بعض المراقبين بفوضوية شاملة ووتيرة سريعة من القرارات المثيرة للجدل لم يظهرها أي رئيس خلال الأيام الـ100 الأولى لحكمه منذ فرانكلين روزفلت عام 1933، كما تشير أستاذة التاريخ في جامعة ولاية مونتانا والرئيسة السابقة لمركز دراسات الرئاسة جوان هوف. ويبدو أن هذا الاضطراب وما صاحبه من نكث للعهود وبخاصة ما يتعلق بالتضخم والاقتصاد، هو السبب في ما يعانيه ترمب من انخفاض تاريخي في شعبيته، إذ أظهرت ثلاثة استطلاعات رأي خلال الأيام القليلة الماضية، أن نسبة تأييد سياسات ترمب بلغت 39 في المئة وفقاً لـ"إبسوس" و"واشنطن بوست" وشبكة "أي بي سي"، و41 في المئة وفقاً لشبكة "سي أن أن"، و45 في المئة وفقاً لشبكة "فوكس نيوز" وهذه النسبة أقل من نسبة بايدن وباراك أوباما وجورج دبليو بوش في 100 يوم من ولايتهم، بل إنها أقل بنقطة واحدة من نسبة الموافقة على أداء ترمب في ولايته الأولى. نشر ترمب عشرات المنشورات حدد من خلالها سياساته عبر منصته "تروث سوشيال" (أ ف ب) عدم اهتمام بالسلام خلال حملته الانتخابية، كان الرئيس ترمب يصور نفسه كمرشح سلام. ففي خطاب تنصيبه، أعلن أنه يريد أن يكون صانع سلام ومع ذلك فإن سياسته الخارجية غير المنتظمة تقف في طريق السلام وتوسع الصراعات حول العالم، إذ أظهر ترمب عدم اهتمامه بصنع السلام، وأثبت أن وعوده بإنهاء الصراعات المميتة ليست أكثر من محاولات مكشوفة لتحقيق مكاسب في انتخابات 2024، سواء كان ذلك في أوكرانيا أو في غزة، إذ لم يتوصل حتى الآن إلى حل للحرب في أوكرانيا، وهو أمر قال إنه قادر على إنجازه خلال 24 ساعة من توليه منصبه، كذلك فشل في تثبيت الهدنة بين إسرائيل و"حماس" التي تمكن من إنجازها قبيل أيام من وصوله إلى البيت الأبيض. ويبدو أن ترمب انحاز إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، ويبدو أنه غير راغب في ممارسة الضغط على روسيا لالتزام وقف إطلاق النار، وفي الوقت نفسه يقوض حلف "الناتو" الذي حافظ على السلام لأكثر من مليار شخص في جميع أنحاء أوروبا وأميركا الشمالية لما يقارب قرناً، بحسب ما تقول مديرة الأمن القومي والسياسة الدولية في مركز التقدم الأميركي أليسون ماكمانوس. من أوكرانيا إلى غزة وإيران في غضون 100 يوم فحسب، أدارت إدارة ترمب ظهرها لحلفاء الولايات المتحدة وقوضت الأمن القومي، وعبر خطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن، انتقد نائب الرئيس جي دي فانس الحلفاء الأوروبيين في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة وأوروبا تهديداً من روسيا، بل إن فانس ضاعف مع ترمب من ضغوطهما عندما دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى واشنطن العاصمة، فقط لنصب ما بدا أنه مكمن من خلال تكرار ما يسرده الكرملين دائماً من أجل إجباره للتوقيع على تنازل عن الموارد الأوكرانية في صفقة معادن نادرة وغير متوازنة. وفي الشرق الأوسط، فشل الرئيس ترمب في فرض وقف إطلاق النار في غزة بين إسرائيل و"حماس"، حيث استأنفت إسرائيل عملياتها العسكرية الضخمة بمزيد من القنابل الأميركية زنة 2000 رطل التي حجبتها إدارة بايدن وأعاد ترمب تزويد الإسرائيليين بها، مما أسفر عن مقتل مزيد من المدنيين الفلسطينيين ومن دون تعزيز أمن الإسرائيليين أو الإفراج عن الرهائن لدى "حماس". كما هدد ترمب بشن ضربات عسكرية ضد إيران إذا لم توافق على اتفاق نووي، وعلى رغم بدء المحادثات بصورة مباشرة وغير مباشرة مع المسؤولين الإيرانيين، فمن