logo
قرن على كتاب هز العقول !

قرن على كتاب هز العقول !

عمان اليومية٠٥-٠٤-٢٠٢٥

قرن على كتاب هز العقول !
(1)
في السابع من أبريل القادم يكون قد مر قرن كامل على صدور كتاب أثار وما زال يثير نقاشا حيويا وخصبا، يمكن اعتباره الكتاب المؤسس في الثقافة العربية الحديثة؛ وأول كتاب يثير من المعارك والجدال ما زال قائما حتى وقتنا هذا، رغم ما شهده هذا القرن من أحداث مهولة بل أحداث جسام!
عن كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، للشيخ الجليل المستنير علي عبد الرازق (1888-1966) الذي أقام الدنيا ولم يقعدها منذ ذلك الحين بكتابه هذا (لم يتجاوز عدد صفحاته الـ136 صفحة من القطع الأقل من المتوسط)، وهو كتاب دشّن (معركة القدامى والمحدثين) أو (صراع المحافظين والمجددين)؛ مرحلة الإعلان عن بنية الثقافة والدولة الحديثة، في مواجهة تصورات وأنظمة بشرية وتجارب تاريخية انتهت ومضت، ولن يعيد التاريخ دورتها لأن التاريخ لا يعيد نفسه مهما جرى!
هذا بالضبط ما حدا بالبعض إلى النظر للكتاب، وقيمته وأهميته، كما يقول المؤرخ القدير الدكتور محمد عفيفي، من ناحية هذا المضمون الفكري "التجديدي" في بيان تاريخية نظام الخلافة وبشريته، في مقابل مَن روَّج إلى قداسة نظام الخلافة؛ إذ أوضح أن الخلافة نظام سياسي ابتدعه المسلمون، وليس نظامًا مقدسًا لا يستقيم الإسلام بدونه.
في نشرته الأولى من الكتاب يقول الدكتور محمد عمارة في تصديره لهذه الطبعة (1971): "منذ أن عرفت الطباعة طريقها إلى بلادنا لم يحدث أن أخرجت المطبعة كتابا أثار من الجدل واللغط والمعارك والصراعات مثلما أثار كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق الذي نشر قبل ما يقرب من نصف قرن" (كتب هذه السطور سنة 1971).
(2)
وها نحن الآن، بدورنا، نؤكد صحة هذه الأسطر بعد مرور مائة عام على صدور الكتاب؛ لأسبابٍ كثيرة جدا منها أن الشيخ المستنير قد قدم وللمرة الأولى في تاريخ الثقافة العربية نقدا منهجيا لتجربة الحكم في ظلال ما سمي بالخلافة الإسلامية؛ وهي نظام للحكم أقيم على أسس حدّدتها سياقات الحكم والسياسة والعمران في وقتها؛ ولم يكن لها أدنى صلة بالعقيدة كعقيدة؛ إنما أريد لها ذلك في أزمنة تالية على نزول الوحي، ومن ثم تم تكريس هذا النظام باعتباره نظاما دينيا.
تاريخيا، وبعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وما جرى للدولة العثمانية، رجل أوروبا المريض، ونجاح أتباع تركيا الفتاة، قرر المجلس الوطني الكبير في أنقرة في نوفمبر من سنة اثنتين وعشرين (1922)، إعلان تركيا "جمهورية" وفصلها عن الخلافة، وكان قرار الفصل بين منصب رئيس الجمهورية ومنصب الخليفة، يعني الاعتراف بالاستقلال السياسي الكامل والتام عن الأتراك.
