
القوّة الدّوليّة: ما لا يريده 'الحزب' وإسرائيل
بقلم نقولا ناصيف
ربّما بات من باب لزوم ما لا يلزم القول إنّ أحداً لم يعُد يصدّق أنّ ما يتعرّض له رجال القبّعات الزرق جنوب نهر الليطاني، يُعزى إلى تطفّلهم على تقاليد البلدات والقرى وافتعال الخناقات مع سكّانها، والاعتداء على أملاكهم وبساتينهم. ما لم يعُد قابلاً للتصديق أيضاً أنّ الموجة الجديدة من الصدامات بين الأهالي والقوّة الدولية تتوخّى فرض قواعد اشتباك جديدة يُراد منها جعل البلدات والقرى أداة المواجهة المقبلة.
في أسبوع واحد تبادل 'الحزب' وإسرائيل ما يتخطّى عدّه عرض قوّة إضافيّاً إلى شبه اشتباك بالواسطة. مذ أُعلن وقف النار في 27 تشرين الثاني الفائت، انقطع 'الحزب' تماماً عن أيّ تحرّك أو دور له جنوب نهر الليطاني، كأنّه أقرّ باستسلامه في الحرب وهزيمته وخروجه من معادلة المواجهة المباشرة مع الدولة العبرية. في المقابل لم تتوقّف إسرائيل عن هجماتها على رجاله ومنشآته وما افترضت أنّها بناه العسكرية وصولاً إلى الضاحية الجنوبية لبيروت.
مذّاك تكرّست ولا تزال قواعد اشتباك جديدة لا طرف ثانياً فيها، ولا عدوّاً قبالة إسرائيل. سقطت كلّ تلك القواعد التي فاخر 'الحزب' بأنّه فرضها على إسرائيل منذ تفاهم نيسان 1996 وتبدّلت وتقلّبت، إلّأ أنّها حافظت على توازن ما دعاه الردع. في المرحلة الحالية لا قواعد اشتباك إلّا تلك المقترنة بالآلة العسكرية الإسرائيلية من خلال الهجمات العدائية الدوريّة.
مضايقة القوّة الدّوليّة
منذ 29 أيّار المنصرم دخل عامل جديد على أمن الجنوب، وهو تحرّك أهالي قرى ومضايقاتهم للقوّة الدولية جنوب نهر الليطاني بذرائع شتّى. دفع تكرارُها مذّاك إلى الاعتقاد بأنّها متعمّدة مدروسة ومتدرّجة، وقد بلغت ذروتها الثلاثاء بالاعتداء على رجال القبّعات الزرق. دونما أن تتّهم قيادة القوّة الدولية 'الحزب' بتأليب الأهالي عليها وتحريضهم، فُهمت الرسالة المباشرة، والمقصود بها أنّ 'الحزب' عاد إلى ساحة الجنوب بقشرة الأهالي في خطوة أولى.
على أنّ ما حدث الثلاثاء أعاد إلى الأذهان بضع ملاحظات، لا تقتصر على طرح مصير القوّة الدولية واستمرارها في الجنوب فحسب، بل تتعدّاه إلى الخشية ممّا هو أدهى دونما إرغامها بالضرورة على إنهاء انتدابها على لبنان منذ عام 1978 والمعزّز بعد حرب تمّوز 2006:
أولى الملاحظات هي استعادة موقف 'الحزب' الذي كان قد أبلغه في آب 2023 إلى حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ومفاده أنّه لا يمانع إنهاء انتدابها على لبنان في ضوء سجال دار حينذاك حول تعديل مهمّاتها ومنحها المزيد من التحرّك والاستقلال في معزل عن مرافقة الجيش اللبناني لها.
حدث ذلك قبل خمسة أسابيع من اندلاع 'طوفان الأقصى' في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) وانخراط 'الحزب' فيه في اليوم التالي. بالتفاهم مع ميقاتي، ذهب وزير الخارجية آنذاك عبدالله بوحبيب إلى نيويورك في 23 آب ولمّح أمام الأميركيين والفرنسيين، أكثر المعنيّين بالإبقاء على القوّة الدولية في الجنوب، إلى عدم ممانعة لبنان الاستغناء عنها. غضبوا، وتفهّموا وجهة نظره بالإبقاء على المهمّات الحالية لها بلا تعديل حرصاً على ضمان استقرار الجنوب. ذلك ما لم يحدث بعد أكثر من شهر من اشتعال جبهته مع إسرائيل.