غير الواضح ما إذا كان بإمكانهم التوصل إلى أي اتفاق بحلول الموعد النهائي الذي حدده ترمب وهو شهران، مما يثير قلقاً من أن فشل المحادثات قد يولد قدرة على خلق حوافز للانتشار النووي وإثارة شبح التصعيد الإقليمي، كما يقول خبير الأمن القومي والسياسة الدولية روبرت بنسون. إضعاف الولايات المتحدة وانعزالها عن حلفائها التقليديين يهددان بإعادة رسم خريطة التحالفات المستقبلية في العالم (أ ف ب) وضع أمني حرج كل هذه التحركات وضعت الولايات المتحدة في وضع أمني حرج، فقد أضعفت إجراءات إدارة ترمب التحالفات ذاتها التي توفر الردع ضد الخصوم، مما منح المنافسين ميزة استراتيجية وترك أميركا تقف وحيدة في مواجهة التهديدات العالمية المتزايدة. وبينما أظهرت إدارة ترمب نهجاً انعزالياً في بعض جوانب سياستها الخارجية، فقد انتظمت أيضاً في خطاب يفسره كثر بأنه إمبريالي من خلال التهديد بعمل عسكري في المكسيك ضد عصابات المخدرات، والدعوة إلى استعادة قناة بنما بالقوة العسكرية، فيما يواصل ترمب التحريض على ضم كندا وغرينلاند التابعة للدنمارك، وكلاهما حلفاء في "الناتو"، على غير رغبة شعبيهما. وعلى رغم أن هذا الخطاب ربما لا يكون أكثر من مجرد كلام خشن، فإن التصعيد وتكرار إثارة الموضوع وزيارة فانس إلى غرينلاند، كلها أسباب تلحق ضرراً حقيقياً بمكانة الولايات المتحدة العالمية، وتحول موارد الأمن القومي الثمينة بعيداً من التحديات الحقيقية، وتعرض أميركا لخطر سوء تقدير دبلوماسي قد يؤدي سريعاً إلى صراع. إضعاف الولايات المتحدة ومن الطبيعي أن يستنتج حلفاء الولايات المتحدة أن تهديدات ترمب بالانسحاب من حلف "الناتو"، ورفضه الالتزام بضمانات المادة الخامسة، وتباهيه بأنه لن يحمي أعضاء "الناتو" الذين لا ينفقون ما يكفي على الدفاع، لا تقوض الردع فحسب، بل تدعو خصوم الغرب إلى سوء التقدير في بيئة يشير فيها الغموض إلى الضعف، مما يزيد من خطر التصعيد الكارثي، بما في ذلك المواجهة النووية إذا افترضنا أن موسكو يمكن أن تسعى إلى التوغل داخل "الناتو". والدليل على مدى الانزعاج الأوروبي أن ألمانيا وبولندا تناقشان علناً إطاراً أوروبياً لتقاسم الأسلحة النووية، وتستكشف فرنسا وبريطانيا توسيع نطاق الردع النووي الخاص بهما لملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة. ويمتد هذا التباعد بين الحلفاء إلى شرق آسيا أيضاً، إذ يفقد شركاء الولايات المتحدة القدامى، مثل كوريا الجنوبية، ثقتهم في ضمانات واشنطن ويعيدون النظر بهدوء في الخيارات النووية التي كانت محرمة في السابق، حيث تجادل أصوات متزايدة الآن في سيول بأن كوريا الجنوبية يجب أن تسعى إلى امتلاك رادعها النووي الخاص في حال تراجع الحماية الأميركية، وهذا كله يعني إضعاف الولايات المتحدة وانعزالها عن حلفائها التقليديين مما يهدد بإعادة رسم خريطة التحالفات المستقبلية في العالم. تفكيك القيادة الأميركية أعاد نهج ترمب في السياسة الخارجية تشكيل هذا النظام الدولي بسرعة، مما أدى إلى تفكيك أسس القيادة الأميركية في العالم. فقد هدد عمداً حلفاء أميركا وشركاءها التجاريين، وجعل الولايات المتحدة أكثر عزلة على الساحة العالمية بعدما انتظم في حروب تجارية أدت إلى رفع الكلفة على المستهلك وانهيار الأسواق، وعرضت الشراكات الاقتصادية للخطر. وزاد الطين بلة، تفكيك برامج المساعدات الخارجية الأميركية التي تجسد القيادة الأميركية وتولد الاستقرار العالمي، بما في ذلك