
الغريوت.. حافظ التراث وذاكرة غرب أفريقيا الجمعية
كان يغني تاريخ المعارك والبطولات والأسواق والحب القديم في أرض ماندينغ، لم يكن يحكي بالكلمات فقط، بل بالألحان المنبعثة من آلة الكورا ذات الـ21 وترا مصنوعا من أمعاء ماعز جبلي وقرع كبير مقطوع إلى نصفين ومغطى بجلد البقر، جلس يحكي عن تاريخ أسلافه ومهنته التي يحب، جلس يحدثني عن حكاية "الغريوت".
من الغريوت؟
الغريوت (Grio-Griot) -الكلمة الأكثر شيوعا في الأدبيات الغربية الناطقة بالإنجليزية- أو "دجيلي" (djeli) في لغة الماندي منذ إمبراطورية مالي في القرن الـ13. ويُعرفون أيضا باسم "نياماكالاس" وتعني مدبري القوى التي تُشكِّل الكون.
يقول الكاتب المالي أمادو هامبتة با، ليوضِّح للأوروبيين أهمية المكانة التي يحتلها الغريوت أو الدجيلي في مجتمعات غرب أفريقيا: "مع وفاة كل غريوت، تحترق مكتبة وتندثر للأبد".
الغريوت هم حُراس وسدنة التراث الشفهي في غرب أفريقيا، احتلوا مكانة مهمة في المجتمع وطوروا تقليدا شفهيا ملهما من الأغاني والقصص والروايات التاريخية والأمثال والحكايات.
فهم حفظة التاريخ والتقاليد والأساطير والأنساب في المجتمعات التقليدية في بلدان مثل مالي، والسنغال، وغامبيا، وغينيا، وبوركينا فاسو، والنيجر، ينحدرون من فئة اجتماعية تتوارث مهنة الغريوت في أسر معروفة منذ الصغر.
تتعدد أدوارهم ما بين مؤرخين، ورواة قصص، وشعراء، وموسيقيين، ومرشدين روحيين، ويحملون على عاتقهم نقل كل هذا التاريخ والتقاليد والقيم الثقافية للأجيال القادمة.
يحظى الغريوت بمكانة اجتماعية مرموقة، ويعتبرون بمثابة مستشارين للعائلات الملكية وكبار الشخصيات، وتصنفهم العامة خبراء أنساب يعرفون أصول العائلات ووسطاء فض نزاعات.
كما يحتفظون بسجلات لجميع المواليد والوفيات والزيجات عبر أجيال القرية أو العائلة.
كما كان لهم دور سياسي، لكنه محدود وغير مباشر، فالغريوت لم يكن حاكما أو زعيما، لكنه كان حافظا للذاكرة السياسية الجماعية، وصوت السلطة التقليدية، وله تأثير كبير في الحكم والشرعية.
أدوار فنية مختلفة
يتدرب الغريوت منذ الصغر ليصبحوا خطباء وشعراء أغانٍ وموسيقيين، كذلك يقومون بأدوار فنية متعددة ومهمة في المجتمع المحلي للشعوب الناطقة بلغة الماندينغ، أدوار على شاكلة رواية القصص والأساطير الشعبية بأسلوب شائق ومؤثر عبر استخدام الشعر والموسيقى لجذب انتباه الجمهور.
كذلك إنشاد الملاحم التي تحتفي بالأبطال وتخلد الأحداث التاريخية بأصوات جميلة وأداء مسرحي ويعزفون على آلات موسيقية تقليدية، مثل القيثارة الكورا والبالافون والنجوني والطبول التي تستخدم لضبط إيقاع الحكاية وهم يغنون الأغاني. وأخيرا الغناء في مناسبات التتويج والزواج والمآتم.
وأشهر عائلات الغريوت المعروفة في مالي وديواباتيه وسيسوكو، وفي غامبيا كونتي، وفي السنغال وندور وغايي.
أشهر موسيقيي الغريوت المعاصرين: من مالي توماني دياباتيه، وياماندو دياباته أعظم عازفي الكورا، ومن السنغال بابا مال، وهو مغنٍ معاصر يمزج الغريوت بالفيوجن ومن السلالات الغريوتية المعروفة في غامبيا سالي كولاي جوباتي، وأخيرا الرمز السنغالي العالمي لموسيقى غرب أفريقيا يُسُو ندور، الذي ينحدر من طبقة الغريوت من جهة والدته والذي يزاوج في موسيقاه بين نمطي الغريوت والمابلاكس.
الكاتب الإيفواري أحمدو كوروما، الذي استكشف عمل "الغريوت الدجيلي" في رواياته، بل ووسّع نطاقه يقول: "الدجيلي لم يخشوا مطلقا من تسمية حاكمٍ مستبدٍّ باسمه، وهنا يتجلى هذا الولاء للكلمة على أكمل وجه".
وفي رواية كوروما الساخرة "انتظار الوحوش للتصويت"، التي تُذكر فيها أسماء طغاة من جميع أنحاء أفريقيا، من صموئيل دو من ليبيريا إلى إتيان إياديما من توغو وموبوتو سيسي سيكو من الكونغو، يروي "الغريوت الدجيلي" حياة طاغية بينما يستمع الرجل نفسه:
الرئيس كوياغا..
أيها الجنرال، أيها الطاغية ..
اليوم سنغني ونحتفل باسمك وأعمالك ..
سنقول الحقيقة عن استبدادك، عن والديك وعملائك ..
الحقيقة الكاملة عن حيلك القذرة وهرائك وأكاذيبك ..
وجرائمك واغتيالاتك الكثيرة .
بواسطة الروائي الإيفواري أحمدو كوروما
الغريوت رسول العاشقين
يقول دكتور أحمد الأمين أحمد الباحث في الأدب الأفريقي للجزيرة نت "لقد كان لمعظم القرى بإمبراطورية مالي غريوت خاص بها، يسرد قصص الميلاد، والوفيات، والزيجات، والمعارك، والصيد، بمصاحبة الموسيقى والشعر.
