
فتنة العصر (2): حين تسقط المعارضة
الدكتور محمد العايدي
تلتزم الدولة الحديثة باحترام حرية التعبير، وتستجيب لمطالب الشعوب فيما لا يتعارض مع مصالح الدولة، ويعود بالنفع للصالح العام، وقد تستغل هذه المساحات من الحرية عند أصحاب النظرة الضيقة للتحول إلى نهج المعارضة، وكأن المعارضة غاية في ذاتها، وليست وسيلة للمطالبة بالحقوق المشروعة، وتنتهي بالحصول عليها ضمن القنوات القانونية، ولذا قد تصبح المعارضة سيف ذو حدّين: إما أن تكون ضميراً يقظاً ينير الطريق لبناء مجتمع سليم، أو تتحول إلى معول هدم وخنجر مسموم في خاصرة الوطن، وبين المعارضة الشريفة والخيانة المقنعة خيط خفيّ، يظهر من خلال السلوكيات والقيم التي لا تخفيها الشعارات، ولا تغطيها الأقنعة.
اضافة اعلان
فعندما تتماهى بعض الجهات المأزومة داخل الوطن مع الأبواق الخارجية لبث الفتنة، والتشكيك بالمؤسسات الوطنية، معنى ذلك نحن أمام خيانة مقنعة برداء الوطن، حيث تستخدم المنصات الخارجية للنيل من سمعة الوطن والتشكيك في إنجازاته بخاصة عندما تكون هذه الانجازات مرتبطة بمواقف إنسانية لا يمكن المساومة عليها، كالمساعدات التي يتم إرسالها إلى أهلنا في قطاع غزة المدمرة، فمثل هذه المواقف والتصرفات يجعلنا نعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمعارضة، متى تكون شريفة ومتى تسقط في الخيانة ؟
فالمعارضة الشريفة في جوهرها هي فعل ناضج ينبني على الشعور العميق بالمسؤولية، فهي تعارض من أجل أن تبني لا من أجل أن تهدم أو تشوه، وتدافع عن الثوابت الوطنية في الوقت الذي تطالب فيه بالإصلاح، وتمييز بين الدولة ككيان مقدّس لا يجوز المساس به أو العبث، وبين الحكومة كأداة قابلة للنقد والتقويم، فحين تطال المعارضة ثوابت الدولة، وتحرض على مؤسساتها فإنها لا تكون ساعتئذ معارضة، بل خيانة مقنعة بقناع الحرص، وتتغذى على نار الفتنة.
المعارضة الشريفة قد تحاسب الحكومات على تقصيرها أو أدائها، فمن يعيش داخل وطنه ويقارع الرأي بالرأي، ويقف في وجه الخلل حباً في وطنه وخوفاً عليه، فهذا ترفع له القبعات، ولكنه لا يهاجم الأرض والتاريخ والرموز، ولا يتصيد في الماء العكر، ولا يختلق الوقائع ويضخم الأخطاء من أجل النيل من سمعة الوطن، والإخلال بصورته محلياً وعالمياً.
نحن في عصر أضحى الإعلام فيه مفتوحاً حيث يستطيع الشخص من على شرفة منزله، وهو يحتسي فنجاناً من القهوة أن يوصل صوته للعالم، ويعبر عن رأيه بضغطة زر، ولذا من يريد أن يعارض لا يحتاج إلى فم مفتوح فقط، بل إلى ضمير حيّ واعٍ، فليس كل معارضة يقصد منها الإصلاح، ولا كل معارضة جديرة بالاستماع إليها، فالخيانة قد تتسلل من نافذة المصالح الشخصية والحسابات الفئوية، وتغلّف بثوب الحقوق والخوف على المصالح الوطنية، فندخل بسببها في فتنة العصر، التي تربك العقول، وتفقد البوصلة، وتغري البسطاء بشعارات منمقة، قد تفتك بالمجتمع وتمزق وحدته.
