
الدعم السريع في الرمق الأخير
وقد أتبعت مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي القول بالفعل، عندما رفضت قيادة الجيش والقوى المدنية المناوئة للمليشيا التوقيع على الاتفاق الإطاري، فنفذت وعيدها وتهديدها بالحرب فجر الخامس عشر من شهر أبريل/ نيسان 2023، حيث هاجمت المليشيا مقرات القيادة العامة للجيش مستهدفة بشكل أساسي مقر قائد الجيش عبدالفتاح البرهان لاعتقاله أو قتله حسب ما صرح به في ذلك الوقت قائد مليشيا الدعم السريع حميدتي.
ولم يعد خافيا بعد دخول الحرب عامها الثالث في أبريل/ نيسان الماضي أنها كانت محاولة انقلابية من قبل مليشيا الدعم السريع للاستيلاء على السلطة بقوة السلاح، ومن ثم تطبيق مشروع سياسي متعدد الأبعاد يتضمن مشاريع سياسية فرعية ترمي إلى تحقيق عدة أهداف أبرزها، إجراء تغيير ديمغرافي شامل في السودان، بإزاحة المكونات الإثنية التاريخية الأصيلة، وإحلال مكونات إثنية بديلة من خارج الحدود الجغرافية للسودان، هي في حقيقة الأمر امتداد للمكونات الإثنية الداخلية التي تشكل لحمة وقوام مليشيا الدعم السريع، ومن ثم إخضاع الدولة السودانية كلها لهيمنة وسيطرة هذه المكونات.
هدف آخر أكثر أهمية ويمثل مرتكزا أساسيا لمشروع مليشيا الدعم السريع لحكم السودان وهو هدف اقتصادي يتمثل في السيطرة على الموارد الطبيعية المعدنية والزراعية والحيوانية التي يزخر بها السودان، بالإضافة إلى المنفذ البحري المميز على البحر الأحمر الذي يمتد على حوالي 750 كيلو مترا في موقع إستراتيجي جيوسياسي شديد الأهمية إقليميا ودوليا.
حيث يشكل هذا الموقع أهمية خاصة في أجندة القوى الإقليمية الداعمة للمليشيا ولمشروعها السياسي، بما يمكن وصفه أنه أحد أهم أطماع هذه القوى في السودان.
وهدف ثالث ذو طبيعة مزدوجة، فهو هدف وفي نفس الوقت وسيلة توطد بها مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي أركان ودعائم مشروعها لحكم السودان، وهو السيطرة على طرق ومنافذ الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا وتجارة البشر والتهريب بكافة أنواعه.
فهذه السيطرة تعتبر هدفا يمكنها من السيطرة على الحدود، ووسيلة في نفس الوقت لتمتين العلاقة مع دول الاتحاد الأوروبي التي تمثل الهجرة غير الشرعية لها واحدة من أمهات قضايا أمنها القومي.
وتمتين علاقات التعاون في هذا المجال مع الاتحاد الأوروبي، يوفر شرعية للدولة الجديدة واعترافا بها، وبالتالي يمحو إلى حد كبير تلك المآخذ والآثار السالبة التي رانت على العلاقة بين الجانبين؛ بسبب الجرائم التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في وقت سابق في دارفور قبل أكثر من عقدين من الزمان.
كانت هذه هي أهم معالم وأهداف وملامح مشروع دولة آل دقلو لحكم السودان، حيث رجحت أنها يمكن إقامتها عن طريق الحرب وقوة السلاح.
لكن، وكما تابع العالم كله، فقد فشلت مليشيا الدعم السريع في الوصول إلى الحكم عن طريق القوة العسكرية، حيث أعدت له العدة والعتاد اللازمين، وخططت لذلك بطريقة محكمة، لكن رغم ذلك كان الفشل هو الحصاد، والنتيجة التي أصبحت واقعا ملموسا لا يحتمل الإنكار.
فبعد أن كانت المليشيا تسيطر على العاصمة الخرطوم وولايات الجزيرة وأجزاء واسعة من ولايات سنار والنيل الأبيض واقتربت من حدود ولاية القضارف بشرق السودان وتخوم ولايتي نهر النيل والشمالية بشمال السودان، تراجعت بفعل الحملات العسكرية المتتابعة التي شنها عليها الجيش السوداني والقوات المساندة له والمقاومة الشعبية، حيث استطاعت هذه القوات تحرير كل تلك المناطق المذكورة، واضطرت مليشيا الدعم السريع إلى الهروب إلى دارفور وغرب كردفان.