كما كانوا يتغنون بعديد من الأمور الأخرى مثل سير كبار الصيادين وانحسار عظمة زعماء القرية وأفول مجدهم.
وما زال هذا نسق حياتهم حتى اليوم، وغالبا ما يُعْتَمَد عليهم لأجل الحفاظ على التاريخ الخاص بأسرة أو قرية أو منطقة.
وما زالوا يلعبون على آلات موسيقية عتيقة يعود تاريخها إلى عدة قرون. وتصنع قيثاراتهم من القرع، أما طبولهم، فتصنع من جلد الماعز".
إعلان
ويضيف الأمين أن "الغريوت كذلك يقوم بدور رسول الغرام بين المحبين، ويتم ذلك بسبب حساسية المجتمع الذي لا يسمح بلقاء العشاق وبث لواعجهم وجها لوجه. عليه يقوم بذلك الدور مقابل مبلغ نقدي يدفعه الشباب لهذه الشريحة المبدعة، لأجل إبلاغ عشقهم لمن يحبون عبر الشعر أو الغناء".
مصادر دخل الغريوت
تقول الكاتبة والباحثة هانا راي أرمسترونغ المتخصصة في السياسة والأمن في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل في مقال لها بصحيفة نيويورك تايمز: "منذ ولادتهم، يُعلّم الغريوت الماليون كيفية تملق الأثرياء ورأب الصدوع الاجتماعية. فمن النزاعات العائلية إلى الحروب بين العشائر، يُهدئ الغريوت الأعصاب، ويُروّض غرورهم، ويتمتع بالحصانة. قبل عدة سنوات، عندما تحوّل قتال بين المزارعين والبدو في مالي وغينيا إلى صراع مسلح، عقد الغريوت من كلا البلدين اجتماع قمة أسفر عن حل جذري للمشكل".
الغريوت لا يعملون ضمن نموذج اقتصادي واضح المعالم، بل يعتمدون على اقتصاد الهبة والرعاية، لكن مع تطور العصر، كثير منهم انتقل إلى اقتصاد الفن الحديث، مثل التسجيلات، والحفلات، والتعليم الثقافي، من دون أن يقطعوا صلتهم بالأسس المجتمعية التقليدية.
لا يفرض الغريوت أجرا رسميا مقابل خدماتهم، ومصادر دخلهم عبارة عن إكراميات وهدايا تُعطى لهم تتفاوت بين المال في حالات مديح الأشخاص ذوي الشأن في المجتمع أو هدايا على شاكلة ماشية، وملابس، وحبوب، خاصة في الأعراس والمآتم والاحتفالات.
وبحكم ارتباطهم تاريخيا بالأسر الحاكمة في إمبراطوريات مالي وسونغاي يحصلون في الغالب على إعالة شبه دائمة "راتب" من تلك العائلات مقابل خدمتهم كمؤرخين، ومدّاحين، ومستشارين ثقافيين.
ملحمة سوندياتا كيتا
"استمعوا أيها الناس فأنا الغريوت، حامل ذاكرة الزمن، حارس أمجاد الأجداد، جئت أروي لكم قصة من زمنٍ عتيق، عن الولد الذي لم يمشِ، ثم صار ملكا يُطأطئ له الملوك. إنها حكاية سوندياتا، أسد الماندينغ" هكذا يقولون عن أنفسهم.
في مملكة نياني ولد طفل للملك ماكان كوني فاتا وامرأة غريبة تُدعى سوغولون كوندي. كانت امرأة ذات مظهر غريب وقوة غامضة، قيل إنها جاءت من الجبال بنبوءة مقدسة أن ابنها سيُصبح ملكا عظيما ويوحّد الممالك، لكن هذا الطفل، سوندياتا، وُلد ضعيفا، لا يقوى على المشي. سخر منه الجميع، واعتبروه عارا على المملكة، في حين بقيت أمه مؤمنة بنبوءتها.
حين أهان أحدهم أمه، نهض سوندياتا للمرة الأولى. تمسّك بغصن شجرة، وضرب الأرض برجليه. في لحظة واحدة، صار الطفل الذي لم يتحرك أسدا واقفا! هتف الناس، وسكتت السخرية.
بعد وفاة والده، استولى على الحكم الملك الشرير سومورو كانتي، ساحر مملكة سوسو، الذي دمّر القرى وأحرق المدن، ونشر الرعب في الماندينغ. هربت سوغولون بابنها سوندياتا إلى المنفى، وهناك تعلّم الحكمة، واختلط بالأمم، ونما في داخله الحلم الكبير.
حين اشتدت ظلمة سومورو، عاد سوندياتا وجمع القبائل تحت رايته، وأقسم أن يعيد للماندينغ مجدها. وفي معركة كيرينا التقى الجيشان، سوندياتا واجه سومورو، وكشف سر قوته السحرية، وهزمه، وحرّر البلاد. أصبح سوندياتا ماني فاي ملك الملوك، وهو لم يحكم بالسيف، بل بالعدل، ووضع أسس إمبراطورية مالي، التي ستُصبح فيما بعد من أغنى وأعظم إمبراطوريات التاريخ.
"سوندياتا لم يُخلد لأنه قاتل، بل لأنه أقام مملكة بُنيت على الحكمة والاتحاد".
مستقبل موسيقى الغريوت
موسيقى الغريوت تمتلك مستقبلا واعدا إذا تم التوفيق بين حفظ الأصالة وتبني التطور للحفاظ على هذا الفن، فأغاني الغريوت مهددة بفقدان دورها التقليدي بسبب ضعف استخدام اللغات المحلية مؤخرا، مما أدى إلى تراجع دور الغريوت في المجتمعات.