وتصدى بعض الكتاب الأتراك -آنذاك- لتأليف الكتب والدراسات التي تعضد هذا الموقف، فخرج كتاب «الخلافة وسلطة الأمة» لعبد الغني السني بك الذي أعيد نشره، كدراسة فقهية اعتمد عليها الكماليون للفصل بين الخلافة والسلطة، وفي المقابل (خاصة في مصر) كتب آخرون يرفضون هذا الإجراء مثل الشيخ الأصولي محمد رشيد رضا في المنار، وكتاب لمصطفى صبري أحد المعارضين لحزب تركيا الفتاة.
وفي مارس من سنة 1924، أُلغي منصب الخلافة ذاته في تركيا، فسَعَت أطراف عديدة إلى حيازة اللقب وفي القلب منهم ملك مصر آنذاك الملك فؤاد الأول، وكان المؤتمر الإسلامي في القاهرة جزءا من هذه الجهود.
(3)
وفي وسط هذه الموجة المحمومة من التطلع إلى وراثة نظام الخلافة ولقب الخليفة، خرج الشيخ علي عبد الرازق في أبريل من عام 1925 بكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، ليعلن من خلاله أن الخلافة ليست أصلا من أصول الدين، أبدا، بل هي اجتهاد بشري للمسلمين،
واستعرض تاريخ الخلافة والفصل الفعلي بين الخلافة وغيرها منذ العصر العباسي حتى القرن العشرين. وهناك دائما فجوة بين النموذج النظري في كتب العقائد، وبين التحقق الفعلي في التاريخ الاجتماعي للمسلمين. وتلك هي الإشكالية التي يتعرض لها الكتاب. فمشكلة الخلافة ما زال البعض يناقشها من زاوية الدين، لا من زاوية الدنيا، ومن باب العقيدة، لا من باب السياسة.
(4)
إجمالًا -وإذن- يمكن القول إن كتاب «الإسلام وأصول الحكم» قد ظهر في أعقاب إلغاء نظام الخلافة الإسلامية في تركيا عام 1924 حين انقسم الناس فريقين؛ فريق يطالب بإعادتها مرة ثانية (وستكون هذه الفكرة هي النواة التي التف حولها كل دعاة الإسلام السياسي وتسييس الإسلام من الشيخ رشيد رضا ومن بعد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان).. وتيار آخر يعيد النظر تماما ونقديا في نظام الخلافة، ويدعو إلى الحيلولة دون قيامها، ويتزعمه حزب (الأحرار الدستوريين)، الذي ينتمي إليه الشيخ علي عبد الرازق وعائلته، ويرأس تحرير صحيفته الدكتور محمد حسين هيكل (صاحب كتاب «حياة محمد») الذي احتفى بالكتاب احتفاءً كبيرًا في جريدة «السياسة»، لسان حال الحزب.
وقد عالج الكتاب قضية الخلافة من حيث نشأتها، وتاريخها وتطورها، وعلاقتها بالإسلام، كما يعرض لتفاصيل ذلك النظام السياسي الذي أوجده الإسلام منذ قيامه إلى زمن أو عصر المؤلف. وينتهي إلى أن الإسلام لا صلة له بالحكم، ولا بالمجتمع وشؤونه الدنيوية، وأنه يجب إنهاء الخلافة في العالم الإسلامي، بما أنها نظام غريب عن الإسلام، ولا أساس له في المصادر والأصول المعتمدة من كتاب وسنة وإجماع.