والمعارضة الشريفة تعرف أن وقت الشدائد تُختبر المواقف وتنكشف النوايا، فهي تغلق كل الحسابات وتنسى الخصومات والمناكفات، وتضع الوطن في لحظات الشدة أولاً وثانياً وأخيراً، فلا قيمة لمعارضة لا ترى في الوطن ومصالحة خطاً أحمر، ولا كرامة لفكر يرفع شعارات وهو يتواطأ مع كل من يتربص بأمن البلاد واستقرارها.
الأردن الذي أثقلته الجغرافيا بالتحديات واستطاع بحنكة قيادته الحكيمة أن يتخطى كل الصعاب، لا يخشى معارضة شريفة تريد للوطن خيراً، فكم من ناقد في وطننا قد ساهم في الإصلاح، ودفع بمسيرة الديمقراطية إلى الإمام، ولكنه لا يرضى في نفس الوقت أن يكون بوقاً لأجندات خارجية قد تنال من ثوابت الوطن وسمعته.
وهنا نؤكد أن المعارضة الشريفة وجهاً آخر للوطنية، أما المعارضة المأجورة فهي صورة للخيانة، وإن ارتدت ثوباً نظيفاً، والوطن لا يحتاج إلى الذين يصرخون من الخارج ويسيؤون له بالهاشتاغات، بل هو يحتاج إلى من يبنيه من الداخل ويحمل همه في قلبه.
وأخيراً السؤال الذي يجب أن يطرح بجرأة : متى تتحول المعارضة إلى خيانة ؟
الجواب بدون تعقيد: عندما تنتقل المعارضة من ميدان النقد إلى معسكر التحريض ضد الوطن ومؤسساته، عندما تتحدث بلغة التخوين والتحطيم، بدل أن تتحدث بلغة البناء والحرص، عندما تنتقل من المطالبة بالإصلاح إلى التحالف مع خصوم الوطن لإضعافه، عندما تخرج عن الثوابت بحجة الحرص على الوطن.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الغد
منذ ساعة واحدة
- الغد
فتنة العصر (3): كيف تحولت الأوهام الدينية إلى عوائق حضارية؟
د.محمد صبحي العايدي اضافة اعلان على امتداد العقود الماضية واجهت الأمة العربية والإسلامية هزائم سياسية وفكرية متتالية، لم تقتصر آثارها على الساحة الجيوسياسية فحسب، بل تسللت عمقاً إلى الوعي الجمعي، وأحدثت تشوها في فهم الدين ذاته، هذا التشوه ولّد أوهاماً كبرى، تحولت إلى عوائق بنيوية حالت دون استقرار المجتمعات وتقدمها.من هذه الأوهام التي تصدرت هذا المشهد المأزوم هي: وهم الدولة الدينية، ووهم الاصطفاء، والتمترس المذهبي، فلم تعد هذه الأوهام مجرد انحرافات في الفهم، بل أصبحت أدوات لصناعة الجمود والاستبداد والانقسام.أولاً: وهم الدولة الدينيةمفهوم "الدولة الدينية" كما تم تسويقه إلى الوعي العربي والإسلامي لم ينبثق من نقاش علمي رصين او تجربة مدنية ناضجة، بل كان نتاج قلق أيديولوجي، ومحاولة لاستثمار الدين في شرعنة السلطة، فهل الدولة الدينية هي تلك التي يقودها رجال الدين بوصفهم أوصياء على الفهم الصحيح للدين؟ أم هي التي تستنسخ أحكام السلف وتنزلها على واقع متغير دون اعتبار لمتطلبات الزمن؟ أم أنها – على غرار ما شهده التاريخ الأوروبي في عصر الكهنوت – تمثل تفويضاً إلهياً للحكم بلا قوانين أو ضوابط؟