ثانيتها أنّه مذ تحوّلت قوّة الأمم المتحدة في لبنان بعد حرب تمّوز إلى قوّة معزّزة، سارع 'الحزب' من حين إلى آخر، كلّما رامَ توجيه إشارة سلبيّة، إلى افتعال صدامات معها عبر أهالي البلدات والقرى بذرائع شكليّة ضمرت الموقف الفعليّ والحقيقي له، وهو أنّ رجالها 'جواسيس' لإسرائيل أو لدولهم. مناوأته لها لا تقلّ ضراوة عن اعتراض إسرائيل على وجودها عازلاً بينها وبين 'الحزب' بين عامَيْ 2006 و2023، كان الأخير من ورائه يثبّت بناه ومنشآته العسكرية وانتشاره وحفر أنفاقه وتخزين أسلحته في جوف الأرض.
تقاطع 'الحزب' وإسرائيل
بذلك تقاطَعَ 'الحزب' وإسرائيل على رفض أيّ دور للقوّة الدولية ما لم يتطابق مع ما يريده كلٌّ منهما منها. وكان ثالثهما في هذا الموقف الأميركيين الذين تباين موقفهم من رجال القبّعات الزرق الذين يكبّدون الخزينة الأميركية سنويّاً 150 مليون دولار أميركي لتمويل مهمّتهم في لبنان.
في ولاية الرئيس السابق جو بايدن تمسّكت واشنطن بالإبقاء على التمويل وعلى وظيفة القوّة الدولية مع تحبيذها منحها وتفويضها مهمّات إضافية كانت تصرّ عليها الدولة العبرية وجعل صلاحيّاتها مستقلّة عن الجيش اللبناني، وهو ما رفضه لبنان و'الحزب' معاً. في ولاية الرئيس الحالي دونالد ترامب أضحى الموقف مختلفاً وأكثر نفوراً.
باشر تخفيف تمويل إدارته للمنظّمات الدولية بما فيها مهمّات القوّة الدولية حيثما كانت، وبات أكثر ميلاً إلى خفض عديدها في جنوب لبنان مع شرط التوسّع في صلاحيّاتها بما يشمل حرّية التحرّك والتنقّل وإجراء الدوريّات والحقّ الصارم في الدفاع عن النفس والمواجهة، دونما الوصول إلى إدراج مهمّتها تحت الفصل السابع، الجاري التلويح به من حين إلى آخر على أبواب كلّ تجديد انتداب والخوض في إعادة النظر في الصلاحيّات.
لا وقف للاعتداءات
ثالثتها تأكيد إسرائيل من خلال اعتداءاتها المتواصلة أنّها لن توقفها ما لم تتأكّد أخيراً من القضاء النهائي على القوّة العسكرية لـ'الحزب' شمال نهر الليطاني كما جنوبه، بمعزل عن أيّ ضغوط تمارسها على القوّة الدولية وما تتطلّبه منها. لم تتحمّس في الأصل لوجودها كإحدى أدوات القرار 425 عام 1978، ثمّ معزّزة كإحدى أدوات تنفيذ القرار 1701 عام 2006. بيد أنّها بعد الحرب الأخيرة لم تعُد المعوَّل عليه لتنفيذ الطبعة المنقّحة للقرار 1701 على أنّها ضامن استقرار جنوب نهر الليطاني والخطّ الأزرق.
أعطت الدولة العبرية لنفسها، من خلال قرار وقف النار ورسالة الضمانات المتبادلة بينها وبين الإدارة الأميركية السابقة، حقّ أن تمسي هي مرجعيّة الحسم في الجنوب اللبناني، والتدخّل ساعة تشاء، واستخدام كلّ وسائل العنف ضدّ عدوّها وفي أيّ بقعة في لبنان.
واقع ما تعنيه الهجمات الإسرائيلية على الجنوب والضاحية الجنوبية هو استكمال حرب 2024 بـ'الوصلة' الأخيرة لها للتحقّق من أن لا سلاح بقي لدى 'الحزب'، وهو ما يتقاطع عنده الإسرائيليون والأميركيون باستثناء ما تلحّ عليه واشنطن من أن لا يقود استمرار مهاجمته إلى التورّط في حرب مع إيران.
