logo
الدار البيضاء كما تسكنني.. لا كما يراها العابرون

الدار البيضاء كما تسكنني.. لا كما يراها العابرون

الجزيرة١٢-٠٧-٢٠٢٥
الدار البيضاء ليست مجرد مدينة تنبض بالحياة، بل هي الحياة نفسها بكل تناقضاتها.. صخبها وصدقها، بحرها وضجيجها، حنينها واندفاعها.
هي أكبر مدن المغرب، وعاصمته الاقتصادية، وثالث أكثر مدن أفريقيا سكانًا بعد لاغوس والقاهرة.
سماها البرتغاليون "كازا برانكا" (Casa Branca) بعدما وجدوا بها بيتًا أبيض في القرن السادس عشر، ثم أطلق عليها الإسبان "كازا بلانكا" (Casa Blanca).
أما المغاربة، فاختصروا اسمها إلى "كازا"، الذي يعكس مزيجًا من معمار الحضارة العربية والإسلامية وتأثيرات الهندسة المعاصرة.
تنبض بورصة الدار البيضاء بقلب المدينة، الثالثة في أفريقيا بعد جوهانسبرغ والقاهرة، كأنها نبض اقتصادي يتردد في عروقها، يمنحها القوة والإصرار على المضي قدمًا.
نشاطها الاقتصادي متنوع وحيوي، يمتد من مصانع الطيران وصناعة السيارات، إلى الإلكترونيات والصناعات الغذائية، مرورًا بالخدمات والبناء والسياحة.
ورغم هذا الصخب الصناعي، تجد في شوارعها أناسًا يحملون أحلامهم، ينحتون الحياة بعرق جبينهم، ينسجون الأمل مع كل يوم جديد.. في البيضاء، الاقتصاد ليس مجرد أرقام أو مشاريع، بل هو قصص بشرية، دموع فرح، عرق تعب، وضحكات لا تنكسر.
تمتلك الدار البيضاء أكبر مطار في المغرب، مطار محمد الخامس الدولي، الذي يستقبل العالم القادم إليها كضيف عزيز. هو ميناؤها الأكبر في البلاد، يمتد على 520 هكتارًا من المسطحات، وأكثر من ثمانية كيلومترات من الأرصفة.. شريان حياة يربط المدينة بالعالم، يصدح بأصوات السفن وقصص البحارة، حاملًا معها أحلام وتجارب تعد ولا تحصى.
شبكة الطرق الحديثة، والسكك الحديدية، وقاطرات الترام التي تخترق المدينة كنبضات قلب، تربط بين أحيائها الهامشية والدينامية الاقتصادية والاجتماعية، تجعل كل ركن منها يشعر بأنه جزء من كيان حي ينبض بالحركة والحياة.
لم أكن يومًا ضيفًا عابرًا عليها، بل كنت مقيمًا مخلصًا، تعرفت إليها منذ أول خطوة على طرقاتها.. تسكّعت في أزقتها شابًّا يبحث عن ذاته، لا عن وجهة محددة. وبين زحمة المقاهي وضجيج الأسواق، وبين تعب الأرصفة وصخب الشوارع، وجدت نفسي.
درست في كلياتها، ونهلت من علمها، وصقلت شخصيتي كما يُشكَّل الفخار بين يدي الصانع الصبور.
في حي الأحباس، يلتقي الشرق بالغرب، تتزاوج الهندسة العربية الإسلامية مع الفن الأوروبي، تحكي أقواسه وحجارته قصة حضارة متعددة الألوان، مسكونة بروح الماضي والحاضر
في البيضاء، تعلمت مهنتي من الناس والشارع، من صبر الأيام ومثابرتها، ومن صراعات المدينة التي لا تهدأ.
كل زاوية هنا تنبض بعلاقات حية، وجوهرها الصدق والوفاء.. فيها وجوه لا تغيب عن ذاكرتي، وذكريات عصية على النسيان، وأحاديث لا تموت مهما طال البعد.
ليل الدار البيضاء يختلف كليًّا عن نهارها.. هي لا تنام، بل تستقبل الحياة بحبها المرِح، بعنادها الوفي، وبروحها المتجددة التي لا تعرف الندم.
تعيش يومها بكل ما فيه، وتدعوك لأن تفعل الشيء نفسه.
في قلب هذه المدينة، أحببت "الوداد".. فريقٌ صار مرآتي، ومجدي الصغير. معه عرفت الفرح، عرفت البكاء، تعلّمت الانتماء، وتدرّبت على الصبر.
"الوداد" ليس مجرد نادٍ رياضي، بل هو امتداد لحبي للمدينة، جزء من ذاكرتها ومن وجدان قلبي.
الدار البيضاء -كما يقولون- عاصمة الاقتصاد، لكنها قبل كل شيء… عاصمة الروح. تمنحك الانتماء دون أن تسأل من أين أتيت، فتصبح واحدًا من أهلها منذ أول لحظة. فيها ضحكت، تعثّرت، نهضت، تعلّمت… وهنا أصبحت كما أنا اليوم.
تتنفس المدينة عبق التاريخ في مسجد الحسن الثاني، ذلك الصرح العظيم الذي يعلو فوق الماء، مئذنته شاهقة كسماء لا تعرف الحدود، يستوعب في رحابه آلاف الأرواح الباحثة عن السكينة والصفاء.
تحتضن المدينة القديمة جدرانًا تحكي قصص الزمن، أسوارًا تحمي نبض الحكايات، حيث تقف قبة "سيدي بو سمارة" وساحة "لا كوميدي" شاهدة على عبق الماضي وعطر الأجداد.
وفي حي الأحباس، يلتقي الشرق بالغرب، تتزاوج الهندسة العربية الإسلامية مع الفن الأوروبي، تحكي أقواسه وحجارته قصة حضارة متعددة الألوان، مسكونة بروح الماضي والحاضر.
ويمتد كورنيش عين الذياب كلوحة بحرية تُرسم فيها ألوان الحياة بين المسابح والفنادق والمطاعم، بينما شارع محمد الخامس يشهد لقاء الأصالة بالمعاصرة، حيث تنسجم المباني لتروي قرنًا من الزمن في نغمٍ خالد.
الدار البيضاء ليست محطة في حياتي…
هي المسار، بل لعلّها… أنا.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الغريوت.. حافظ التراث وذاكرة غرب أفريقيا الجمعية
الغريوت.. حافظ التراث وذاكرة غرب أفريقيا الجمعية

