
من الضحية المشرعنة دوليا إلى الضحية التي تشرّع ذاتها!غانية ملحيس وخالد عطية
من الضحية المشرعنة دوليا إلى الضحية التي تشرّع ذاتها!
غانية ملحيس وخالد عطية
في قلب كل نظام قانوني حديث يكمن سؤال حاسم: من له الحق في أن يعترف به كضحية؟
في سياق القضية الفلسطينية، لم يكن هذا الاعتراف يوما ناتجا عن الألم ذاته، بل عن موقع الضحية في سردية القوة الغربية. القانون الدولي، كما تبلور بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن محايدا، بل صيغ بلغة المنتصر، وأُسس كأداة لإدارة ما بعد الاستعمار، لا لمساءلته.
في هذه المنظومة، لم يعامل الفلسطيني كضحية كاملة الأهلية، بل كاستثناء قانوني. فاللاجئ الفلسطيني يعامل كحالة خاصة، والمقاوم كمشتبه، والطفل كخطر أمني. هذه ليست انحرافات فردية عن القانون، بل تعبيرات عن بنيته الأصلية، التي لا تعترف إلا بمن تتطابق مع صورة الضحية العاجزة، غير السياسية، التي لا تهدد التوازن الجيوسياسي القائم.
ما تفضحه هذه المعايير الحديثة يتجذر في تاريخ أعمق من تأسيس إسرائيل أو وعد بلفور وصك الانتداب. فاستثناء الفلسطيني من التعريف القانوني يعود إلى لحظة استعمارية مفصلية بدأت مع بداية الغزو الاستعماري الغربي، وحملة نابليون عام 1798، حين طرحت لأول مرة فكرة 'وطن قومي لليهود في فلسطين' كأداة لإعادة تشكيل الشرق. ومنذ ذلك الحين، بدأ بناء منظومة إقصاء متكاملة، تمأسست في مؤتمر لندن عام 1840، وترسّخت لاحقا عبر أدوات كولونيالية متتابعة: مخرجات مؤتمر كامبل بنرمان (1905–1907)، وسايكس بيكو 1916، ووعد بلفور (1917)، ثم صك الانتداب البريطاني على فلسطين (1922).
نحن إذن أمام منظومة استعمارية متكاملة، حولت الجنس الأبيض إلى مركز للكون. وأحكمت سيطرتها على شمال الكرة الأرضية ومعظم جنوبها. وتأهبت لاستكمال سيطرتها على المركز، عبر مشروع شامل لإعادة هندسة المنطقة لعربية – الاسلامية الممتدة. بتفكيكها، وتجزئتها، وتخليق كيان استعماري استيطاني غربي وظيفي في مركز وصلها الجغرافي والديموغرافي والحضاري. يقطع التواصل بين مكونات الأمة الأصيلة بعازل صد (جغرافي وبشري وعسكري وديني) ينهي وحدتها السياسية والأمنية والقانونية. ويقوض تكاملها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. باستنساخ تجربة الاستعمار الاستيطاني الافرنجي/ الصليبي/ قبل عشرة قرون، الذي استدام في فلسطين 88 سنة، فيما استدامت حروبه في المنطقة قرابة قرنين (1099-1291).
فأسست له وعدا سياسيا بلباس يهودي، قبل أن تشرعنه بقانون دولي، وكل ذلك في ظل تغييب ممنهج للفلسطيني، لا كضحية فقط، بل ككينونة قانونية وسياسية يراد محوها من أصلها.
هذا التواطؤ بين الإمبريالية الغربية والامبريالية اليهودية، وتجسده في تنظيم صهيوني عالمي بدأته الصهيونية المسيحية الإنجيليّة في القرن السادس عشر مع ظهور الرأسمالية المؤسسة للحداثة المادية، والتحقت به الصهيونية اليهودية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر. وتحالفا سياسيا وتنظيميا وعسكريا في مطلع القرن العشرين عبر مشروع استعماري غربي عام للسيطرة على عموم المنطقة العربية الإسلامية، يتضمن مشروعا استيطانيا يهوديا خاصا لاحلال اسرائيل محل فلسطين جغرافيا وديموغرافيا.
ومنذ ذاك الحين، لم يقص الفلسطيني من الأرض فقط، بل من مفاهيم الشرعية القانونية. فقد جرى نفيه من صكوك السيادة، حتى في تعريفه ذاته، إذ صنف في وعد بلفور كـ 'طوائف غير يهودية'، في حين جرى الاعتراف بالهجين اليهودي المستوطن كـ 'شعب'. هذا الإلغاء الممنهج للكينونة السياسية والقانونية الفلسطينية التي يراد محوها، هو ما يجعل من القانون الدولي أداة نفي بقدر ما هو أداة تنظيم.
فإذا كان القانون الدولي قد صاغ تعريف 'الضحية' بما يخدم مصالح القوة المهيمنة، فإن المعركة اليوم ليست في استجداء هذا الاعتراف، بل في نزع شرعيته من أصله. فالفلسطيني ليس ضحية جريمة فحسب، بل ضحية بنية غريبة قانونية – سياسية صممت خصيصا لمحوه وحرمانه من موقع التمثيل. لذلك، فإن استعادة الفعل السياسي تبدأ من استعادة القدرة على التسمية: من هو العدو؟ ما هو العنف؟ ما هو التحرر؟ وما معنى أن تكون ضحية؟
حين نحرر هذه المفاهيم من قبضة المركز، نتحرر من استلاب مزدوج: استلاب الدم، واستلاب المعنى.