أكثر من أيّ وقت مضى في تاريخ مواجهاته المفتوحة مع إسرائيل منذ عام 1993، أضحى 'الحزب' خارج موازين القوى العسكرية في الجنوب، وهو ما يجعله 'يهرِّب' سمعة مقاومته من خلال الأهالي ضدّ الطرف المسالم هناك.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى البلد
منذ 2 ساعات
- صدى البلد
إيران تستهدف إسرائيل بخمس موجات صاروخية.. الحرس الثوري يعلن قصف 150 موقعًا.. والصين والأمم المتحدة تدعوان إلى خفض التصعيد
نشر موقع "صدى البلد" الإخباري خلال الساعات القليلة الماضية، عددًا من الأخبار والموضوعات المهمة التي تتعلق بالشأنين الإقليمي والدولي كان أبرزها: أعلن الجيش الإسرائيلي، السبت، رصد إطلاق صواريخ من إيران باتجاه أهداف داخل إسرائيل, تواصل التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل فجر السبت مع تعرض وسط إسرائيل لهجوم صاروخي خامس نفذته طهران، حيث أفادت الإذاعة الإسرائيلية بسقوط صواريخ في منطقة تل أبيب الكبرى، تحديدًا في مدينة ريشون لتسيون، ما أسفر عن أضرار مادية واسعة وإصابات في صفوف السكان. كشف اللواء أحمد وحيدي، المستشار الأعلى للقائد العام للقوات المسلحة الإيرانية علي خامنئي، عن تفاصيل الضربات الصاروخية الواسعة التي شنّها الحرس الثوري الإيراني ضد إسرائيل مساء الجمعة، ضمن عملية عسكرية حملت اسم "وعد الصادق 3". تداولت وسائل إعلام عبرية ومستخدمون على مواقع التواصل الاجتماعي، السبت، مقاطع فيديو توثق لحظة تعرض مقر هيئة أركان الجيش الإسرائيلي في تل أبيب لقصف إيراني مباشر، حيث شوهدت أعمدة الدخان الكثيف تتصاعد من المنطقة المستهدفة وسط المدينة. دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش الجمعة إيران وإسرائيل إلى احتواء التصعيد ووقف الأعمال العدائية، بعد سلسلة هجمات جوية متبادلة بينهما. أدان السفير الصيني لدى الأمم المتحدة فو كونج، اليوم السبت، الاعتداءات الإسرائيلية على إيران، معربًا عن قلق بلاده من تصاعد حدة الصراع بين الجانبين في المنطقة، وذلك وفق ما نقلته وكالة أنباء الصين الجديدة "شينخوا". أعلنت جمعية نجمة داوود الحمراء، السبت، عن مقتل شخصين وسط البلاد جراء إصابة المباشرة ناتجة عن الهجوم الإيراني الأخير، فيما ارتفع عدد الجرحى إلى 90 شخصًا. في تصعيد نوعي للهجمات بين طهران وتل أبيب، أكدت تقارير إعلامية أن الضربات الصاروخية التي أطلقتها إيران مساء الجمعة، استهدفت بشكل مباشر مقر الوحدة 8200 الإسرائيلية، إحدى أبرز وحدات الاستخبارات الإلكترونية النخبوية التابعة للجيش الإسرائيلي، والتي تتمركز في مدينة تل أبيب. أعلن رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنجبي، أن الهجمات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت منشآت عسكرية ونووية في إيران لا تشمل حتى الآن استهداف قيادة الجمهورية الإسلامية، وعلى رأسها المرشد الأعلى علي خامنئي. أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي، السبت، تفعيل صفارات الإنذار في مناطق واسعة جنوب البلاد، شملت البحر الميت ومنطقة العربة وصولًا إلى إيلات، بعد تحذيرات من اختراق طائرات مسيرات إيرانية. في تطور خطير للصراع بين إسرائيل وإيران، أعلن الإعلام الرسمي الإيراني، صباح السبت، عن تفعيل أنظمة الدفاع الجوي فوق العاصمة طهران للتصدي لهجوم إسرائيلي جديد. أعلن سفير إيران لدى الأمم المتحدة، أمير سعيد إيرواني، مساء الجمعة، أن الهجمات الإسرائيلية الواسعة التي استهدفت منشآت عسكرية ونووية إيرانية أسفرت عن مقتل 78 شخصاً بينهم مسؤولون عسكريون كبار، وإصابة أكثر من 320 آخرين بجروح متفاوتة.