ومع تهديد الحداثة هويتها يُتوقع استمرار دمج الغريوت مع أنماط موسيقية حديثة مثل الجاز والأفروبيت، مما يمنحها جاذبية عالمية خاصة تساعد على انتشارها خارج أفريقيا في عصر الإنترنت والمهرجانات الدولية والتوثيق الرقمي والذكاء الاصطناعي.
وحين وصلت حكاية الغريوت الجد إلى محطتها النهائية، شعر الناس بالحزن والغضب في آن واحد، وتساءل: "أتُنسى ذاكرة الأجداد؟ أتُنسى تلك الليالي حول النار حيث الكلمات تُدفئ القلوب؟ ومن سيروي تاريخ الأسلاف من الآن فصاعدا؟ ومن سيصالح القبائل ويحل الخلافات بلمسة الغريوت السحرية المدهشة؟ من سيوصل رسائل العشاق إلى محبوباتهم؟ ومن سيبدأ الحكايات بعد اليوم بجملة: في قديم الزمان، حين كان الأبطال يمشون بيننا".

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 2 أيام
- الجزيرة
المسرح الجامعي بالدار البيضاء.. ذاكرة تهجس بالحداثة والتجريب
الدار البيضاء- اختتمت قبل أيام قليلة بمدينة الدار البيضاء فعاليات الدورة الـ37 من "المهرجان الدولي للمسرح الجامعي بالدار البيضاء" باعتباره واحدًا من أبرز التظاهرات الفنية التي ظلّت تطبع تاريخ الحركات المسرحية بالمغرب. فالمهرجان يُعدّ في طليعة المهرجانات الصغرى التي لعبت دورًا كبيرًا في إيجاد مساحة فنية مغايرة للشباب، من أجل خلق أفق مسرحي جديد، لا يجد ملامحه الفنية وخصائصه الجمالية في المسرح الحديث، بل يتطلع إلى القفز صوب اختراق باب الحداثة وآفاقها الفنية اللامتناهية. وعلى الرغم من هشاشة الواقع الفني بالمغرب اليوم، بعدما غدت مجمل التظاهرات الفنية تحرص على تبنّي نوع من الأفق الفني المختلف والتعامل مع المسرح وفق آلية تقوم على الترفيه والاستهلاك، يعثر المُشاهد على عدد من المهرجانات التي تتشبث منذ تسعينيات القرن الـ20 بأفكارها ومواقفها، إذ تحاول جاهدة تكريسها والتعامل مع الثقافة بنوع من الالتزام الفكري الهادف. لكن في مقابل ذلك، نعثر على سلسلة مهرجانات فنية تراهن على ثقافة الفرجة عبر دعوة جملة من النجوم. إن هذه النظرة أسهمت إلى حد كبير في تغيير ملامح المسرح المغربي وجعلته مسرحًا مبنيا على الكوميديا والهزل، إذ نادرًا ما يعثر المشاهد على مسرحيات أصيلة تطرح أسئلة حقيقية عما يحبل به الواقع العربي من قضايا وإشكالات وتصدّعات. فالمسرح المغربي الحديث وإن كان مشغولًا بسؤال الكوميديا، فإنه يظل في عمقه أمينًا للواقع الذي ينتمي إليه. الذاكرة المسرحية بالدار البيضاء يسعى المهرجان الدولي للمسرح الجامعي إلى أن يخرج الناس من قفص الكوميديا والهزل ويزج بهم في عوالم الجنون والسياسة والواقع والتاريخ والذاكرة والسياسة، إنه يعمل بطريقة ذكية على توجيه المشاهد صوب مسرحيات شبابية حقيقية تنتقد الواقع وتسعى فنيا إلى تأسيس مسرحي جديد ومعاصر. لذلك، يعتبر هذا المهرجان الذي تنظمه كلية الآداب والعلوم الإنسانية بن امسيك بالدار البيضاء أحد أهم التظاهرات الفنية التي تنشط الذاكرة المسرحية للدار البيضاء، لأنه مهرجان لا ينسف مجهودات المسرحيين الكبار الذين يحضرون في إطار الورشات والتكريمات والندوات، ولكنه يراهن بشكل أساس على الأجيال الجديدة من الطلبة الذين يتوسلون مفاهيم مختلفة ولغة متفردة للتعبير عن هواجسهم الذاتية وإشكالات ذات صلة بالواقع وتحولاته السياسية والاجتماعية. أُسّس المهرجان عام 1988، ومنذ تلك اللحظة استقطب آلافا من التجارب المسرحية الشابة من مختلف دول العالم والتي تأتي سنويا للمشاركة في هذا الحفل الفني. ونظرًا إلى الإقبال الكبير على المشاركة، فإن اللجنة العلمية تجد نفسها في وضع صعب وهي تُنقّب عن أعمال مسرحية مختلفة وعلى درجة عالية من الابتكار الفني. وفي كل سنة يجد الطلبة والباحثون والمسرحيون والسينمائيون أنفسهم أمام وجبة مسرحية عالمية دسمة أكثر اتصالًا بواقعهم وذاكرتهم، حتى لو كانت المسرحية بلغةٍ إيطالية أو فرنسية أو ألمانية. جماليات المسرح المعاصر وفي الوقت الذي يتراجع فيه الفعل الفني والممارسات الثقافية بالدار البيضاء، يخترق فريق المهرجان ضحالة الواقع اليومي والتصحّر الثقافي والتفكير في بناء فرجة مسرحية تمنح الناس أملا جديدا حول الدور الذي