إغلاق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، كذلك انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاقات العالمية في شأن المناخ والصحة وحقوق الإنسان التي تجعل العالم مكاناً أكثر أماناً للجميع. وفي حين أن هذه الأفعال تؤثر بلا شك في ملايين الأشخاص في جميع أنحاء العالم، فقد كان لها بالفعل تأثيرات حقيقية في الداخل الأميركي، مما عرض أمن الأميركيين للخطر وسبب صراعاً اقتصادياً في غضون أسابيع قليلة. ألمانيا وبولندا تناقشان علناً إطاراً أوروبياً لتقاسم الأسلحة النووية (أ ف ب) عودة الواقعية السياسية وفيما تتباين الرؤى حول دوافع إحداث هذه التغييرات الجذرية، تبرز فكرة أن إدارة ترمب تسعى إلى عودة حازمة إلى السياسة الواقعية، التي تعطي الأولوية للصين ونصف الكرة الغربي على أوروبا والشرق الأوسط، ولهذا ينظر إلى علاقة الإدارة المضطربة مع حلفائها الأوروبيين على أنها جزء من تكرار محاولة الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون لإعادة التوازن في الالتزامات الاستراتيجية الأميركية بعد فترة من التجاوز. ووفقاً لهذا المنظور، لا تتخلى إدارة ترمب عن القيادة الأميركية لنظام دولي قائم على القواعد، بل تقر بأن مصالح الولايات المتحدة ستظل دائماً أهم من مثل ليبرالية غامضة كالديمقراطية أو حقوق الإنسان، وعلى سبيل المثال، يبدو الضغط الأميركي على الحلفاء لإنفاق مزيد على الدفاع، ومحاولة إخراج الولايات المتحدة من الحرب في أوكرانيا من خلال تسوية تفاوضية مع روسيا، سياستان فضلهما الواقعيون على الدوام. كذلك يبرز نموذج الواقعية السياسية الذي يتبعه ترمب، في استعداده لاستخدام أدوات الحكم كوسيلة ضغط على الخصوم والحلفاء بما يعكس نهجاً قائماً على الندية والتعامل بالمثل مع العالم، كذلك فإن التهديد بالرسوم الجمركية لإكراه كندا أو المكسيك أو الاتحاد الأوروبي على قضايا سياسية، ربما يكون أمراً إشكالياً على المدى الطويل، ولكنه قد يحقق مكاسب سريعة اليوم. حتى الاهتمام المفاجئ والظاهر للإدارة الأميركية بنصف الكرة الغربي يندرج ضمن هذا النموذج، فجولة وزير الخارجية ماركو روبيو في أميركا اللاتينية بعد فترة وجيزة من تنصيبه، ومخاوف الإدارة من الوجود الصيني في قناة بنما وما حولها، وحتى فكرة ضم غرينلاند التي تبدو غريبة، جميعها تستند إلى مبررات القوة الصلبة، في حين أن عدداً من كبار معاوني ترمب، بمن فيهم نائبه فانس، يتبنون بوضوح رؤية واقعية للعالم. غير أن هذا النموذج الواقعي السياسي يتعثر في مجالات أخرى، فهو لا يفسر السياسة الخارجية الأميركية تجاه إسرائيل، كما تقول كبيرة الباحثين في برنامج إعادة تصور الاستراتيجية الأميركية الكبرى في مركز "ستيمسون"، إيما أشفورد، ولا يفسر أيضاً بسهولة انهيار وكالات السياسة الخارجية، إذ تجاهلت الإدارة الأميركية إلى حد كبير المناشدات القائلة إن تدمير إذاعة "صوت أميركا" أو "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" سيخلق فراغاً ستملأه روسيا أو الصين، مع أنه يفترض أن إدارة تركز على منافسة القوى العظمى لن تسعى إلى تقويض أسس القوة الناعمة الأميركية. دوافع داخلية هناك نموذج ثان قد يفسر السياسة الخارجية لإدارة ترمب، وهو النموذج الذي تبرزه وسائل الإعلام ذات التوجه الديمقراطي وهو أن السياسة الخارجية مدفوعة في المقام الأول بأجندات محلية، أو أنها تهدف إلى زيادة ثراء الأغنياء كما يكرر السيناتور بيرني ساندرز، إذ يمكن تفسير تصرفات وزارة كفاءة الحكومة (دوج)، والعداء الواضح الذي تشعر به الإدارة الجديدة تجاه البيروقراطية الفيدرالية، على أنها استمرار لمحاولات الجمهوريين الطويلة الأمد لتقليص حجم الحكومة، وهو ما كان ولا يزال يحظى بشعبية لدى الناخبين والمانحين الجمهوريين. في الوقت نفسه تثير السياسة الاقتصادية الخارجية لإدارة ترمب قلق "وول ستريت" ومجتمع الأعمال لدرجة أن الأسواق في حال انهيار فعلي، وهناك غموض كبير حول الهدف من الرسوم الجمركية، وما إذا كانت تلك هي وسيلة ضغط لتحسين الصفقات التجارية مع آسيا، أم للحصول على تنازلات في مجال الهجرة أو سياسة المخدرات مع المكسيك وكندا، أم أنها استراتيجية شاملة لإضعاف الدولار وتعزيز إعادة التصنيع المحلي في أميركا؟ مع ذلك فإن هذا المنظور لا يفسر خيارات إدارة ترمب إلا قليلاً، فهو لا يفسر تركيز الإدارة المستمر على الشرق الأوسط، ولا استعدادها لمنح إسرائيل حرية مطلقة، إذ تشير حملة القمع المستمرة ضد المتظاهرين المؤيدين لفلسطين إلى علاقة عكسية بين السياسة الخارجية والداخلية، بمعنى أن تفضيل إسرائيل في صراعها بغزة يؤدي إلى قمع حرية التعبير داخل الولايات المتحدة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) سياسة خارجية جمهورية يقدم نموذج ثالث تفسيراً لسياسة ترمب الخارجية وهو رأي يسود بين الجمهوريين في الكونغرس، إلى جانب الدبلوماسيين المقيمين في واشنطن العاصمة، الذين يجادلون بأنه على غرار إدارة ترمب الأولى بين عامي 2016 و2020، ستفسح الفوضى التي سادت الأشهر الأولى المجال قريباً لإدارة جمهورية تقليدية في معظمها، تركز على أولويات السياسة الخارجية الجمهورية التي تعود إلى إدارة جورج دبليو بوش، والتي تؤكد السيادة والأحادية والقوة العسكرية المتشددة. ويجادل بعض المراقبين بأن هذه الإدارة تتجه نحو نوع من توليفة "ترمب - ريغان" التي تجعل الحزب أكثر انسجاماً مع تفضيلات ترمب، مع الحفاظ على معظم توجهات ريغان التقليدية في السياسة الخارجية. وعلى رغم الانحراف الجذري لترمب عن العقيدة الجمهورية في الأيام الـ100 الأولى، فإنه يمكن إلقاء اللوم فيها على شخصية ترمب، إذ يمكن تفسير الانفتاح على روسيا بتفضيلات ترمب الشخصية للتفاوض شخصياً مع الزعماء الأقوياء، وربما رغبته في الحصول على جائزة نوبل للسلام، لكن مع اتضاح عدم قدرته على التوصل إلى اتفاق سلام سريع، سيتجه ترمب إلى نهج أكثر تقليدية تجاه أوكرانيا، وفي السياسة الخارجية بصورة عامة. ومع ذلك فإن التناقضات في هذه النظرية واضحة أيضاً، ففي حين أن القاعدة في دوائر السياسة الخارجية الجمهورية التقليدية هي الدعم غير المقيد لإسرائيل، إلا أن إدارة ترمب كافحت للتوفيق بين دعمها الصريح لإسرائيل وأولويات ترمب الأخرى، مثل توسيع وتمديد اتفاقات السلام التي يعوقها الصراع المستمر في غزة، كما جادل فانس علناً بأن الولايات المتحدة لا مصلحة لها في حرب مع إيران، ويقال إن ترمب نفسه رفض دعم رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في ضرب المنشآت النووية الإيرانية، وهي مواقف تضع الإدارة في خلاف مع صقور الجمهوريين الأكثر تقليدية في الكونغرس، الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة يجب أن تساعد إسرائيل على توجيه ضربات إلى البرنامج النووي الإيراني ومواصلة تسليح أوكرانيا والحفاظ على شبكة التزامات التحالفات الأميركية المترامية الأطراف. الصراع بين الجمهوريين هناك أيضاً