
بين الشرعية والمقاومة... الدم يختلط بالدجل
لكن الحقيقة الصارخة التي يتهرب منها هؤلاء أن ما يُقدَّم اليوم على أنه "سلاح مقاوم" لم يعد كذلك منذ زمن طويل. السلاح الإيراني في لبنان لم يعد أداة تحرير، بل وسيلة سيطرة داخلية، تُستخدم لإعادة هيكلة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يخدم مصلحة مشروع مَذهبي عابر للحدود. الاحتلال الإسرائيلي لا يفرض هذا السلاح، بل إن أصحاب هذا الأخير هم من يحتلون القرار اللبناني.
خَير دليل على تحوّل هذا السلاح إلى عبء من الماضي، هو جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت بالأمس لمناقشة مسألة السلاح غير الشرعي. فالمفارقة أن الدولة ومجلس وزرائها، لا يتمتعان أصلًا، بموجب الدستور، بصلاحية شَرعَنة أو ترخيص سلاح خارج عن مؤسساتها الشرعية. إن الاجتماع بحد ذاته، هو إعلان ضمني بأن السلاح لم يَعد يُمثّل إجماعًا وطنيًا، بل أصبح بندًا خلافيًا يُناقَش على طاولة دولة منهارة، ويؤكد أن لا أحد بعد اليوم يشتري كذبة "المقاومة الدائمة". لكن الأخطر من ذلك، أن الاجتماع يعكس إصرار من يحمل هذا السلاح على تجاهل الدستور، بل وازدرائه بالكامل. فـ "الحزب" المتهم بقتل رفيق الحريري، وتدمير مرفأ بيروت، ناهيك عن الجرائم التي ارتكبها في سوريا والعراق واليمن، لا يرى في الدستور اللبناني إلا ورقة مهملة على طاولة تفاوض، أو نصًا يُستخدم متى شاء ويُخرق متى اقتضت مصلحته.
وما يزيد من مهازل هذا المشهد، هو أن بعض القوى داخل السلطة تطرح اليوم نقل النقاش إلى "طاولة حوار حول الاستراتيجية الدفاعية". وكأننا نعيش في بلد طبيعي يبحث بهدوء عن توافق وطني! في الحقيقة، هذا الطرح ليس سوى مهزلة موصوفة، تعكس محاولة بائسة لإعادة تدوير النقاش، وتمييع المطلب الجوهري: تطبيق الدستور. لا تُبنى أي "استراتيجية دفاعية" في ظل احتلال داخلي، ولا يكون أي حوار مثمرًا عندما يضع أحد الأطراف بندقيته فوق الطاولة وتحتها.
ولعلّ أكثر ما يُربك "حزب الله" اليوم، هو إدراكه العميق بأن فعالية سلاحه في الداخل لم تعد كما كانت. والتهديد المستمر بتكرار سيناريو "7 أيار" أصبح لا يُرعب أحدًا. لقد عايش اللبنانيون، بكل طوائفهم، انهيار دولتهم، إذ إن أنفاسهم تضيق في ظل الأزمة المعيشية السائدة، وأصبحوا رافضين للصمت أو الخضوع تحت تهديد السلاح. لا أحد يبالي بخطاب "حماية المقاومة" عندما لا يجد ربطة خبز أو دواء. أما سلاح "الهيبة"، ففَقَد رهجته، وتحول إلى عبء أخلاقي وأمني على صاحبه.
وعلاوة على ذلك، إن الزمن الذي كان يطلّ فيه الأمين العام لـ "الحزب"، على شاشاته، ليُطلق وصف "الأيام المجيدة" على الأيام السود قد ولّى. ذلك الخطاب أصبح غير مُقنع حتى بالنسبة لجمهوره الضيق. فالشيعة الذين دفعوا الثمن، قبل غيرهم، من أرواح أولادهم ومن أرزاقهم في مغامرات خارجة عن حدود الوطن، باتوا يدركون أن "الحزب" أصبح مجرّدًا من أي رؤية وطنية وأي مشروع اقتصادي، لا بل مُجَرّدًا من أي سلاح، يثير الذعر ويستورد الأزمات.