وهنا تتبدى أهمية المقاربة النقدية: فالفعل المقاوم ليس فقط في المواجهة المسلحة، بل في تفكيك الشرعية القانونية التي تجرم المقاومة وتشرعن الإبادة، وفي صياغة خطاب بديل يعيد تعريف الفلسطيني لا كمتلق للعدالة، بل كصانع لها.
ما يثبّت هذا التحليل ويمنحه شرعية تاريخية – واقعية، هو وجود تجارب فلسطينية حية تفضح المفارقة بين نص القانون وممارسته. من أبرزها: محاكم الأطفال العسكرية، كما في حالة أحمد مناصرة، الذي حوكم كـ ' خطر أمني' لا كقاصر، وعومل بأدوات تعذيب قانونية صادمة، تثبت أن الطفولة الفلسطينية مستثناة من اتفاقيات حقوق الطفل. وتجريم المقاومة الفلسطينية، من خلال تصنيف حركات المقاومة الفلسطينية – العلمانية والدينية – ضمن لوائح الإرهاب، رغم أنها حركات تحررية في ظل الاحتلال، يفضح الانحياز البنيوي في أدوات القانون الدولي الذي يهيمن عليه الاستعمار الغربي العنصري.
ليس الفلسطيني وحده من تم تجريده من إنسانيته القانونية، بل ثمة سوابق تاريخية تظهر كيف أن القانون الدولي شكّل أداة انتقائية للاعتراف، وأن الضحية لا تعترف بألمها، بل بموقعها داخل شبكة المصالح الغربية.
في حرب التحرير الجزائرية (1954–1962)، قتل أكثر من مليون جزائري في واحدة من أبشع عمليات الإبادة الاستعمارية في القرن العشرين، تحت إدارة دولة 'حديثة' تدّعي احترام حقوق الإنسان – فرنسا. ومع ذلك، لم يصنف الاستعمار الفرنسي كجريمة دولية، ولم يحاسب مجرمو الحرب، بل استمر التواطؤ الدولي في تغليف العنف باسم 'الحضارة'
و' مكافحة الإرهاب'. وتمّ إقصاء المقاومة الجزائرية من موقع الضحية القانونية، كما أُقصي الفلسطيني لاحقا، لأن الاعتراف كان يعني مساءلة منظومة الهيمنة الأوروبية، وهو أمر لا تتيحه قواعد القانون الدولي المصاغة لحماية المنتصر لا المحروم.
وفي حالة الفصل العنصري 'الأبارتهايد' في جنوب إفريقيا، استمر نظام الفصل العنصري لعقود بدعم مباشر أو ضمني من القوى الغربية، خصوصا بريطانيا والولايات المتحدة. ولم يعترف بضحايا هذا النظام قانونيا إلا عندما بدأت كلفة دعم النظام العنصري تفوق عوائده الجيو – سياسية. اعترف القانون الدولي بالأبارتهايد كجريمة، ولكن بعد نضال طويل واصطفافات دولية تغيرت، لا بدافع أخلاقي صرف. حتى الاعتراف بـ 'مانديلا' كرمز حرية، جاء بعد تأطير نضاله في سردية 'ضحية–إنسانوي'، لا 'مقاوم –مهدد للنظام العالمي'.
وفي حالة الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، والتي راح ضحيتها نحو 800 ألف شخص خلال مئة يوم، تأخر تدخل المجتمع الدولي، وتجاهلت القوى الكبرى التقارير الاستخباراتية التي أنذرت بالمجزرة. وبعد اكتمال الإبادة فقط، شكلت محكمة دولية خاصة، لا بدافع وقائي، بل ترميمي، في محاولة لغسل اليد لا لمنع الجريمة.
في رواندا، وثقت الضحية بعد زوالها، لأنها لم تكن تهدد بنية القوة الغربية. وكان الاعتراف قانونيا، ولكن بلا مفاعيل سياسية أو أخلاقية على مسببي الإبادة أو المتقاعسين عن منعها.
هذه الحالات الثلاث تظهر أن الضحية، في القانون الدولي، ليست 'معطى موضوعيا ' بل ' منتج سياسي'. فالاعتراف لا ينبع من الحق، بل من نضج الشروط السياسية للاعتراف. والفارق مع الحالة الفلسطينية أن الفلسطيني – رغم نضاله الطويل على مدى أكثر من قرن – ما يزال يرى كمصدر إرباك سياسي، لا كمصدر حق، ولهذا يتم تعليق الاعتراف به، أو تفريغه من مضمونه.
إن ما يجمع الجزائر، جنوب إفريقيا، رواندا وفلسطين، هو أن القانون الدولي لم يقف مع الضحية، بل تأقلم مع الجريمة حتى لم تعد ترى كجريمة. لكن ما يفصل بينها أن الاعتراف بالضحايا في تلك الحالات جاء متأخرا، أو مشروطا، أو تحت ضغط سياقات دولية متغيرة، أما الفلسطيني، فما يزال عالقا في مرحلة 'اللامرئي القانوني'، لأن الاعتراف به يهدد بنية عالمية لم تتغير بعد.