وفي خضم هذه الحملات التي يشنها الجيش فقدت المليشيا الكثير من قواتها وعتادها وتعرضت لهزائم كبيرة، وانكسرت قوتها الصلبة المتمثلة في القوة المحترفة والمدربة، ولجأت لتعويض هذا الفقد بالاستعانة بمقاتلين مرتزقة من عدد من الدول المجاورة وغير المجاورة، وكذلك لجأت المليشيا إلى التجنيد القسري للأطفال والشباب في وقت وجيز والدفع بهم إلى أتون المعارك.
ونتيجة لذلك ولأسباب أخرى تتعلق بخلافات حول المستحقات المالية، للجنود والضباط، وشح الموارد المالية للمليشيا، وغياب الرعاية الطبية والعلاجية للجرحى والمصابين والتمييز فيها بين المكونات المختلفة للمليشيا، والتعامل الفظ الذي تنتهجه المليشيا إزاء المواطنين في المناطق التي تسيطر عليها، والحصار الذي تفرضه على الفاشر، وهجماتها المتكررة على مخيمات النازحين، وقصف الأحياء والقرى في شمال دارفور، ورفضها التعاون مع المنظمات الإنسانية الدولية؛ لفتح مسارات لإيصال المساعدات والأغذية للمدنيين المحاصرين، تصاعدت أصوات السخط والاحتجاج من داخل هذه المكونات، وبالتالي أصبحت المليشيا عبئا ثقيلا ومصدرا للمعاناة لمواطني وأهالي دارفور.
وأمام هذا الواقع المأزوم، مضافا إليه التجهيزات الضخمة للجيش والقوات المساندة له لمعركة فك الحصار عن الفاشر، وتحرير بقية مدن دارفور والتي يعتبرها الجيش (أم المعارك)، وخاتمة حملاته العسكرية الناجحة ضد المليشيا، فقد جعل هذا الوضع مليشيا الدعم السريع على المحك، وأمام خيارات صعبة للغاية عليها الاختيار من بينها في نطاق زمني ضيق.
فإما أن تصمد وتخوض المعركة ببقايا قوات فارة من ميادين القتال وقابعة في آخر معاقلها، ومثخنة بالجراح والهزائم والخلافات وبمعنويات متدنية، في مواجهة قوات مجهزة بصورة احترافية، وأعدت للمعركة عدتها وعتادها بكافة التشكيلات العسكرية بما فيها الطيران، وبالتالي فالنتيجة الراجحة هي الخسارة والهزيمة، وهذا هو الخيار الأول، وهو خيار يتسم بالمغامرة غير المحسوبة، بل هو خيار انتحاري.
والخيار الثاني أمام مليشيا الدعم السريع، هو الاستسلام حفاظا على ما تبقى من قواتها وتفاديا لمصير قاتم محتوم، غير أن هذا الخيار يضع النهاية لها ويقضي على مستقبلها ويضعها تحت طائلة القانون الداخلي والدولي؛ بسبب جرائمها وانتهاكاتها طوال فترة الحرب.
والخيار الثالث ذو طبيعة سياسية، وهو خيار لا يقل صعوبة ومرارة عن سابقيه، رغم كونه يمثل مخرجا نظريا للمليشيا من مأزقها ووضعها المأزوم، إلا أنه في جوهره يلامس المستحيل، لكنه يظل نافذة الأمل الوحيدة، ونقطة الضوء الخافتة التي تُرى بالكاد في نهاية نفق أزمة المليشيا، وهو خيار عقد تحالف مع خصومها من القوى الدارفورية التي تناصبها العداء تاريخيا والتي تقاتل ضدها في صف الجيش.
وهو خيار تحفه عقبات كبيرة وكثيرة وشائكة، فالجرائم البشعة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في حق هذه القوى وحواضنها المجتمعية والأهلية لا يمكن غفرانها وتناسيها بسهولة، ذلك أن القبول بمثل هذا الخيار من قبل هذه القوى يمثل خسارة كبيرة واستسلاما غير مبرر وهي في أوج قوتها، وعلى مقربة من تحقيق نصر كبير على خصم يعيش أضعف حالاته، وعلى مرمى حجر من هزيمة محققة.