الجزيرة

timeمنذ يوم واحد

  • الجزيرة

الغريوت.. حافظ التراث وذاكرة غرب أفريقيا الجمعية

في قرية صغيرة من سهول مالي، حيث يستلقي نهر النيجر وسط الرمال الذهبية، جلس "الغريوت" الجد المنحدر من عائلة عُرفت بالغريوت منذ أجيال سحيقة. لم يكن الجد غريوتًا عاديا، بل وُلد وفي قلبه نغمة، وفي صوته شجن، وفي ذاكرته مئات القصص. كان يغني تاريخ المعارك والبطولات والأسواق والحب القديم في أرض ماندينغ، لم يكن يحكي بالكلمات فقط، بل بالألحان المنبعثة من آلة الكورا ذات الـ21 وترا مصنوعا من أمعاء ماعز جبلي وقرع كبير مقطوع إلى نصفين ومغطى بجلد البقر، جلس يحكي عن تاريخ أسلافه ومهنته التي يحب، جلس يحدثني عن حكاية "الغريوت". من الغريوت؟ الغريوت (Grio-Griot) -الكلمة الأكثر شيوعا في الأدبيات الغربية الناطقة بالإنجليزية- أو "دجيلي" (djeli) في لغة الماندي منذ إمبراطورية مالي في القرن الـ13. ويُعرفون أيضا باسم "نياماكالاس" وتعني مدبري القوى التي تُشكِّل الكون. يقول الكاتب المالي أمادو هامبتة با، ليوضِّح للأوروبيين أهمية المكانة التي يحتلها الغريوت أو الدجيلي في مجتمعات غرب أفريقيا: "مع وفاة كل غريوت، تحترق مكتبة وتندثر للأبد". الغريوت هم حُراس وسدنة التراث الشفهي في غرب أفريقيا، احتلوا مكانة مهمة في المجتمع وطوروا تقليدا شفهيا ملهما من الأغاني والقصص والروايات التاريخية والأمثال والحكايات. فهم حفظة التاريخ والتقاليد والأساطير والأنساب في المجتمعات التقليدية في بلدان مثل مالي، والسنغال، وغامبيا، وغينيا، وبوركينا فاسو، والنيجر، ينحدرون من فئة اجتماعية تتوارث مهنة الغريوت في أسر معروفة منذ الصغر. تتعدد أدوارهم ما بين مؤرخين، ورواة قصص، وشعراء، وموسيقيين، ومرشدين روحيين، ويحملون على عاتقهم نقل كل هذا التاريخ والتقاليد والقيم الثقافية للأجيال القادمة. يحظى الغريوت بمكانة اجتماعية مرموقة، ويعتبرون بمثابة مستشارين للعائلات الملكية وكبار الشخصيات، وتصنفهم العامة خبراء أنساب يعرفون أصول العائلات ووسطاء فض نزاعات. كما يحتفظون بسجلات لجميع المواليد والوفيات والزيجات عبر أجيال القرية أو العائلة. كما كان لهم دور سياسي، لكنه محدود وغير مباشر، فالغريوت لم يكن حاكما أو زعيما، لكنه كان حافظا للذاكرة السياسية الجماعية، وصوت السلطة التقليدية، وله تأثير كبير في الحكم والشرعية. أدوار فنية مختلفة يتدرب الغريوت منذ الصغر ليصبحوا خطباء وشعراء أغانٍ وموسيقيين، كذلك يقومون بأدوار فنية متعددة ومهمة في المجتمع المحلي للشعوب الناطقة بلغة الماندينغ، أدوار على شاكلة رواية القصص والأساطير الشعبية بأسلوب شائق ومؤثر عبر استخدام الشعر والموسيقى لجذب انتباه الجمهور. كذلك إنشاد الملاحم التي تحتفي بالأبطال وتخلد الأحداث التاريخية بأصوات جميلة وأداء مسرحي ويعزفون على آلات موسيقية تقليدية، مثل القيثارة الكورا والبالافون والنجوني والطبول التي تستخدم لضبط إيقاع الحكاية وهم يغنون الأغاني. وأخيرا الغناء في مناسبات التتويج والزواج والمآتم. وأشهر عائلات الغريوت المعروفة في مالي وديواباتيه وسيسوكو، وفي غامبيا كونتي، وفي السنغال وندور وغايي. أشهر موسيقيي الغريوت