وقوننة العقوبات الجماعية، كما في حصار غزة، حيث يفرض العقاب على مجتمع بأكمله بذريعة الأمن، دون مساءلة دولية حقيقية، يكشف أن معايير 'العدالة' قابلة للتعليق حين يكون المستهدف من غير العرق الأبيض، لاتينيا أو إفريقيا أو عربيا، وبالأخص فلسطينيا.
والأدهى، مواصلة استثناء الفلسطيني من تمثيل الألم في المحافل الدولية، فرغم التوثيق الواسع لجرائم الإبادة في غزة، لم يتم تحريك أي محكمة دولية بشكل فاعل إلا بعد ضغوط سياسية عابرة، مما يؤكد أن 'الضحية' لا تعرف من خلال عدد الشهداء، بل من خلال مكانها في منظومة المصالح الغربية.
ذلك أن الاعتراف بـ ' ضحايا غزة' يربك النظام الدولي، لأنه يستلزم تسمية إسرائيل كمجرم، وهذا غير مسموح. فحتى الموت الفلسطيني نفسه يحتاج إلى موافقة جيوسياسية كي يحتسب. مثال صارخ على ذلك يظهر في المقارنة مع أوكرانيا. فبينما تمنح الأخيرة موقع 'الضحية السيادية' مباشرة، ويفعل النظام القانوني والسياسي الدولي لحمايتها. يختزل الفلسطيني في ملف إغاثي مؤقت، بلا سياق، ولا جريمة واضحة الجاني.
ما يجب التوقف عنده بعمق هو أن القانون الدولي، كما تشكل تاريخيا، لم يكن نتاجا لتوافق أخلاقي كوني، بل نتيجة مباشرة لتوازنات القوى بعد الحروب الكبرى. فالقواعد التي صيغت باسم العدالة وحقوق الإنسان، إنما كتبت بلغة المنتصر، ووفق تصوراته للضحية، والمجرم، والعقوبة. ولهذا فإن الضحية لا تعترف لأنها تتألم، بل لأنها لا تهدد بنية القوة التي صاغت منطق الاعتراف ذاته.
توازن القوى لا يظهر فقط في غياب المحاسبة، بل في تعريف من يحق له أن يرى كضحية أصلا. فحين يقتل ملايين الأفارقة واللاتينيين والعرب والفلسطينيين، لا يتحرك النظام الدولي إلا ببطء مثقل بالمصالح والاصطفافات. أما حين تمس مصالح الغرب، تفعل القوانين والمحاكم والقرارات بقدرة هائلة على التسمية والعقاب.
بهذا المعنى، القانون لا يجرد غير الأبيض عموما، والفلسطيني خصوصا، فقط من الحماية. بل يجرده من إنسانيته القانونية، لأنه خارج توازن القوى الذي ينتج الاعتراف. وحين يخرج الفلسطيني عن صمته، ليعيد تعريف نفسه، يعاد تصنيفه لا كضحية تستحق العدالة، بل كفاعل يجب تحييده.
من هنا، لا يمكن فصل مفهوم الضحية عن خرائط النفوذ. فالعدالة ليست معلقة فقط، بل مملوكة. ويعاد تعريف الإنسان وفق ما يخدم النظام لا ما يهدده. وعليه، فإن استعادة القدرة على التسمية لا تنفصل عن معركة التحرر، لأنها في جوهرها معركة على المعنى، وعلى من يملك الحق في أن يكون منظورا إليه، لا فقط ناجيا من الموت.
هذا المقال، لا يسعى فقط إلى تفكيك الخطاب القانوني المشوّه، بل يتطلع لنقل مركز النقاش من الضحية التي تطلب الشفقة، إلى الفاعل الذي ينتج المعنى. من الاستثناء القانوني، إلى من يعري القانون ذاته.
نحن لا نكتب فقط في مواجهة الجريمة، بل في مواجهة بنية تمنح الجريمة شرعيتها. وكل محاولة لتحرير الأرض لا توازيها محاولة لتحرير اللغة، ستعيد إنتاج الهزيمة.
من هنا، فإن استعادة الفلسطيني لموقعه ليست في تقارير الأمم المتحدة، بل في اللحظة التي يعيد فيها تعريف نفسه خارج المعايير الاستعمارية، كفاعل حر، لا كمجرد ضحية صالحة للاعتراف. ذلك أن تعريف الضحية ذاته في التقارير الدولية يقوم على تجريد مزدوج، خصوصا حين يطبق على مجتمعات استعمارية. فالضحية الفلسطينية، مثلا، لا ترى كفاعل سياسي أو أخلاقي، بل كجسد يعاني. وهنا يظهر، أيضا، البعد الجندري في عملية النفي، إذ يعاد إنتاج الضحية لا فقط بوصفها مستثناة من الحقوق، بل كامرأة تجرد من الوكالة، وتختزل إلى الألم، بينما يطمس العنف الجندري المرتبط بالاستعمار في الخطاب القانوني الدولي. هكذا، يتحوّل القانون إلى أداة لتأنيث الاستعمار، لا فضحه.
والمعضلة هنا لا تكمن في النصوص المعيارية ذاتها التي صاغت بعض مبادئ العدالة الكونية. بل في المواقع السياسية التي تحتكر تفسيرها وتطبيقها.
