
العقاب الجماعي في العقيدة النازية: قصة معاشات تُصادر في كردستان
لسنا بصدد الحديث في هذا المقال عن سكان غزة، ولا عن سياسة التطهير القومي التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين، وهي سياسة تستند إلى عقيدة نازية وتقوم على أشكال متعددة من العقاب الجماعي. ما نتحدث عنه هنا هو سياسة النظام الطائفي-القومي في بغداد تجاه عمال وموظفي كردستان.
بطبيعة الحال، لا نقارن بين ما يحدث في الأرض الفلسطينية المحتلة وما يحدث في كردستان، لكننا نسلط الضوء على المنهجية السياسية ذاتها التي ينتهجها النظام السياسي في بغداد تجاه جماهير كردستان. وخاصة قراره الأخير بقطع الرواتب ومعاشات عمال وموظفي كردستان.
في اجتماع ضمن برنامج "مواجهة وباء كورونا" لجبهة ضمت اتحادات عمالية ومنظمات مجتمع مدني وأحزاب سياسية في عام 2020، ناقشنا إصدار موقف للدفاع عن معاشات ورواتب عمال وموظفي كردستان. حينها قال أحد الزملاء إن بغداد لا تتحمل المسؤولية، وإن حكومة إقليم كردستان هي من تستولي على النفط وتبيعه لمصلحتها دون إرسال الأموال إلى بغداد.
فكان ردنا عليه: إن واردات نفط العراق بكامله تذهب إلى الحكومة في بغداد، فماذا جنينا منها نحن؟ انظر إلى حجم البطالة، إلى الخدمات الصحية والاجتماعية المتدهورة، إلى الكهرباء المنقطعة، إلى أطفالنا الذين يبحثون عن الطعام في المزابل، أو في أحسن الأحوال، تحولوا إلى باعة ومتسولين في الشوارع بدلاً من أن يكونوا على مقاعد الدراسة. إنهم يريدون منا أن نتنفس زفير السموم القومية، ويغرسون أسافين الفرقة بيننا، لتضليلنا عن جوهر صراعهم الحقيقي.
ما نود قوله، هو أنه بغض النظر عمّن ينتهك الدستور، وبغض النظر عن الخلافات السياسية بين طرفي بغداد وأربيل، وعن مشروعية أو حقانية كل من الحكومتين، وبعيدًا عن التوازنات الإقليمية وتداعياتها على طرفي المعادلة السياسية في العراق، فإن النظام السياسي القائم في بغداد قد كشف مرة، في ظل ظروف سياسية وتوازنات معينة، عن طبيعته الطائفية ذات النزعة الشمولية الشبيهة بالنزعات النازية، تجاه المناطق المصنفة كمناطق 'سنية'، وأخرى هي قومية شوفينية.
لقد استغل هذا النظام المناخ الدولي الذي رفع راية الحرب على الإرهاب وتنظيم داعش، ليُمارس جرائم تطهير ديموغرافي، ويستولي على الأراضي، ويُغيّب المئات من شباب تلك المناطق، مستخدمًا أساليب بعثية – إن لم تكن أشد وحشية – في تعذيب المعتقلين، خصوصًا في محافظات ديالى وصلاح الدين وبابل ونينوى والانبار.
إن هذه السياسة التي ينتهجها النظام السياسي في بغداد تُعد تجسيدًا لمبدأ العقاب الجماعي، وهي جزء من العقيدة النازية، تستهدف كل من يُهدد سلطتهم السياسية أو يمسّ امتيازاتهم الاقتصادية.
العقاب الجماعي، كما ورد في العقيدة النازية التي مارسها النظام السياسي في ألمانيا خلال حكم أدولف هتلر، كان على درجات متعددة. بدأ بمنع التوظيف والتهميش السياسي والاقتصادي الممنهج، مرورًا بالتجويع والتهجير والاستيلاء على الأراضي، وانتهاءً بالإبادة الجماعية. وقد طبّقت العديد من الأنظمة القومية هذه السياسات ضد سكان وجماعات عرقية أو دينية أو إثنية مختلفة.
ونحن في العراق شهدنا بعضًا من هذه الفصول خلال فترة حكم النظام البعثي، في عقد الثمانينات، حيث تم تهجير الاف من الكرد الفيلية ورميهم على الحدود العراقية-الإيرانية، مع تغييب المئات من الشباب التي تجاوزت أعمارهم السن الثامن عشر، وتم هدم أكثر من 3000 قرية في المناطق والمدن الكردية، واختفى نحو018 ألف إنسان في حملة عُرفت باسم 'عمليات الأنفال'، إلى جانب فرض حصار اقتصادي خانق على تلك المناطق، وغيرها من السياسات القمعية خلال حقبة التسعينات من القرن الماضي.
من الواضح، وعلى الصعيد العملي، أن التوازنات السياسية في العراق تشكّل عائقًا أمام النظام الطائفي-القومي في بغداد للسير على خطى النظام البعثي الفاشي في تعامله مع الناطقين بالكردية في بقعة جغرافية عُرفت تاريخيًا باسم كردستان. ولذلك، لم يتبقَّ أمامه سوى خيار واحد من درجات العقاب الجماعي، ذلك الذي تبنّته حكومة نوري المالكي في ولايته الثانية منذ عام 2014. وتعاقبت بعد المالكي حكومات انبثقت من رحم ذات النظام، مثل حكومات العبادي وعبد المهدي والكاظمي، وآخرها حكومة السوداني، دون أن تُحدث أي منها تغييرًا في المنهجية المتبعة في ممارسة العقاب الجماعي ضد عمال وموظفي كردستان. وهذا يوضح، بشكل لا لبس فيه، أن من يعيش في جغرافيا كردستان لا يُعامل كمواطن متساوٍ في الحقوق مع من يعيش في جغرافيا الوسط والجنوب، وفقًا لمنهجية النظام السياسي الحاكم في بغداد.
وإن كانت الذريعة هي خرق حكومة الإقليم للدستور، فهناك عشرات الإجراءات الدستورية والقانونية التي تستطيع حكومة بغداد اتخاذها. وهي – في الواقع – "محترفة" و "تتفنن" في تأويل القوانين وتطبيقها ضد خصومها، كما حدث حين أُقصي إياد علاوي من تشكيل الحكومة في انتخابات 2010 وهو الفائز الأول الذي حصل على 91 مقعد، ثم أُبعد التيار الصدري عن تشكيل حكومة 2021 الحائز على 73 مقعد بحجة الثلث المعطل، ولاحقًا أُقيل محمد الحلبوسي من رئاسة البرلمان ثم أُعيد إلى منصبه "بقدرة قادر"، بعد تغيير التوازنات السياسية، أي بعد أن مالت كفة المعادلة السياسية في المنطقة لصالح تركيا.
ما يقارب مليون وربع المليون عامل وموظف، الى جانب أسرهم، يُعاقبون بشكل منهجي فقط لأنهم ناطقون بلغة غير العربية، ولأنهم وُلدوا في بقعة جغرافية تُسمى كردستان. وكأن عليهم دفع ثمن قدر لم يختاروه.
والحق يُقال، إن العقيدة النازية، حين تسعى لتحقيق أهدافها السياسية أو كسر إرادة خصومها، لا تجد وسيلة أنجع من العقاب الجماعي. ولو جُردت من هذه الوسيلة، لما استطاعت البقاء في المعادلة السياسية او في المشهد السياسي في أسوأ الأحوال.