إن منطق السلاح المذهبي يُناهض قيام الدولة، لأن بناء دولة بحد ذاتها ينسف امتيازاته: انتفاء الإصلاح القضائي، وغياب المالية العامة، وانعدام الأمن الموحّد، طالما بقي السلاح منفلتًا من رقابة الدولة. من يطالب بحصر السلاح بيد الجيش يُتّهم بالخيانة؛ ومن يرفض دولة المربعات الأمنية يُخَوَّن؛ ومن يصرخ من تحت أنقاض المرفأ يُسَكت. أما "المقاومة"، فهي في مكان آخر: في البيانات، في العروض العسكرية، وفي مقاطع الفيديو التي تُعد بعناية لترهيب الداخل لا العدو.
ثمّة فرق بين مقاومة الاحتلال، وبين احتلال الدولة؛ وبين من يواجه العدو، ومن يحكم بالسلاح. إن شرعية السلاح لا تُستَمد من سرديات النصر، بل من الإجماع الوطني، وهذا الإجماع سَقط يوم وُجه السلاح إلى صدور اللبنانيين، ويوم صمت عن قتل رفيق الحريري، وساهم في دفن الحقيقة في تفجير المرفأ.
في نهاية المطاف، سيتوجب على "الحزب" الذي يرفض التنازل عن سلاحه، أن يُعيد النظر في هويته. لأن التنازل، إن وقع، سيعني أبعد بكثير من تسليم صواريخ أو مستودعات ذخيرة: سيعني الحاجة إلى rebranding كامل في الشكل والمضمون. وهذا الأمر سيكون مكلفًا لحزب اعتاد الحصول على تمويله من تجارة الكبتاغون والتهريب، من المرفأ إلى الحدود، ولم يعد يملك لا الشرعية الشعبية ولا الشيعية، ولا الموارد المالية، ولا حتى الرواية المُقنِعة.
السلاح الذي شَهَرَه "الحزب" لعقود تحوّل إلى قطعة من الماضي؛ أما الحروب اليوم فلا تُخاض بالبندقية، بل بالذكاء، وبالذكاء الاصطناعي تحديدًا، اللذين يفتقر إليهما "الحزب" بالكامل كما أثبتت الحرب الأخيرة.
لذلك، لم تعد المشكلة تكمن في السلاح فحسب، بل في النظام الذي يعيش عليه: نظام قائم على اقتصاد الحرب، وثقافة الخوف، وسردية "المؤامرة الدائمة". أما لبنان، فقد آن له أن يخرج من تحت هذا الركام، لا لينزع سلاح الميليشيات فقط، بل ليستعيد كرامته ودولته.
في حال قرر مجلس الوزراء تأجيل النقاش إلى جلسات أخرى سيكون كالمرء الذي يبصق في الرياح العاتية، سيدفع بـ "الحزب" للقول "الدني عم بتشتي".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق السعودية
منذ 2 ساعات
- الشرق السعودية
محافظ شمال سيناء يحدد خط مصر الأحمر: لا أحد يجرؤ على الاقتراب من حدودنا
حدد محافظ شمال سيناء خالد مجاور "خط مصر الأحمر"، قائلاً إن الرد المصري على أي محاولة للاقتراب من حدودها سيكون "مفاجئاً للعالم كله". وشدد المحافظ، في مقطع مصور، على أن هذا الموقف ليس عاطفياً بل يستند إلى قوة الدولة الرادعة. لا أحد يجرؤ على الاقتراب من الحدود المصرية، من يقترب من الحدود المصرية لا يلومن إلا نفسه. ليس بما هو معلن ولكن بما هو غير معلن أيضاً".


الشرق الأوسط
منذ 2 ساعات
- الشرق الأوسط
واشنطن: سنواصل حرمان إيران من أموال أنشطتها التخريبية في العالم
قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية، تامي بروس، يوم الخميس، إن واشنطن ستواصل حرمان إيران من الأموال التي تستخدمها لدعم أنشطتها التخريبية في العالم. وأضافت بروس، في منشور بحسابها على «إكس»: «في إطار حملة الضغط القصوى، التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، نستهدف 18 كياناً وشخصاً جديداً لتسهيلهم محاولات إيران للتهرب من العقوبات الأميركية». Under @POTUS's Maximum Pressure campaign, we are targeting 18 new entities and individuals for facilitating Iran's evasion of U.S. sanctions. The U.S. will starve Iran of the funds used to further its destructive activities around the world. — Tammy Bruce (@statedeptspox) August 7, 2025 كانت وزارة الخزانة الأميركية قد أعلنت في وقت سابق من اليوم حزمة جديدة من العقوبات استهدفت كيانات متصلة بإيران.