نموذج رابع وأخير لفهم سياسة إدارة ترمب الخارجية وهي أن الفوضى التي نشهدها هي جزئياً نتيجة للصراع الداخلي بين الجمهوريين حول السياسة الخارجية. فمن ناحية، نشهد جناحاً قومياً حمائياً صاعداً في الحزب يركز على الصين، وعلى رغم أنه ليس انعزالياً، فإنه ليس من المحافظين الجدد، وهذا الجناح ممثل تمثيلاً جيداً في وزارة الدفاع، وحول نائب الرئيس فانس، وحتى مع إيلون ماسك، وبين فريق الإدارة في وادي السيليكون. ومن ناحية أخرى، هناك مجموعة من الجمهوريين الأكثر تقليدية وأكثر تشدداً وأكثر دعماً لدور أميركا العالمي، وهؤلاء يريدون إعادة توجيه الإدارة نحو تفضيلاتهم مثل وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي مايك والتز. لكن يبدو أن غرائز ترمب تميل نحو المجموعة الأولى القومية الحمائية، على رغم أنه غالباً ما يكون من السهل إقناعه، وإذا كان هذا النموذج دقيقاً، فإن ارتباك وفوضى السياسة الخارجية لترمب يعودان إلى التباين بين الفصائل داخل الإدارة في تنافسها على التعيينات والتأثير في السياسة. القضايا التي تتصارع فيها هذه الجماعات ليست بالهينة، فهي تختلف اختلافاً جوهرياً حول روسيا وإيران، وحتى إلى حد ما حول إسرائيل، وهو ما يفسر فوضى الأيام الـ100 الأولى، بخاصة أن ترمب نفسه بدا أقل استعداداً لقبول توجيهات المستشارين مقارنة بدورته الرئاسية السابقة. وهناك تقارير تفيد بأن والتز يعاني حقيقة أن آراءه تتباعد كثيراً عن آراء الرئيس، وإذا استمر هذا التوجه، فمن المرجح أن تتجه إدارة ترمب نحو تفضيل الواقعية السياسية والدوافع الداخلية دعماً لشعار "أميركا أولاً" بدلاً من تفضيل السياسة الخارجية التقليدية للجمهوريين، ويعني هذا أن الأعوام الأربعة المقبلة ستكون على الأرجح بفوضى الـ100 يوم الماضية نفسها.


الشرق الأوسط
٢٤-٠٤-٢٠٢٥
- الشرق الأوسط
انتقادات أكاديمية لهجوم ترمب على الجامعات
برزت ظاهرة جديدة في الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تميزت بالمشاركة الفعالة ما بين الأبحاث الجامعية في الولايات المتحدة، وتمويلها من قِبل الحكومة الفيدرالية. وأدى التعاون المشترك هذا إلى صعود أجيال من العلماء الأميركيين والأجانب الذين تميزوا بأبحاثهم العلمية التي تركت بصماتها على التقدم العلمي العالمي منذ بداية النصف الثاني للقرن العشرين، بالإضافة إلى التقدم الذي حققته الجامعات الأميركية على المستوى العالمي. أثارت إدارة الرئيس ترمب خلال الأسابيع الأخيرة حملة قوية على الجامعات، مما دفع جامعة «هارفارد» للتمسك بموقفها بمنع الحكومة من التدخل في التدريس والآراء داخل حرم الجامعة. ورفعت «هارفارد» دعوى قضائية ضد إدارة ترمب لمنع الجامعة من الاستفادة من ملياري دولار. وانزعجت إدارة ترمب من جهتها من احتجاجات وتجمعات طلاب وأساتذة «هارفارد» لاستنكارهم حرب الإبادة الإسرائيلية للشعب الفلسطيني في غزة. واتهم ترمب علناً الجامعة بمساندة اللاسامية، وهي التهمة نفسها التي يطرحها نتنياهو جزافاً ضد من يعارض سياساته. لكن إدارة «هارفارد» رفضت هذه التهمة، وعدّت ملاحقة الحكومة الفيدرالية تدخلاً سافراً في حرية التدريس وشؤون الجامعة. شجع الموقف الشجاع لـ«هارفارد» بقية الجامعات الأميركية، فصدر بيان مشترك موقّع مِن قِبل رؤساء 115 كلية وجامعة أميركية يعترض على تدخل الحكومة الأميركية في شؤون وحرية التدريس والتعبير في الجامعات. هناك مساران تبنتهما الحكومة الأميركية في الضغط