إن مسؤوليتنا، نحن في بغداد، ومعنا كل الجماهير العمالية والتحررية في الوسط والجنوب، أن نرفع صوتنا عاليًا ضد سياسات السلطة الطائفية-القومية في بغداد تجاه جماهير كردستان. أن عمال وموظفو كردستان هم إخوتنا، ومصيرنا السياسي واحد ما دمنا نعيش ضمن جغرافيا واحدة. وعلينا أن نفوّت الفرصة على من يحاول دقّ إسفين الفرقة بيننا، أو يسعى لتخديرنا وجرّنا إلى مستنقع صراعاتهم السياسية. يجب ألا نترك اخوتنا فريسة الجوع والعوز، فـنضالنا المشترك هو السبيل لتحقيق الحرية، والسلام، والرفاه للجميع.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


ساحة التحرير
منذ ساعة واحدة
- ساحة التحرير
من الضحية المشرعنة دوليا إلى الضحية التي تشرّع ذاتها!غانية ملحيس وخالد عطية
من الضحية المشرعنة دوليا إلى الضحية التي تشرّع ذاتها! غانية ملحيس وخالد عطية في قلب كل نظام قانوني حديث يكمن سؤال حاسم: من له الحق في أن يعترف به كضحية؟ في سياق القضية الفلسطينية، لم يكن هذا الاعتراف يوما ناتجا عن الألم ذاته، بل عن موقع الضحية في سردية القوة الغربية. القانون الدولي، كما تبلور بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن محايدا، بل صيغ بلغة المنتصر، وأُسس كأداة لإدارة ما بعد الاستعمار، لا لمساءلته. في هذه المنظومة، لم يعامل الفلسطيني كضحية كاملة الأهلية، بل كاستثناء قانوني. فاللاجئ الفلسطيني يعامل كحالة خاصة، والمقاوم كمشتبه، والطفل كخطر أمني. هذه ليست انحرافات فردية عن القانون، بل تعبيرات عن بنيته الأصلية، التي لا تعترف إلا بمن تتطابق مع صورة الضحية العاجزة، غير السياسية، التي لا تهدد التوازن الجيوسياسي القائم. ما تفضحه هذه المعايير الحديثة يتجذر في تاريخ أعمق من تأسيس إسرائيل أو وعد بلفور وصك الانتداب. فاستثناء الفلسطيني من التعريف القانوني يعود إلى لحظة استعمارية مفصلية بدأت مع بداية الغزو الاستعماري الغربي، وحملة نابليون عام 1798، حين طرحت لأول مرة فكرة 'وطن قومي لليهود في فلسطين' كأداة لإعادة تشكيل الشرق. ومنذ ذلك الحين، بدأ بناء منظومة إقصاء متكاملة، تمأسست في مؤتمر لندن عام 1840، وترسّخت لاحقا عبر أدوات كولونيالية متتابعة: مخرجات مؤتمر كامبل بنرمان (1905–1907)، وسايكس بيكو 1916، ووعد بلفور (1917)، ثم صك الانتداب البريطاني على فلسطين (1922). نحن إذن أمام منظومة استعمارية متكاملة، حولت الجنس الأبيض إلى مركز للكون. وأحكمت سيطرتها على شمال الكرة الأرضية ومعظم جنوبها. وتأهبت لاستكمال سيطرتها على المركز، عبر مشروع شامل لإعادة هندسة المنطقة لعربية – الاسلامية الممتدة. بتفكيكها، وتجزئتها، وتخليق كيان استعماري استيطاني غربي وظيفي في مركز وصلها الجغرافي والديموغرافي والحضاري. يقطع التواصل بين مكونات الأمة الأصيلة بعازل صد (جغرافي وبشري وعسكري وديني) ينهي وحدتها السياسية والأمنية والقانونية. ويقوض تكاملها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. باستنساخ تجربة الاستعمار الاستيطاني الافرنجي/ الصليبي/ قبل عشرة قرون، الذي استدام في فلسطين 88 سنة، فيما استدامت حروبه في المنطقة قرابة قرنين (1099-1291). فأسست له وعدا سياسيا بلباس يهودي، قبل أن تشرعنه بقانون دولي، وكل ذلك في ظل تغييب ممنهج للفلسطيني، لا كضحية فقط، بل ككينونة قانونية وسياسية يراد محوها من أصلها. هذا التواطؤ بين الإمبريالية الغربية والامبريالية اليهودية، وتجسده في تنظيم صهيوني عالمي بدأته الصهيونية المسيحية الإنجيليّة في القرن السادس عشر مع ظهور الرأسمالية المؤسسة للحداثة المادية، والتحقت به الصهيونية اليهودية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر. وتحالفا سياسيا وتنظيميا وعسكريا في مطلع القرن العشرين عبر مشروع استعماري غربي عام للسيطرة على عموم المنطقة العربية الإسلامية، يتضمن مشروعا استيطانيا يهوديا خاصا لاحلال اسرائيل محل فلسطين جغرافيا وديموغرافيا. ومنذ ذاك الحين، لم يقص الفلسطيني من الأرض فقط، بل من مفاهيم الشرعية القانونية. فقد جرى نفيه من صكوك السيادة، حتى في تعريفه ذاته، إذ صنف في وعد بلفور كـ 'طوائف غير يهودية'، في حين جرى الاعتراف بالهجين اليهودي المستوطن كـ 'شعب'. هذا الإلغاء الممنهج للكينونة السياسية والقانونية الفلسطينية التي يراد محوها، هو ما يجعل من القانون الدولي أداة نفي بقدر ما هو أداة تنظيم. فإذا كان القانون الدولي قد صاغ تعريف 'الضحية' بما يخدم مصالح القوة المهيمنة، فإن المعركة اليوم ليست في استجداء هذا الاعتراف، بل في نزع شرعيته من أصله. فالفلسطيني ليس ضحية جريمة فحسب، بل ضحية بنية غريبة قانونية – سياسية صممت خصيصا لمحوه وحرمانه من موقع التمثيل. لذلك، فإن استعادة الفعل السياسي تبدأ من استعادة القدرة على التسمية: من هو العدو؟ ما هو العنف؟ ما هو التحرر؟ وما معنى أن تكون ضحية؟ حين نحرر هذه المفاهيم من قبضة المركز، نتحرر من استلاب مزدوج: استلاب الدم، واستلاب المعنى. وهنا تتبدى أهمية المقاربة النقدية: فالفعل المقاوم ليس فقط في المواجهة المسلحة، بل في تفكيك الشرعية القانونية التي تجرم المقاومة وتشرعن الإبادة، وفي صياغة خطاب بديل يعيد تعريف الفلسطيني لا كمتلق للعدالة، بل كصانع لها. ما يثبّت هذا التحليل ويمنحه شرعية تاريخية – واقعية، هو وجود تجارب فلسطينية حية تفضح المفارقة بين نص القانون وممارسته. من أبرزها: محاكم الأطفال العسكرية، كما في حالة أحمد مناصرة، الذي حوكم كـ ' خطر أمني' لا كقاصر، وعومل بأدوات تعذيب قانونية صادمة، تثبت أن الطفولة الفلسطينية مستثناة من اتفاقيات حقوق الطفل. وتجريم المقاومة الفلسطينية، من خلال تصنيف حركات المقاومة الفلسطينية – العلمانية والدينية – ضمن لوائح الإرهاب، رغم أنها حركات تحررية في ظل الاحتلال، يفضح الانحياز البنيوي في أدوات القانون الدولي الذي يهيمن عليه الاستعمار الغربي العنصري. ليس الفلسطيني وحده من تم تجريده من إنسانيته القانونية، بل ثمة سوابق تاريخية تظهر كيف أن القانون الدولي شكّل أداة انتقائية للاعتراف، وأن الضحية لا تعترف بألمها، بل بموقعها داخل شبكة المصالح الغربية. في حرب التحرير الجزائرية (1954–1962)، قتل أكثر من مليون جزائري في واحدة من أبشع عمليات الإبادة الاستعمارية في القرن العشرين، تحت إدارة دولة 'حديثة' تدّعي احترام حقوق