غير أن هذا الخيار الأخير هو الآن في موضع بحث ونظر لدى جهات إقليمية ساندت مليشيا الدعم السريع، وأخرى دولية، لا تريد للجيش السوداني أن ينهي الحرب لصالحه بنصر مشهود وأداء احترافي كان محل ثناء الرئيس ترامب نفسه، فالقوى الإقليمية المساندة للمليشيا ترى في انتصار الجيش على هذا النحو هزيمة لها، ونهاية لأطماعها في السودان، وخروجها من المعادلة كلية.
ومن ناحية أخرى، فإن القوى الدولية وتحديدا القوى الغربية، ورغم أنها حليفة للقوى الإقليمية المنحازة للمليشيا ولديها مصالح مشتركة معها، إلا أنها تقع تحت وطأة ضغوط أخلاقية وإنسانية، وأيديولوجية والتزامات سياسية تتعلق بإستراتيجياتها ومصالحها المرتبطة بالأمن في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، تجعلها غير راغبة في مسايرة حلفائها الإقليميين، والتوغل معهم داخل نفق الأزمة السودانية إلى ما لا نهاية.
أضف إلى ذلك أن السياسة الغربية تجاه المنطقة العربية ظلت وما تزال تقوم على دعم ومساندة وتمكين ما تعتبرهم أقليات مستضعفة داخل دول هذه المنطقة، وأنه من مسلمات هذه السياسة الغربية في حالة وجود نزاع داخلي في هذه الدول، مناصرة الطرف الذي يمثل بنظرها أقلية، ويأتي هذا تقوية لدعائم ما يعتبرونه حفظا لأمنهم القومي في إطاره الشامل.
وبالنظر إلى هذه الحقيقة المعلومة وإذا أنزلناها على الوضع في السودان بصورة عامة، ودارفور بصورة خاصة، نجد أنه من المرجح أن تميل القوى الغربية لترجيح كفة من تعتبرهم أقليات يتوجب عليها نصرتهم ومساندتهم.
وبناء على ما تقدم من حيثيات وفرضيات، مضافا إليها الفشل العسكري للمليشيا على الأرض وهزائمها المتكررة، والفشل السياسي للجناح السياسي لها المسمى حاليا تحالف "صمود"، وآخرها عجزها عن استقطاب الاعتراف والدعم الدولي والإقليمي لحكومتها الموازية التي أعلنت عنها مؤخرا، فإن مصير مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي سيكون إلى فناء وتلاشٍ في الأجل القريب.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
الدعم السريع في الرمق الأخير
ما يقرب من 28 شهرا مرت على إطلاق مليشيا الدعم السريع الرصاصة الأولى بهدف الاستيلاء على مقاليد الحكم في السودان، على خلفية الخلاف بين قيادة الجيش والقوى السياسية المساندة له من جهة، وبين قيادة المليشيا وحليفها السياسي المعروف اختصارا وقتها بـ"قحت" حول ما أطلق عليه حينئذ الاتفاق الإطاري، في نسخته التي أعدتها المليشيا وجناحها السياسي "قحت"، وطالبت قيادة الجيش والقوى السياسية الأخرى بالتوقيع عليه دون إجراء تعديلات عليه كأمر حتمي ولازم، وأشارت بشكل صريح وواضح إلى أن البديل له هو الحرب. وقد أتبعت مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي القول بالفعل، عندما رفضت قيادة الجيش والقوى المدنية المناوئة للمليشيا التوقيع على الاتفاق الإطاري، فنفذت وعيدها وتهديدها بالحرب فجر الخامس عشر من شهر أبريل/ نيسان 2023، حيث هاجمت المليشيا مقرات القيادة العامة للجيش مستهدفة بشكل أساسي مقر قائد الجيش عبدالفتاح البرهان لاعتقاله أو قتله حسب ما صرح به في ذلك الوقت قائد مليشيا الدعم السريع حميدتي. ولم يعد خافيا بعد دخول الحرب عامها الثالث في أبريل/ نيسان الماضي أنها كانت محاولة انقلابية من قبل مليشيا الدعم السريع للاستيلاء على السلطة بقوة السلاح، ومن ثم تطبيق مشروع سياسي متعدد الأبعاد يتضمن مشاريع سياسية فرعية ترمي إلى تحقيق عدة أهداف أبرزها، إجراء تغيير ديمغرافي شامل في السودان، بإزاحة المكونات الإثنية التاريخية الأصيلة، وإحلال مكونات إثنية بديلة من خارج الحدود الجغرافية للسودان، هي في حقيقة الأمر امتداد للمكونات الإثنية الداخلية التي تشكل لحمة وقوام مليشيا الدعم السريع، ومن ثم إخضاع الدولة السودانية كلها لهيمنة وسيطرة