المعاصرين: من مالي توماني دياباتيه، وياماندو دياباته أعظم عازفي الكورا، ومن السنغال بابا مال، وهو مغنٍ معاصر يمزج الغريوت بالفيوجن ومن السلالات الغريوتية المعروفة في غامبيا سالي كولاي جوباتي، وأخيرا الرمز السنغالي العالمي لموسيقى غرب أفريقيا يُسُو ندور، الذي ينحدر من طبقة الغريوت من جهة والدته والذي يزاوج في موسيقاه بين نمطي الغريوت والمابلاكس. الكاتب الإيفواري أحمدو كوروما، الذي استكشف عمل "الغريوت الدجيلي" في رواياته، بل ووسّع نطاقه يقول: "الدجيلي لم يخشوا مطلقا من تسمية حاكمٍ مستبدٍّ باسمه، وهنا يتجلى هذا الولاء للكلمة على أكمل وجه". وفي رواية كوروما الساخرة "انتظار الوحوش للتصويت"، التي تُذكر فيها أسماء طغاة من جميع أنحاء أفريقيا، من صموئيل دو من ليبيريا إلى إتيان إياديما من توغو وموبوتو سيسي سيكو من الكونغو، يروي "الغريوت الدجيلي" حياة طاغية بينما يستمع الرجل نفسه: الرئيس كوياغا.. أيها الجنرال، أيها الطاغية .. اليوم سنغني ونحتفل باسمك وأعمالك .. سنقول الحقيقة عن استبدادك، عن والديك وعملائك .. الحقيقة الكاملة عن حيلك القذرة وهرائك وأكاذيبك .. وجرائمك واغتيالاتك الكثيرة . بواسطة الروائي الإيفواري أحمدو كوروما الغريوت رسول العاشقين يقول دكتور أحمد الأمين أحمد الباحث في الأدب الأفريقي للجزيرة نت "لقد كان لمعظم القرى بإمبراطورية مالي غريوت خاص بها، يسرد قصص الميلاد، والوفيات، والزيجات، والمعارك، والصيد، بمصاحبة الموسيقى والشعر. كما كانوا يتغنون بعديد من الأمور الأخرى مثل سير كبار الصيادين وانحسار عظمة زعماء القرية وأفول مجدهم. وما زال هذا نسق حياتهم حتى اليوم، وغالبا ما يُعْتَمَد عليهم لأجل الحفاظ على التاريخ الخاص بأسرة أو قرية أو منطقة. وما زالوا يلعبون على آلات موسيقية عتيقة يعود تاريخها إلى عدة قرون. وتصنع قيثاراتهم من القرع، أما طبولهم، فتصنع من جلد الماعز". إعلان ويضيف الأمين أن "الغريوت كذلك يقوم بدور رسول الغرام بين المحبين، ويتم ذلك بسبب حساسية المجتمع الذي لا يسمح بلقاء العشاق وبث لواعجهم وجها لوجه. عليه يقوم بذلك الدور مقابل مبلغ نقدي يدفعه الشباب لهذه الشريحة المبدعة، لأجل إبلاغ عشقهم لمن يحبون عبر الشعر أو الغناء". مصادر دخل الغريوت تقول الكاتبة والباحثة هانا راي أرمسترونغ المتخصصة في السياسة والأمن في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل في مقال لها بصحيفة نيويورك تايمز: "منذ ولادتهم، يُعلّم الغريوت الماليون كيفية تملق الأثرياء ورأب الصدوع الاجتماعية. فمن النزاعات العائلية إلى الحروب بين العشائر، يُهدئ الغريوت الأعصاب، ويُروّض غرورهم، ويتمتع بالحصانة. قبل عدة سنوات، عندما تحوّل قتال بين المزارعين والبدو في مالي وغينيا إلى صراع مسلح، عقد الغريوت من كلا البلدين اجتماع قمة أسفر عن حل جذري للمشكل". الغريوت لا يعملون ضمن نموذج اقتصادي واضح المعالم، بل يعتمدون على اقتصاد الهبة والرعاية، لكن مع تطور العصر، كثير منهم انتقل إلى اقتصاد الفن الحديث، مثل التسجيلات، والحفلات، والتعليم الثقافي، من دون أن يقطعوا صلتهم بالأسس المجتمعية التقليدية. لا يفرض الغريوت أجرا