الإنسان – فرنسا. ومع ذلك، لم يصنف الاستعمار الفرنسي كجريمة دولية، ولم يحاسب مجرمو الحرب، بل استمر التواطؤ الدولي في تغليف العنف باسم 'الحضارة' و' مكافحة الإرهاب'. وتمّ إقصاء المقاومة الجزائرية من موقع الضحية القانونية، كما أُقصي الفلسطيني لاحقا، لأن الاعتراف كان يعني مساءلة منظومة الهيمنة الأوروبية، وهو أمر لا تتيحه قواعد القانون الدولي المصاغة لحماية المنتصر لا المحروم. وفي حالة الفصل العنصري 'الأبارتهايد' في جنوب إفريقيا، استمر نظام الفصل العنصري لعقود بدعم مباشر أو ضمني من القوى الغربية، خصوصا بريطانيا والولايات المتحدة. ولم يعترف بضحايا هذا النظام قانونيا إلا عندما بدأت كلفة دعم النظام العنصري تفوق عوائده الجيو – سياسية. اعترف القانون الدولي بالأبارتهايد كجريمة، ولكن بعد نضال طويل واصطفافات دولية تغيرت، لا بدافع أخلاقي صرف. حتى الاعتراف بـ 'مانديلا' كرمز حرية، جاء بعد تأطير نضاله في سردية 'ضحية–إنسانوي'، لا 'مقاوم –مهدد للنظام العالمي'. وفي حالة الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، والتي راح ضحيتها نحو 800 ألف شخص خلال مئة يوم، تأخر تدخل المجتمع الدولي، وتجاهلت القوى الكبرى التقارير الاستخباراتية التي أنذرت بالمجزرة. وبعد اكتمال الإبادة فقط، شكلت محكمة دولية خاصة، لا بدافع وقائي، بل ترميمي، في محاولة لغسل اليد لا لمنع الجريمة. في رواندا، وثقت الضحية بعد زوالها، لأنها لم تكن تهدد بنية القوة الغربية. وكان الاعتراف قانونيا، ولكن بلا مفاعيل سياسية أو أخلاقية على مسببي الإبادة أو المتقاعسين عن منعها. هذه الحالات الثلاث تظهر أن الضحية، في القانون الدولي، ليست 'معطى موضوعيا ' بل ' منتج سياسي'. فالاعتراف لا ينبع من الحق، بل من نضج الشروط السياسية للاعتراف. والفارق مع الحالة الفلسطينية أن الفلسطيني – رغم نضاله الطويل على مدى أكثر من قرن – ما يزال يرى كمصدر إرباك سياسي، لا كمصدر حق، ولهذا يتم تعليق الاعتراف به، أو تفريغه من مضمونه. إن ما يجمع الجزائر، جنوب إفريقيا، رواندا وفلسطين، هو أن القانون الدولي لم يقف مع الضحية، بل تأقلم مع الجريمة حتى لم تعد ترى كجريمة. لكن ما يفصل بينها أن الاعتراف بالضحايا في تلك الحالات جاء متأخرا، أو مشروطا، أو تحت ضغط سياقات دولية متغيرة، أما الفلسطيني، فما يزال عالقا في مرحلة 'اللامرئي القانوني'، لأن الاعتراف به يهدد بنية عالمية لم تتغير بعد. وقوننة العقوبات الجماعية، كما في حصار غزة، حيث يفرض العقاب على مجتمع بأكمله بذريعة الأمن، دون مساءلة دولية حقيقية، يكشف أن معايير 'العدالة' قابلة للتعليق حين يكون المستهدف من غير العرق الأبيض، لاتينيا أو إفريقيا أو عربيا، وبالأخص فلسطينيا. والأدهى، مواصلة استثناء الفلسطيني من تمثيل الألم في المحافل الدولية، فرغم التوثيق الواسع لجرائم الإبادة في غزة، لم يتم تحريك أي محكمة دولية بشكل فاعل إلا بعد ضغوط سياسية عابرة، مما يؤكد أن 'الضحية' لا تعرف من خلال عدد الشهداء، بل من خلال مكانها في منظومة المصالح الغربية. ذلك أن الاعتراف بـ ' ضحايا غزة' يربك النظام الدولي، لأنه يستلزم تسمية إسرائيل كمجرم، وهذا غير مسموح. فحتى الموت الفلسطيني نفسه يحتاج إلى موافقة جيوسياسية كي يحتسب. مثال صارخ على ذلك يظهر في المقارنة مع أوكرانيا. فبينما تمنح الأخيرة موقع 'الضحية السيادية' مباشرة، ويفعل النظام القانوني والسياسي الدولي لحمايتها. يختزل الفلسطيني في ملف إغاثي مؤقت، بلا سياق، ولا جريمة واضحة الجاني. ما يجب التوقف عنده بعمق هو أن القانون الدولي، كما تشكل تاريخيا، لم يكن نتاجا لتوافق أخلاقي كوني، بل نتيجة مباشرة لتوازنات القوى بعد الحروب الكبرى. فالقواعد التي صيغت باسم العدالة وحقوق الإنسان، إنما كتبت بلغة المنتصر، ووفق تصوراته للضحية، والمجرم، والعقوبة. ولهذا فإن الضحية لا تعترف لأنها تتألم، بل لأنها لا تهدد بنية القوة التي صاغت منطق الاعتراف ذاته. توازن القوى لا يظهر فقط في غياب المحاسبة، بل في تعريف من يحق له أن يرى كضحية أصلا. فحين يقتل ملايين الأفارقة واللاتينيين والعرب والفلسطينيين، لا يتحرك النظام الدولي إلا ببطء مثقل بالمصالح والاصطفافات. أما حين تمس مصالح الغرب، تفعل القوانين والمحاكم والقرارات بقدرة هائلة على التسمية والعقاب. بهذا المعنى، القانون لا يجرد غير الأبيض عموما، والفلسطيني خصوصا، فقط من الحماية. بل يجرده من إنسانيته القانونية، لأنه خارج توازن القوى الذي ينتج الاعتراف. وحين يخرج الفلسطيني عن صمته، ليعيد تعريف نفسه، يعاد تصنيفه لا كضحية تستحق العدالة، بل كفاعل يجب تحييده. من هنا، لا يمكن فصل مفهوم الضحية عن خرائط النفوذ. فالعدالة ليست معلقة فقط، بل مملوكة. ويعاد تعريف الإنسان وفق ما يخدم النظام لا ما يهدده. وعليه، فإن استعادة القدرة على التسمية لا تنفصل عن معركة التحرر، لأنها في جوهرها معركة على المعنى، وعلى من يملك الحق في أن يكون منظورا إليه، لا فقط ناجيا من الموت. هذا المقال، لا يسعى فقط إلى تفكيك الخطاب القانوني المشوّه، بل يتطلع لنقل مركز النقاش من الضحية التي تطلب الشفقة، إلى الفاعل الذي ينتج المعنى. من الاستثناء القانوني، إلى من يعري القانون ذاته. نحن لا نكتب فقط في مواجهة الجريمة، بل في مواجهة بنية تمنح الجريمة شرعيتها. وكل محاولة لتحرير الأرض لا توازيها محاولة لتحرير اللغة، ستعيد إنتاج الهزيمة. من هنا، فإن استعادة الفلسطيني لموقعه ليست في تقارير الأمم المتحدة، بل في اللحظة التي يعيد فيها تعريف نفسه خارج المعايير الاستعمارية، كفاعل حر، لا كمجرد ضحية صالحة للاعتراف. ذلك أن تعريف الضحية ذاته في التقارير الدولية يقوم على تجريد مزدوج، خصوصا حين يطبق على مجتمعات استعمارية. فالضحية الفلسطينية، مثلا، لا ترى كفاعل سياسي أو أخلاقي، بل كجسد يعاني. وهنا يظهر، أيضا، البعد الجندري في عملية النفي، إذ يعاد إنتاج الضحية لا فقط بوصفها مستثناة من الحقوق، بل كامرأة تجرد من الوكالة، وتختزل إلى الألم، بينما يطمس العنف الجندري المرتبط بالاستعمار في الخطاب القانوني الدولي. هكذا، يتحوّل القانون إلى أداة لتأنيث الاستعمار، لا فضحه. والمعضلة هنا لا تكمن في النصوص المعيارية ذاتها التي صاغت بعض مبادئ العدالة الكونية. بل في المواقع السياسية التي تحتكر تفسيرها وتطبيقها. إن القانون