والكتاب عبارة عن مقدمة وثلاثة أقسام، القسم الأول بعنوان "الخلافة في الإسلام" تناول فيه طبيعة الخلافة، وحكم الخلافة، والخلافة من الوجهة الاجتماعية، أما القسم الثاني فيدور حول "الحكومة والإسلام" وقد تناول فيه الشيخ علي عبد الرازق نظام الحكم في عصر النبوة، مميزًا بين الرسالة والحكم، طارحًا فيه فكرته عن الإسلام باعتباره "رسالة لا حكم ودين لا دولة"، أما القسم الثالث فيتتبع فيه "الخلافة والحكومة في التاريخ"
ومنذ صدوره، أثار الكتاب جدلًا طويلًا في الأوساط الفكرية، وانقسم المثقفون إلى تيار "ليبرالي" مؤيد يمثله مفكرون ينتمون إلى حزبي (الوفد)، و(الأحرار الدستوريين)، وتيار سلفي معارض يأتي في طليعتهم الشيخ محمد رشيد رضا على صفحات مجلة «المنار»، والشيخ محمد الخضر حسين في كتابه «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم»؛ فضلًا عن هيئة كبار علماء الأزهر.
وقد نشرت دراسات كثيرة حول الكتاب، باللغة العربية واللغات الأجنبية، ومن بينها كتابا «الإسلام والخلافة في العصر الحديث» لمحمد ضياء الدين الريس، و«الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق «دراسة ووثائق» لمحمد عمارة، وهو الذي نعتمد عليه هنا في هذه الحلقة من مرفأ قراءة والحلقات التالية التي سنفصل فيها القول عن الكتاب وحوله بمشيئة الله.
(5)
لقد أراد الشيخ علي عبد الرازق من كتابه، وبما أعلنه من أفكار حرة جريئة، تحرير العقول الإسلامية؛ لكي يتمكن المسلمون من أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم.
وتلك ببساطة -مع ضرورات الاختزال والتكثيف لحدود المساحة- هي أهم الأفكار التي يقوم عليها كتاب الشيخ المستنير علي عبد الرازق الذي كان ثائرًا بحق على الأوتوقراطية والثيوقراطية معا، والذي التقط أسلحته من الإنجاز العقلاني التراثي الإسلامي الأصيل، ومن الإنجاز الموازي لدعاة الدولة المدنية في الغرب الأوروبي الذي كان يعرفه، ولا يتردد في الإفادة منه عملًا بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «اطلبوا العلم ولو في الصين»، وكان هدفه إعادة فتح أبواب الاجتهاد على مصاريعها، وهو أمر لا يقل عن إيمانه بالدولة المدنية ودفاعه عنها.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الهجمة الصهيونية على المنطقة مقارنة بالهجمات الأخرى التاريخية
الهجمة الصهيونية على المنطقة مقارنة بالهجمات الأخرى التاريخية