في كل هذه الصور التي ذكرناها يتحول الدين من مرجعية سامية تهدف إلى تحرير الإنسان وتكريمة، إلى أداة سياسية في يد فئة تحتكر الحقيقة وتفرض وصياتها على الناس، تقصي الكفاءات لصالح التدين الظاهري والشكلي، وتستبدل المؤسسات بالفتاوى، ويهمش مبدأ المواطنة باسم الانتماء الديني.إن هذه الصيغة من الدولة لا تنتج عدالة، بل تنتج سلطوية مغلفة بالدين، وتصبح الآراء الفقهية فوق صوت الدستور، و" النية الصالحة" بديلاً عن الحوكمة الرشيدة، وهكذا يتحول الحلم بالدولة العادلة إلى كابوس من الاستبداد المقدّس.ثانياً: وهم الاصطفاء أو "الفرقة الناجية"في زمن الانفتاح العالمي، واتساع التواصل بين الشعوب والثقافات، ظهرت جماعات الإسلام التقليدي التي تغلف وجودها ودعوتها بهالة من الاصطفاء الإلهي لها، وترى نفسها الفرقة الناجية الوحيدة ، بل أنها على الحق المطلق، وماعداهم في ضلال مبين، لا لشيء إلا لأن الله اعطاهم امتيازاً لذلك دون بقية الخلق، فنحن هنا أمام تضخم أنوي جماعي، ونرجسية مقنعة بالآيات والأحاديث، أعطت لنفسها امتيازات باسم الدين، وجعلوا من أنفسهم أوصياء على الناس، فهذه الجماعات لا تدعو إلى النجاة بل تحتكرها، ولا تنشر الرحمة بل تحتكر الجنة، وهذا مدخل خطير للتكفير والتدمير ومحاسبة الآخرين بلا رقيب ولا حسيب، فبدل ان يلهمهم الدين التواضع والتقوى الذي هو شعور بالمسؤولية لخدمة الناس، أسكرهم بشعور التميز والتفوق الروحي، ومنحهم سلطة رمزية ونفسية، متجاهلين أن النجاة بالعمل وليس بالادعاء، وبالرحمة لا بالغلظة.ثالثاً: وهم التمترس المذهبيتكونت المذاهب الإسلامية كمناهج علمية للفهم وجسور للمعرفة والحوار، وليست كأسوار للفصل الفكري والمعرفي، فمتى تحولت من مناهج معرفية تنظم الفهم الديني بطريقة علمية إلى هويات دفاعية، يحتمي بها كل من ينتمي لها منغلقا على ذاته، ومحاولا ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، فنحن هنا أمام معضلة كبيرة لا تقل خطورة عن اللامذهبية، فكما تؤدي اللامذهبية الى الفوضى وعدم الاستقرار المجتمعي، فالتمترس المذهبي المنغلق يؤدي الى الجمود وقتل روح الابداع والاجتهاد والتقدم في المجتمعات، والانكفاء على الذات، وهذا يجعل الدين عبئا وعائقاعلى المجتمع بدل أن يكون رافداً من روافد التقدم، وايجاد الحلول للمشكلات وتيسير حياة الناس.وفي الختام...إن هذه الأوهام الثلاثة لم تعد مجرد تصورات مغلوطة، بل تحولت إلى عوائق حضارية حقيقية، تقيّد انطلاق المجتمعات وتهدد السلم الأهلي، وتحول دون تجديد الخطاب الديني، وتلاقي الاجتماع الإنساني.وقد آن الآوان لتحرير الدين من هذه الأوهام، وإعادته إلى دوره الأصيل كمصدر للرحمة، ومرجعية أخلاقية وقيمية لتكريم الإنسان وتحرره لا لتقييده، وبوصلة للخير والنفع العام، لا أداة للتقسيم والتنازع، وروحاً عليا تنير الطريق، لا سيفاً يشهر عند كل اختلاف.