الدولي كما تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، تأسس على وعد بإنهاء منطق الغلبة. لكنه أخضع هذا الوعد لأجهزة سلطوية صنعتها القوى المنتصرة. بذلك، صار القانون، لا بوصفه نصا، بل كمنظومة تطبيقية، أداة تمديد للهيمنة، وخصوصا حين يتحول إلى أداة لتأجيل العدالة، أو لمنح الاستثناء صفة الشرعية الدولية. وفي خضم النقد للقانون الدولي، لا بد من التمييز الضروري بين مستوى القانون كمجموعة معايير ومبادئ، وبين مستوى التطبيق المؤسساتي عبر أدوات مثل مجلس الأمن، ومحكمة الجنايات الدولية، وهيئات الأمم المتحدة. هذا التفريق مهم لأربعة أسباب جوهرية: 1. حتى لا نرمي المعايير مع البنى الفاسدة. الميثاق الأممي، ومبادئ القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف، والحق في تقرير المصير. هي جميعها أدوات قانونية تحتوي على مضامين معيارية يمكن استخدامها لتعزيز النضال التحرري. لكن المشكلة لا تكمن في هذه المبادئ كمجرد نصوص، بل في انحياز مؤسسات تطبيقها، وفي اختلال ميزان القوى الذي يفرغها من المضمون. لقد أدرك الفلسطينيون هشاشة الحماية القانونية الدولية، ورغم ذلك، واصلوا الاشتباك معها، ليس من باب الوهم، بل باعتبارها ساحة منازعة. غير أن هذا الاشتباك ظل محكوما بتناقض قاتل: الدخول إلى النظام ذاته الذي يمأسس نفيهم. لقد قدمت القيادة الفلسطينية نموذجا على هذا التناقض، حين انخرطت في المحكمة الجنائية الدولية دون أن تغيّر ميزان القوة الرمزية، أو تبني خطابا حقوقيات مواز يستند إلى تجربة التحرر. وهنا، لا بد من الاعتراف بأن الدخول في الحقل القانوني لا يكفي، إن لم يقترن بإعادة تعريف الفاعل القانوني نفسه. 2. لفتح أفق الفعل بدل الاستسلام للعدمية القانونية. فإذا اختزلنا القانون الدولي في مجلس الأمن، أو في المحكمة الجنائية التي تطارد الأفارقة واللاتينيين والعرب، وتتعامى عن جرائم الاستعمار. فإننا نقع في فخ العدمية القانونية، حيث يصبح القانون كله أداة قمع. بينما الفصل بين المعيار والمؤسسة يتيح لنا استخدام أدوات القانون نفسها في خدمة مشروع تحرري، حتى حين نفضح ازدواجية التطبيق. ورغم أن المقال يدمج القانون وممارسته السياسية في سلة واحدة، وهو مصيب إلى حد بعيد، إذ لا يمكن فهم البنية القانونية في السياقات الاستعمارية أو السلطوية بوصفها بنية محايدة. غير أن تعميق التحليل قد يقتضي التمييز الجدلي بين القانون كنص وبين القانون كممارسة تأويلية سلطوية. هذا التفكيك لا يهدف إلى إعادة إنتاج أوهام الحياد القانوني، بل إلى الكشف عن كيفية تحول النصوص القانونية، عبر التأويل الموجه، إلى أدوات طيعة في يد السلطة، توظف لإضفاء طابع الشرعية على السيطرة. إن هذا التمييز يتيح مقاربة أكثر تركيبا للمعركة القانونية – المعرفية، لا تنحصر في رفض القانون جملة، بل تسعى إلى فضح مفارقاته الداخلية، وإظهار تناقضاته بين ما يعد به نظريا وما يمارس فعليا، ما يفتح إمكانيات لإعادة توجيه القانون ذاته، أو بالأحرى، لتوظيفه كحقل صراع قابل للاختراق والمناورة. 3. لتوظيف القانون كساحة صراع، لا كقيد ثابت. بدل أن نسلم بأن القانون لا يخدم سوى الأقوياء، يمكننا التعامل معه كساحة صراع رمزي وحقوقي، تخاض فيها معركة المعنى، والاعتراف، والتمثيل، تماما كما فعلت حركات التحرر في جنوب إفريقيا، وبلدان أمريكا اللاتينية، وبعض لجان الحقيقة والمصالحة التي أعادت تأويل القانون من أسفل. وهكذا لا يصبح النقد تفكيكا قاتما يفضي إلى الاستقالة من ساحة القانون، بل نقدا مزدوجا غير تناقضي: ضد القانون حين يخون، ومع المعيار حين ينصف. نقدا لمؤسسات التطبيق حين تخضع للهيمنة. وتفعيلا للمستوى المعياري كجزء من أدوات النضال. بهذا المعنى، لا نطالب بإنهاء القانون الدولي، بل بإعادة تشكيله من موقع الضحية، والمستعمر، والمحروم، والمقاوم، عبر تفكيك الشرعية القائمة، وبناء شرعية مقاومة، تستند إلى مبادئ العدالة لا إلى توازنات القوة. فإذا كان القانون الدولي كما يطبق اليوم يقصي الفلسطيني من موقع الضحية الفاعلة، ويعيد إنتاجه ككائن قانوني منقوص، فإن المواجهة لا تكتمل بفضح هذا التواطؤ القانوني–السياسي، بل تستوجب تقديم بدائل قانونية نابعة من موقع تحرري، تعيد تعريف العدالة من خارج مركز الهيمنة. ويمكن تحديد ملامح أولية لهذه البدائل، لا بوصفها وصفات جاهزة، بل كبذور تفكير نقدي واستراتيجي: – أولا: بدل الارتهان لمحاكم دولية خاضعة لميزان القوى، يمكن بالتوازي بناء آليات تحقيق مستقلة، يقودها خبراء قانونيون وأخلاقيون من الجنوب العالمي، ومن شبكات حقوقية مستقلة، تتولى توثيق الجرائم وكتابة السردية من وجهة نظر الضحية/الفاعل، وليس المنظومة الاستعمارية. هذه الأدوات تشبك بين المعرفة القانونية، والسرديات التاريخية، والشهادة الحية. وتنتج أرشيفا قانونيا – تحرريا يكون مرجعا للحركات السياسية، وللعدالة المستقبلية. ثانيا: في مواجهة قانون دولي صيغ بلغة المنتصر، لا تقتصر الحاجة على كشف محدودية أدوات القانون الدولي السائد، بل تستدعي مساءلة شرعية معاييره، وابتكار أفق قانوني بديل، ينتج من موقع الضحية ذاتها لا عنها. قانون يصدر عن الجنوب بوصفه حقلا لتجارب الاستعمار والتجريد، لا ككائن ينتظر الاعتراف. ذلك يعني الانتقال من الاستجداء الحقوقي إلى الفعل التأسيسي: تفرق بين القانون كمجموعة معايير ومبادئ، وبين مستوى التطبيق المؤسساتي، وتفتح الباب أمام التفكير في أدوات قانونية بديلة، وإبراز إفلاس النظام القانوني السائد. ويمكن لفلسطين أن تحتضن محكمة شعبية دائمة، توثق الإبادة والاقتلاع، وتحاكم الصهيونية كنظام، لا فقط كجرائم منفردة. هذه المحاكم لا تمنح أحكاما تنفيذية، لكنها تمنح شرعية خطابية – أخلاقية -تحليلية تؤسس لعدالة مستقبلية، وتفضح التواطؤ القائم. وإقامة تحالفات جنوب–جنوب لتوثيق الجرائم ومحاكمتها، أو مشاريع تأريخ قانوني مضاد تسجل الرواية من موقع الضحية المغيبة، لا المؤسسة المهيمنة. ومنتديات قانونية جنوبية، تتجاوز الانحباس في هياكل الإبقاء على الوضع القائم. وفي هذا الإطار يمكن تأسيس شبكات قانونية عابرة للقوميات، تضم فلسطين، جنوب إفريقيا، الجزائر، رواندا، وأمريكا اللاتينية، لتبادل الخبرات، وإنتاج مقاربات قانونية بديلة. هذا التمثيل لا يكون فقط في المنابر، بل في صياغة مسودات بديلة لمفاهيم 'العدالة، الضحية، السيادة، الإرهاب، المقاومة'. ثالثا: من المهم أن ينتج الفلسطيني والعربي والجنوبي أرشيفا قانونيا مضادا، يوثق عبره الرواية من موقع الكينونة، لا من موقع الإغاثة. وهذا يتطلب: تفكيك المفاهيم القانونية الاستعمارية (مثل: 'اللاجئ'، 'غير اليهودي'، 'الأمن'، 'الإرهاب'). واستبدالها بمفاهيم تنبع من التاريخ السياسي الفلسطيني: مثل 'المُقتَلع'، 'المحروم من التمثيل'، 'المقاوم كفاعل قانوني'. إن هذه البدائل لا تسعى فقط لكشف نفاق القانون الدولي، بل لطرح سؤال جذري: من له الحق في أن ينتج القانون؟ وإعادة تعريف مفاهيم الشرعية والسيادة والحقوق بما يتجاوز الإطار الليبرالي الفردي، نحو حقوق جماعية، وحق في المقاومة، والسيادة التنموية، والعدالة البيئية العابرة للحدود. لا يكتمل نقد القانون الدولي، بوصفه أداة للهيمنة، دون التوقف عند البدائل التي نشأت خارج المركز الغربي، خاصة تلك التي تبلورت في خضم حركات التحررالوطني. فقد خاضت تجارب ثورية مثل الجزائر وفيتنام وجنوب إفريقيا معارك شرسة ضد القوانين الاستعمارية، وابتدعت منظومات قانونية تستمدّ شرعيتها من المقاومة والشعب، لا من 'الشرعية الدولية' التي احتكرتها القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. هكذا، نشأ ما يمكن تسميته بـ 'القانون الثوري'، حيث أعادت حركات التحرر تعريف مفاهيم مثل العدالة، السيادة، والشرعية، ورفضت الخضوع لمنظومة قانونية لم تعترف أصلا بوجودها ككيانات مستقلة. وإلى جانب هذه التجارب، حاولت حركات الجنوب العالمي – كـ ' مجموعة ال 77″ و' حركة عدم الانحياز'- بلورة خطاب قانوني بديل داخل أروقة الأمم المتحدة، يدعو إلى 'نظام اقتصادي دولي جديد'، ويطالب بالعدالة التنموية وحق تقرير المصير الاقتصادي. كما أنتجت نخبا فكرية من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أطروحات قانونية عابرة للاستعمار والمركزية الأوروبية، رفضت الحياد الزائف للقانون، وفضحت علاقته البنيوية بالقوة المهيمنة. فتجاوز منطق الضحية لا يقتصر على تفكيك قانون الهيمنة – كما سبقت الإشارة – بل يقتضي بناء أدوات قانونية جديدة. من هنا، تبرز الحاجة إلى بلورة تصور تحرري لـ' قانون من الجنوب'، لا بوصفه بديلا تقنيا فحسب، بل كمشروع قيمي ومؤسساتي يعيد تعريف العلاقة بين القانون، والشعوب، والمقاومة، والعدالة. يمكن لهذا المشروع أن يتجسد في: · تحالف قانوني شعبي من الجنوب، يضم باحثين، نقابات، حركات اجتماعية، ومنظمات حقوقية مستقلة، يعكف على صياغة ' شرعة قانونية جنوبية' تنبثق من تجارب المقاومة واحتياجات الشعوب لا من إملاءات الدول المانحة. · محاكم رمزية بديلة، كتلك التي عرفناها في 'محكمة راسل' ضد جرائم أمريكا في فيتنام، أو 'محكمة كوالالمبور' حول العدوان على العراق، تعيد الاعتبار إلى صوت الضحية، وتفضح انتقائية العدالة الدولية. · ولعلّ ما يعمق الحاجة لهذا البديل، هو تشابك القانون الدولي مع العولمة النيوليبرالية، بوصفها السياق المؤسس لإنتاج الضحية المراقبة والممولة. فالمنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومؤسسات 'العدالة الانتقالية' و' حقوق الإنسان'، باتت أذرعا قانونية لإعادة تشكيل الدولة الضعيفة وفق نموذج السوق، وتقليص السيادة باسم 'الإصلاح'، وشرعنة القمع باسم 'الاستقرار'. والإبادة باسم 'القضاء على الإرهاب وإحلال السلام'. و'العدالة الانتقائية' التي تروّج لها كبرى منظمات التمويل الغربي، تعيد تعريف الضحية بما يلائم سردية الإغاثة لا التحرر. وتقصي الفاعلين السياسيين والمقاومين الحقيقيين وتستبدلهم بالتكنوقراط باسم الحياد والمهنية. وتفرض شروطا قانونية على التمويل تفرّغ العدالة من مضمونها السياسي والاجتماعي. ختاما، ليست المعضلة في أن القانون الدولي مسيس، فهذا بات بديهيا، بل في أنه يخفي تسييسه خلف خطاب كوني زائف، يجعل من نقده ذاته وكأنه خروج عن 'الشرعية'، ومن مقاومته 'إرهابا'، ومن الضحية المتمردة 'عقبة أمام السلام'. أمام هذا الواقع، يصبح التحدي الحقيقي ليس فقط في فضح القانون الدولي كمؤسسة هيمنة، بل في إعادة ابتكار القانون ذاته كأداة تحرر. وهذا ما يتطلب منا اليوم الانتقال من موقع النقد الغاضب إلى موقع البناء الواعي، انطلاقا من تجارب الشعوب التي قاومت، لا من قاعات المؤتمرات الدولية. فمشروع 'قانون من الجنوب' لا يعني القطيعة مع القانون الدولي فحسب، بل يعني تجاوزه برؤية تاريخية وجذرية تعيد الاعتبار إلى مقاومة الشعوب كمنبع للشرعية، وتحرر المفاهيم من احتكار المركز. فما نحتاجه، إذن، ليس فقط مساءلة الشرعية القانونية التي تضفي المشروعية على الاستثناء، بل الشروع في كتابة مانيفستو قانوني من الجنوب، يستمد مشروعيته من رواسب التجربة الاستعمارية، ويعيد تعريف الحق خارج منطق الهيمنة. مانيفستو يتجاوز طلب الاعتراف، ويعيد صوغ العلاقة بين الضحية والقانون بوصفها علاقة تأسيس، لا استجداء. ذلك وحده كفيل بتحويل القانون من أداة تأبيد للهيمنة إلى إمكان للفعل التحرري. وحين نستعيد هذا الحق، نحرر القانون من المركز، ونحرر أنفسنا من موقع المتلقي الصامت. بهذا المعنى، فإن المقاومة الفلسطينية – كما الجزائرية من قبلها، وكمقاومات الجنوب العالمي عموما – ليست فقط نضالا ماديا على الأرض، بل هي أيضا مختبر قانوني وأخلاقي وسياسي، يطرح أسئلة جوهرية: من يملك الحق في صياغة القانون؟ ولصالح من تصاغ القاعدة القانونية؟ وهل يمكن أن تولد عدالة حقيقية من رحم نظام دولي متواطئ بطبيعته؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة لا تكمن في انتظار إصلاح القانون الدولي، بل في التحرر من هيبته الزائفة، وفك ارتباطنا الذهني والأخلاقي به، وبناء شرعية من نوع جديد، تتكئ على تاريخ الكفاح، وذاكرة الاستعمار، وتجارب المقاومة، وتحالفات الشعوب. هذا هو التحدي القانوني- التحرري القادم، الذي يطرح على المثقف القانوني الفلسطيني والعربي وفي الجنوب العالمي مسؤولية مزدوجة: تفكيك القانون القائم، وصياغة قانون بديل لا يعيد إنتاج القهر باسم الحق. 7/6/2025


شفق نيوز
منذ ساعة واحدة
- شفق نيوز
مظاهرات في تل أبيب: أوقفوا الحرب وأعيدوا الرهائن عبر اتفاق