هذه المكونات. هدف آخر أكثر أهمية ويمثل مرتكزا أساسيا لمشروع مليشيا الدعم السريع لحكم السودان وهو هدف اقتصادي يتمثل في السيطرة على الموارد الطبيعية المعدنية والزراعية والحيوانية التي يزخر بها السودان، بالإضافة إلى المنفذ البحري المميز على البحر الأحمر الذي يمتد على حوالي 750 كيلو مترا في موقع إستراتيجي جيوسياسي شديد الأهمية إقليميا ودوليا. حيث يشكل هذا الموقع أهمية خاصة في أجندة القوى الإقليمية الداعمة للمليشيا ولمشروعها السياسي، بما يمكن وصفه أنه أحد أهم أطماع هذه القوى في السودان. وهدف ثالث ذو طبيعة مزدوجة، فهو هدف وفي نفس الوقت وسيلة توطد بها مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي أركان ودعائم مشروعها لحكم السودان، وهو السيطرة على طرق ومنافذ الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا وتجارة البشر والتهريب بكافة أنواعه. فهذه السيطرة تعتبر هدفا يمكنها من السيطرة على الحدود، ووسيلة في نفس الوقت لتمتين العلاقة مع دول الاتحاد الأوروبي التي تمثل الهجرة غير الشرعية لها واحدة من أمهات قضايا أمنها القومي. وتمتين علاقات التعاون في هذا المجال مع الاتحاد الأوروبي، يوفر شرعية للدولة الجديدة واعترافا بها، وبالتالي يمحو إلى حد كبير تلك المآخذ والآثار السالبة التي رانت على العلاقة بين الجانبين؛ بسبب الجرائم التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في وقت سابق في دارفور قبل أكثر من عقدين من الزمان. كانت هذه هي أهم معالم وأهداف وملامح مشروع دولة آل دقلو لحكم السودان، حيث رجحت أنها يمكن إقامتها عن طريق الحرب وقوة السلاح. لكن، وكما تابع العالم كله، فقد فشلت مليشيا الدعم السريع في الوصول إلى الحكم عن طريق القوة العسكرية، حيث أعدت له العدة والعتاد اللازمين، وخططت لذلك بطريقة محكمة، لكن رغم ذلك كان الفشل هو الحصاد، والنتيجة التي أصبحت واقعا ملموسا لا يحتمل الإنكار. فبعد أن كانت المليشيا تسيطر على العاصمة الخرطوم وولايات الجزيرة وأجزاء واسعة من ولايات سنار والنيل الأبيض واقتربت من حدود ولاية القضارف بشرق السودان وتخوم ولايتي نهر النيل والشمالية بشمال السودان، تراجعت بفعل الحملات العسكرية المتتابعة التي شنها عليها الجيش السوداني والقوات المساندة له والمقاومة الشعبية، حيث استطاعت هذه القوات تحرير كل تلك المناطق المذكورة، واضطرت مليشيا الدعم السريع إلى الهروب إلى دارفور وغرب كردفان. وفي خضم هذه الحملات التي يشنها الجيش فقدت المليشيا الكثير من قواتها وعتادها وتعرضت لهزائم كبيرة، وانكسرت قوتها الصلبة المتمثلة في القوة المحترفة والمدربة، ولجأت لتعويض هذا الفقد بالاستعانة بمقاتلين مرتزقة من عدد من الدول المجاورة وغير المجاورة، وكذلك لجأت المليشيا إلى التجنيد القسري للأطفال والشباب في وقت وجيز والدفع بهم إلى أتون المعارك. ونتيجة لذلك ولأسباب أخرى تتعلق بخلافات حول المستحقات المالية، للجنود والضباط، وشح الموارد المالية للمليشيا، وغياب الرعاية الطبية والعلاجية للجرحى والمصابين والتمييز فيها بين المكونات المختلفة للمليشيا، والتعامل الفظ الذي تنتهجه المليشيا إزاء المواطنين في المناطق التي تسيطر عليها، والحصار الذي تفرضه على الفاشر، وهجماتها المتكررة على مخيمات النازحين، وقصف الأحياء والقرى في شمال دارفور، ورفضها التعاون مع المنظمات الإنسانية الدولية؛ لفتح مسارات لإيصال المساعدات والأغذية للمدنيين المحاصرين، تصاعدت أصوات السخط والاحتجاج من داخل هذه المكونات، وبالتالي أصبحت المليشيا عبئا ثقيلا ومصدرا للمعاناة لمواطني وأهالي دارفور. وأمام هذا الواقع المأزوم، مضافا إليه التجهيزات الضخمة للجيش والقوات المساندة له لمعركة فك الحصار عن الفاشر، وتحرير بقية مدن دارفور والتي يعتبرها الجيش (أم المعارك)، وخاتمة حملاته العسكرية الناجحة ضد المليشيا، فقد جعل هذا الوضع مليشيا الدعم السريع على المحك، وأمام خيارات صعبة للغاية عليها الاختيار من بينها في نطاق زمني ضيق. فإما أن تصمد وتخوض المعركة ببقايا قوات فارة من ميادين القتال وقابعة في آخر معاقلها، ومثخنة بالجراح والهزائم والخلافات وبمعنويات متدنية، في مواجهة قوات مجهزة بصورة احترافية، وأعدت للمعركة عدتها وعتادها بكافة التشكيلات العسكرية بما فيها الطيران، وبالتالي فالنتيجة الراجحة هي الخسارة والهزيمة، وهذا هو الخيار الأول، وهو خيار يتسم بالمغامرة غير المحسوبة، بل هو خيار انتحاري. والخيار الثاني أمام مليشيا الدعم السريع، هو الاستسلام حفاظا على ما تبقى من قواتها وتفاديا لمصير قاتم محتوم، غير أن هذا الخيار يضع النهاية لها ويقضي على مستقبلها ويضعها تحت طائلة القانون الداخلي والدولي؛ بسبب جرائمها وانتهاكاتها طوال فترة الحرب. والخيار الثالث ذو طبيعة سياسية، وهو خيار لا يقل صعوبة ومرارة عن سابقيه، رغم كونه يمثل مخرجا نظريا للمليشيا من مأزقها ووضعها المأزوم، إلا أنه في جوهره يلامس المستحيل، لكنه يظل نافذة الأمل الوحيدة، ونقطة الضوء الخافتة التي تُرى بالكاد في نهاية نفق أزمة المليشيا، وهو خيار عقد تحالف مع خصومها من القوى الدارفورية التي تناصبها العداء تاريخيا والتي تقاتل ضدها في صف الجيش. وهو خيار تحفه عقبات كبيرة وكثيرة وشائكة، فالجرائم البشعة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع في حق هذه القوى وحواضنها المجتمعية والأهلية لا يمكن غفرانها وتناسيها بسهولة، ذلك أن القبول بمثل هذا الخيار من قبل هذه القوى يمثل خسارة كبيرة واستسلاما غير مبرر وهي في أوج قوتها، وعلى مقربة من تحقيق نصر كبير على خصم يعيش أضعف حالاته، وعلى مرمى حجر من هزيمة محققة. غير أن هذا الخيار الأخير هو الآن في موضع بحث ونظر لدى جهات إقليمية ساندت مليشيا الدعم السريع، وأخرى دولية، لا تريد للجيش السوداني أن ينهي الحرب لصالحه بنصر مشهود وأداء احترافي كان محل ثناء الرئيس ترامب نفسه، فالقوى الإقليمية المساندة للمليشيا ترى في انتصار الجيش على هذا النحو هزيمة لها، ونهاية لأطماعها في السودان، وخروجها من المعادلة كلية. ومن ناحية أخرى، فإن القوى الدولية وتحديدا القوى الغربية، ورغم أنها حليفة للقوى الإقليمية المنحازة للمليشيا ولديها مصالح مشتركة معها، إلا أنها تقع تحت وطأة ضغوط أخلاقية وإنسانية، وأيديولوجية والتزامات سياسية تتعلق بإستراتيجياتها ومصالحها المرتبطة بالأمن في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، تجعلها غير راغبة في مسايرة حلفائها الإقليميين، والتوغل معهم داخل نفق الأزمة السودانية إلى ما لا نهاية. أضف إلى ذلك أن السياسة الغربية تجاه المنطقة العربية ظلت وما تزال تقوم على دعم ومساندة وتمكين ما تعتبرهم أقليات مستضعفة داخل دول هذه المنطقة، وأنه من مسلمات هذه السياسة الغربية في حالة وجود نزاع داخلي في هذه الدول، مناصرة الطرف الذي يمثل بنظرها أقلية، ويأتي هذا تقوية لدعائم ما يعتبرونه حفظا لأمنهم القومي في إطاره الشامل. وبالنظر إلى هذه الحقيقة المعلومة وإذا أنزلناها على الوضع في السودان بصورة عامة، ودارفور بصورة خاصة، نجد أنه من المرجح أن تميل القوى الغربية لترجيح كفة من تعتبرهم أقليات يتوجب عليها نصرتهم ومساندتهم. وبناء على ما تقدم من حيثيات وفرضيات، مضافا إليها الفشل العسكري للمليشيا على الأرض وهزائمها المتكررة، والفشل السياسي للجناح السياسي لها المسمى حاليا تحالف "صمود"، وآخرها عجزها عن استقطاب الاعتراف والدعم الدولي والإقليمي لحكومتها الموازية التي أعلنت عنها مؤخرا، فإن مصير مليشيا الدعم السريع وجناحها السياسي سيكون إلى فناء وتلاشٍ في الأجل القريب.