رسميا مقابل خدماتهم، ومصادر دخلهم عبارة عن إكراميات وهدايا تُعطى لهم تتفاوت بين المال في حالات مديح الأشخاص ذوي الشأن في المجتمع أو هدايا على شاكلة ماشية، وملابس، وحبوب، خاصة في الأعراس والمآتم والاحتفالات. وبحكم ارتباطهم تاريخيا بالأسر الحاكمة في إمبراطوريات مالي وسونغاي يحصلون في الغالب على إعالة شبه دائمة "راتب" من تلك العائلات مقابل خدمتهم كمؤرخين، ومدّاحين، ومستشارين ثقافيين. ملحمة سوندياتا كيتا "استمعوا أيها الناس فأنا الغريوت، حامل ذاكرة الزمن، حارس أمجاد الأجداد، جئت أروي لكم قصة من زمنٍ عتيق، عن الولد الذي لم يمشِ، ثم صار ملكا يُطأطئ له الملوك. إنها حكاية سوندياتا، أسد الماندينغ" هكذا يقولون عن أنفسهم. في مملكة نياني ولد طفل للملك ماكان كوني فاتا وامرأة غريبة تُدعى سوغولون كوندي. كانت امرأة ذات مظهر غريب وقوة غامضة، قيل إنها جاءت من الجبال بنبوءة مقدسة أن ابنها سيُصبح ملكا عظيما ويوحّد الممالك، لكن هذا الطفل، سوندياتا، وُلد ضعيفا، لا يقوى على المشي. سخر منه الجميع، واعتبروه عارا على المملكة، في حين بقيت أمه مؤمنة بنبوءتها. حين أهان أحدهم أمه، نهض سوندياتا للمرة الأولى. تمسّك بغصن شجرة، وضرب الأرض برجليه. في لحظة واحدة، صار الطفل الذي لم يتحرك أسدا واقفا! هتف الناس، وسكتت السخرية. بعد وفاة والده، استولى على الحكم الملك الشرير سومورو كانتي، ساحر مملكة سوسو، الذي دمّر القرى وأحرق المدن، ونشر الرعب في الماندينغ. هربت سوغولون بابنها سوندياتا إلى المنفى، وهناك تعلّم الحكمة، واختلط بالأمم، ونما في داخله الحلم الكبير. حين اشتدت ظلمة سومورو، عاد سوندياتا وجمع القبائل تحت رايته، وأقسم أن يعيد للماندينغ مجدها. وفي معركة كيرينا التقى الجيشان، سوندياتا واجه سومورو، وكشف سر قوته السحرية، وهزمه، وحرّر البلاد. أصبح سوندياتا ماني فاي ملك الملوك، وهو لم يحكم بالسيف، بل بالعدل، ووضع أسس إمبراطورية مالي، التي ستُصبح فيما بعد من أغنى وأعظم إمبراطوريات التاريخ. "سوندياتا لم يُخلد لأنه قاتل، بل لأنه أقام مملكة بُنيت على الحكمة والاتحاد". مستقبل موسيقى الغريوت موسيقى الغريوت تمتلك مستقبلا واعدا إذا تم التوفيق بين حفظ الأصالة وتبني التطور للحفاظ على هذا الفن، فأغاني الغريوت مهددة بفقدان دورها التقليدي بسبب ضعف استخدام اللغات المحلية مؤخرا، مما أدى إلى تراجع دور الغريوت في المجتمعات. ومع تهديد الحداثة هويتها يُتوقع استمرار دمج الغريوت مع أنماط موسيقية حديثة مثل الجاز والأفروبيت، مما يمنحها جاذبية عالمية خاصة تساعد على انتشارها خارج أفريقيا في عصر الإنترنت والمهرجانات الدولية والتوثيق الرقمي والذكاء الاصطناعي. وحين وصلت حكاية الغريوت الجد إلى محطتها النهائية، شعر الناس بالحزن والغضب في آن واحد، وتساءل: "أتُنسى ذاكرة الأجداد؟ أتُنسى تلك الليالي حول النار حيث الكلمات تُدفئ القلوب؟ ومن سيروي تاريخ الأسلاف من الآن فصاعدا؟ ومن سيصالح القبائل ويحل الخلافات بلمسة الغريوت السحرية المدهشة؟ من سيوصل رسائل العشاق إلى محبوباتهم؟ ومن سيبدأ الحكايات بعد اليوم بجملة: في قديم الزمان، حين كان الأبطال يمشون بيننا".