الغد
منذ ساعة واحدة
- الغد
الأردن ودبلوماسية إعادة سورية.. دور محوري في الانفتاح ورفع العقوبات
د. حسن الدعجة اضافة اعلان لعب الأردن دوراً محورياً في الجهود العربية لإعادة سورية إلى محيطها الإقليمي، مستنداً إلى رؤية سياسية واقعية تدرك أهمية استقرار سورية كمدخل لاستقرار المنطقة. لم يقتصر الدور الأردني على الدعوات السياسية، بل شمل خطوات عملية ومبادرات ملموسة، أبرزها التنسيق مع الدول العربية، وفتح قنوات اتصال مباشرة مع دمشق، والمساهمة في مشاريع الربط الإقليمي. كما كان لجلالة الملك عبدالله الثاني دور فاعل في التأثير على صناع القرار في الولايات المتحدة، من خلال اتصالاته مع النخب السياسية الأميركية، لحثّهم على تخفيف العقوبات الغربية المفروضة على سورية، تمهيداً لانخراطها مجدداً في النظام العربي وتعزيز الحل السياسي الشامل.لطالما كان الأردن لاعباً محورياً في النظام العربي، حريصاً على استقرار المنطقة وحل أزماتها بالطرق السياسية والدبلوماسية. ومن بين أبرز الملفات التي برز فيها الدور الأردني خلال العقد الأخير، ملف إعادة سورية إلى الصف العربي بعد سنوات من العزلة والصراع الدموي. فالأردن، إلى جانب عدد من الدول العربية الأخرى كالسعودية والإمارات وقطر وتركيا، ساهم في تهيئة الأرضية السياسية والدبلوماسية لعودة سورية إلى الجامعة العربية، لكنه تميز بموقف أكثر وضوحاً واستباقية، ينبع من قراءة دقيقة للواقع الجيوسياسي الإقليمي، ومن إدراك عميق لتأثير الأزمة السورية على الأمن والاستقرار في الأردن والمنطقة ككل.منذ بدايات الأزمة السورية عام 2011، تضرر الأردن بشكل مباشر من تداعيات الحرب، سواء من حيث اللجوء السوري الكبير الذي شكل عبئاً ديموغرافياً واقتصادياً، أو من حيث التهديدات الأمنية على الحدود الشمالية، وانتشار الجماعات المسلحة والإرهابية. وبالرغم من أن الأردن التزم في البداية بموقف الحياد والدعوة للحل السياسي، إلا أنه لاحقاً بدأ يتحرك باتجاه مقاربة أكثر واقعية، تقوم على الانخراط الفعلي في جهود التهدئة وإعادة التواصل مع النظام السوري.وقد تجلّى هذا التوجه الأردني بوضوح من خلال عدة مبادرات عملية. فقد كان الأردن من أوائل الدول العربية التي دعت صراحة إلى ضرورة إعادة سورية إلى الجامعة العربية، باعتبار أن عزلها عن محيطها العربي قد أثبت فشله، وأن الحوار هو السبيل الوحيد لتجاوز حالة الاستقطاب والانقسام. كما دعا إلى تخفيف العقوبات المفروضة على سورية، والتي لم تؤدِّ سوى إلى تعميق معاناة الشعب السوري وتفاقم الأزمة الاقتصادية والإنسانية.ولعل من أبرز خطوات الأردن في هذا الملف، مساهمته في مشروع إيصال الكهرباء والغاز إلى سورية ولبنان، ضمن ما عُرف بمشروع "الربط الكهربائي العربي"، والذي يحمل دلالة سياسية بقدر ما يحمل بُعداً تنموياً. فالمشروع لا يهدف فقط إلى دعم الاقتصاد السوري، بل يُراد له أن يكون جسراً لإعادة بناء الثقة وإعادة دمج سورية في النظام العربي الرسمي، بعيداً عن الاستقطابات الإقليمية والدولية التي عطلت الحلول لأكثر من عقد.