إن القانون الدولي كما تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، تأسس على وعد بإنهاء منطق الغلبة. لكنه أخضع هذا الوعد لأجهزة سلطوية صنعتها القوى المنتصرة. بذلك، صار القانون، لا بوصفه نصا، بل كمنظومة تطبيقية، أداة تمديد للهيمنة، وخصوصا حين يتحول إلى أداة لتأجيل العدالة، أو لمنح الاستثناء صفة الشرعية الدولية. وفي خضم النقد للقانون الدولي، لا بد من التمييز الضروري بين مستوى القانون كمجموعة معايير ومبادئ، وبين مستوى التطبيق المؤسساتي عبر أدوات مثل مجلس الأمن، ومحكمة الجنايات الدولية، وهيئات الأمم المتحدة. هذا التفريق مهم لأربعة أسباب جوهرية:
1. حتى لا نرمي المعايير مع البنى الفاسدة. الميثاق الأممي، ومبادئ القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف، والحق في تقرير المصير. هي جميعها أدوات قانونية تحتوي على مضامين معيارية يمكن استخدامها لتعزيز النضال التحرري. لكن المشكلة لا تكمن في هذه المبادئ كمجرد نصوص، بل في انحياز مؤسسات تطبيقها، وفي اختلال ميزان القوى الذي يفرغها من المضمون. لقد أدرك الفلسطينيون هشاشة الحماية القانونية الدولية، ورغم ذلك، واصلوا الاشتباك معها، ليس من باب الوهم، بل باعتبارها ساحة منازعة. غير أن هذا الاشتباك ظل محكوما بتناقض قاتل: الدخول إلى النظام ذاته الذي يمأسس نفيهم. لقد قدمت القيادة الفلسطينية نموذجا على هذا التناقض، حين انخرطت في المحكمة الجنائية الدولية دون أن تغيّر ميزان القوة الرمزية، أو تبني خطابا حقوقيات مواز يستند إلى تجربة التحرر. وهنا، لا بد من الاعتراف بأن الدخول في الحقل القانوني لا يكفي، إن لم يقترن بإعادة تعريف الفاعل القانوني نفسه.
2. لفتح أفق الفعل بدل الاستسلام للعدمية القانونية. فإذا اختزلنا القانون الدولي في مجلس الأمن، أو في المحكمة الجنائية التي تطارد الأفارقة واللاتينيين والعرب، وتتعامى عن جرائم الاستعمار. فإننا نقع في فخ العدمية القانونية، حيث يصبح القانون كله أداة قمع. بينما الفصل بين المعيار والمؤسسة يتيح لنا استخدام أدوات القانون نفسها في خدمة مشروع تحرري، حتى حين نفضح ازدواجية التطبيق.
ورغم أن المقال يدمج القانون وممارسته السياسية في سلة واحدة، وهو مصيب إلى حد بعيد، إذ لا يمكن فهم البنية القانونية في السياقات الاستعمارية أو السلطوية بوصفها بنية محايدة. غير أن تعميق التحليل قد يقتضي التمييز الجدلي بين القانون كنص وبين القانون كممارسة تأويلية سلطوية. هذا التفكيك لا يهدف إلى إعادة إنتاج أوهام الحياد القانوني، بل إلى الكشف عن كيفية تحول النصوص القانونية، عبر التأويل الموجه، إلى أدوات طيعة في يد السلطة، توظف لإضفاء طابع الشرعية على السيطرة. إن هذا التمييز يتيح مقاربة أكثر تركيبا للمعركة القانونية – المعرفية، لا تنحصر في رفض القانون جملة، بل تسعى إلى فضح مفارقاته الداخلية، وإظهار تناقضاته بين ما يعد به نظريا وما يمارس فعليا، ما يفتح إمكانيات لإعادة توجيه القانون ذاته، أو بالأحرى، لتوظيفه كحقل صراع قابل للاختراق والمناورة.
3. لتوظيف القانون كساحة صراع، لا كقيد ثابت. بدل أن نسلم بأن القانون لا يخدم سوى الأقوياء، يمكننا التعامل معه كساحة صراع رمزي وحقوقي، تخاض فيها معركة المعنى، والاعتراف، والتمثيل، تماما كما فعلت حركات التحرر في جنوب إفريقيا، وبلدان أمريكا اللاتينية، وبعض لجان الحقيقة والمصالحة التي أعادت تأويل القانون من أسفل. وهكذا لا يصبح النقد تفكيكا قاتما يفضي إلى الاستقالة من ساحة القانون، بل نقدا مزدوجا غير تناقضي: ضد القانون حين يخون، ومع المعيار حين ينصف. نقدا لمؤسسات التطبيق حين تخضع للهيمنة. وتفعيلا للمستوى المعياري كجزء من أدوات النضال.
بهذا المعنى، لا نطالب بإنهاء القانون الدولي، بل بإعادة تشكيله من موقع الضحية، والمستعمر، والمحروم، والمقاوم، عبر تفكيك الشرعية القائمة، وبناء شرعية مقاومة، تستند إلى مبادئ العدالة لا إلى توازنات القوة.