جريدة الرؤية

timeمنذ يوم واحد

  • جريدة الرؤية

الهجمة الصهيونية على المنطقة مقارنة بالهجمات الأخرى التاريخية

د. عبدالله الأشعل ** تنفرد الهجمة الصهيونية التي بدأت على المنطقة في إطار المشروع الصهيوني على الأقل منذ القرن التاسع عشر وتنفرد هذه الهجمة بخصائص مُعيَّنة، علمًا بأنَّ المنطقة تعرضت لثلاث هجمات أخرى مختلفة: أولًا: الهجمة التتارية؛ حيث اقتحم التتار المنطقة في القرن الثالث عشر الميلادي بدأ بعاصمة الدولة العباسية بغداد وكان التتار يحاربون الإسلام لأنهم اعتقدوا أنَّ الإسلام هو الذي رفع العرب إلى مرتبة السيادة، ولكن بعد هزيمتهم الماحقة في عين جالوت في فلسطين على يد الظاهر بيبرس وقائد الجيوش قطز تحولوا إلى الإسلام بعد أن دمروا عواصم عديدة وأراقوا أنهارًا من الدماء. ومما يذكر أن قاضي القضاة في دمشق العز ابن عبد السلام اعترض على فرض المماليك ضرائب لمواجهة التتار وأفتي فتواه الشهيرة وهي أنَّ الحكام لا بُد أن يتبرعوا بأموالهم أولًا لشراء السلاح وأن تتبرع زوجاتهم بالذهب الذي في حوزتهم، وبعد ذلك يستكمل بالضرائب من الشعب. كذلك عاصر ابن تيمية أحداث التتار في دمشق، وكان إمامًا للمسجد الأُموي وهناك جدل كبير في كتب التاريخ حول موقف ابن تيمية من هجمة التتار. وفي النهاية ذاب التتار في المنطقة واندمجوا مع أهلها المسلمين. ثانيًا: الموجة الثانية من الهجمات استمرت عدة قرون وهي الهجمة الصليبية على بيت المقدس، ولكن تم طرد الصليبيين من بيت المقدس ومن المنطقة بأكملها علي يد صلاح الدين الأيوبي في بداية عصر الدولة الأيوبية في مصر. وبهذه المناسبة فإنَّ السنوات الأخيرة من حياة الدولة العباسية شهدت حكمًا انفصاليًا لعدة سنوات في مصر لا تدين بالولاء للدولة العباسية، علمًا بأنَّ الدولة العباسية عندما قضى عليها التتار وقتلوا آخر حكامها المُستنصر بالله أحمد، هبَّت مصر لدفع التتار وأنهت هذه الهجمة تمامًا، وانتقلت الخلافة إلى مصر. ثالثًا: الهجمة العُثمانية، وقد انقسم المؤرخون العرب إلى فريقين؛ فريق يرى أن الدولة العثمانية دولة استعمارية وأنها مهدت للاستعمار الغربي، وفريق آخر- وأنا منهم- يرى أن الدولة العثمانية كانت امتدادًا للدولة العباسية التي سقطت في القرن الثالث عشر، وبالتحديد عام 1258م؛ حيث كانت الدولة العثمانية تنشأ. ويقول المؤرخون العرب- وبالذات قسطنطين زريق في كتابه الرائع "تاريخ الشعوب الإسلامية"- إن الدولة العثمانية تقدمت كبديل للأندلس التي سقطت بعد ذلك بمائة عام على الأقل، وبالتحديد عام 1492م. ويقول التاريخ إن الدولة العثمانية قامت بغزو الشام عام 1416م، وجاءت إلى مصر 1417م، وانتهت الدولة العثمانية في 1 مارس 1924م، على يد الجنرال كمال أتاتورك، وتحولت تركيا من إمبراطورية إسلامية إلى دولة علمانية. ولكن التيار الإسلامي في تركيا أعاد إليها روح الإسلام بدءًا بنجم الدين أربكان الذي تتلمذت على يديه كل قيادات التيار