كما أن اللقاء الذي جمع جلالة الملك عبدالله الثاني بالرئيس السوري احمد الشرع في عمان، كان نقطة تحول رمزية وعملية، حملت رسالة واضحة بأن الأردن يؤمن بأهمية الحوار المباشر بين القادة العرب، وبأن تجاوز الماضي يتطلب شجاعة سياسية ومبادرات مسؤولة. وقد تبعته سلسلة من اللقاءات والاتصالات التي ساهمت في تليين المواقف العربية تجاه دمشق.الدور الأردني لم يكن فقط مدفوعاً باعتبارات سياسية أو أمنية، بل يعكس رؤية استراتيجية شاملة ترى في استقرار سورية جزءاً من استقرار الإقليم ككل. فسورية، بحكم موقعها الجغرافي، تمثل نقطة ارتكاز مهمة في المشرق العربي، وغيابها عن المنظومة العربية أضعف العمل العربي المشترك وفتح المجال أمام تدخلات إقليمية ودولية متشابكة. ومن هذا المنطلق، جاء الدور الأردني داعماً لعودة سورية إلى الساحة العربية، ليس من باب المجاملة، بل انطلاقاً من قناعة أن لا حل حقيقياً بدون سورية، ولا استقرار شاملاً دون معالجة جذور الأزمة السورية سياسياً وأمنياً واقتصادياً.وفي السياق ذاته، لم يكن الأردن يعمل منفرداً، بل سعى إلى التنسيق مع السعودية وقطر والإمارات وتركيا، التي رغم تباين مواقفها خلال مراحل الأزمة، إلا أنها التقت في النهاية على أهمية إعادة سورية إلى الجامعة العربية، ودفع النظام السوري للانخراط في مسار سياسي جديد يراعي مصالح الشعب السوري ويوقف نزيف الصراع. وقد عُقدت عدة اجتماعات تشاورية بين وزراء خارجية هذه الدول، كان الأردن حاضراً فيها بفاعلية، مقترحاً مقاربات تدريجية وشاملة لتحقيق هذا الهدف.إن إعادة سورية إلى الصف العربي ليست فقط استحقاقاً سياسياً، بل تمثل أيضاً مدخلاً عملياً لمواجهة تحديات إقليمية مشتركة، كالإرهاب، والتهريب عبر الحدود، وتجارة المخدرات، والتدخلات الأجنبية. وقد عبّر الأردن مراراً عن قلقه من تنامي خطر تهريب المخدرات عبر حدوده الشمالية، ما يوضح أن التنسيق الأمني مع دمشق ضرورة إقليمية، لا ترف دبلوماسي.في المحصلة، يمكن القول إن الدور الأردني في إعادة سورية إلى الحضن العربي يجسد نوعاً من الدبلوماسية الواقعية والمسؤولة، التي توازن بين المبادئ القومية والمصالح الوطنية. فالأردن لم يكتفِ بالمواقف النظرية، بل بادر بالخطوات العملية، وسعى إلى بناء تفاهمات مع الدول العربية الأخرى، وفتح قنوات مع دمشق، دون أن يغفل مطالب الشعب السوري المشروعة أو يتجاهل الأبعاد الإنسانية والسياسية للأزمة.كما لعب جلالة الملك عبدالله الثاني دوراً محورياً في هذا السياق من خلال اتصالاته المتكررة مع صناع القرار والنخب المؤثرة في الولايات المتحدة الأميركية، حيث شدد في أكثر من مناسبة على ضرورة إعادة النظر في سياسة العقوبات الغربية المفروضة على سورية، لما لها من آثار كارثية على الشعب السوري وعلى استقرار المنطقة ككل. وقد هدفت هذه الجهود الأردنية إلى إقناع واشنطن بأهمية اتباع نهج أكثر مرونة وواقعية يتيح الفرصة أمام الحلول السياسية والاقتصادية، ويعزز فرص عودة سورية التدريجية إلى النظام الإقليمي العربي. وبهذا، قدّم الأردن نموذجاً للدولة التي تمارس دور الوسيط النزيه والفاعل، وتضع في أولوياتها أمن المنطقة، ووحدة الصف العربي، والحفاظ على النظام الإقليمي من الانهيار أو التمزق.*استاذ الدراسات الاستراتيجية بجامعة الحسين بن طلال