يمكن أن يلعبه الفن في حياتهم. وبوجود المهرجان في قلب مدينة لها تاريخ كبير مثل الدار البيضاء، باعتبارها قطبًا اقتصاديا للبلد وذاكرة فنية لا تشيخ، فإن ذلك يعطي للمهرجان بعدا رمزيا ويجعله يبلور هوية مسرحية خاصة به. فقد أسهمت المدينة في ظهور كوكبة من المسرحيين المغاربة الكبار ممّن لبعوا دورًا كبيرًا في تأسيس فرجة مسرحية نابعة من أحراش المجتمع المغربي وواقعه المعيش. وبمجرد الحديث عن الذاكرة الفنية للمدينة، يبرز المسرح باعتباره ممارسة فنية اشتهرت بها المدينة، فالعديد من الفرق المسرحية المعروفة في تاريخ المسرح ظهرت أفكارها وبواكيرها الأولى على ردهات مقاهي المدينة لتخترق الواقع، وتصبح بعد ذلك فرقا مسرحية مؤثرة في تاريخ المدينة. يأتي المهرجان الدولي للمسرح الجامعي باعتباره أفقًا معاصرًا يحرر الممارسة المسرحية من تقليديتها ويدفع بها صوب تجريب أشكال مسرحية جديدة. فعلى الرغم من الأفق الفني اشتهر به المسرح المغربي منذ الثمانينيات، فإن العديد من التجارب المسرحية ما تزال غارقة في المسرح الحديث، شكلًا ومضمونًا. أما التجارب الجديدة فحرصت على إقامة نوع من الثورة على الشكل واخترقت بنية الواقع، بعدما جعلت الكتابة الدرماتورجية بمنزلة مختبر للتفكير في الواقع. لذلك يُسجّل المتابع للأعمال المسرحية المتوّجة عربيا بجوائز مهمة أنها قامت بالثورة على الشكل القديم ودفعت العمل المسرحي إلى الخروج من الموضوعات التنميطية صوب الاهتمام بإشكالات مفصلية في علاقة الفرد بمجتمعه. حرصت الأعمال المسرحية المشاركة في الدورة الـ37 على نقد المجتمع وتشريح الذاكرة وتخييل الذات، بهدف اجتراح لغةٍ مسرحية جديدة تُدين الواقع وفداحته. وعلى مدار أيام استطاع فريق المهرجان تقريب المهتمين بالشأن الفني بالمغرب من عوالم المسرح المعاصر، حيث للجسد فتنته وسلطته على المتفرج. الدبلوماسية الموازية تتميز الدورة الـ37 في كونها راهنت من جديد على الوجوه المسرحية الجديدة من المغرب وإيطاليا وأرمينيا وألمانيا مثل "الدرس" و"التعاسة من العقل" و"قصص رائعة لبقية الحياة" و"فتيات كاليفورنيا" و"ريد" و"منامات جحجوحة" و"رجال في العمل" و"الريح" وغيرها من الأعمال التي تتمي فكريا إلى المسرح المعاصر، بوصفها أفقا فنيا يخلق للمرء نوعا من التوازي بين الواقعي الذي ننتمي إليه وواقع متخيل تتحكم في تخيله العناصر المشكّلة للعمل المسرحي. ونظرًا إلى الدور الذي أصبح يلعبه المسرح في بناء أفق جديد للدول والحضارات، فإن الدورة 37 جعلت من "المسرح والدبلوماسية والثقافية والفنية" عنوانا كبيرًا. لذلك اكتست الدورة الجديدة أهمية بالغة إذ إنها تعاملت مع المسرح المعاصر بكونه دعامة دبلوماسية تلعب دورًا مدهشًا في تجذير العلاقات الدولية وفق مقاربة سياسية مختلفة، تعطي قيمة للعمل المسرحي في بناء شرعية جديدة للعلاقات الدبلوماسية بين الدول.


الجزيرة
منذ 4 أيام
- الجزيرة
الغريوت.. حافظ التراث وذاكرة غرب أفريقيا الجمعية
في قرية صغيرة من سهول مالي، حيث يستلقي نهر النيجر وسط الرمال الذهبية، جلس "الغريوت" الجد المنحدر من عائلة عُرفت بالغريوت منذ أجيال سحيقة. لم يكن الجد غريوتًا عاديا، بل وُلد وفي قلبه نغمة، وفي صوته شجن، وفي ذاكرته مئات القصص. كان يغني تاريخ المعارك والبطولات والأسواق والحب القديم في أرض ماندينغ، لم يكن يحكي بالكلمات فقط، بل بالألحان المنبعثة من آلة الكورا ذات الـ21 وترا مصنوعا من أمعاء ماعز جبلي وقرع كبير مقطوع إلى نصفين ومغطى بجلد البقر، جلس يحكي عن تاريخ أسلافه ومهنته التي يحب، جلس يحدثني عن حكاية "الغريوت". من الغريوت؟ الغريوت (Grio-Griot) -الكلمة الأكثر شيوعا في الأدبيات الغربية الناطقة بالإنجليزية- أو "دجيلي" (djeli) في لغة الماندي منذ إمبراطورية مالي في القرن الـ13. ويُعرفون أيضا باسم "نياماكالاس" وتعني مدبري القوى التي تُشكِّل الكون. يقول الكاتب المالي أمادو هامبتة با، ليوضِّح للأوروبيين أهمية المكانة التي يحتلها الغريوت أو الدجيلي في مجتمعات غرب أفريقيا: "مع وفاة كل غريوت، تحترق مكتبة وتندثر للأبد". الغريوت هم حُراس وسدنة التراث الشفهي في غرب أفريقيا، احتلوا مكانة مهمة في المجتمع وطوروا تقليدا شفهيا ملهما من الأغاني والقصص والروايات التاريخية والأمثال والحكايات. فهم حفظة التاريخ والتقاليد والأساطير والأنساب في المجتمعات التقليدية في بلدان مثل مالي، والسنغال، وغامبيا، وغينيا، وبوركينا فاسو، والنيجر، ينحدرون من فئة اجتماعية تتوارث مهنة الغريوت في أسر معروفة منذ الصغر. تتعدد أدوارهم ما بين مؤرخين، ورواة قصص، وشعراء، وموسيقيين، ومرشدين روحيين، ويحملون على عاتقهم نقل كل هذا التاريخ والتقاليد والقيم الثقافية للأجيال القادمة. يحظى الغريوت بمكانة اجتماعية مرموقة، ويعتبرون بمثابة مستشارين للعائلات الملكية وكبار الشخصيات، وتصنفهم العامة خبراء أنساب يعرفون أصول العائلات ووسطاء فض نزاعات. كما يحتفظون بسجلات لجميع المواليد والوفيات والزيجات عبر أجيال القرية أو العائلة. كما كان لهم دور سياسي، لكنه محدود وغير مباشر، فالغريوت لم يكن حاكما أو زعيما، لكنه كان حافظا للذاكرة السياسية الجماعية، وصوت السلطة التقليدية، وله تأثير كبير في الحكم والشرعية. أدوار فنية مختلفة يتدرب الغريوت منذ الصغر ليصبحوا خطباء وشعراء أغانٍ وموسيقيين، كذلك يقومون بأدوار فنية متعددة ومهمة في المجتمع المحلي للشعوب الناطقة بلغة الماندينغ، أدوار على شاكلة رواية القصص والأساطير الشعبية بأسلوب شائق ومؤثر عبر استخدام الشعر والموسيقى لجذب انتباه الجمهور. كذلك إنشاد الملاحم التي تحتفي بالأبطال وتخلد الأحداث التاريخية بأصوات جميلة وأداء مسرحي ويعزفون على آلات موسيقية تقليدية، مثل القيثارة الكورا والبالافون والنجوني والطبول التي تستخدم لضبط إيقاع الحكاية وهم يغنون الأغاني. وأخيرا الغناء في مناسبات التتويج والزواج والمآتم. وأشهر عائلات الغريوت المعروفة في مالي وديواباتيه وسيسوكو، وفي غامبيا كونتي، وفي السنغال وندور وغايي. أشهر موسيقيي الغريوت المعاصرين: من مالي توماني دياباتيه، وياماندو دياباته أعظم عازفي الكورا، ومن السنغال بابا مال، وهو مغنٍ معاصر يمزج الغريوت بالفيوجن ومن السلالات الغريوتية المعروفة في غامبيا سالي كولاي جوباتي، وأخيرا الرمز السنغالي العالمي لموسيقى غرب أفريقيا يُسُو ندور، الذي ينحدر من طبقة الغريوت من جهة والدته والذي يزاوج في موسيقاه بين نمطي الغريوت والمابلاكس. الكاتب الإيفواري أحمدو كوروما، الذي استكشف عمل "الغريوت الدجيلي" في رواياته، بل ووسّع نطاقه يقول: "الدجيلي لم يخشوا مطلقا من تسمية حاكمٍ مستبدٍّ باسمه، وهنا يتجلى هذا الولاء للكلمة على أكمل وجه". وفي رواية كوروما الساخرة "انتظار الوحوش للتصويت"، التي تُذكر فيها أسماء طغاة من جميع أنحاء أفريقيا، من صموئيل دو من ليبيريا إلى إتيان إياديما من توغو وموبوتو سيسي سيكو من الكونغو، يروي "الغريوت الدجيلي" حياة طاغية بينما يستمع الرجل نفسه: الرئيس كوياغا.. أيها الجنرال، أيها الطاغية .. اليوم سنغني ونحتفل باسمك وأعمالك .. سنقول الحقيقة عن استبدادك، عن والديك وعملائك .. الحقيقة الكاملة عن حيلك القذرة وهرائك وأكاذيبك .. وجرائمك واغتيالاتك الكثيرة . بواسطة الروائي الإيفواري أحمدو كوروما الغريوت رسول العاشقين يقول دكتور أحمد الأمين أحمد الباحث في الأدب الأفريقي للجزيرة نت "لقد كان لمعظم القرى بإمبراطورية مالي غريوت خاص بها، يسرد قصص الميلاد، والوفيات، والزيجات، والمعارك، والصيد، بمصاحبة الموسيقى والشعر. كما كانوا يتغنون بعديد من الأمور الأخرى مثل سير كبار الصيادين وانحسار عظمة زعماء القرية وأفول مجدهم. وما زال هذا نسق حياتهم حتى اليوم، وغالبا ما يُعْتَمَد عليهم لأجل الحفاظ على التاريخ الخاص بأسرة أو قرية أو منطقة. وما زالوا يلعبون على آلات موسيقية عتيقة يعود تاريخها إلى عدة قرون. وتصنع قيثاراتهم من القرع، أما طبولهم، فتصنع من جلد الماعز". إعلان ويضيف الأمين أن "الغريوت كذلك يقوم بدور رسول الغرام بين المحبين، ويتم ذلك بسبب حساسية المجتمع الذي لا يسمح بلقاء العشاق وبث لواعجهم وجها لوجه. عليه يقوم بذلك الدور مقابل مبلغ نقدي يدفعه الشباب لهذه الشريحة المبدعة، لأجل إبلاغ عشقهم لمن يحبون عبر