صدوق نور الدين يقرأ عالم كيليطو في كتاب جديد.. تأملات من قلب النصوص
صدوق نور الدين يقرأ عالم كيليطو في كتاب جديد.. تأملات من قلب النصوص

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • الجزيرة

صدوق نور الدين يقرأ عالم كيليطو في كتاب جديد.. تأملات من قلب النصوص

في كتابه الجديد "القارئ والتأويل"، الصادر عن دار "الآن- ناشرون وموزعون" بعمّان، يقدّم الناقد المغربي صدّوق نور الدين قراءة تأملية معمّقة في العالم الأدبي والفكري للكاتب والناقد عبد الفتاح كيليطو، قراءة لا تتوقف عند ظاهر النصوص ولا تنجرف إلى التنظير، بل تنبع من ألفة طويلة مع عالم كيليطو، ومن رغبة صادقة في القبض على ما يشكّل نسيج مشروعه الفكري والجمالي. فالمؤلف لا يقدّم دراسة أكاديمية بالمعنى الجاف، ولا يتوسّل التحليل الأدبي التقليدي، بل يكتب من موقع القارئ العارف الذي يعيد اكتشاف النصوص من داخلها، ويتتبع أثر المعنى في شِعاب اللغة، في مشروع نقديّ يتجاوز التفسير الانطباعي نحو مقاربة سردية وفلسفيّة لخصوصية فكر كيليطو ومكانته داخل المشهد الثقافي العربي والمغاربي. بينيّة القراءة: بين زمنين وهاجسين ينطلق نور الدين من لحظة شخصية حميمة جعلها مفتتحا للكتاب، إذ يستعيد لقاءه العابر بكيليطو في معرض الدار البيضاء سنة 1988، بلغة موحية تمزج بين التوثيق والترميز، فالمشهد، على بساطته الظاهرة، يستبطن قراءة لذات الكاتب بوصفه كائنا غائبا حاضرا، "يفكر واقفا"، و"يقيم في نصّ"، ويرمي نظره بعيدا كما لو كان في إحدى المقامات أو في حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة. هذه البداية، التي اختار لها المؤلف عنوان "من أجل هموم مشتركة"، لا تؤسس فقط لعلاقة إنسانية بين ناقد وموضوع قراءته، بل تمهّد لمفهوم جوهري يسكن الكتاب بأسره: البينيّة، فالكتاب بأسره يدور بين أمرين، فهو في منطقة متذبذبة بين القارئ والنص، وبين الماضي والحاضر، وبين التأويل والتلقي. في هذا السياق، يصرّح المؤلف بأن هذا العمل قد نُسج على أساس مقارنة منجزين: منجز أدبيّ وفكريّ تحقّق في الماضي، وآخر في الحاضر، ليبرز من خلال هذه الثنائية مفهوم الافتقار الذي يدفع نحو القراءة: إذ لا تأويل بلا إحساس بالنقص، ولا عودة إلى النصوص إلّا باستدعاء ما لم يكتمل. كيليطو بين التراث وسؤال الحداثة يُخصص نور الدين فصولا متعددة لعرض مجالات اشتغال كيليطو الفكرية والنقدية، متوقفا عند أبرز موضوعاته وتقنياته. فبقدر ما يتّسم كيليطو بولعه بالنصوص التراثية، من المقامات إلى السيرة، ومن "ألف ليلة وليلة" إلى مؤلفات ابن رشد، فإنه ينفتح أيضا بعين يقظة على الأدب العالمي الحديث، كما في حضوره المتكرّر في نصوص بورخيس وغيره. يرى المؤلف أن كيليطو هو القارئ الرهيب، بحسب بتعبيره، ذلك الذي يفرض على المتلقي أن يعيد النظر فيما قرأ، وأن يستدرك ما فاته من تقاليد الكتابة العربية والمغاربية، لا بفعل سلطته بوصفه مؤلفا، وإنما بقوة بنائه التأويلي، ووعيه النقدي المركّب، وهو قارئ لا يؤول بمنهج خارجي، بل يستبطن القراءة ذاتها بوصفها فعلا معرفيّا مركزيّا، لا ينفكّ يؤسّس لمفاهيم جديدة عن علاقة القارئ بالنص. الاستطراد بوصفه أسلوبا في الفهم يتوقف الكتاب عند ما يسميها المؤلف "شعرية الاستطراد"، وهو مبحث دقيق يقارن فيه بين كيليطو وعبد السلام بنعبد العالي في قدرة كلّ منهما على تحويل الهامشيّ إلى مركز، والمجتزأ إلى سياق. فالاستطراد في خطاب كيليطو لا يأتي حشوا، بل منهجا في التفكير، وجزءا من إستراتيجيّة قرائية تنقل القارئ من الدلالة الظاهرة إلى الدلالة العميقة التي تستبطن النصوص التراثية والحداثية معا. وهذا الأسلوب