المدن
منذ 3 ساعات
- المدن
مَن يجيب على السؤال الإسرائيلي الكبير؟
ليس خبراً القصفُ الإسرائيلي لمنشآت إيرانية نووية وأخرى عسكرية، واستهداف شخصيات كبرى ذات صلة بالمضمارين. الخبر هو في تفاصيل الضربات الإسرائيلية فجر يوم الجمعة. فليس تفصيلاً على الإطلاق أن تشارك مئتا مقاتلة إسرائيلية في ضربات على أهداف بعيدة جداً عن تل أبيب، ولا هو بالتفصيل العابر استهدافُ شخصيات من الصف الأول بنجاح، أو مشاركة عناصر كوماندوس في الهجوم، أو مشاركة مسيَّرات انتحارية كانت معدّة على الأراضي الإيرانية في انتظار أوامر الإطلاق، بالتزامن مع القصف الذي نفّذته الطائرات المقاتلة من الجو. حدث مماثل، من حيث اجتماع العناصر الاستخباراتية والعسكرية، كان عندما نفّذت إسرائيل عملية "البيجر"، وما رافقها وتلاها من استهداف لقيادات في حزب الله. وبعيداً عن المكابرة، يمكن الجزم بأن الحزب لم يعد تلك القوة المرهوبة داخلياً، أو حتى خارجياً بوصفه درّة التاج الإيراني، وبوصف صواريخه أداةً تردع تل أبيب عن استهداف طهران. وكما هو معلوم، بدأ الأمر كله بعملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها حماس في السابع من أكتوبر 2023، ولم يكن أقوى المتشائمين بصيرةً ليتوقع عدم انتهاء الرد الإسرائيلي بعد ما يزيد عن عشرين شهراً. في الأصل، أتى الرد الإسرائيلي غير متناسب إطلاقاً مع عملية حماس، ومن الواضح أن مراميه أبعد بكثير من مجرد الرد، أو من مجرد استئصال قدرات حماس بأكملها. نحن نعجز حتى عن وصف الجحيم الذي عاشه فلسطينيو غزة خلال هذه الفترة، وحتى تمنّي نجاتهم بأي ثمن لا يبدو متاحاً، ولا يُعرف تحديداً الـ(أي ثمن) الذي تقبل به تل أبيب. على مستوى متدنٍّ، قصفت الطائرات الإسرائيلية هدفاً في الضاحية الجنوبية قبل أيام قليلة، وهي ليست المرة الأولى التي تقصف فيها، مخترقةً وقف إطلاق النار المعلن بينها وبين الحزب. في غزة، حالةُ مدّ وجزر العمليات العسكرية مستمرة، وقد شهدت الأيام الأخيرة أيضاً تصعيداً إضافياً، إلا أن الوصف الأخير فقد دلالته اللغوية لكثرة ما استُخدِم، فلم نعد نعرف ما هو التصعيد الاعتيادي ليُعرَف الإضافي. في سوريا، توغّلت القوات الإسرائيلية مسافة إضافية في الأيام الأخيرة، وأخبار التوغّل صارت معتادة، ويجوز القول إن تل أبيب فرضت حدوداً جديدة لتواجد قواتها منذ سيطرت على المنطقة المنزوعة السلاح في الجانب السوري، بموجب اتفاقية الهدنة لعام 1974، ولم تكترث بالإشارات الإيجابية تجاهها الآتية من دمشق. في واحد من جوانبها، غير الأساسية أو المقصودة بذاتها، يمكن اعتبار العملية الإسرائيلية الأخيرة رسالة للعديد من الدول في الإقليم، مفادها طول الذراع العسكرية الإسرائيلية عند اللزوم. هذا قد يكون له آثار على العديد من الملفات الإقليمية. ومنذ مدة تسرّبت أخبار عن تراجع أنقرة عن إقامة قواعد عسكرية في سوريا، بعد قصف إسرائيل المواقع المفترضة لإقامتها، قبل الشروع في ذلك. الضربات الإسرائيلية لطهران وحلفائها مبعثُ فرح للمتضررين من المشروع الإيراني في المنطقة، وفي مقدمهم أولياء الضحايا الذين قتلتهم الميليشيات الإيرانية في سوريا، وهناك في القائمة ذاتها متضررين في اليمن وغيره. وكان ثمة قناعة رائجة من قبل، مفادها أن النفوذ الإيراني يتضخم بلا ممانعة إسرائيلية، وأن تل أبيب قادرة على الإجهاز عليه عندما تحين لحظة المواجهة. لكن، رغم هذه القناعة، لم يكن متوقَّعاً حدوث ذلك بالسهولة التي حدث بها في سوريا ولبنان، حيث يفترض أن النفوذ الإيراني فيهما هو خط التماس بين الجانبين. أيضاً، كانت هناك فرضية رائجة، خصوصاً مع وجود الحزب الديموقراطي في البيت الأبيض، فحواها المقايضة بين البرنامج النووي والنفوذ الإقليمي، بحيث تكسب طهران في الثاني بمقدار تنازلاتها في الأول. وظهر خلال حكم بايدن أن طهران تسعى إلى تقويض المساومة التي كانت أيام أوباما، وكسب النووي والنفوذ الإقليمي معاً. الضربات الإسرائيلية الأخيرة تقول بوضوح أن على طهران القبول مرغمة بخسارة الاثنين. والانصياع الإيراني، إذا حدث، سيكون إعلاناً مدوّياً عن فشل حكم الملالي في مضمارين استثمر فيهما على مختلف الأصعدة، ويكفي منها ما أهدره من ثروات طائلة انتُزعت من لقمة عيش الإيرانيين. ما حدث من ارتدادات بعد "طوفان الأقصى" أكبر بكثير من ربطه بالعملية ذاتها، وإن تسببت به. فإعلان العصر الإسرائيلي يمكن ردّه إلى ربع قرن مضى، تغيّرت خلاله إلى حد كبير نغمة الخطاب الإسرائيلي الموجَّه للمنطقة، وتوارت فيه الدعوات إلى السلام. نشير تحديداً إلى تخلّي النخبة السياسية بأكملها عن مبدأ "الأرض مقابل السلام"، وتبنّيها مبدأ "السلام مقابل السلام"، وحتى الثاني منهما من المرجّح أنه صار مصحوباً بشروط من جهة تل أبيب، أو غير مرغوب فيه. نتوقع أن تكون القوة العسكرية الإسرائيلية قد تطورت منذ ربع قرن إلى مستوى أثّر على التوجهات السياسية للنخبة، فلم يعد لديها من حافز للتخلي عن بعض الأرض مقابل السلام. ما تشير إليه عمليتا البيجر ثم عملية فجر يوم الجمعة هو وجود هوة تكنولوجية شاسعة، ليست ابنة اليوم، ولا يُستبعد ازديادها عمقاً واتساعاً كل يوم مع المزيد من التطور التقني والمعلوماتي. فداحة اختلال التوازن التقني بين إسرائيل والجوار لا تتوقف عنده فحسب، بل تمتد إلى آثاره على مجمل السياسات الإسرائيلية التي نرى مؤشرات على دخولها طوراً جديداً. مثلاً، قد لا تمانع تل أبيب بقاء الحزب في لبنان، ضمن مستوى لا يهددها، ويُبقي لها ذريعة لإبقاء لبنان في حالة من عدم الاستقرار. ورغم "الإيجابية" التي تبديها السلطة الجديدة في دمشق، مدعومة بجمهورها الذي صار يدعو إلى السلام، فلا يظهر في المدى المنظور أي دافع لدى تل أبيب لإبرام صفقة سلام، بينما تستطيع إبقاء الجار الجديد تحت الضغط، وإبقاء سوريا في حالة من عدم الاستقرار. في المثالين اللبناني والسوري، تستطيع القوة العسكرية الإسرائيلية، بثمن بخس، أن تعيق أي مشروع للتنمية والانتعاش الاقتصادي المستدام. بالطبع، ليست إسرائيل كلية القوة، لكن الحديث التقليدي عن نقاط ضعفها لم تثبت صحته أيضاً. والحديث السوري عن السلام كأنه ذهاب إلى حيث كانت إسرائيل قبل ربع قرن، وربما كذلك هو حال بلدان الجوار جميعاً التي يفكّر أبناؤها في الانكفاء عن الشأن الفلسطيني، إلا أن الانكفاء لا يضمن حقاً البقاء خارج دائرة السؤال الإسرائيلي الكبير، والذي يطرح تحديات عديدة لا تتعلق بالعجز عن المقاومة، بل وبإفلاس مشاريع السلام كلها، وبعدم القدرة على اقتراح مشروع سلام مقبول إسرائيلياً. لقد عاشت المنطقة من قبل لعقود حالة اللاسلم واللاحرب، ليس هذا ما يُخشى منه حالياً؛ الخشية هي من حالةٍ دون الاثنين تتحكم بها تل أبيب، وتتحكم تالياً بتفاصيل لم تكن تمسك بمفاتيحها من قبل. قد تجيب طهران يوم الأحد المقبل على الاختبار النووي بما يجنبها جولة جديدة من القصف الإسرائيلي. أما السؤال الإسرائيلي المطروح على دول الجوار فهو مديد ومعقّد، والإجابات السهلة البسيطة لا تصلح، إن كانت لها صلاحية فيما مضى.