فإذا كان القانون الدولي كما يطبق اليوم يقصي الفلسطيني من موقع الضحية الفاعلة، ويعيد إنتاجه ككائن قانوني منقوص، فإن المواجهة لا تكتمل بفضح هذا التواطؤ القانوني–السياسي، بل تستوجب تقديم بدائل قانونية نابعة من موقع تحرري، تعيد تعريف العدالة من خارج مركز الهيمنة. ويمكن تحديد ملامح أولية لهذه البدائل، لا بوصفها وصفات جاهزة، بل كبذور تفكير نقدي واستراتيجي: –
أولا: بدل الارتهان لمحاكم دولية خاضعة لميزان القوى، يمكن بالتوازي بناء آليات تحقيق مستقلة، يقودها خبراء قانونيون وأخلاقيون من الجنوب العالمي، ومن شبكات حقوقية مستقلة، تتولى توثيق الجرائم وكتابة السردية من وجهة نظر الضحية/الفاعل، وليس المنظومة الاستعمارية. هذه الأدوات تشبك بين المعرفة القانونية، والسرديات التاريخية، والشهادة الحية. وتنتج أرشيفا قانونيا – تحرريا يكون مرجعا للحركات السياسية، وللعدالة المستقبلية.
ثانيا: في مواجهة قانون دولي صيغ بلغة المنتصر، لا تقتصر الحاجة على كشف محدودية أدوات القانون الدولي السائد، بل تستدعي مساءلة شرعية معاييره، وابتكار أفق قانوني بديل، ينتج من موقع الضحية ذاتها لا عنها. قانون يصدر عن الجنوب بوصفه حقلا لتجارب الاستعمار والتجريد، لا ككائن ينتظر الاعتراف.
ذلك يعني الانتقال من الاستجداء الحقوقي إلى الفعل التأسيسي: تفرق بين القانون كمجموعة معايير ومبادئ، وبين مستوى التطبيق المؤسساتي، وتفتح الباب أمام التفكير في أدوات قانونية بديلة، وإبراز إفلاس النظام القانوني السائد. ويمكن لفلسطين أن تحتضن محكمة شعبية دائمة، توثق الإبادة والاقتلاع، وتحاكم الصهيونية كنظام، لا فقط كجرائم منفردة. هذه المحاكم لا تمنح أحكاما تنفيذية، لكنها تمنح شرعية خطابية – أخلاقية -تحليلية تؤسس لعدالة مستقبلية، وتفضح التواطؤ القائم.
وإقامة تحالفات جنوب–جنوب لتوثيق الجرائم ومحاكمتها، أو مشاريع تأريخ قانوني مضاد تسجل الرواية من موقع الضحية المغيبة، لا المؤسسة المهيمنة. ومنتديات قانونية جنوبية، تتجاوز الانحباس في هياكل الإبقاء على الوضع القائم. وفي هذا الإطار يمكن تأسيس شبكات قانونية عابرة للقوميات، تضم فلسطين، جنوب إفريقيا، الجزائر، رواندا، وأمريكا اللاتينية، لتبادل الخبرات، وإنتاج مقاربات قانونية بديلة. هذا التمثيل لا يكون فقط في المنابر، بل في صياغة مسودات بديلة لمفاهيم 'العدالة، الضحية، السيادة، الإرهاب، المقاومة'.
ثالثا: من المهم أن ينتج الفلسطيني والعربي والجنوبي أرشيفا قانونيا مضادا، يوثق عبره الرواية من موقع الكينونة، لا من موقع الإغاثة. وهذا يتطلب: تفكيك المفاهيم القانونية الاستعمارية (مثل: 'اللاجئ'، 'غير اليهودي'، 'الأمن'، 'الإرهاب'). واستبدالها بمفاهيم تنبع من التاريخ السياسي الفلسطيني: مثل 'المُقتَلع'، 'المحروم من التمثيل'، 'المقاوم كفاعل قانوني'. إن هذه البدائل لا تسعى فقط لكشف نفاق القانون الدولي، بل لطرح سؤال جذري: من له الحق في أن ينتج القانون؟
وإعادة تعريف مفاهيم الشرعية والسيادة والحقوق بما يتجاوز الإطار الليبرالي الفردي، نحو حقوق جماعية، وحق في المقاومة، والسيادة التنموية، والعدالة البيئية العابرة للحدود.
لا يكتمل نقد القانون الدولي، بوصفه أداة للهيمنة، دون التوقف عند البدائل التي نشأت خارج المركز الغربي، خاصة تلك التي تبلورت في خضم حركات التحررالوطني. فقد خاضت تجارب ثورية مثل الجزائر وفيتنام وجنوب إفريقيا معارك شرسة ضد القوانين الاستعمارية، وابتدعت منظومات قانونية تستمدّ شرعيتها من المقاومة والشعب، لا من 'الشرعية الدولية' التي احتكرتها القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. هكذا، نشأ ما يمكن تسميته بـ 'القانون الثوري'، حيث أعادت حركات التحرر تعريف مفاهيم مثل العدالة، السيادة، والشرعية، ورفضت الخضوع لمنظومة قانونية لم تعترف أصلا بوجودها ككيانات مستقلة. وإلى جانب هذه التجارب، حاولت حركات الجنوب العالمي – كـ ' مجموعة ال 77″ و' حركة عدم الانحياز'- بلورة خطاب قانوني بديل داخل أروقة الأمم المتحدة، يدعو إلى 'نظام اقتصادي دولي جديد'، ويطالب بالعدالة التنموية وحق تقرير المصير الاقتصادي. كما أنتجت نخبا فكرية من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أطروحات قانونية عابرة للاستعمار والمركزية الأوروبية، رفضت الحياد الزائف للقانون، وفضحت علاقته البنيوية بالقوة المهيمنة.