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
مليونا لاجئ في خطر مع تراجع التمويل الطارئ في أوغندا
قالت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إن أوغندا تقترب من استضافة مليوني لاجئ في ظل تفاقم الأزمات في السودان وجنوب السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية". وأضافت المفوضية أن هذه الأزمات تدفع مئات الأشخاص يوميا لعبور الحدود بحثا عن الأمان والمساعدة المنقذة للحياة. وقالت مديرة العلاقات الخارجية في المفوضية دومينيك هايد، والتي زارت مؤخرا مستوطنات للاجئين السودانيين وجنوب السودانيين في أوغندا إنها "قابلت فتاة تبلغ من العمر 16 عاما فرت من العنف في جنوب السودان، وهي الآن ترعى إخوتها الأربعة بعد فقدان والديها". وأضافت هايد أن الفتاة الفارة من جنوب السودان تحلم بالعودة إلى المدرسة، لكن كل ما يشغلها الآن هو البقاء على قيد الحياة، وأكدت أن التمويل الطارئ سينفد في سبتمبر/أيلول. وأشارت إلى أن المزيد من الأطفال "سيموتون بسبب سوء التغذية، والمزيد من الفتيات سيقعن ضحية للعنف الجنسي، وستُترك العائلات بلا مأوى أو حماية إذا لم يتحرك العالم"، وأفادت بأن أوغندا فتحت "أبوابها ومدارسها ومراكزها الصحية. هذا النموذج يمكن أن ينجح، لكنه لا يمكن أن يستمر وحده". وحسب المفوضية، وصل إلى أوغندا ما معدله 600 شخص يوميا منذ بداية عام 2025، ومن المتوقع أن يصل العدد الإجمالي إلى مليوني لاجئ بنهاية العام. واعتبرت المفوضية أوغندا أكبر دولة مضيفة للاجئين في إفريقيا، والثالثة عالميا، إذ تستضيف حاليا 1.93 مليون لاجئ، أكثر من مليون منهم دون سن 18 عاما، ووصل من بين هؤلاء أكثر من 48 ألف طفل ومراهق بمفردهم. وفي ظل هذه الأوضاع تواجه الاستجابة الإنسانية حاليا واحدة من أسوأ أزمات التمويل منذ عقود. وتسمح سياسة أوغندا تجاه اللاجئين لهم بالعيش والعمل والوصول إلى الخدمات العامة، ولكن نقص التمويل يؤثر بشكل كبير على تقديم المساعدات ويهدد بتقويض سنوات من التقدم. وتُقدَّر تكلفة تلبية احتياجات لاجئ واحد في أوغندا بحوالي 16 دولارا شهريا في عام 2025، ولكن في ظل نقص التمويل، لن تتمكن المفوضية من تقديم سوى 5 دولارات شهريا لكل لاجئ. ومع تقلص إمدادات الغذاء والماء والدواء، ترتفع معدلات سوء التغذية، خصوصا بين الأطفال دون سن الخامسة بوتيرة مقلقة. كما يُضطر اللاجئون إلى اتخاذ قرارات مصيرية للبقاء على قيد الحياة، منها ترك التعليم، كما تزداد تقارير العنف القائم على النوع الاجتماعي، ويرتفع خطر الانتحار بين الشباب اللاجئين مع تناقص عدد العاملين في مجال الصحة النفسية. وبحلول نهاية يوليو/تموز، لم تمتلك المفوضية موارد كافية إلا لدعم أقل من 18 ألف شخص بالمساعدات النقدية والمواد الإغاثية الأساسية، وهو ما يكفي لتغطية شهرين فقط من أعداد الوافدين الجدد الحالية. ولا يتجاوز تمويل استجابة أوغندا لأزمة اللاجئين نسبة 25%. وتدعو المفوضية إلى دعم دولي عاجل ومستدام، بما في ذلك من الجهات الفاعلة في مجال التنمية، لضمان أن يتمكن اللاجئون والمجتمعات المضيفة لهم من العيش بأمان وكرامة.