الغد
منذ ساعة واحدة
- الغد
وطن المجد.. والعهد المتجدد
د. حسن الدعجة* اضافة اعلان في الخامس والعشرين من أيار، يتجدد في قلوب الأردنيين نبض الفخر والاعتزاز، وهم يحتفلون بعيد الاستقلال الثامن والسبعين، مستحضرين ملحمة وطن سطّرها الأحرار بقيادة الهاشميين، ونسجها الشعب بالإيمان والتضحيات. إنها مناسبة لا تقتصر على الاحتفال بالتحرر من الانتداب، بل تأكيد على أن الأردن، وطن المجد والعهد المتجدد، يواصل مسيرته بثبات نحو المستقبل، متمسكا بثوابته، معتزا بقيادته، ورافعا راية العز في وجه التحديات. في هذا اليوم، نستحضر التاريخ، ونقرأ الحاضر، ونرسم ملامح الغد بعقول واعية وقلوب محبة، مجددين العهد لوطن لا تنكسر إرادته ولا تضعف عزيمته.في الخامس والعشرين من أيار من كل عام، يحتفل الأردنيون بذكرى الاستقلال، تلك اللحظة الخالدة التي تُجسد روح النضال الوطني والانعتاق من قيد الانتداب، والانطلاق نحو بناء دولة عربية حديثة ذات سيادة. وفي عام 2025، نحيي الذكرى الثامنة والسبعين لاستقلال المملكة الأردنية الهاشمية، مستذكرين مسيرة وطن صاغها الإيمان، والتضحية، والقيادة الهاشمية الحكيمة، التي ما تزال تمضي بثبات نحو المستقبل رغم التحديات.لقد شكّل الاستقلال عام 1946 ثمرة كفاح طويل خاضه الأردنيون بقيادة الشريفعبد الله بن الحسين، الذي سعى منذ قدومه إلى شرق الأردن إلى تأسيس كيان سياسي مستقر، قائم على الإرادة الحرة والانتماء العربي الأصيل. وجاء إعلان الاستقلال تتويجا لتلك الجهود، حيث أصبح الأردن دولة مستقلة ذات سيادة، وتم تتويج الملك عبدالله الأول ملكا دستوريا على البلاد، ليبدأ بذلك عهد جديد من بناء المؤسسات وصياغة الهوية الوطنية الجامعة. ولم يكن هذا الاستقلال مجرّد انفصال سياسي عن الانتداب البريطاني، بل كان انبعاثا لهوية وطنية متجذّرة في القيم العربية الإسلامية والإنسانية، ورسالة دولة تقوم على الشرعية، والاعتدال، والانفتاح، والتكافل.منذ لحظة الاستقلال وحتى اليوم، أدّى الهاشميون دورا مركزيا في ترسيخ أركان الدولة الأردنية وتحديث مؤسساتها. فقد وضع الملك طلال دستور 1952، الذي عزز الحريات العامة وكرّس مبدأ الفصل بين السلطات، وكان علامة فارقة في المنطقة من حيث تأكيده على الحياة الدستورية والمؤسسية. وتابع الملك الحسين بن طلال المسيرة، رغم العواصف التي عصفت بالمنطقة، فقاد سفينة الوطن بحكمة ورؤية، مثبتا أركان الاستقرار ومكرّسا سيادة الأردن في مرحلة حرجة من تاريخه. أما جلالة الملك عبد الله الثاني، فقد أخذ على عاتقه في عهد العولمة والتحولات الكبرى، أن يقود عملية الإصلاح والتحديث الشامل، من الاقتصاد والتعليم، إلى الإدارة والعدالة الاجتماعية، معززا دور الأردن على الصعيدين الإقليمي والدولي.