تظاهر الآلاف مساء السبت في تل أبيب مطالبين بالإفراج عن الرهائن الذين لا يزالون محتجزين في قطاع غزة، وبوقف لإطلاق النار، وذلك بعد عشرين شهراً على حرب غزة. وتجمع الحشد في "ساحة الرهائن" حيث عبّرت والدة الرهينة ماتان زانغاوكر عن غضبها بعد نشر حركة حماس صورة لابنها مرفقة برسالة بالعبرية والإنجليزية تقول "لن يعود حياً". وكانت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، أصدرت تحذيراً "شديد اللهجة" بشأن مصير الرهينة الإسرائيلي لديها، مؤكدةً أن محاولة الجيش الإسرائيلي لتحريره بالقوة قد تؤدي إلى مقتله. ونقلت وكالة فرانس برس عن والدة ماتان زانغاوكر قولها "لم أعد قادرة على تحمّل هذا الكابوس. ملاك الموت [رئيس الوزراء بنيامين] نتنياهو، يواصل التضحية بالرهائن، ويستخدم الجيش الإسرائيلي ليس لحماية أمن إسرائيل بل لمواصلة الحرب وحماية حكومته، إنه وصمة عار!" هتف المتظاهرون الإسرائيليون "الشعب يختار الرهائن"، وقال منتدى العائلات، أبرز منظمة تمثل أسر المحتجزين لدى حماس منذ هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 "وحده اتفاق شامل لعودة أحبائنا سيجلب انتصاراً حقيقياً". وطالبت نوعام كاتس، ابنة الرهينة ليور كاتس الذي أُعلن عن وفاته لكن جثمانه لا يزال في غزة، بوقف العمليات العسكرية فوراً. وقالت أمام المتظاهرين بحسب بيان لمنتدى العائلات "لا ترسلوا مزيداً من الجنود الذين يجازفون بحياتهم لإعادة آبائنا. أعيدوهم عبر اتفاق. أوقفوا الحرب". "عبر اتفاق واحد" وأعلن الجيش الإسرائيلي الجمعة مقتل أربعة جنود في قطاع غزة، لافتاً إلى أنه يعاني نقصاً يناهز عشرة آلاف عنصر لتلبية حاجاته في القطاع المحاصر والمدمر. وطالب تال كوبرشتاين، والد بار كوبرشتاين الذي خطف وكان في الحادية والعشرين، بأن "يعود إلى المنزل الآن". وأضاف "اطلب من رئيس الوزراء أن يقبل باتفاق ينص على عودة جميع الرهائن. أعيدوا الرهائن الـ 55 عبر اتفاق واحد، الآن". ولا تزال المفاوضات لوضع حد للقتال بوساطة مصرية وقطرية وأمريكية تراوح مكانها. وخاطب عوفير انغريست، شقيق ماتان انغريست الجندي البالغ 22 عاماً، نتنياهو بقوله "الانتصار الوحيد يكون بعودة جندي إسرائيلي يلفه العلم الأزرق والأبيض، من دون جنسية أجنبية"، وفق البيان. ومن أصل 251 شخصاً خطفوا في السابع من تشرين الاول/اكتوبر 2023، لا يزال 55 محتجزين في قطاع غزة، تقول السلطات الإسرائيلية إن 31 منهم على الأقل فارقوا الحياة.


موقع كتابات
منذ 3 ساعات
- موقع كتابات
قراءة للمصافحة التاريخية التي ألغت سيناريوهات إسرائيل لإشعال الحرب الأهلية السورية؟
في 14 أيار 2025، شهدت الرياض لقاءً دبلوماسيًا وصف بالتاريخي بين الرئيس الأمريكي 'ترامب' والرئيس 'الشرع'، زعيم هيئة تحرير الشام سابقا والقائد الفعلي حاليا وبعد انهيار وسقوط نظام 'بشار الأسد' وهذا اللقاء، الذي أعقبه رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا وإلغاء مكافأة ( 10 ) ملايين دولار عن رأس 'الشرع'، أثار الكثير من الجدل والتساؤلات حول تأثيره على التوازنات الإقليمية، خصوصًا في ظل التوغلات الإسرائيلية شبه المستمرة والقصف الطيران المدفعي والجوي . يُذكّر هذا الحدث بأحداث تاريخية مماثلة، مثل تهجير اليهود من العراق ومصر في منتصف القرن العشرين، حيث استُخدمت التفجيرات المفتعلة لدفعهم للهجرة عنوة إلى إسرائيل. اليوم، تشهد سوريا عمليات متكررة اغتيالات غامضة وتفجيرات مفتعلة ، مثل مقتل رئيس بلدية صحنايا بريف دمشق 'حسام ورور' مع ابنه رميا بالرصاص على يد مجهولين وبعد ساعات فقط من ترحيبه علنا بدخول قوات حفظ الأمن الى البلدة وبعد التوصل إلى اتفاق مبدئي يقضي بوقف إطلاق النار في جرمانا وأشرفية صحنايا بريف دمشق.وإنّ هذا الاتفاق جرى بحضور محافظي ريف دمشق، والسويداء، والقنيطرة، وعدد من الوجهاء والشخصيات الاجتماعية و مشايخ من الطائفة الدرزية , وكذلك إلى جانب غارات إسرائيلية متكررة، غالبًا تحت ذريعة حماية الجالية الدرزية. فهل كان يمثل لقاء ترامب والشرع نقطة تحول مستقبلية بضمان السعودية في هذا السياق، أم أنه سيكون مجرد هدنة مؤقتة؟ على الأقل لفترة أربع سنوات قادمة من عمر ما تبقى من رئاسة سيد البيت الابيض وتعيد بعدها اسرائيل اخراج مخططاتها لاشعال فتيل الحرب الاهلية السورية ويكون رأس الحربة الطائفة الدرزية ومشايخها الذين يدورون في فلك الانفصال؟. في الأربعينيات والخمسينيات، شهد العالم العربي موجة هجرة جماعية لليهود من دول مثل العراق ومصر، حيث كان يعيش حوالي 900,000 يهودي قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948. في العراق، كانت الجالية اليهودية، التي بلغت 135,000 نسمة عام 1948، تواجه تمييزًا متزايدًا بعد إعلان الحركة الصهيونية جريمة يعاقب عليها بالإعدام. سلسلة تفجيرات استهدفت أماكن يهودية، مثل تفجير معبد مينارشا في دمشق عام 1949، الذي قتل 12 يهوديًا، أثارت الرعب بين ابناء الجالية. تقارير تشير إلى أن عملاء الموساد ربما كانوا وراء تفجيرات في بغداد عام 1950 لدفع اليهود للهجرة إلى إسرائيل، على الرغم من أن هذه الادعاءات تظل مثار جدل بين المؤرخين. في مصر، تعرضت الجالية اليهودية، التي ضمت حوالي 75,000 نسمة، لضغوط مماثلة، بما في ذلك تفجيرات استهدفت أحياءهم، مما ساهم في هجرة جماعية إلى إسرائيل ودول غربية. بحلول أوائل السبعينيات، استقر حوالي 650,000 يهودي من هذه الدول في إسرائيل، في تغيير ديموغرافي كبير أعاد تشكيل المنطقة. في سوريا، كانت الجالية اليهودية، التي بلغت 30,000 نسمة عام 1943، تواجه قيودًا صارمة بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1944، بما في ذلك منع الهجرة إلى فلسطين ومصادرة الممتلكات. بعد حرب 1967، تصاعدت الأعمال العدائية ضد اليهود، مع أعمال شغب في دمشق وحلب، مما دفع الكثيرين للهجرة السرية عبر لبنان وتركيا. بحلول عام 2001، تقلص عدد اليهود في سوريا إلى أقل من 200، وفي 2024، لم يتبق سوى 9 أفراد، معظمهم من كبار السن. هذا التاريخ يُظهر كيف يمكن للتدخلات الخارجية والعنف الموجه أن يُعيد تشكيل صياغة ديموغرافيا المجتمعات. تُعد الطائفة الدرزية، المتمركزة بشكل رئيسي في محافظة السويداء جنوب سوريا، عنصرًا حيويًا في السياسة السورية والإقليمية. يبلغ عدد الدروز في سوريا حوالي 700,000 نسمة، وهم يشكلون حوالي 3% من السكان. خلال الحرب الأهلية السورية، برز الدروز كقوة اجتماعية وسياسية متماسكة، حيث حافظوا على حياد نسبي بين النظام والمعارضة، مع التركيز على حماية