الجزيرة
منذ 3 ساعات
- الجزيرة
بالفيديو.. قصة الغزي عز الدين في مرمى التجويع بقدم مبتورة
غزة- فوق سطح بناية متهاوية لا تصلح للعيش الآدمي، وفي غرفة مستأجرة جدرانها متآكلة وسقفها من الصفيح الملتهب صيفا، بلا كهرباء التي يعاني الغزيون انقطاعها منذ بدء الحرب قبل 22 شهرا، أو أدنى مقومات للحياة يعيش عز الدين الباز (36 عاما) برفقة زوجته صفاء (33 عاما) وطفلتيه الصغيرتين مسك (سنتان) والرضيعة ماسة (4 أشهر). يضطر الباز أحيانا كثيرة إلى صعود درج البناية على عكازيه، متحملا مشقة كبيرة نتيجة إصابة بالغة تعرّض لها من جيش الاحتلال الاسرائيلي أدت إلى بتر قدمه اليمنى، وفاقمت معاناته جسديا ونفسيا، وتركته مجبرا على ذلك، ولا يملك خيارا آخر. يصل عز الدين إلى غرفته الصغيرة على السطح يتصبب عرقا، يضع عكازيه جانبا، ويأخذ نفسا عميقا ثم يقول للجزيرة نت "الشكوى لغير الله مذلة، لكن ما نمرّ به اليوم فاق كل التصورات، ولم نتوقع حدوثه حتى في خيالنا وأحلامنا". قبل الحرب وبعدها ويضيف متسائلا "كيف تطلب من شخص فقد جزءا غاليا من جسده وأصبح من ذوي الإعاقة أن يتحدث عن حياته أو ظروفه؟ صورتي ومنظري يغنيان عن كل الكلام". وتابع "لا كلام في حضرة الجوع، ولا عبارات تصف ألم البطون الخاوية، الجوع كافر، ومن جوّعنا كافر، ومن سكت عن تجويعنا كافر، نموت كل يوم بصمت، ليس بالرصاص هذه المرة، بل بالخذلان والإهمال وب التجويع البطيء الذي لا يُرى في نشرات الأخبار". يقاسي الباز كغيره من الغزيين صعوبة العيش ووجع الجوع، ويحصل على طعامه بصعوبة بالغة، تساعده في ذلك عائلته، حيث ترسل له والدته بعض الطحين لتعجنه وتخبزه زوجته، إضافة إلى طبق من الطعام ليأكلوه جميعا. وفي الليل، حين يسكن كل شيء يعلو أنين المعدة الخاوية، مع ضجيج الطائرات والصواريخ وصوت القذائف والانفجارات، ويصبح الطحين أملا، وكسرة الخبز حلما مؤجلا لأهل غزة ، ويغدو الحليب أمنية من الخيال للأطفال. ويضيف "قبل الحرب بالكاد كنت أستطيع العيش، فأنا مقعد ولا أستطيع العمل، وأعيش في بيت مستأجر، وقد تراكمت عليّ المبالغ، لكن صاحب المنزل كثيرا ما يتعاطف معي بسبب ظروفي". كان الباز يتقاضى راتبا حكوميا بصفته "جريحا"، وتم إيقافه منذ بداية الحرب بسبب وقف إسرائيل عائدات السلطة الوطنية الفلسطينية من المقاصة واستقطاع أموال الأسرى والجرحى منها بحجة "دعم الإرهاب"، ومنذ ذلك الحين لم يحصل على أي مساعدات أو معونات، مما زاد فقره وجوعه. الجوع ضاعف الهم وبينما يوفر له إخوته بعض المعلبات والخضروات تساهم شقيقاته في إعداد بعض أطباق الطعام التي لا تخلو من العدس أو الفاصولياء، كما يناشد المؤسسات وجمعيات الإغاثة المحلية والدولية توفير احتياجه من الطعام والحليب والحفاضات لطفلتيه. ويقول "عندما فقدت قدمي اليمنى وأصبحت عاجزا عن القيام بأبسط الأمور التي كنت أعتبرها عادية حينها فقط أدركت أنني فقدت شيئا لن يعود، ومنذ ذلك اليوم