الشرق الأوسط
منذ 2 ساعات
- الشرق الأوسط
مصدر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: خطة احتلال غزة ورقة ضغط تفاوضية
قال مصدر مطلع من حركة «حماس» إن «خطة احتلال غزة» المطروحة في الجانب الإسرائيلي ما هي إلا ورقة ضغط تفاوضية لانتزاع تنازلات على مائدة المفاوضات «المهددة بألا تعود بسبب هذه الإجراءات». وأوضح المصدر لـ«الشرق الأوسط»، الخميس، أن توسيع العملية العسكرية بالقطاع يعكس تصميم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على توظيف هذا المخطط كورقة ضغط تفاوضية، على أمل انتزاع تنازلات «مع إدراك مسبق أن أي تنازل سيُقابل بطلبات إضافية، ما يُفرغ العملية التفاوضية من مضمونها ويهدد عودتها من الأساس». ويعتقد المصدر أن نتنياهو يفضّل خيار التصعيد الميداني على أي هدنة مؤقتة لا تُحقق له مكاسب سياسية صلبة. وأضاف: «نتنياهو وحكومته اليمينية بقيادة بن غفير وسموتريتش يرون في استمرار الحرب رافعة سياسية داخلية، خاصة في ظل أزمة الثقة والانقسامات العميقة داخل المجتمع الإسرائيلي»، مشيراً إلى الوزيرين المتطرفين إيتمار بن غفير وزير الأمن القومي، وبتسلئيل سموتريتش وزير المالية. وشدّد المصدر المطلع على أن أي تقدم ميداني إضافي من إسرائيل سيُقابل باستنزاف أكبر، وانكشاف أمني أعمق، وربما فقدان مزيد من الجنود أو الرهائن. ويجتمع المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية «الكابينت»، الخميس، برئاسة نتنياهو لمناقشة خطة الاحتلال، حسب وسائل إعلام إسرائيلية، بعد عدم حسم اجتماع عُقد لبحث ذلك الملف، الثلاثاء، وسط خلافات داخلية وجمود بمفاوضات تسعى لهدنة ثالثة بعد هدنتين سابقتين في ديسمبر (كانون الأول) 2023، ويناير (كانون الثاني) 2025. وتحدثت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية عن أن «نتنياهو بهذه الخطة يسير عكس التيار، ويضحي بأرواح المختطفين والجنود في غزة». ونقلت عن مسؤول حكومي قوله: «كثيرون يرون أن التلويح باحتلال غزة بالكامل مجرد تكتيك ومحاولة للضغط»، مرجحاً أن «نتنياهو لن يقيل رئيس الأركان، إيال زامير، وقد يتفقان خلال اجتماع الخميس على عملية عسكرية محدودة لإظهار الحزم». وبينما يقول الجيش الإسرائيلي عادة إنه يسيطر بالفعل على 75 في المائة من غزة حالياً، قال 3 مسؤولين إسرائيليين لـ«رويترز» إن زامير عارض اقتراح نتنياهو احتلال باقي القطاع، وذلك في اجتماع شابهُ التوتر استمر 3 ساعات، الثلاثاء، فيما قال مسؤول رابع إن نتنياهو يعتزم توسيع العمليات العسكرية في غزة بهدف الضغط على «حماس». ذلك الجدل بشأن مخرجات اللقاء جاء غداة قول الرئيس الأميركي دونالد ترمب للصحافيين إنه ليس على علم بالخطط الإسرائيلية، لكن أي قرار يتعلق باحتلال كامل قطاع غزة «يعود لإسرائيل»، ما فسّره كثيرون بأنه ضوء أخضر للمضي في احتلال القطاع.