يُعيد للكتابة مذاقها الأول إذ تعود مزيجا من الحكي والتأمل، ومن الدهشة والسخرية، ومن الطرافة والصرامة، ويظهر من خلاله أن كيليطو لا يبحث عن يقين نظري ونتائج نهائية، بل عن توازن دقيق بين المعرفة والمتعة والإشارة والتلميح وبين ما يُقال وما يُسكت عنه. كيليطو والمفكرون.. جدل المثاقفة والامتداد في مقاربات متعددة داخل الكتاب، يُجري نور الدين حوارا غير مباشر بين كيليطو وأسماء من مشارب متباينة، أبرزهم عبد الكبير الخطيبي، في إطار الحديث عن الحاجة إلى نقد أدبي جديد، يتجاوز تقاليد الفهم البنيوي أو القراءة الآلية للتراث. كما يعقد مقارنة ذكية بين صورة ابن رشد في الأدب عند كيليطو، وما تنطوي عليه هذه الصورة من إسقاطات حضارية وفكرية، بوصفها نافذة لفهم علاقة الفكر العربي بذاته. ويستمر التداخل والمثاقفة مع خورخي لويس بورخيس من جهة، ومع المنفلوطي من جهة أخرى. وإذا كان بورخيس حاضرا في شعرية التفكير واحتمالات التأويل اللانهائي، فإن المنفلوطي يُستحضر في ضوء البدايات والتشكل، من زاوية تاريخية أكثر، الأمرُ الذي يمنح الكتاب عمقا في استعراض التحوّلات الثقافية والذوقية في الكتابة العربية. الكتابة الروائية وسؤال الحداثة يُخصّص المؤلف فصلا للكتابة الروائية عند كيليطو، لا بوصفه روائيّا، بل أديبا يقوم على تخوم السرد، ويؤسّس نصوصا هجينة تتلبّس لبوس القصّ، ولكنها تحتفظ بجوهرها التأويلي والفكري. ومن هنا، يُطرح سؤال الأدب الحديث بوصفه مسألة إشكالية في تجربة كيليطو، فهو يعي ضعف الحظوة التي يحظى بها الأدب الحديث بالمقارنة مع الأدب القديم، لكنه في الوقت ذاته يرى حضور الأدب الحديث ضرورة نقدية وتاريخية وحياتية. ويرى نور الدين أن خصوصية الأدب المغربي الحديث، بما عرفه من تأخر نسبيّ في التشكّل، وبما أصابه من تأثيرات مشرقية، تدعو إلى مراجعة المفاهيم النقدية، وإعادة التفكير في مقاربات واعية تحترم الخصوصية دون أن تنكفئ على المحلية. التأويل.. انزياح المعنى وانفتاح القراءة ينحت صدوق نور الدين مفهوما خاصا للتأويل في قراءته، فهو لا يجعله سلطة معرفية تعلو على النص، بل حركة مستمرة داخل النص ذاته، حيث تتوالد الدلالات وتتقاطع المسالك، فالتأويل هنا ليس كشفا عن المعنى الخفي بقدر ما هو إعادة إنتاج للقراءة، وفتح للنص على أفق من القراءات المتعددة. ومن خلال تتبّع أعمال كيليطو المتنوعة، يكشف الكاتب عن خيط ناظم دقيق، يتمثل في تحوّل القارئ إلى كاتب، والمتلقي إلى مؤوِّل، ففي كل مرة يُعاد فيها النظر في نصّ أدبي تراثي أو حداثي أو غربي، يتجدّد سؤال المعنى، ويتحوّل النص إلى معطى حي متجدد. من أبرز ملامح كتاب "القارئ والتأويل" اللغة التي صيغ بها، إذ نجح صدّوق نور الدين في الحفاظ على مستوى عال من الرصانة الفكرية، دون أن يتورّط في تعقيد لغوي مفرط، كما حاول المؤلف بلوغ عالم كيليطو بلغة قريبة من أسلوبه السردي التأملي، فجاء الكتاب كأنه مرآة نقدية لعالم كيليطو، بل جاء امتدادا له في بعض المواطن. إن كتاب "القارئ والتأويل" لا يقدّم قراءة تقليدية لأعمال عبد الفتاح كيليطو، بل يعيد النظر في مفاهيم التأويل، والقراءة، والمثاقفة، في ضوء مشروع كيليطو نفسه، الذي لا ينفصل فيه القارئ عن المؤلّف، ولا التأويل عن المتعة، وبهذا المعنى، تبدو مقاربة نور الدين امتدادا حيّا لتقليد نقدي عربي يسعى إلى بناء معرفة بالنصّ، لا تفصل بين البنية والأسلوب، ولا بين المتعة والفكر. وإذا كان كيليطو قد طرح مشروعه من داخل نصوص التراث والحداثة، فإن صدّوق نور الدين يسهم من خلال هذا الكتاب في إعادة تركيب هذا المشروع، وفتحه على احتمالات تأويلية جديدة، تستحق بدورها أن تُقرأ وتُؤوّل.