الشعر أو الغناء". مصادر دخل الغريوت تقول الكاتبة والباحثة هانا راي أرمسترونغ المتخصصة في السياسة والأمن في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل في مقال لها بصحيفة نيويورك تايمز: "منذ ولادتهم، يُعلّم الغريوت الماليون كيفية تملق الأثرياء ورأب الصدوع الاجتماعية. فمن النزاعات العائلية إلى الحروب بين العشائر، يُهدئ الغريوت الأعصاب، ويُروّض غرورهم، ويتمتع بالحصانة. قبل عدة سنوات، عندما تحوّل قتال بين المزارعين والبدو في مالي وغينيا إلى صراع مسلح، عقد الغريوت من كلا البلدين اجتماع قمة أسفر عن حل جذري للمشكل". الغريوت لا يعملون ضمن نموذج اقتصادي واضح المعالم، بل يعتمدون على اقتصاد الهبة والرعاية، لكن مع تطور العصر، كثير منهم انتقل إلى اقتصاد الفن الحديث، مثل التسجيلات، والحفلات، والتعليم الثقافي، من دون أن يقطعوا صلتهم بالأسس المجتمعية التقليدية. لا يفرض الغريوت أجرا رسميا مقابل خدماتهم، ومصادر دخلهم عبارة عن إكراميات وهدايا تُعطى لهم تتفاوت بين المال في حالات مديح الأشخاص ذوي الشأن في المجتمع أو هدايا على شاكلة ماشية، وملابس، وحبوب، خاصة في الأعراس والمآتم والاحتفالات. وبحكم ارتباطهم تاريخيا بالأسر الحاكمة في إمبراطوريات مالي وسونغاي يحصلون في الغالب على إعالة شبه دائمة "راتب" من تلك العائلات مقابل خدمتهم كمؤرخين، ومدّاحين، ومستشارين ثقافيين. ملحمة سوندياتا كيتا "استمعوا أيها الناس فأنا الغريوت، حامل ذاكرة الزمن، حارس أمجاد الأجداد، جئت أروي لكم قصة من زمنٍ عتيق، عن الولد الذي لم يمشِ، ثم صار ملكا يُطأطئ له الملوك. إنها حكاية سوندياتا، أسد الماندينغ" هكذا يقولون عن أنفسهم. في مملكة نياني ولد طفل للملك ماكان كوني فاتا وامرأة غريبة تُدعى سوغولون كوندي. كانت امرأة ذات مظهر غريب وقوة غامضة، قيل إنها جاءت من الجبال بنبوءة مقدسة أن ابنها سيُصبح ملكا عظيما ويوحّد الممالك، لكن هذا الطفل، سوندياتا، وُلد ضعيفا، لا يقوى على المشي. سخر منه الجميع، واعتبروه عارا على المملكة، في حين بقيت أمه مؤمنة بنبوءتها. حين أهان أحدهم أمه، نهض سوندياتا للمرة الأولى. تمسّك بغصن شجرة، وضرب الأرض برجليه. في لحظة واحدة، صار الطفل الذي لم يتحرك أسدا واقفا! هتف الناس، وسكتت السخرية. بعد وفاة والده، استولى على الحكم الملك الشرير سومورو كانتي، ساحر مملكة سوسو، الذي دمّر القرى وأحرق المدن، ونشر الرعب في الماندينغ. هربت سوغولون بابنها سوندياتا إلى المنفى، وهناك تعلّم الحكمة، واختلط بالأمم، ونما في داخله الحلم الكبير. حين اشتدت ظلمة سومورو، عاد سوندياتا وجمع القبائل تحت رايته، وأقسم أن يعيد للماندينغ مجدها. وفي معركة كيرينا التقى الجيشان، سوندياتا واجه سومورو، وكشف سر قوته السحرية، وهزمه، وحرّر البلاد. أصبح سوندياتا ماني فاي ملك الملوك، وهو لم يحكم بالسيف، بل بالعدل، ووضع أسس إمبراطورية مالي، التي ستُصبح فيما بعد من أغنى وأعظم إمبراطوريات التاريخ. "سوندياتا لم يُخلد لأنه قاتل، بل لأنه أقام مملكة بُنيت على الحكمة والاتحاد". مستقبل موسيقى الغريوت موسيقى الغريوت تمتلك مستقبلا واعدا إذا تم التوفيق بين حفظ الأصالة وتبني التطور للحفاظ على هذا الفن، فأغاني الغريوت مهددة بفقدان دورها التقليدي بسبب ضعف استخدام اللغات المحلية مؤخرا، مما أدى إلى تراجع دور الغريوت في المجتمعات. ومع تهديد الحداثة هويتها يُتوقع استمرار دمج الغريوت مع أنماط موسيقية حديثة مثل الجاز والأفروبيت، مما يمنحها جاذبية عالمية خاصة تساعد على انتشارها خارج أفريقيا في عصر الإنترنت والمهرجانات الدولية والتوثيق الرقمي والذكاء الاصطناعي. وحين وصلت حكاية الغريوت الجد إلى محطتها النهائية، شعر الناس بالحزن والغضب في آن واحد، وتساءل: "أتُنسى ذاكرة الأجداد؟ أتُنسى تلك الليالي حول النار حيث الكلمات تُدفئ القلوب؟ ومن سيروي تاريخ الأسلاف من الآن فصاعدا؟ ومن سيصالح القبائل ويحل الخلافات بلمسة الغريوت السحرية المدهشة؟ من سيوصل رسائل العشاق إلى محبوباتهم؟ ومن سيبدأ الحكايات بعد اليوم بجملة: في قديم الزمان، حين كان الأبطال يمشون بيننا".