الإسلامي في تركيا ومنهم الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان. رابعًا: الهجمة الاستعمارية على المنطقة؛ حيث جاءت أول هجمة غربية بعد الثورة الفرنسية بعدة أعوام حيث قاد نابليون بونابارت الهجمة الأولى للاستعمار الغربي عام 1798 وظل في مصر حتى عام 1801. وبعد الحملة الفرنسية جاءت الحملة البريطانية التي ناوشت مصر منذ عام 1807، وكان مُحمد علي قد تولى حكم مصر مُمثِلًا للدولة العثمانية عام 1805، ثم عاودت بريطانيا العظمي غزو مصر في 15 سبتمبر 1882، واستمر احتلال مصر من 1882 حتى رحلت بريطانيا عن مصر عام 1957؛ بموجب اتفاقية الجلاء الموقعة بين الحكومة المصرية وبريطانيا في 18 يونيو 1954. خامسًا: الهجمة الصهيونية، وهذه هذه الهجمة أساسها المشروع الصهيوني بهدف إنشاء إسرائيل لكي تسيطر على المنطقة وكيلا عن الاستعمار الغربي الذي سحب قواته العسكرية وأصبحت إسرائيل صنيعة الغرب وتحظى بدعم دوله خاصة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد اختلفت الهجمة الصهيونية عن الهجمات الأخرى على المنطقة فيما يلي: أن الهجمات السابقة على الهجمة الصهيونية زالت ولم تترك أثرًا ولكن الهجمة الصهيونية تسببت في جميع مآسي المنطقة. أن هذه الهجمة تهدف إلى تمركز إسرائيل في المنطقة باعتبارها اللاعب الأساسي الذي يدعمه الغرب. أن هذه الهجمة تميزت عن سابقاتها بأنها تريد الاستيلاء على فلسطين مركزًا للحركة الصهيونية وتميزت بأنها استعمار إحلالي استيطاني وهو ما لم يحدث في الهجمات السابقة. أن الهجمة الصهيونية التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر بلغت ذروتها باختراق إسرائيل للعالم العربي والإسلامي وتمكين الغرب لها في المنطقة بحيث قامت إسرائيل بالعدوان على معظم الدول العربية وذلك بعد إتاحة الرئيس المصري محمد أنور السادات للظاهرة الإسرائيلية أن تزدهر بعد التقارب الساداتيّ الإسرائيلي الأمريكي. أما الشعب المصري، فقد رفض هذا التقارب، وأصرَّ السادات على اللجوء إلى سياسة "العصا والجزرة". الجزرة عن طريق الوعود البراقة عن السلام والرخاء والتنمية، والعصا عن طريق استصدار "قانون العيب" الذي عاقب به المعارضين لهذا التقارب، ولا يزال هذا الخط المصري الأمريكي ثابتًا في سياسة الحكومات المصرية المتعاقبة. الخلاصة أن الهجمة الصهيونية أخطر من الهجمات السابقة عليها؛ لأنها استندت إلى المشروع الصهيوني الذي رعته بريطانيا ثم الولايات المتحدة. وفي الأسبوع الثاني من مارس 2025 نشهد فصلًا جديدًا من الخطة الإسرائيلية الأمريكية مع قدوم دونالد ترامب في فترة ثانية إلى البيت الأبيض، وما لم تدفع المنطقة العربية والإسلامية الهجمة الصهيونية، فإنَّ "صفقة القرن" التي روَّج لها ترامب في ولايته الأولى مع نتنياهو، سوف تنجح في استقدام صهاينة العالم ليستوطنوا فلسطين بعد تهجير أهلها وإبادتهم. ** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا

مسقط صمام الأمان
مسقط صمام الأمان

جريدة الرؤية

time١٠-٠٥-٢٠٢٥

  • جريدة الرؤية

مسقط صمام الأمان

محمد بن سالم البطاشي إن تاريخ الوساطات الإقليمية والدولية لعُمان يمثل سجلا طويلا وحافلا بالنشاط والنجاح متميزا بروح الحياد والاعتدال؛ حيث اعتمدت بلادنا الحبيبة ومنذ القدم سياسة خارجية قائمة على مبدأ التسامح، ومن خلال انخراط عُمان في حل النزاعات الدولية والإقليمية -التي لا يتسع المقام لذكرها نظرًا لكثرتها. فقد تراكم لسلطنة عُمان رصيد ضخم من التبجيل والإجلال والإعجاب والاحترام، ذلك أن المواقف المتوازنة والنوايا الصافية والوقوف على مسافة واحدة من كافة الفرقاء، والقدرة على تقريب وجهات النظر وتقديم حلولا وسطى ترضي الجميع، وكذلك الرغبة المخلصة في تحقيق الأمن والسلم في العالم هي بعض الصفات والمميزات التي تتمتع بها السياسة الخارجية لسلطنة عُمان وقيادتها الحكيمة وهي التي تدفع الأطراف المتخاصمة لاختيار مسقط وسيطًا ومقرًا للحوار والتشاور سعيا لإيجاد مساحة للتعقل والتفكر واستبدال تشنج المواقف بهدوء الدبلوماسية المتسم بالحكمة بعيدا عن مزالق التهور والتصعيد الغير محسوب بما يخلفه من عواقب وخيمة على الجميع. ولربما سأل سائل عن سبب إصرار الأطراف المتنازعة على اختيار سلطنة عُمان في كل مرة لتكون وسيطا ومقرا لحل الخلافات الكبرى التي تهدد الأمن والسلم العالميين، والرد على هذا يكمن في عدة عوامل تاريخية وجغرافية وسياسية واقتصادية واجتماعية تتمتع بها سلطنة عُمان. فعلى المستوى التاريخي، فإن سجل عُمان حافل بالوساطات الناجحة بالإضافة إلى أنها لم يسجل عليها أي اعتداء على أي دولة من جيرانها أو غيرهم، وكانت رسالتها دائما رسالة سلام وانفتاح وتفاهم على قاعدة الكل يكسب، فكانت عُمان تاريخيا تتاجر مع الجميع وتنشر رسالة الإسلام السمحة بالتي هي أحسن بعيدا عن التكلف والغلو أو التعصب والتطرف، متخذة من المعاملة الحسنة والأخلاق العالية والوفاء والصدق في التعامل وسائل عملية لنشر الفكر السمح مما أكسبها محبة الجميع وتقديرهم وإجلالهم، فكانت كلمة عُمان مسموعة ومفهومة وأصبح الكل مقتنع بأن مواقفها لا تصدر عن الهوى بل هي مواقف مبنية على رؤية ثاقبة بعيدة المدى تقدر العواقب وتتحسب للنتائج. أما على المستوى الجغرافي، فإن موقع عُمان يتميز بانفتاحه على كافة طرق المواصلات والتجارة العالمية فهو ميناء الجميع وجنة التجار والمستثمرين، وهي بذلك بوابة العالم العربي الشرقية، حيث خطوط التجارة سالكة وعامرة بين الشرق والغرب تجري على بحارها ومن خلال مضيقها أهم شرايين الاقتصاد العالمي. أما العوامل السياسية التي جعلت سلطنة عُمان محط أنظار العالم عندما تضيق به الدنيا، فإن مرد ذلك إلى صدق المواقف ووضوحها وثبات المبادئ وسموها وعدم التدخل في سياسات الدول واختيارات شعوبها، والنأي عن المشاركة في أي جهد حربي أو تحرك عسكري أو اقتصادي يستهدف الغير سواء كان جارا قريبا أو بعيدا، وهو نهج تميزت به سلطنة عُمان وهي في أوج قوتها على امتداد إمبراطورتيها المترامية، وحضارتها وتاريخها الضارب في أعماق التاريخ وحتى يومنا هذا، مما جعل الأطراف المتصارعة تنشد الوساطة العُمانية وتقبل بالأفكار التي تطرحها عُمان عبر هذه الوساطة؛ بل وترحب بها. ونأتي إلى العوامل الاقتصادية التي ترشح عُمان لدور الوسيط الناجح، حيث تمتلك ثروات متعددة نفطية وغازية وسياحية ومعدنية وسمكية وزراعية وسواحل ممتدة وبحار مفتوحة ومساحة شاسعة وموقع جغرافي متميز عند التقاء خطوط التجارة الدولية، واستقرار سياسي وقوانين حديثة جاذبة للاستثمار، وطاقة مستمرة ومستقرة، فغدت عُمان محطة لكل المستثمرين من مختلف الدول بما في ذلك الدول المتصارعة، التي رأت استثماراتها تزدهر في بلدنا الحبيب، فنالت بذلك رضاء الجميع