على الجامعات. الأول سياسي بحت، حيث تبنت الحكومة الأميركية الشعار الإسرائيلي. والثاني عملياتي ومالي ينحو نحو الشؤون الأكاديمية، حيث يتعلق بتقليص المنح والمساعدات للمصروفات «غير المباشرة» للمختبرات والأبحاث. يتولى الوزير إيلون ماسك سياسة تقليص المنح للمصروفات «غير المباشرة» للأبحاث والدراسات، عادّاً هذا التقليص للنفقات جزءاً من سياسة الإدارة لترشيق الوزارات والإدارات الحكومية والبرامج الدولية. يمكن للوهلة الأولى عدّ معركة تقليص المساعدات للمصروفات «غير المباشرة» للأبحاث والمختبرات هامشية بالنسبة للمعارك المهمة الجارية في الولايات المتحدة. لكن بحسب الدكتور أندرو ديسلر أستاذ علوم الأنواء الجوية في جامعة «تكساس»، ورئيس «مركز أبحاث تكساس للأنواء الجوية المضطربة» في مقال له بدورية «نشرة علماء الذرة» الأميركية: «ستقرر معركة تقليص مساعدة بند المصروفات (غير المباشرة) للأبحاث والمختبرات مستوى العلوم والتقنيات المستقبلية التي قد يتم التوصل إليها في المختبرات الأميركية أو الصينية». وقررت وزارة الطاقة الأميركية مؤخراً عدم شمول المصروفات «غير المباشرة» للجامعات الأميركية في برامج المنح التي تقدمها، والتي تشكل نحو 15 في المائة من قيمة مشاريع الأبحاث والمختبرات، الأمر الذي أدى إلى توفير ضرائب سنوية تقدر بنحو 405 ملايين دولار. لكن رغم تقليص منح المصروفات «غير المباشرة»، تستمر الوزارة في القول إنها تعمل على مساندة البحث العلمي «دون الأخذ بعين الاعتبار المصاريف الإدارية ونفقات تشييد المباني والمختبرات الجديدة والحديثة». يكمن السبب في خطورة قرارات مثل هذه إلى كيفية تعريف المصروفات «غير المباشرة». فهناك المرئي منها، حيث ارتداء العلماء سترات بيضاء، وهناك غير المرئي، مثل أجهزة التبريد، والكهرباء، والواي فاي والإنترنت، وخدمات العمال لتنظيف المختبرات، ومعاشات الموظفين المسؤولين عن الأجور، والمشتريات، والمكتبات. وهناك أيضاً قيمة الاستثمارات طويلة المدى لتشييد البنايات والمختبرات. وأشار ديسلر، على سبيل المثال، إلى أن تكلفة النفقات غير المباشرة للأبحاث والمختبرات في جامعته نحو 54 في المائة لكل مشروع. من ثم، فإن نفقات مشروع أبحاث قيمته 100 ألف دولار تصبح مع النفقات «غير المباشرة» نحو 154 ألف دولار. ويؤكد ديسلر أن هذه ليست أرقاماً نظرية، إذ إن الجامعة تناقش جميع تفاصيل الميزانية مع الحكومة الفيدرالية، إلا أن قرار وزارة الطاقة الأخير المشار إليه أعلاه، سيدخلنا في مناقشة تفاصيل مستقلة وصعبة، مثل استثناء المنح لنسبة صيانة المصاعد في بناية توجد فيها المختبرات. ويضيف ديسلر أن هناك إمكانية أخرى لتمويل المصروفات «غير المباشرة» بالطلب من المجلس التشريعي لولاية تكساس بالموافقة على الزيادات. لكن هذه الوسيلة تعني عدم فهم معنى وأهمية التمويل الفيدرالي للأبحاث. فهذا الدور واسع النطاق، حيث يشمل الأبحاث العلمية الجامعية. وهذه الأبحاث بالذات ذات فائدة للمجتمع الأميركي كافة، من خلال الاستفادة في تطوير التكنولوجيا الحديثة، وتحسين الصحة العامة، ودعم الأمن القومي، والحفاظ على موقع الولايات المتحدة العلمي عالمياً. ومن الواضح، أنه ليس من واجب الطلاب تحمل هذه المسؤوليات عن طريق زيادة أجورهم الدراسية. وختم ديسلر تعليقه على الهجوم الذي تشنه إدارة الرئيس ترمب على الجامعات، بالآتي: «رد الفعل المتوقع لهجوم ترمب على الجامعات هو إعادة الاعتبار العلمي للصين ثانية».