القدس في السينما المغربية.. حين تقتحم الكاميرا أسوار الوجدان
القدس في السينما المغربية.. حين تقتحم الكاميرا أسوار الوجدان

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • الجزيرة

القدس في السينما المغربية.. حين تقتحم الكاميرا أسوار الوجدان

مراكش – في زمن تنكمش فيه الشاشة العربية عن تناول القضايا المصيرية، يأتي حضور القدس الشريف في السينما المغربية ليكرس واقعا يواجه الكثير من التحديات. في المغرب ، لم تنتج السينما المحلية سوى ثلاثة أفلام تناولت المدينة المقدسة بشكل مباشر، أحدها قصير وروائي هو "القدس، أبنادم" لمصطفى الشعبي، والثاني والثالث وثائقيان بعنوان "الأقصى يسكن الأقصى" لعبد الرحمن لعوان، و"القدس باب المغاربة" للراحل عبد الله المصباحي. يبدو الأمر أنه لا يتعلق بعدد محدود من العناوين فحسب، بل بتجربة إبداعية تضع القدس في قلب انشغال مغربي يتجاوز البعد السياسي أو الديني، لينفذ إلى الذاكرة والوجدان. وتأتي العودة إلى تناول هذه الأفلام في سياق وعي شعبي مغربي شديد الحساسية تجاه فلسطين والقدس، ليطرح السؤال الأهم، كيف عبرت الصورة عن مكان بعيد مكانيا، وقريب رمزيا؟ وكيف تُستحضر المدينة المقدسة في فضاء سينمائي مغربي؟ هذا هو الرهان الذي خاضه المخرجون الثلاثة، كل بطريقته. يقول الناقد السينمائي مصطفى الطالب للجزيرة نت "الفيلم القصير "القدس، أبنادم" اختار الاشتغال على الرمز من خلال حكاية شبابية مرتبطة بكرة القدم، بينما انخرط الفيلمان الوثائقيان في تثبيت الحقائق والذاكرة". ويضيف، "أهمية الأفلام تكمن في تكاملها، فالروائي يشعر، والوثائقي يُقنع، وكلاهما يكرس رمزية القدس قضية حية في الوعي المغربي". فكرة وجدانية ليست السينما أداة للتمثيل فحسب، بل كثيرا ما تكون تعبيرا عن سؤال داخلي، هذا ما يعبّر عنه المخرج عبد الرحمن لعوان وهو يسترجع بدايات مشروعه الوثائقي. يقول للجزيرة نت "تولد عندي هذا التساؤل متزامنا مع اهتمامي بالإخراج السينمائي، ما هو السر وراء ارتباط المغاربة بأرض فلسطين وبقضاياها وهم أبعد الشعوب العربية غربا عنها؟" هذا السؤال تحول إلى فكرة، والفكرة إلى فيلم، والفيلم إلى تجربة وجدان. أما مصطفى الشعبي، مخرج "القدس، أبنادم"، فقد انطلق من إحساس مختلف، نابع من شعور بالقهر الرمزي والخذلان. في لقاء منشور له، يقول إن الفيلم اشتغل على "حالة الغيرة التي تحرك فتيان الحي حين يكتشفون قمصانا تحمل عبارة القدس عاصمة الكيان فيهاجمونها بالحجارة". ليست مجرد لقطة رمزية، بل تعبير عن غريزة المقاومة الكامنة حتى في أبناء الأحياء الشعبية المغربية. بينما يؤكد عز الدين شلح، رئيس مهرجان القدس الدولي، للجزيرة نت، أن مثل هذه المبادرات السينمائية تحتاج دافعا شخصيا قويا، "المشكلة أن هذا النوع من الدوافع غير متوفر دائما، خاصة عندما لا يكون السيناريست أو المخرج على تماس مباشر مع واقع المدينة". لكن يبدو أن الوجدان المغربي، برمزيته العالية، يخلق هذا التماس من بعيد. اللغة والرمز حين تغيب القدرة على التصوير داخل القدس، تحضر الصورة الرمزية بديلا إبداعيا. اختار الشعبي في فيلمه "القدس، أبنادم" أن يحول ملعبا إلى جبهة، ولقطة إلى خطاب. يرى الناقد مصطفى الطالب أن قوة الفيلم تكمن في توظيفه للرمز، حيث "قام الفتيان بضرب الفريق الحامل لعبارات الاحتلال بالحجارة"، في مشهد يختصر الانتفاضة في لقطة، ويجعل من الطفل المغربي شبيها لطفل الحجارة الفلسطيني. ويضيف "عنوان الفيلم نفسه يختزن قوة تحذيرية، "أبنادم" بالدارجة المغربية هي نداء واستفاقة، إنها القدس، احذر، لا تكن غافلا عنها، فهنا لا يتعلق الأمر برسالة مباشرة، بل بتحفيز وعي الجمهور عبر مشهدية مألوفة في السياق المغربي (كرة القدم) من أجل حمله نحو سؤال أكبر. في المقابل، يتحدث لعوان عن خصوصية اللغة السينمائية في الشريط الوثائقي، "ما يميز قوة الشريط الوثائقي هو تكثيفه لمعطيات ومعانٍ وحقائق قد لا يجد الفرد من الزمن ما يكفي لقراءتها في المراجع". ويضيف "بهذا المعنى، تصبح الصورة