لم تعد خطواتي كما كانت، ولا أيامي كما عهدتها"، ويتساءل "بعد أن فقدت عملي الذي يتطلب مني الوقوف والحركة كيف يمكنني فعل ذلك وأنا بقدم واحدة؟!". جاءت الحرب وزادت معها مأساة الباز وتضاعف همه، فالجوع زاد وأصبح قاتلا، وحمله صار ثقيلا، ولم يعد قادرا بكل معنى الكلمة، وكل أحلامه صارت مرهونة بكسرة خبز أو حفنة طحين وطبق طعام. ويعاني الباز وزوجته وطفلتاه من جوع حاد، ويمكثون أياما دون أن يدخل الخبز بيتهم، ويعيشون على ما يقدمه أهالي الخير والجيران من طعام، فهو لا يستطيع الذهاب للحصول على المساعدات القريبة من المناطق الخطرة بسبب حالته. الكل جائع وتشير الزوجة صفاء إلى حجم الألم الذي يختلج صدرها من همّ الفقر والحاجة ووجع الجوع، وتقول للجزيرة نت "في زمن الجوع كلنا سواسية، ورغم مساعدة الأقارب والجيران لنا فإنه لا يمكنك طلب أي شيء منهم، فالكل جائع، والكل بالكاد يجد طعامه، رغيف الخبز اليوم يساوي حياة لكثير من الناس، والتنازل عنه في هذه الظروف أشبه بالمستحيل". ولا تعرف صفاء كيف تتدبر أمورها لسد جوعهم، خاصة أنه لديها طفلتين تحتاجان للحليب، وهو غير متوفر أصلا، وبصعوبة تحصل عليه من بعض الجمعيات والمؤسسات الداعمة، وإن وُجد في السوق فيكون سعره مرتفعا جدا ولا تستطيع شراءه، وفي الوقت نفسه لا تقدر على الرضاعة الطبيعية لمعاناتها شخصيا من الجوع ونقص الغذاء. وتضيف "كثيرون يساعدوننا من أهل الخير، فبعضهم يقدم المال، وآخرون يعطوننا قسائم المساعدات والطحين وأرغفة الخبز رغم قساوة الظروف على الجميع، وهكذا تسير حياتنا بكل صعوبة وقسوة". ويواجه الأطفال الرضّع في قطاع غزة كوارث صحية بسبب نقص ونفاد حليب الأطفال من المستشفيات والأسواق، ويحذر الأطباء من أن الأطفال الذين يعتمدون عليه قد يواجهون خطر الموت إذا حُرموا من غذائهم الوحيد، في ظل عجز كثير من الأمهات عن الإرضاع الطبيعي نتيجة سوء التغذية الحاد. الاستسلام للجوع وقد تسبب الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة منذ بدء الحرب بحرمان القطاع بالكامل من دخول حليب الأطفال، مما فاقم خطورة الأوضاع الصحية التي بلغت مستويات غير مسبوقة من التدهور وسوء التغذية بين الصغار. وراكمت الحرب معاناة عائلة الباز، ويحكي الزوج أكثر الجوانب وجعا فوق مأساة التجويع التي يتعرض لها وأسرته، لا بيت ولا مال ولا طحين أو خبز سوى ما يجود به عليه الخيّرون، ومع ذلك يصبر هو وزوجته على الجوع، ويقول إنه يتحمل ذلك، لكن كيف بطفليته تصبران على نقص الحليب والطعام؟ يتساءل بقهر. ويختم قصة معاناته "أعيش على سطح بناية قديمة، كل درجة فيها معركة، وكل صباح تحدّ جديد مع الألم والجوع، صرت أُجبر على الصعود والنزول على عكازين، أقاوم التعب ونظرات الشفقة وشعور الانكسار، وأهرب من جوعي وجوع زوجتي وطفلتَيّ، من عتاب نفسي ولومها، كيف استسلمت أمام تحدّ لطالما كنت قادرا على تجاوزه، قبل أن يهزمني الجوع في منتهى ضعفي".