مناطقهم. إسرائيل، التي تضم حوالي 152,000 درزي في الجولان المحتل وشمال إسرائيل، استخدمت قضية حماية الدروز السوريين كذريعة لتدخلاتها العسكرية في سوريا. منذ عام 2011، نفذت إسرائيل مئات الغارات الجوية، مستهدفة مواقع عسكرية تابعة لإيران وحزب الله اللبناني، ولكنها غالبًا ما ربطت هذه العمليات بحماية الدروز من تهديدات محتملة وفي السنوات الأخيرة، شهدت مناطق ومدن محافظة السويداء احتجاجات شعبية ضد نظام الأسد، حيث طالب الدروز بإصلاحات سياسية واقتصادية. هذه الاحتجاجات، التي قادها نشطاء محليون، جعلت الدروز هدفًا للاهتمام الإقليمي. إسرائيل، التي تدعم الجالية الدرزية في الجولان، أبدت قلقًا علنيًا على مصير الدروز سوريا، لكن هذا القلق غالبًا ما يُنظر إليه كغطاء لأهداف استراتيجية، مثل إضعاف النفوذ الإيراني. تصريحات الرئيس 'الشرع' بعد لقائه بـ 'ترامب' ، والتي أكد فيها التزامه بحماية الأقليات بما في ذلك الدروز، قد تُضعف هذه الذريعة الإسرائيلية، مما يطرح تساؤلات حول مستقبل التدخلات العسكرية. منذ بداية الحرب الأهلية السورية، نفذت إسرائيل أكثر من 400 غارة جوية على الأراضي السورية، مستهدفة مواقع عسكرية ومستودعات أسلحة. إلى جانب الغارات، شهدت سوريا سلسلة من عمليات الاغتيال الغامضة التي استهدفت شخصيات اجتماعية وسياسية مؤثرة. من أبرز هذه الحوادث مقتل رئيس بلدية صحنايا في ريف دمشق 2025، رميًا بالرصاص على يد مجهولين، وبعد ترحيبه العلني بدخول قوات الأمن السورية الجديدة إلى المنطقة. هذه الحادثة، التي لم يُكشف عن مرتكبيها، أثارت شكوكًا حول دوافعها، خاصة في ظل تصاعد التوترات في ريف دمشق واسرائيل كما هو معروف تبرع في اغتيال الشخصيات الاجتماعية المؤثرة في مناطق تواجدها لان دائما يكون كلامهم مسموع وينصاع معظمهم الى توجهاته وهذا ما لا يعجب اسرائيل في ظل مخططاتها التوسعية بالمنطقة لذا التخلص منه في أقرب وقت ممكن سلاح الاغتيالات الصامت الذي تجيده بحرفية عالية جميع أجهزتها المخابراتي والامنية . صحيح أن عمليات الاغتيال هذه ليست جديدة في السياق السوري. في السنوات الماضية، استُهدف قادة عسكريون وسياسيون، غالبًا بضربات دقيقة تُنسب إلى إسرائيل أو أطراف أخرى. هذه العمليات تُثير تساؤلات حول أهدافها: هل تهدف إلى إضعاف البنية السياسية والاجتماعية في سوريا، أم أنها جزء من استراتيجية أوسع للحفاظ على عدم الاستقرار؟ التاريخ يُشير إلى أن مثل هذه العمليات كانت تُستخدم لتحقيق أهداف سياسية، كما في حالة تفجيرات العراق ومصر في القرن الماضي، التي ساهمت في دفع الجاليات اليهودية للهجرة. وبما أن لقاء 'ترامب / الشرع' في العاصمة 'الرياض' جاء في وقت حرج، حيث تسعى سوريا لاستعادة استقرارها بعد سنوات من الحرب الاهلية المدمرة . و'الشرع'، الذي أعرب عن انفتاحه على حوار مستقبلي مع إسرائيل دون تطبيع فوري، شدد على حماية الأقليات، بما في ذلك الدروز، وهو موقف يتماشى مع تصريحات محافظ دمشق ماهر مروان، الذي دعا إلى علاقات ودية مع إسرائيل. اللافت أن الغارات الإسرائيلية توقفت مؤقتًا بعد هذا اللقاء، مما يشير إلى تأثير الدبلوماسية الأمريكية. ولكن السؤال يبقى من ضمن سياق العبارة : هل هذا التوقف يعكس تغييرًا استراتيجيًا نهائيا في السياسة الإسرائيلية، أم أنه هدنة تكتيكية مؤقتة لاستعادة الأنفاس ووضع خطط مستقبلية تكون اكثر فعالية في الخفاء وغير معروفة الدوافع ومن قام بها ؟ الرئيس 'ترامب'، الذي دعا 'الشرع' للانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم، يبدو أنه يراهن على إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية. رفع العقوبات عن سوريا قد يُشجع على استقرار اقتصادي وسياسي، مما قد يُقلل من ذرائع التدخل الإسرائيلي. ومع ذلك، قضايا مثل احتلال الجولان وما تبقى من النفوذ الإيراني قد تكون احدى عقبات رئيسية أمام أي تقارب سوري-إسرائيلي. المصافحة التاريخية ترامب قد تمثل بداية لمرحلة جديدة في سوريا، لكنها لا تعالج جذور الصراع الإقليمي. التاريخ، من تهجير اليهود في العراق ومصر إلى التوغلات الإسرائيلية الحالية، يُذكّرنا بأن التدخلات الخارجية يمكن أن تُغير وجه المنطقة. الدروز، الذين يشكلون عنصرًا حيويًا في سوريا، يجدون أنفسهم بين مطرقة الحماية الإسرائيلية وسندان السياسات الإقليمية. عمليات الاغتيال، مثل مقتل رئيس بلدية صحنايا، تُبرز هشاشة الوضع الأمني. إذا أرادت سوريا الانتقال إلى مرحلة الاستقرار، فإن الدبلوماسية، كما تجسدت في لقاء الرياض، يجب أن تُترجم إلى حلول مستدامة تحمي جميع مكونات المجتمع السوري دون أي تمييز وتمنع تكرار المآسي التاريخية. ومن وجهة نظر استراتيجية طويلة الأمد، تفضّل إسرائيل رؤية سوريا مقسمة إلى كيانات طائفية ومذهبية ودينية صغيرة، على أن تكون دولة موحدة ومستقرة قادرة على لعب دور محوري في معادلة توازن القوى الإقليمية. فسوريا الموحدة، بقوتها السياسية والاقتصادية المستعادة، تشكل تحديًا محتملاً للهيمنة الإسرائيلية في المنطقة، خاصة في ظل النهج الجديد الذي تتبناه القيادة السورية الحالية . هذا النهج، الذي يتجنب الدخول في نزاعات مسلحة مباشرة مع إسرائيل، يركز على إحالة الصراع إلى المحافل الدولية في الوقت الراهن، مع تخصيص الجهود الوطنية لتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية. الهدف من هذه السياسة هو إعادة بناء سوريا كدولة قوية ومتماسكة، تترك للأجيال القادمة مهمة اتخاذ القرار بشأن مواجهة إسرائيل واستعادة الأراضي المحتلة، وفي مقدمتها هضبة الجولان، بما يضمن تحقيق أهداف وطنية مستدامة في سياق زمني ودبلوماسي مناسب. في هذا السياق، تسعى إسرائيل إلى عرقلة هذا المسار عبر استراتيجيات تهدف إلى إدامة التوترات الداخلية في سوريا، لاسيما في المناطق الجنوبية ذات الحساسية الاستراتيجية. وعلى الرغم من التحذيرات المتكررة من الإدارة الأمريكية، التي نصحت إسرائيل بالامتناع عن سياسات الاغتيالات والتفجيرات في المناطق الجنوبية، تستمر إسرائيل في اتباع نهج يهدف إلى إحداث شرخ بين الجالية الدرزية في جنوب سوريا والإدارة السورية الجديدة. هذا الشرخ يُعد، في نظر إسرائيل، بوابة محتملة لتأسيس كيان درزي منفصل يعمل كمنطقة عازلة بينها وبين سوريا الموحدة، مما يعزز أمنها الإقليمي ويُضعف الدولة السورية. لا تقتصر الاستراتيجية