الجزيرة
منذ 6 أيام
- الجزيرة
الموسيقى الأفريقية.. بين طقوس الأسلاف والنضال والتحرر الوطني
الموسيقى في غرب أفريقيا لم يكن دورها ترفيهيا فقط، ولم تكن وسيلة لتحسين الحالة المزاجية للإنسان ومنحه شعورًا رائعًا بالبهجة والسعادة، لكنها قامت بدور محوري في الحركات التحررية، وُظِّفَت كأداة فعالة للتعبير عن الهوية الوطنية ومواجهة الاستعمار بوسائل سلمية مما ساعد على بناء ذاكرة وطنية جماعية. كانت موسيقى الأفرو-بيت بمنزلة مقاومة ثقافية لمحاولات طمس الهوية الأفريقية، اعتمدت في ذلك على الرمزية في الغناء لتفادي الرقابة، فدسّ المغنون في أغنياتهم رسائل خفية عكست روح المقاومة. وهكذا، لعبت الأفرو-بيت دورا أساسيا في النضال التحرري، ولا تزال تعمل على تعزيز الهوية والوحدة الوطنية. التواصل مع الأسلاف تشير الحفريات الأثرية إلى وجود موسيقى أفريقية منذ عصور ما قبل التاريخ، إذ وُجدت لوحات من العصر الحجري الوسيط يعود تاريخها إلى حوالي 6000-4000 قبل الميلاد، تصور أشخاصا يرقصون ويعزفون على آلات موسيقية. في بداياتها كانت الموسيقى التقليدية الأفريقية جزءًا من الطقوس الدينية التعبدية والروحية للتقرب والتواصل مع أرواح الأسلاف والآلهة الأفريقية، حسب اعتقادهم، وسيلتها في ذلك الرقص على أنغام الطبول كما في أغاني الزولو، أو كما في مديح الأسلاف والملوك "أناشيد الغريوت الطقسية" (الغريوت هو راوي قصص ومغنٍّ وموسيقي ومؤرخ شفوي) في غرب أفريقيا. لقد جسدت الموسيقى الأفريقية التقليدية ملامح الهوية الثقافية لشعوب القارة السمراء، وقامت بدور محوري في الحياة اليومية والنشاط المجتمعي، بدءًا من الولادة والختان، وصولًا إلى الزواج والحرب والموت. أيضا لم تقتصر على الاحتفال فقط، بل تحوي الحكايات والسرد القصصي في قوالب الغناء الجماعي، وتساعد على ذلك الطبيعة النغمية للغات الأفريقية، التي تخلق تلاحمًا فريدًا بين اللغة والإيقاع. وتمثل هذه الأغاني أرشيفًا حيًّا للذاكرة الجماعية، يحفظ في داخله تنوع الطقوس والاحتفالات الموسمية والدينية والاجتماعية بين المجموعات الأفريقية المختلفة. وتتميّز بأساليبها التفاعلية مثل أسلوب النداء والاستجابة، وتعدد الإيقاعات، إضافة إلى عنصر الارتجال، مما يضفي عليها طابعًا نابضًا بالحياة يعكس ثراء النسيج الثقافي والاجتماعي للقارة السمراء. وتستخدم الأغنية الأفريقية مجموعة من الآلات التقليدية الفريدة مثل الكورا، والجمبي، والمبيرا، والتي تُصنع غالبًا من مواد بسيطة ومتوفرة محليا مثل جلود الحيوانات للطبول وأمعائها لأوتار بعض الآلات، مما يعكس إبداع الموسيقيين الأفارقة في تطويع البيئة لإنتاج نغماتهم المميزة. ورغم صعوبة حصر الموسيقى الأفريقية في مقام موسيقي واحد نظرًا لغناها وتنوعها، فإن المقام الخماسي، إلى جانب الخصوصيات الموسيقية التي تميز كل منطقة، يعتبر المقام الأوسع انتشارا لتلك الموسيقات. ويتكون المقام الخماسي من 5 نغمات كما في موسيقى الصين وموسيقى البلوز في أميركا، وأصوات المقام الخماسي هي الأصوات الثابتة في المقام " تُحذف درجتا الفاء والسي، ذوات نصف الدرجة"، وهو أكثر المقامات انتشارا وشيوعا في الموسيقى التقليدية الأفريقية خصوصا في شرق القارة وغربها. أما المقام السباعي فيشيع استخدامه في إثيوبيا وبعض المناطق في غرب السودان وهو مختلف عن المقام الغربي التقليدي لارتباطه بتلك الثقافات. والمقام الأخير المستخدم في أفريقيا هو المقام المعدل الذي يحتوي على نغمات بدرجات النصف وربع الدرجة داخل المقام. أنماط هجينة شهدت الموسيقى الأفريقية تغييرات عميقة بفعل التأثيرات الاستعمارية والدينية، فقد أدت القوى الاستعمارية إلى إعادة تشكيل الأنماط التقليدية، عبر استبدال الآلات الأصلية بآلات غربية، مثل البيانو والغيتار، وفرض الإيقاعات الغربية، مما أسفر عن أنماط موسيقية هجينة مثل "الهاي لايف" في غرب أفريقيا. وقد امتدت الهيمنة الثقافية الاستعمارية إلى اللغة، فأُقصيت اللغات المحلية لمصلحة لغات المستعمرين في النصوص الغنائية. وعلى الصعيد الديني، فرضت الموسيقى الكنسية الغربية نفسها على الموسيقى والطقوس الأفريقية. تلك التحولات لم تقتصر على الشكل والمحتوى، بل أعادت تعريف دور الموسيقى من أداة اجتماعية وثقافية إلى وسيلة دينية، مما أثر في عمق التجربة الموسيقية الأفريقية وتنوعها. مجمل القول إنه لا يوجد مقام موحد لكل الموسيقات الأفريقية لكن أهمها المقام الخماسي والإيقاعات المتعددة والتكرار والتفاعل المضاد داخل الغناء الجماعي، بالإضافة إلى الارتجال بمصاحبة آلات موسيقية محلية مثل الجيمبي والبالافون والكورا والمبيرا. الأفرو-بيت والأفرو-بيتس يشير العديد من المتخصصين إلى أهمية التفريق بين "الأفرو-بيت" بوصفه نمطًا كلاسيكيا ذا طابع نضالي، و"الأفرو-بيتس" كنوع موسيقي حديث يحتفي