فتجاوز منطق الضحية لا يقتصر على تفكيك قانون الهيمنة – كما سبقت الإشارة – بل يقتضي بناء أدوات قانونية جديدة.
من هنا، تبرز الحاجة إلى بلورة تصور تحرري لـ' قانون من الجنوب'، لا بوصفه بديلا تقنيا فحسب، بل كمشروع قيمي ومؤسساتي يعيد تعريف العلاقة بين القانون، والشعوب، والمقاومة، والعدالة. يمكن لهذا المشروع أن يتجسد في:
· تحالف قانوني شعبي من الجنوب، يضم باحثين، نقابات، حركات اجتماعية، ومنظمات حقوقية مستقلة، يعكف على صياغة ' شرعة قانونية جنوبية' تنبثق من تجارب المقاومة واحتياجات الشعوب لا من إملاءات الدول المانحة.
· محاكم رمزية بديلة، كتلك التي عرفناها في 'محكمة راسل' ضد جرائم أمريكا في فيتنام، أو 'محكمة كوالالمبور' حول العدوان على العراق، تعيد الاعتبار إلى صوت الضحية، وتفضح انتقائية العدالة الدولية.
· ولعلّ ما يعمق الحاجة لهذا البديل، هو تشابك القانون الدولي مع العولمة النيوليبرالية، بوصفها السياق المؤسس لإنتاج الضحية المراقبة والممولة. فالمنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومؤسسات 'العدالة الانتقالية' و' حقوق الإنسان'، باتت أذرعا قانونية لإعادة تشكيل الدولة الضعيفة وفق نموذج السوق، وتقليص السيادة باسم 'الإصلاح'، وشرعنة القمع باسم 'الاستقرار'. والإبادة باسم 'القضاء على الإرهاب وإحلال السلام'. و'العدالة الانتقائية' التي تروّج لها كبرى منظمات التمويل الغربي، تعيد تعريف الضحية بما يلائم سردية الإغاثة لا التحرر. وتقصي الفاعلين السياسيين والمقاومين الحقيقيين وتستبدلهم بالتكنوقراط باسم الحياد والمهنية. وتفرض شروطا قانونية على التمويل تفرّغ العدالة من مضمونها السياسي والاجتماعي.
ختاما، ليست المعضلة في أن القانون الدولي مسيس، فهذا بات بديهيا، بل في أنه يخفي تسييسه خلف خطاب كوني زائف، يجعل من نقده ذاته وكأنه خروج عن 'الشرعية'، ومن مقاومته 'إرهابا'، ومن الضحية المتمردة 'عقبة أمام السلام'. أمام هذا الواقع، يصبح التحدي الحقيقي ليس فقط في فضح القانون الدولي كمؤسسة هيمنة، بل في إعادة ابتكار القانون ذاته كأداة تحرر.
وهذا ما يتطلب منا اليوم الانتقال من موقع النقد الغاضب إلى موقع البناء الواعي، انطلاقا من تجارب الشعوب التي قاومت، لا من قاعات المؤتمرات الدولية. فمشروع 'قانون من الجنوب' لا يعني القطيعة مع القانون الدولي فحسب، بل يعني تجاوزه برؤية تاريخية وجذرية تعيد الاعتبار إلى مقاومة الشعوب كمنبع للشرعية، وتحرر المفاهيم من احتكار المركز.
فما نحتاجه، إذن، ليس فقط مساءلة الشرعية القانونية التي تضفي المشروعية على الاستثناء، بل الشروع في كتابة مانيفستو قانوني من الجنوب، يستمد مشروعيته من رواسب التجربة الاستعمارية، ويعيد تعريف الحق خارج منطق الهيمنة. مانيفستو يتجاوز طلب الاعتراف، ويعيد صوغ العلاقة بين الضحية والقانون بوصفها علاقة تأسيس، لا استجداء.
ذلك وحده كفيل بتحويل القانون من أداة تأبيد للهيمنة إلى إمكان للفعل التحرري. وحين نستعيد هذا الحق، نحرر القانون من المركز، ونحرر أنفسنا من موقع المتلقي الصامت.
بهذا المعنى، فإن المقاومة الفلسطينية – كما الجزائرية من قبلها، وكمقاومات الجنوب العالمي عموما – ليست فقط نضالا ماديا على الأرض، بل هي أيضا مختبر قانوني وأخلاقي وسياسي، يطرح أسئلة جوهرية:
من يملك الحق في صياغة القانون؟
ولصالح من تصاغ القاعدة القانونية؟
وهل يمكن أن تولد عدالة حقيقية من رحم نظام دولي متواطئ بطبيعته؟
إن الإجابة على هذه الأسئلة لا تكمن في انتظار إصلاح القانون الدولي، بل في التحرر من هيبته الزائفة، وفك ارتباطنا الذهني والأخلاقي به، وبناء شرعية من نوع جديد، تتكئ على تاريخ الكفاح، وذاكرة الاستعمار، وتجارب المقاومة، وتحالفات الشعوب. هذا هو التحدي القانوني- التحرري القادم، الذي يطرح على المثقف القانوني الفلسطيني والعربي وفي الجنوب العالمي مسؤولية مزدوجة: تفكيك القانون القائم، وصياغة قانون بديل لا يعيد إنتاج القهر باسم الحق.