الذي عادة لا يدرك إلا فيما ندر. وإن عرَّجنا إلى المستوى الاجتماعي فحدِّث ولا حرج؛ حيث الأخلاق العالية والبساطة والطيبة والسماحة والكرم الذي يُكلل الشخصية العُمانية، إضافة إلى التجانس بين كافة مكونات وطبقات الشعب العُماني، وذاك التلاحم والتكاتف المنقطع النظير بين مكونات هذا الشعب الرائع المضياف القادر على تطويع الثقافات المختلفة وإكسابها النكهة العُمانية الأصيلة. إن انعقاد الجولة الرابعة في أرض عُمان لهو نجاح كبير للسياسة الخارجية العُمانية التي يتولى قيادتها بكل اقتدار حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- ويتولى تنفيذها الوزير المُحنَّك معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي؛ حيث تأتي هذه الجولة تتويجًا لثلاث جولات سابقة، أعرب الطرفان خلالهما عن رضائهما وتقديرهما الكبير لدور الوسيط العُماني وحكمته ونزاهته النابعة من التزام سلطنة عُمان وسعيها الدؤوب لإحلال السلم والأمن والاستقرار العالمي. إن عوامل نجاح الجولة الرابعة من محادثات مسقط بين الولايات المتحدة وإيران يعود إلى دور الوسيط العُماني وسجل عُمان الطويل الحافل بالممارسة والنجاح وباقي العوامل التي ذكرناها آنفا، إضافة إلى العوامل الإيجابية التي تدفع البلدين الخصمين إلى طريق الدبلوماسية والحوار كسبيل أمثل لحل المشكلات العالقة بينهما، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: 1- الظروف الدولية والإقليمية: تدفع التحولات في المنطقة كلا الجانبين نحو البحث عن مخارج هادئة لحل المشاكل بينهما بدلا من التصعيد، حيث تتصاعد الحاجة إلى إيجاد نوع من الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وتقليل التوترات في الخليج العربي باعتبار المنطقة تلعب دورا حاسما في إمدادات الطاقة العالمية وسوقا رئيسا للعديد من الدول، وتستضيف على أرضها العديد من القواعد الأمريكية وغيرها من الدول، ومن نافلة القول أن أي توتر أو تصعيد في هذه المنطقة الحساسة ستكون له عواقب وخيمة على العالم أجمع خصوصا مع استمرار العدوان الصهيوني على غزة وتواصل الحرب الروسية الأوكرانية. 2- دعم المجتمع الدولي للمفاوضات: يرغب المجتمع الدولي عامة والدول الأوروبية خاصة في استمرار المفاوضات مما أعطى المفاوضات غطاء دبلوماسيا واسعا وشجع الطرفين على الانخراط في حوار متوازن. 3- الإعداد الجيد للمواضيع المطروحة: حيث تم خلال الجولات السابقة طرح مواضيع الحوار بشكل جيد ومدروس وتم التركيز على القضايا الكبرى، مثل الحد من الأنشطة النووية الإيرانية، وتخفيف العقوبات الاقتصادية على إيران والاهتمام بالاستقرار الإقليمي؛ حيث مثل هذا الترتيب للمواضيع الملحة في إشاعة جو من الثقة المتبادلة مما ساعد على معالجة هذه النقاط الحساسة. 4- التدرج في طرح المواضيع محل البحث: ساهم هذا النموذج في تسهيل التقدم التدريجي والتوافق المرحلي على تقليل التوترات بين البلدين، الأمر الذي ساعد على الحد من المخاوف جراء اتخاذ خطوات مفاجئة من كلا الطرفين، الأمر الذي أدى إلى إيجاد شعورا بالثقة المتبادلة. 5- الاستفادة من التجارب السابقة: حيث إن سلطنة عُمان كانت قد شاركت في محادثات سرية بين إيران والقوى العالمية (مجموعة 5+1) في عام 2015 فيما يعرف بخطة العمل الشاملة المشتركة، وكذلك وساطات كثيرة سابقة، مما مكن الوسيط العُماني من بناء خبرة استراتيجية في مثل هذه الملفات الحساسة. ختامًا.. إنَّ الجولة الرابعة من محادثات مسقط تتضافر لها عوامل النجاح بتوفيق من الله ثم بسبب الدبلوماسية العُمانية الهادئة والمصداقية التي تتمتع بها، ورغبة الأطراف الجادة في إيجاد الحلول، وثقة الأطراف في سلطنة عُمان ودورها الفاعل كوسيط محايد ومساهمتها الفاعلة في تعزيز الثقة والحوار بين أمريكا وإيران.