بالثقافة والشباب والحياة اليومية. ففي حين كان الأول منصة للاحتجاج، أصبح الثاني لغة عالمية للرقص والاحتفال والتعبير الشخصي نشأ الأفرو-بيت -صوت الثورة والموسيقى- في أواخر ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم في نيجيريا ، ويُعد الموسيقي الشهير فيلا كوتي الأب الروحي لهذه المدرسة. يمزج الأفرو-بيت بين موسيقى غرب أفريقيا التقليدية والجاز والفانك والسول، ويتميز بإيقاعاته المعقدة وعزفه الطويل على الآلات الموسيقية، كلماته تحمل في طياتها رسائل سياسية حادة وانتقادات اجتماعية صريحة حيث كان صوتًا للمقاومة وأداة فنية في مواجهة القمع. أما الأفرو-بيتس فهو نمط موسيقي معاصر نشأ في غرب أفريقيا في أوائل العقد الأول من القرن 21، ويجمع بين الموسيقى التقليدية والموسيقى الغربية ويزاوج بين الإيقاعات والألحان الأفريقية التقليدية وبين عناصر من الهيب هوب والريغي والفانك والآر إن بي وموسيقى أفرو-بيت التي أطلقها فيلا كوتي. ويتميز بإيقاع سريع وحيوي وجذاب تؤديه الطبول وبقية الآلات الإيقاعية، والغناء فيه باللغة الإنجليزية واللهجات المحلية، وتدور موضوعاته حول الحياة والحب وقضايا الهوية. نجح الأفرو-بيتس سريعا في تجاوز الحدود، ليصبح ظاهرة عالمية، إذ وصل إلى قوائم الموسيقى العالمية، وتعاون فيه فنانون أفارقة مع نجوم عالميين، مما أسهم في تعزيز حضور الثقافة الموسيقية الأفريقية في الأسواق الدولية. من غرب أفريقيا إلى العالمية انطلقت موسيقى الأفرو-بيتس في منتصف الألفية الثانية من قلب غرب أفريقيا، حاملة مزيجًا فريدًا من الإيقاعات المحلية والعالمية مثل الدانسهول، والهيب هوب، وآر آند بي. وسرعان ما تخطت هذه الموسيقى حدود القارة، لتلقى رواجًا كبيرًا في المملكة المتحدة وتصبح جزءًا من المشهد الموسيقي العالمي. أسهم نجوم مثل فيلا كوتي، وبيرنا بوي، ويزكيد، ودافيدو، وتيمز، وريما، وآيرا ستار في ترسيخ مكانة هذا اللون الموسيقي عالميا، فأضحى يمثل جسرًا ثقافيا يربط أفريقيا بالعالم، ويعكس نبض الثقافة الشعبية الأفريقية من خلال الرقصات واللغة والأسلوب. ولم تقتصر أهمية الأفرو-بيتس على البعد الفني، بل امتدت لتفتح آفاقًا اقتصادية جديدة للفنانين من خلال البث الرقمي، والجولات الموسيقية، والشراكات مع علامات تجارية كبرى. ومع تزايد التعاون العابر للثقافات، تواصل الأفرو-بيتس ترسيخ حضورها في المهرجانات العالمية وقوائم الموسيقى الرقمية. المؤسس الأيقونة يُعد فيلا كوتي (1938-1997) أحد أبرز رموز الموسيقى والسياسة في أفريقيا المعاصرة. وُلد في مدينة أبيوكوتا النيجيرية وسط أسرة مناضلة، حيث كانت والدته من أوائل الناشطات النسويات. درس الموسيقى في لندن، لكنه وجد صوته الحقيقي بعد تأثره بحركات النضال الأسود خلال جولة في الولايات المتحدة عام 1969. ابتكر كوتي أسلوب "الأفرو-بيت"، وجسّد فيه مزيجًا فنيا فريدًا جمع بين الجاز، والفانك، والإيقاعات التقليدية لشعب اليوروبا، وجعل من موسيقاه أداة للنضال السياسي. تحولت أعماله إلى منصات احتجاجية لاذعة ضد الاستبداد، مثل أغانيه " زومبي" و"بيستس أوف نو نيشن". يقول في أغنيته الشهيرة "Beasts of No Nation": "كما ترون، هناك العديد من القادة هناك العديد من التنكرات حيوان في جلد إنسان وحيوان يضع ربطة عنق حيوان يرتدي عباءة وحيوان يرتدي بدلة" في مسرحه بمدينة لاغوس، اجتمع المهمشون حول صوته، بينما واجه حملات الدهم والاعتقالات، خاصة بعد تأسيسه ما عرف باسم "جمهورية كالاكوتا" التي هاجمتها السلطات، مما أدى إلى مقتل والدته. لم تثنه التهديدات، فتبنّى اسم "أنيكولابو" -أي "من يحمل الموت في جعبته"- رمزًا لتحديه للسلطة العسكرية. ورغم فشله في الترشح لرئاسة نيجيريا عام 1979 واعتقاله لاحقًا، ظل فيلا كوتي أيقونة فنية وثورية حتى وفاته عام 1997. إرثه لا يزال حيًّا، ملهمًا أجيالًا من الفنانين والمناضلين في أفريقيا والعالم. "جمهورية كالاكوتا" وتحوّل الفن إلى مقاومة في سبعينيات القرن الماضي، أعلن فيلا كوتي استقلال مجمّعه السكني "يوتوبياه" في لاغوس تحت اسم "جمهورية كالاكوتا المستقلة"، متحديًا النظام العسكري القائم آنذاك. لم تكن كالاكوتا كيانًا معترفًا به، بل كانت مساحة بديلة للفن، والحرية، والاحتجاج، تضم أسرته وفرقته وأستوديو تسجيل وعيادة طبية. حملت الجمهورية الوليدة طابعًا ساخرًا في اسمها المستوحى من زنزانة سجن، وجاءت كرمز صريح لرفض القمع والفساد، وسعيًا لبناء مجتمع مستقل يُعبّر عن قيم العدالة والتغيير. غير أن هذا الحلم اصطدم بعنف الدولة، إذ شنّ الجيش النيجيري هجومًا مدمرًا عليها في عام 1977. لكن رغم زوالها المادي، بقيت "جمهورية كالاكوتا" حيّة في الذاكرة الثقافية والسياسية، تجسّد مقاومة الطغيان، وتلهم أجيالًا من الفنانين والمناضلين في نيجيريا والعالم.