أي إصلاح للأمم المتحدة؟
مثَّل انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية نقطة تحول في السياسة الدولية، خصوصاً من خلال التشكيك الذي طورّته تصريحاته، كما إدارته، فيما يتعلق بالمنظمات الدولية. ومن أبرز رموز هذا التحول أجندة إصلاح منظمة الأمم المتحدة، التي يجسدها مشروع "DOGE-UN" (إدارة كفاءة الحكومة - الأمم المتحدة)، الذي أطلقته الإدارة الأميركية الجديدة مع تعيين الملياردير الجنوب إفريقي، إيلون ماسك، على رأس إدارة مخصصة للكفاءة الحكومية قبل أن تتم إزاحته الأسبوع الماضي من قبل ترامب نفسه. هذا المشروع، الذي روجت له شخصيات مثل هيو دوغان، المندوب الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة، يهدف إلى تحويل المؤسسة بشكل جذري. لكن ما الذي تخفيه فعلاً هذه الرغبة الأميركية في الإصلاح، وما هي تداعياتها على مستقبل النظام الأممي؟
يقدم برنامج DOGE-UN نفسه كاستجابة جذرية لما يعتبره واضعوه ومؤيدوه أمراض الأمم المتحدة المستعصية، كالهدر، الفساد، البيروقراطية المفرطة وعدم الكفاءة. الهدف المعلن من هذا المشروع إذًا هو "تحويل البيروقراطية العميقة للأمم المتحدة إلى دعم فعال للغاية، ينفذ أجندات الدول الأعضاء وفقًا للمبادئ الواردة في ميثاق الأمم المتحدة". هذه البلاغة، التي تعكس مفهوم "الدولة العميقة"، تندرج ضمن استراتيجية شعبوية تهدف إلى مواجهة إدارة دولية، يُنظر إليها على أنها مستقلة أو حتى خارجة عن السيطرة، مع "إرادة الشعوب".
يرتكز البرنامج على أربعة محاور رئيسية: جعل المؤسسة شفافة بالكامل، إنهاء العبء البيروقراطي، مكافحة الاحتيال والفساد، وإعادة السيطرة على الأمم المتحدة إلى الدول الأعضاء في مواجهة ما يُسمى بـ"الاستحواذ البيروقراطي". وإذا لم تكن هذه الشعارات جديدة وتردد صدى مخاوف متكررة منذ عقود، فإن الجديد في الأمر يكمن في حدّة وراديكالية الخطاب المستعمل من قبل ترامب نفسه وإدارته، والذي يترجم رغبة معلنة في القطيعة مع النظام الحالي، وفق الإملاءات الأميركية.
ومع ذلك، سيكون من التبسيط اعتبار أن الأمم المتحدة ظلت صماء أمام هذه الانتقادات. فعلى مدى عدة سنوات، وغالبًا بدفع من الإدارات السابقة في الولايات المتحدة نفسها، كثفت المنظمة الأممية عمليات التدقيق الداخلي والخارجي، وأنشأت آليات للشفافية وعززت إدارة مواردها. وقد أدت الفضائح التي ظهرت للعلن، مثل تلك التي تورطت فيها أخلاقيًا قوات القبعات الزرق لحفظ السلام في جمهورية إفريقيا الوسطى (2014 ـ 2015)، أو الفشل الذريع الذي اعترته ملفات فساد كبرى في إدارة وباء الكوليرا في هايتي عام 2010، إلى تكثيف الرقابة والتحقيقات الداخلية. علاوة على ذلك، فإن الميزانية العادية للأمم المتحدة، التي تبلغ 3.72 مليار دولار للفترة ما بين عامي 2025-2027، تظل متواضعة مقارنة بمهامها ومساهمات الدول الأعضاء البالغ عددها 193 دولة. وحيث تساهم الولايات المتحدة، والتي تعد من أكبر المساهمين، بنسبة 22%، تليها الصين بنسبة 15.2%.. وبالتالي، فإن إدارة ميزانية الأمم المتحدة تخضع بالفعل لقيود شديدة، وقضية الكفاءة في صميم التقارير والإصلاحات الداخلية. إن الدعوة إلى إدارة أفضل ليست أمرًا مستهجنًا في المطلق، لكن من غير العادل الادعاء بأن المنظمة لم تتخذ أي خطوات في هذا الاتجاه.
إحدى الحجج المركزية في جدول أعمال DOGE-UN هي "الاستحواذ البيروقراطي"، وهو القائم على فكرة أن الأمم المتحدة تهيمن عليها إدارة مستقلة، منفصلة عن الدول الأعضاء. هذا الانتقاد يستهدف استقلالية الموظفين الدوليين، التي تعتبر عقبة أمام سيادة الدول. لكن في الواقع، تعمل الأمم المتحدة بفضل تنوع الفاعلين: موظفون دائمون، خبراء، مقررو خاصون ومتعاقدون مؤقتون. كثير من هؤلاء، رغم عملهم باسم الأمم المتحدة، يتم تعيينهم من قبل الدول ومكلفون بتقييم مدى التزامها بالاتفاقيات الدولية. إن هذا التنوع، إلى جانب تعقيد الإجراءات والتكليفات، يفسر الشعور بالغموض الذي يشعر به الجمهور عند حدوث جدل يخص المقررين الخاصين أو تقارير الأمم المتحدة. لذا، من المضلل اختزال الأمم المتحدة إلى مجرد إدارة منفصلة عن الدول الأعضاء.
النقاش حول تسييس الأمم المتحدة هو مسألة معقدة وتعود بنا إلى زمن قديم. فالمنظمة، بطبيعتها، ساحة سياسية تتصارع فيها مصالح الدول، ويبرز هذا خصوصاً في مجلس الأمن. تُطرح اتهامات التسييس أو البيروقراطية بانتظام، حسب الرغبة في انتقاد الإدارة أو الدول نفسها. على سبيل المثال، انسحبت الولايات المتحدة بالفعل من اليونسكو مرتين، بحجج سياسية. وتندرج استراتيجية إدارة ترامب ضمن هذا التقليد، لكنها تستغل النقاش لإضعاف شرعية الأمم المتحدة وتبرير إصلاح جذري، موجّه وغير حيادي.
إصلاح الأمم المتحدة قضية حقيقية وتستحق الوقوف عندها والاهتمام الجدي بها، لكنه لا يمكن أن يقتصر على شعارات أو انتقادات مبسطة للبيروقراطية. فالأمم المتحدة، رغم عيوبها، تظل ساحة تفاوض وتعاون لا غنى عنها في العلاقات الدولية. يجب أخذ الانتقادات على محمل الجد، ولكن وضعها في منظور تاريخي ومؤسساتي، مع تجنب الخلط والتبسيط الذي يخدم في الأساس المصالح السياسية الوطنية الضيّقة. إن مستقبل التعددية سيعتمد على قدرة الدول على إصلاح الأمم المتحدة بشكل بناء، من دون التضحية بالمبادئ الأساسية للتعاون والتضامن الدولي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