وسيلة للاختزال المكثف، وتحمل مضمونا تاريخيا وثقافيا يبث دون تنظير". استنهاض الوعي لا تخضع اللغة في الأفلام الثلاثة لتقنية جمالية محضة، بل تخدم غاية أعمق، واستنهاض الوعي، وتحريك الساكن الرمزي تجاه مدينة تُسرق في كل مشهد إخباري. يتخذ الحكي في "القدس، أبنادم" طابعا تخييليا رمزيا، بينما يعتمد الشريطان الوثائقيان على التوثيق الصارم، هذا التباين لا يعكس تفاوتا في القوة السينمائية، بل تنوعا في أدوات التأثير. يقول مصطفى الطالب "الفيلم القصير اشتغل على الرمز، بينما أبرز الفيلم الوثائقي دور الشريط في التعاطي مع القضايا المصيرية من خلال الغوص في الذاكرة الجماعية". ويضيف "في فيلم الشعبي، الحكاية تُبنى من خلال مشاهد صامتة تقريبا، يتحدث فيها الفعل لا الحوار. حجر يرمى في وجه قميص يحمل جريمة رمزية، وطفل يتحول إلى حامل لقضية. إنه سرد شعبي، مباشر لكنه كثيف المعنى". أما لعوان، فاعتمد على أرشيف وشهادات من طينة الدكتور عبد الهادي التازي وسعيد الحسن وغيرهما. يقول لعوان "لقد شهدت معطيات الشريط يتحدث بها شباب ومثقفون ودعاة بعد ما كانت محدودة التداول". هنا يتحول الوثائقي إلى قناة لنقل الذاكرة من النخبة إلى الجمهور، ومن النص إلى الصورة. الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي، رغم اختلاف بنيتهما، يلتقيان في نقطة واحدة، وإعادة صياغة حكاية القدس بلسان مغربي، يعبر عن انخراط وجداني حقيقي في صراع بعيد جغرافيا، لكنه قريب رمزيا وثقافيا. قوة الصورة الرمزية كيف يمكن استحضار القدس في فيلم مغربي؟ الإجابة قد تكون بصرية، ذهنية، أو كلاهما. في "القدس، أبنادم"، لا تظهر المدينة المقدسة أبدا، لكنّ كلّ مشهد فيها يحتوي على رمز أو صدى. ملعب الحي يصبح ساحة مقاومة، والقمصان أداة خطاب، والحجارة امتداد لذاكرة الانتفاضة. يرى الطالب أن هذا الاشتغال غير المباشر يخدم الفكرة أكثر من محاكاة الواقع، لأن الصورة الرمزية تمتلك قوة الإيحاء التي تعوض غياب الموقع الفعلي. لا يصور الفيلم القدس، لكنه يجعلها تحضر نداء واستفزازا لوعي المتفرج. في المقابل، اختار المصباحي ولعوان أن يستحضرا القدس من خلال شهادات ومشاهد وثائقية، الأول من خلال التصوير في القدس، والثاني اعتمد على أرشيف ومقابلات ومقاطع من داخل المغرب. يقول لعوان للجزيرة نت "احتضان المغرب للجنة القدس ولبيت مال القدس، ووجود باب المغاربة، كلها مؤشرات جعلتني أرى أن القدس تسكن في الوعي المغربي، ولو لم أزرها فعليا". الفيلم يبرهن أن المكان قد لا يكون شرطا للتصوير، طالما أن الفضاء الحي هو الذاكرة والموقف. بهذا المعنى، تصبح القدس في السينما المغربية فضاء داخليا أكثر منه جغرافيا، تستدعى عبر التاريخ الرموز والشهادات، ويُعاد تشكيلها على الشاشة بصريا من داخل أحياء مغربية. رهان يستحق العناء أن تنجز فيلما عن القدس من المغرب ليس فقط تحديا فنيا، بل مغامرة إنتاجية محفوفة بالعقبات. يتحدث لعوان عن صعوبات البداية، "لم يكن استصدار الترخيص من المركز السينمائي المغربي سهلا، مما يدل على أهمية الأعمال السينمائية المحددة الهدف". لم تكن تلك العقبة الأخيرة، لكن الشريط الوثائقي وجد لاحقا صدى واسعا في المهرجانات والمؤسسات، مما أثبت أن الرهان يستحق العناء. أما الناقد مصطفى الطالب، فيرى أن ضعف الإمكانيات لم يمنع الشعبي من إبداع فيلم رمزي قوي، "لو كانت له إمكانيات كبيرة لكان الفيلم أقوى، لكنه رغم ذلك استطاع التذكير بالقضية". هذا ما يعكسه الواقع العربي الأوسع، كما يقول عز الدين شلح "الإنتاج الذاتي يتطلب خطة تسويقية، والدعم الحكومي شبه منعدم، مع الأسف، لا يوجد اهتمام كافٍ يجعل قضية القدس أولوية في تمويل الأفلام". تغيب القدس عن السينما ليس لأن المخرجين لا يهتمون، بل لأن الصناعة السينمائية لا تضعها ضمن أولوياتها. وبين غياب الدعم وصعوبة التسويق، تظل أفلام مثل "القدس، أبنادم" و"الأقصى يسكن الأقصى" بمثابة استثناء نبيل، وصوت فردي في صمت جماعي.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store