الإسرائيلية على تعزيز النزعات الانفصالية بين الدروز عبر تقديم نفسها كحامية لهم، بل تمتد إلى طرح مطالب دبلوماسية وعسكرية تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الجيوسياسي في جنوب سوريا. من بين هذه المطالب، الدعوة إلى تحويل المناطق الجنوبية إلى منطقة منزوعة السلاح، حيث يُمنع انتشار الجيش السوري الجديد أو أي قوات عسكرية تابعة للدولة. إضافة إلى ذلك، تسعى إسرائيل إلى إغراء الدروز بفرص اقتصادية، مثل السماح لهم بالعمل داخل الأراضي الإسرائيلية، في محاولة لربطهم اقتصاديًا وسياسيًا بها، مما يعزز الانقسام الداخلي في سوريا. هذه السياسات، التي تتجاهل التحذيرات الأمريكية، تُظهر تصميم إسرائيل على استغلال الجالية الدرزية كأداة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، مستفيدة من التاريخ الطويل لاستخدام الأقليات في الصراعات الإقليمية. وبما أن العاصمة الرياض شكلت اولى المحطات الدبلوماسية البارزة والمهمة والتي تُشكل بداية لإعادة رسم التوازنات الإقليمية في سوريا، لكنها تواجه تحديات عميقة تتجلى في الجهود الإسرائيلية لإدامة الانقسامات الداخلية، خاصة عبر استغلال الطائفة الدرزية ومن ضمنهم الشيخ ' حكمت الهجري ' الذي أصبحت تصريحاته المثيرة للجدل تتناغم مع ما تصرح به اسرائيل في كل مناسبة . في هذا السياق، برز الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط كحجر عثرة أمام المخططات الإسرائيلية التوسعية التي تسعى إلى تأليب الدروز في جنوب سوريا ضد الحكومة الانتقالية الجديدة. مواقف جنبلاط الوطنية، التي عبر عنها خلال زيارته لدمشق ودعمه الصريح لوحدة سوريا، أكدت رفضه لمحاولات إسرائيل استغلال الأحداث الأمنية، مثل الاشتباكات في جرمانا وأشرفية صحنايا، لدفع الدروز نحو الانفصال أو الهجرة إلى مناطق قريبة من الحدود الإسرائيلية. هذه المواقف، التي حذرت من 'مكائد إسرائيل' ومشروعها 'التوراتي' لتفتيت المنطقة، عززت دوره كمدافع عن الوحدة الوطنية السورية، مما جعله عقبة رئيسية أمام أهداف تل أبيب. من منظور مستقبلي، فإن نجاح سوريا في استعادة استقرارها ووحدتها يتطلب تعزيز التماسك الاجتماعي والاقتصادي، والتصدي لمحاولات التقسيم التي تروج لها إسرائيل عبر ذرائع مثل 'حماية الدروز' أو اقتراح مناطق منزوعة السلاح في الجنوب. تصريحات الشيخ جنبلاط، التي شددت على أن الدروز جزء لا يتجزأ من الشعب السوري، تدعم هذا المسار، وتُعزز من قدرة الحكومة الانتقالية على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية. في الوقت نفسه، فإن التحذيرات الأمريكية المتكررة من سياسات الاغتيالات والتصعيد الإسرائيلي تُبرز دور الدبلوماسية الدولية في الحد من التوترات. لكن استمرار إسرائيل في استهداف شخصيات مؤثرة، كما في حادثة مقتل رئيس بلدية صحنايا، أو تعزيز النزعات الانفصالية، قد يُعيد المنطقة إلى دوامة عدم الاستقرار. يُتوقع أن تستمر سوريا في الاعتماد على دعم إقليمي من دول مثل تركيا وقطر والسعودية، التي أبدت تأييدها للحكومة الانتقالية، لتعزيز وحدتها الوطنية. في المقابل، ستحتاج القيادة السورية إلى استراتيجيات مبتكرة لدمج الأقليات، بما في ذلك الدروز، في مشروع وطني شامل يحول دون استغلالهم من قوى خارجية. إذا تمكنت سوريا من تحقيق هذا الهدف، مدعومة بمواقف قادة مثل جنبلاط، فقد تتمكن الأجيال القادمة من مواجهة التحديات الإقليمية، بما في ذلك استعادة الأراضي المحتلة مثل الجولان، عبر دبلوماسية قوية أو تحالفات استراتيجية. ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر في ضمان أن تتجاوز المنطقة إرث الصراعات الطائفية والتدخلات الخارجية، لتفتح الطريق أمام مستقبل يقوم على السيادة الوطنية والتعايش السلمي وعلى الرغم من سعي إسرائيل إلى أن تكون الجهة الحصرية التي تتحكم في قرار رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، بهدف الحفاظ على نفوذها الإقليمي واستمرار حالة 'الفوضى المفيدة' في سوريا، ولكن إعلان الرئيس الأمريكي المفاجئ عن رفع العقوبات، بدعم من السعودية وتركيا، أثار استياء إسرائيل، التي رأت في هذا القرار تهميشًا لدورها الاستراتيجي. بالاضافة الى تصريحات ترامب الإعلامية، التي عكست تذمرًا واضحًا من حكومة بنيامين نتنياهو، أكدت أن مصالح الولايات المتحدة الاقتصادية، التي تُقدَّر بتريليونات الدولارات من الاستثمارات الخليجية، تتقدم على رغبة إسرائيل في التحكم بمسار السياسة الإقليمية في الوقت نفسه، فإن التحذيرات الأمريكية المتكررة لإسرائيل من مغبة الاستمرار في سياسات الاغتيالات والتفجيرات تُشير إلى محاولات لاحتواء التصعيد وضمان استقرار المنطقة. لكن إذا استمرت إسرائيل في سعيها لتقسيم سوريا عبر استغلال الأقليات مثل الدروز، فقد تُعرض المنطقة لموجة جديدة من عدم الاستقرار، مما يُعيق جهود السلام الإقليمي. المستقبل، إذن، يتوقف على مدى التزام الأطراف الدولية والإقليمية بحلول دبلوماسية تحترم وحدة سوريا وسيادتها، وتضع حدًا لدورة العنف والتدخل التي أثقلت كاهل المنطقة لعقود. إن تحقيق هذا الهدف لن يكون ممكنًا إلا من خلال تعاون دولي يضع مصالح الشعوب فوق الأجندات الضيقة، مما يفتح الباب أمام سوريا مستقرة قادرة على استعادة مكانتها في المنطقة. ومع ذلك، فإن النهج السوري الجديد، الذي يركز على التنمية وبناء مؤسسات الدولة، قد يشكل تحديًا لهذه الاستراتيجية الإسرائيلية على المدى الطويل. من خلال تعزيز التماسك الاجتماعي وحماية الأقليات، بما في ذلك الدروز، تسعى القيادة السورية إلى إفشال محاولات التقسيم. إذا نجحت سوريا في تحقيق استقرار اقتصادي وسياسي، فإن الأجيال القادمة قد تمتلك القدرة على مواجهة التحديات الإقليمية، بما في ذلك استعادة الأراضي المحتلة، عبر وسائل دبلوماسية أو عسكرية، حسب متطلبات العصر. وفي هذا السياق، يبقى السؤال المحوري: هل ستتمكن الدبلوماسية الدولية، بقيادة الولايات المتحدة، من كبح جماح السياسات الإسرائيلية التي تهدف إلى تقويض وحدة سوريا، أم أن المنطقة ستظل رهينة الصراعات الجيوسياسية التي تعيد إنتاج الانقسامات التاريخية؟ قد تكون المصافحة التاريخية قد ألغت سيناريوهات التي اعتدتها إسرائيل لإشعال فتيل الحرب الاهلية ولكن ليس بصفة نهائية ولكن بصفة مؤقتة فقط لحين ذهاب ما تبقى من اربع سنين عجاف للرئيس 'ترامب'؟