IM Lebanon
منذ ساعة واحدة
- IM Lebanon
أميركا تلغي تصاريح الإقامة لأكثر من 500 ألف مهاجر
أعلنت شبكة 'سي إن إن' نقلا عن نسخة من إشعار وزارة الأمن الداخلي الأمريكية أنها ستخطر مئات الآلاف من المهاجرين بأن تصريحهم للحياة والعمل في البلاد قد تم إلغاؤه وأن عليهم المغادرة. ودخل مواطنو كوبا وهايتي ونيكاراغوا وفنزويلا أراضي الولايات المتحدة في إطار برنامج إنساني أطلقته إدارة الرئيس السابق جو بايدن. وفي المجمل، استفاد أكثر من 530 ألف شخص من الدخول الإنساني بموجب البرنامج المعروف باسم CHNV. وأشارت الشبكة إلى أن هذا القرار كان جزءا من سياسة هجرة أوسع نطاقا تنتهجها إدارة دونالد ترامب بهدف ترحيل ملايين المهاجرين قسرا، سواء أولئك الذين دخلوا البلاد بشكل غير قانوني أو حتى قانوني.


LBCI
منذ ساعة واحدة
- LBCI
ترامب يتعهد بجمع الهند وباكستان على طاولة المفاوضات
تعهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخميس بجمع الهند وباكستان على طاولة المفاوضات بعد المواجهة العسكرية الاخيرة بينهما، قائلا إنه قادر على "ايجاد حل لأي شيء". وساهمت الدبلوماسية الأميركية الشهر الماضي في انهاء القتال الذي اندلع بين القوتين النوويتين إثر هجوم في الشطر الهندي من إقليم كشمير. وصرح وزير الخارجية الاميركي ماركو روبيو لدى إعلانه وقف إطلاق النار بأن البلدين اتفقا على بدء محادثات حول مجموعة واسعة من القضايا. ورحبت باكستان التي دفعت دائما نحو دور دولي في كشمير بذلك، لكن الهند التي تربطها علاقات وثيقة بالولايات المتحدة كانت أكثر حذرا. وعندما سئل ما إذا كانت لا تزال هناك خطط قائمة لإجراء محادثات بين الهند وباكستان بعد شهر من وقف إطلاق النار، أجاب ترامب "سوف نقوم بجمع الطرفين معا".


ليبانون 24
منذ 4 ساعات
- ليبانون 24
ترامب: لوس أنجلوس كانت "آمنة" في الليلتين الماضيتين بفضل الجيش
أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ، صباح الخميس، أن لوس أنجلوس كانت "آمنة وبخير خلال الليلتين الماضيتين"، مشيدا بالجنود لمساعدتهم في إعادة فرض النظام في المدينة بعد احتجاجات مناهضة لترحيل مهاجرين استمرت لأيام. وقال ترامب على منصة " تروث سوشال": "حرسنا الوطني العظيم، وبقليل من المساعدة من المارينز ، وضع شرطة لوس أنجلوس في موقع يتيح لها القيام بعملها بشكل فعال"، مضيفا أنه لولا الجيش لكانت المدينة "تحولت إلى ساحة جريمة لم نشهد مثلها منذ سنوات". واندلعت الاحتجاجات التي اتسم معظمها بالسلمية، الأسبوع الماضي، على خلفية تصعيد مفاجئ في مساعي توقيف المهاجرين المقيمين في البلاد بشكل غير قانوني. لكن تخللها العنف أحيانا، إذ أضرم محتجون النار في سيارات أجرة ذاتية القيادة وألقوا الحجارة على الشرطة. وأمر ترامب بنشر الآلاف من عناصر الحرس الوطني ، ونحو 700 عنصر من المارينز (مشاة البحرية) رغم احتجاجات حاكم ولاية كاليفورنيا الديمقراطي غافين نيوسوم، وهي أول مرة يقوم بها رئيس أميركي بخطوة مماثلة منذ عقود. وقال ترامب في منشوره إن نيوسوم "فقد السيطرة تماما على الوضع". وأضاف "يتعيّن عليه أن يقول شكرا لأنني أنقذته بدلا من محاولة تبرير أخطائه وعدم كفاءته".