القناة الثالثة والعشرون
منذ 3 ساعات
- القناة الثالثة والعشرون
بعد حرب 'الأذرع'… إسرائيل تضرب 'الرأس'
بالإنكليزية اسمها 'rewind'، وبالعربية 'إعادة'، ما المقصود؟ في إعادة لترتيب الأحداث منذ السابع من تشرين الأول عام 2023، في ما عُرِف بعملية 'طوفان الأقصى'، التي قادتها حركة حماس، وما استتبع ذلك من دخول 'حزب الله' المعركة تحت عنوان 'الإسناد والمشاغلة'، ثم استخدام الأراضي السورية، ولا سيما تلك المواجِهة للجولان، ودخول الحوثيين المعركة، يتبيَّن أن إسرائيل واجهت الأطراف الأربعة تحت مسمَّى 'الأذرع'، لكن عينها بقيت على الرأس. لم تعطِ إسرائيل ضرب إيران كأولوية، لأنها كانت تخشى من ردود فعل الأذرع. كانت ترصد استعدادات حزب الله لمهاجمة شمالها، وتابعت بدقّة مناورة وحدة الرضوان التي جرت قبل فترة من بدء حرب 'طوفان الأقصى'، وتمّت المناورة تحت شعار 'سنعبر'، وكان المقصود عبور الحدود. كما كانت تتابع بدقّة التغلغل الإيراني لدى الحوثيين، وكيف استخدمت إيران اليمن لضرب إسرائيل. بسياسة القضم، قضت إسرائيل على الأذرع، ضربت بالتوازي حركة حماس وحزب الله، وأضعفت الحوثيين، وسقطت ورقة المواجهة عبر سوريا بعدما انسحبت إيران منها إثر سقوط الرئيس بشار الأسد ونظامه. عند هذا الحدّ، بدأت إسرائيل تعدّ العدة لتوجيه ضربة إلى إيران، إذ لم تكن مقتنعةً بمسار التفاوض بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران. المهلة التي حددها الرئيس الأميركي دونالد ترامب للجمهورية الإسلامية والتي كانت ستين يومًا، أفاد منها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وأدارت إيران ظهرها لهذه المدة، ولم تكترث لها ولم تلتزم بها، لكنّ إسرائيل كانت تحسبها بالدقائق، وما إن انتهت الستون يومًا، حتى حددت إسرائيل الساعة الصفر وضربت ضربتها، وليس من قبيل المصادفة أنّ الضربة فجر الجمعة كانت في اليوم الواحد والستين، أي في اليوم التالي لانتهاء المهلة التي حدّدها الرئيس ترامب لإيران. هكذا أصبحت المواجهة على طريقة 'التصفيات النهائية' في المباريات، خرجت 'فرق الدرجة الثانية'، إذا صح التعبير، ليبقى في الميدان 'فريقا الفئة الأولى'، إسرائيل وإيران، وبعد معركة 'اليوم الأول'، لا تبدو المباراة متكافئةً بل تميل لمصلحة إسرائيل التي تحظى بدعم الولايات المتحدة الأميركية. أبعد من ذلك، كانت الولايات المتحدة الأميركية قد 'لزَّمت' المنطقة لإيران منذ انتصار الثورة الإسلامية فيها عام 1979، وغضَّت الطرْف عن تصدير الثورة، ما أتاح لإيران الوصول إلى أربعة بلدان عربية، وما أتاح لقادتها أن يقولوا: 'إننا نسيطر على أربع عواصم عربية'. السؤال اليوم: هل انتهى هذا التلزيم؟. جان الفغالي -'هنا لبنان' انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة. انضم الآن شاركنا رأيك في التعليقات تابعونا على وسائل التواصل Twitter Youtube WhatsApp Google News