لم تكن مسيرة ما بعد الاستقلال خالية من التحديات، بل كانت حافلة بالمصاعب والاختبارات الكبرى. فعلى الصعيد السياسي والأمني، واجه الأردن الحروب العربية الإسرائيلية، وتحمل أعباء اللجوء الفلسطيني، ثم لجوء العراقيين، وأخيرا السوريين. وفي كل مرة، أظهر الأردن قدرة استثنائية على الصمود، واحتضان الشقيق قبل الصديق، دون أن يُفرّط بأمنه واستقراره. كما تعرضت المملكة لمحاولات زعزعة أمنها الداخلي، وواجهت ضغوطا اقتصادية كبيرة بفعل شحّ الموارد، وازدياد كلفة الأعباء الاجتماعية. لكن الإرادة السياسية المتجذّرة، والتماسك الشعبي، جعلا من الأردن نموذجا في التوازن والاستقرار.ورغم كل هذه التحديات، سطّر الأردن سلسلة من الإنجازات المضيئة في شتى الميادين. في الاقتصاد، تمكّن من تعزيز أمنه الغذائي، وتطوير مصادر الطاقة المتجددة، ليصبح من الدول الرائدة في هذا المجال إقليميا. وفي التعليم، بلغ الأردن معدلات عالية من الالتحاق في المدارس والجامعات، وحافظ على جودة التعليم رغم الإمكانيات المحدودة، حتى أصبح أبناؤه يشغلون مواقع علمية مرموقة على مستوى العالم. أما في مجال الصحة، فقد تطورت الخدمات الطبية في المدن والأرياف، وارتفع مستوى الرعاية الصحية والوعي المجتمعي، ما انعكس إيجابا على مؤشرات التنمية البشرية. وتقدّمت البنية التحتية بشكل لافت، حيث توسعت شبكات الطرق والنقل، وتحسنت خدمات المياه والكهرباء والاتصالات، ما عزز القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني.أما على الساحة الدولية، فقد رسّخ الأردن مكانته كدولة معتدلة وذات مصداقية، تنأى بنفسها عن الاستقطابات، وتعمل كجسر تواصل بين الشعوب. وقد حظيت سياسته الخارجية باحترام واسع، لما تتصف به من اتزان وحكمة، خاصة في الملفات الإقليمية المعقدة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي تشكّل جوهر الموقف الأردني، وركيزة أساسية في أمنه الوطني والقومي. كما أسهم الأردن بدور فاعل في مكافحة الإرهاب، والدعوة إلى حوار الأديان والثقافات، والانخراط في الجهود الدولية لمواجهة التغير المناخي والأزمات الإنسانية، واضعا كرامة الإنسان في صميم سياساته.وفي هذه الذكرى المجيدة، نستذكر التضحيات الجسام التي قدمها الآباء والأجداد من أجل أن نحيا في وطن حرّ، آمن، ومستقل. ونتطلّع بعين الأمل والثقة إلى مستقبل أكثر إشراقا، يقوم على استثمار طاقات الشباب، وتمكين المرأة، وتوسيع الحريات، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وفق رؤية ملكية شاملة توازن بين الأصالة والمعاصرة. إن الاستقلال ليس مجرد مناسبة للاحتفال، بل دعوة متجددة للعمل من أجل الوطن، وترسيخ قيم الانتماء، وتعزيز مشروع الدولة المدنية الحديثة، التي تقوم على القانون والمؤسسات والكفاءة.الأردن اليوم، وهو يدخل عامه الثامن والسبعين منذ استقلاله، يمضي واثقا في مسيرته، ثابتا في مواقفه، منفتحا على المستقبل، مستندا إلى إرث هاشمي عريق، وإرادة شعبية راسخة. وكلما تعاظمت التحديات، ازداد الأردنيون تماسُكا ووحدة، مدركين أن حريتهم واستقلالهم هما أعز ما يملكون، وأن حب الوطن ليس شعارا يُرفع، بل مسؤولية تُؤدى، وعهدٌ يُجدد كل يوم.كل عام والأردن بخير، شعبا وقيادة ووطنا.*أستاذ الدراسات الإستراتيجية بجامعة الحسين بن طلال