50 طعنة لشاب مسلم أثناء الصلاة.. هكذا تم ضبط مُنفذ جريمة القتل داخل مسجد بفرنسا
50 طعنة لشاب مسلم أثناء الصلاة.. هكذا تم ضبط مُنفذ جريمة القتل داخل مسجد بفرنسا

جريدة الرؤية

time٢٨-٠٤-٢٠٢٥

  • جريدة الرؤية

50 طعنة لشاب مسلم أثناء الصلاة.. هكذا تم ضبط مُنفذ جريمة القتل داخل مسجد بفرنسا

باريس - الوكالات أعلن مدعٍ عام فرنسي اليوم الاثنين أن الرجل المشتبه به في طعن مسلم نحو 50 طعنة حتى الموت في مسجد بجنوب فرنسا قد سلّم نفسه لمركز شرطة في إيطاليا. وقال عبد الكريم غريني، المدعي العام في مدينة أليس الجنوبية، والمسؤول عن القضية إن "هذا مُرضٍ للغاية بالنسبة لي كمدعٍ عام. فنظرا لفعالية الإجراءات المُتخذة، لم يكن أمام المشتبه به خيار سوى تسليم نفسه، وهذا أفضل ما كان بإمكانه فعله". وحتى مساء أمس، كانت الشرطة الفرنسية لا تزال تبحث عن الجاني الذي قتل المواطن المسلم أبو بكر داخل مسجد في قرية بجنوب فرنسا صبيحة يوم الجمعة الماضي، إذ طعنه بنحو 50 طعنة وصور نفسه قبل أن يفر بعد أن لاحظ وجود كاميرات مراقبة في المسجد سهلت تحديد هويته. ويتحدر الضحية من دولة مالي، وعمره (24 عاما)، وعرف عنه أنه يتطوع كل أسبوع لتنظيف المسجد وتجهيزه قبل وصول المصلين لأداء صلاة الجمعة. ووفقا للادعاء العام، فإن كاميرا المراقبة في المسجد أظهرت الضحية وهو يتحدث إلى القاتل بشكل عادي، ثم توجها معا إلى قاعة الصلاة، حيث بدأ الضحية أبو بكر في أداء الصلاة، وبدا الجاني وكأنه يقلده، قبل أن يخرج سكينة ويشرع في طعنه. وأثارت الجريمة المروعة سخطا كبيرا في فرنسا، وتوالت الإدانات الرسمية والشعبية للجريمة، بينما نظمت وقفات منددة بما جرى، وخرجت شخصيات وهيئات سياسية فرنسية مختلفة في مظاهرة حاشدة عشية أمس الأحد وسط العاصمة باريس احتجاجا على الجريمة، وعلى الخطاب التحريضي ضد الإسلام والمسلمين. وكان الرئيس إيمانويل ماكرون قد أدان -في تغريدة على منصة إكس- الجريمة، وقال إن العنصرية والكراهية بسبب الدين لا يمكن أن يكون لها وجود في فرنسا، وإن حرية التعبد مضمونة وغير قابلة للانتهاك. وعبر عن تضامنه مع أسرة الضحية والمواطنين المسلمين. وندد رئيس الحكومة فرانسوا بايرو يوم السبت بـ"العار المُعادي للإسلام"، وأضاف: "نحن نقف مع عائلة الضحية، ومع المؤمنين الذين صدمتهم هذه الحادثة"، موضحا أن الدولة تحشد كل مواردها لضمان القبض على القاتل ومعاقبته. ووفقا لصحيفة لوفيغارو، فإن القاتل ولد في ليون عام 2004، واسمه "أوليفييه هـ."، وهو فرنسي الجنسية، وغير مسلم، ويتحدر من عائلة بوسنية، بعضها يقيم في منطقة غارد، وليس لديه سجل جنائي، وعاطل عن العمل، ولم يكن معروفا لدى الأجهزة الأمنية. وذكر المدعي العام أن السلطات تبحث في ما إذا كانت هذه الجريمة تحمل دلالات عنصرية أم معادية للإسلام.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store