7/6/2025

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


ساحة التحرير
منذ 6 ساعات
- ساحة التحرير
من الضحية المشرعنة دوليا إلى الضحية التي تشرّع ذاتها!غانية ملحيس وخالد عطية
من الضحية المشرعنة دوليا إلى الضحية التي تشرّع ذاتها! غانية ملحيس وخالد عطية في قلب كل نظام قانوني حديث يكمن سؤال حاسم: من له الحق في أن يعترف به كضحية؟ في سياق القضية الفلسطينية، لم يكن هذا الاعتراف يوما ناتجا عن الألم ذاته، بل عن موقع الضحية في سردية القوة الغربية. القانون الدولي، كما تبلور بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن محايدا، بل صيغ بلغة المنتصر، وأُسس كأداة لإدارة ما بعد الاستعمار، لا لمساءلته. في هذه المنظومة، لم يعامل الفلسطيني كضحية كاملة الأهلية، بل كاستثناء قانوني. فاللاجئ الفلسطيني يعامل كحالة خاصة، والمقاوم كمشتبه، والطفل كخطر أمني. هذه ليست انحرافات فردية عن القانون، بل تعبيرات عن بنيته الأصلية، التي لا تعترف إلا بمن تتطابق مع صورة الضحية العاجزة، غير السياسية، التي لا تهدد التوازن الجيوسياسي القائم. ما تفضحه هذه المعايير الحديثة يتجذر في تاريخ أعمق من تأسيس إسرائيل أو وعد بلفور وصك الانتداب. فاستثناء الفلسطيني من التعريف القانوني يعود إلى لحظة استعمارية مفصلية بدأت مع بداية الغزو الاستعماري الغربي، وحملة نابليون عام 1798، حين طرحت لأول مرة فكرة 'وطن قومي لليهود في فلسطين' كأداة لإعادة تشكيل الشرق. ومنذ ذلك الحين، بدأ بناء منظومة إقصاء متكاملة، تمأسست في مؤتمر لندن عام 1840، وترسّخت لاحقا عبر أدوات كولونيالية متتابعة: مخرجات مؤتمر كامبل بنرمان (1905–1907)، وسايكس بيكو 1916، ووعد بلفور (1917)، ثم صك الانتداب البريطاني على فلسطين (1922). نحن إذن أمام منظومة استعمارية متكاملة، حولت الجنس الأبيض إلى مركز للكون. وأحكمت سيطرتها على شمال الكرة الأرضية ومعظم جنوبها. وتأهبت لاستكمال سيطرتها على المركز، عبر مشروع شامل لإعادة هندسة المنطقة لعربية – الاسلامية الممتدة. بتفكيكها، وتجزئتها، وتخليق كيان استعماري استيطاني غربي وظيفي في مركز وصلها الجغرافي والديموغرافي والحضاري. يقطع التواصل بين مكونات الأمة الأصيلة بعازل صد (جغرافي وبشري وعسكري وديني) ينهي وحدتها السياسية والأمنية والقانونية. ويقوض تكاملها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. باستنساخ تجربة الاستعمار الاستيطاني الافرنجي/ الصليبي/ قبل عشرة قرون، الذي استدام في فلسطين 88 سنة، فيما استدامت حروبه في المنطقة قرابة قرنين (1099-1291). فأسست له وعدا سياسيا بلباس يهودي، قبل أن تشرعنه بقانون دولي، وكل ذلك في ظل تغييب ممنهج للفلسطيني، لا كضحية فقط، بل ككينونة قانونية وسياسية يراد محوها من أصلها. هذا التواطؤ بين الإمبريالية الغربية والامبريالية اليهودية، وتجسده في تنظيم صهيوني عالمي بدأته الصهيونية المسيحية الإنجيليّة في القرن السادس عشر مع ظهور الرأسمالية المؤسسة للحداثة المادية، والتحقت به الصهيونية اليهودية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر. وتحالفا سياسيا وتنظيميا وعسكريا في مطلع القرن العشرين عبر مشروع استعماري غربي عام للسيطرة على عموم المنطقة العربية الإسلامية، يتضمن مشروعا استيطانيا يهوديا خاصا لاحلال اسرائيل محل فلسطين جغرافيا وديموغرافيا. ومنذ ذاك الحين، لم يقص الفلسطيني من الأرض فقط، بل من مفاهيم الشرعية القانونية. فقد جرى نفيه من صكوك السيادة، حتى في تعريفه ذاته، إذ صنف في وعد بلفور كـ 'طوائف غير يهودية'، في حين جرى الاعتراف بالهجين اليهودي المستوطن كـ 'شعب'. هذا الإلغاء الممنهج للكينونة السياسية والقانونية الفلسطينية التي يراد محوها، هو ما يجعل من القانون الدولي أداة نفي بقدر ما هو أداة تنظيم. فإذا كان القانون الدولي قد صاغ تعريف 'الضحية' بما يخدم مصالح القوة المهيمنة، فإن المعركة اليوم ليست في استجداء هذا الاعتراف، بل في نزع شرعيته من أصله. فالفلسطيني ليس ضحية جريمة فحسب، بل ضحية بنية غريبة قانونية – سياسية صممت خصيصا لمحوه وحرمانه من موقع التمثيل. لذلك، فإن استعادة الفعل السياسي تبدأ من استعادة القدرة على التسمية: من هو العدو؟ ما هو العنف؟ ما هو التحرر؟ وما معنى أن تكون ضحية؟ حين نحرر هذه المفاهيم من قبضة المركز، نتحرر من استلاب مزدوج: استلاب الدم، واستلاب المعنى. وهنا تتبدى أهمية المقاربة النقدية: فالفعل المقاوم ليس فقط في المواجهة المسلحة، بل في تفكيك الشرعية القانونية التي تجرم المقاومة وتشرعن الإبادة، وفي صياغة خطاب بديل يعيد تعريف الفلسطيني لا كمتلق للعدالة، بل كصانع لها. ما يثبّت هذا التحليل ويمنحه شرعية تاريخية – واقعية، هو وجود تجارب فلسطينية حية تفضح المفارقة بين نص القانون وممارسته. من أبرزها: محاكم الأطفال العسكرية، كما في حالة أحمد مناصرة، الذي حوكم كـ ' خطر أمني' لا كقاصر، وعومل بأدوات تعذيب قانونية صادمة، تثبت أن الطفولة الفلسطينية مستثناة من اتفاقيات حقوق الطفل. وتجريم المقاومة الفلسطينية، من خلال تصنيف حركات المقاومة الفلسطينية – العلمانية والدينية – ضمن لوائح الإرهاب، رغم أنها حركات تحررية في ظل الاحتلال، يفضح الانحياز البنيوي في أدوات القانون الدولي الذي يهيمن عليه الاستعمار الغربي العنصري. ليس الفلسطيني وحده من تم تجريده من إنسانيته القانونية، بل ثمة سوابق تاريخية تظهر كيف أن القانون الدولي شكّل أداة انتقائية للاعتراف، وأن الضحية لا تعترف بألمها، بل بموقعها داخل شبكة المصالح الغربية. في حرب التحرير الجزائرية (1954–1962)، قتل أكثر من مليون جزائري في واحدة من أبشع عمليات الإبادة الاستعمارية في القرن العشرين، تحت إدارة دولة 'حديثة' تدّعي احترام حقوق الإنسان – فرنسا. ومع ذلك، لم يصنف الاستعمار الفرنسي كجريمة دولية، ولم يحاسب مجرمو الحرب، بل استمر التواطؤ الدولي في تغليف العنف باسم 'الحضارة' و' مكافحة الإرهاب'. وتمّ إقصاء المقاومة الجزائرية من موقع الضحية القانونية، كما أُقصي الفلسطيني لاحقا، لأن الاعتراف كان يعني مساءلة منظومة الهيمنة الأوروبية، وهو أمر لا تتيحه قواعد القانون الدولي المصاغة لحماية المنتصر لا المحروم. وفي حالة الفصل العنصري 'الأبارتهايد' في جنوب إفريقيا، استمر نظام الفصل العنصري لعقود بدعم مباشر أو ضمني من القوى الغربية، خصوصا بريطانيا والولايات المتحدة. ولم يعترف بضحايا هذا النظام قانونيا إلا عندما بدأت كلفة دعم النظام العنصري تفوق عوائده الجيو – سياسية. اعترف القانون الدولي بالأبارتهايد كجريمة، ولكن بعد نضال طويل واصطفافات دولية تغيرت، لا بدافع أخلاقي صرف. حتى الاعتراف بـ 'مانديلا' كرمز حرية، جاء بعد تأطير نضاله في سردية 'ضحية–إنسانوي'، لا 'مقاوم –مهدد للنظام العالمي'. وفي حالة الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، والتي راح ضحيتها نحو 800 ألف شخص خلال مئة يوم، تأخر تدخل المجتمع الدولي، وتجاهلت القوى الكبرى التقارير الاستخباراتية التي أنذرت بالمجزرة. وبعد اكتمال الإبادة فقط، شكلت محكمة دولية خاصة، لا بدافع وقائي، بل ترميمي، في محاولة لغسل اليد لا لمنع الجريمة. في رواندا، وثقت الضحية بعد زوالها، لأنها لم تكن تهدد بنية القوة الغربية. وكان الاعتراف قانونيا، ولكن بلا مفاعيل سياسية أو أخلاقية على مسببي الإبادة أو المتقاعسين عن منعها. هذه الحالات الثلاث تظهر أن الضحية، في القانون الدولي، ليست 'معطى موضوعيا ' بل ' منتج سياسي'. فالاعتراف لا ينبع من الحق، بل من نضج الشروط السياسية للاعتراف. والفارق مع الحالة الفلسطينية أن الفلسطيني – رغم نضاله الطويل على مدى أكثر من قرن – ما يزال يرى كمصدر إرباك سياسي، لا كمصدر حق، ولهذا يتم تعليق الاعتراف به، أو تفريغه من مضمونه. إن ما يجمع الجزائر، جنوب إفريقيا، رواندا وفلسطين، هو أن القانون الدولي لم يقف مع الضحية، بل تأقلم مع الجريمة حتى لم تعد ترى كجريمة. لكن ما يفصل بينها أن الاعتراف بالضحايا في تلك الحالات جاء متأخرا، أو مشروطا، أو تحت ضغط سياقات دولية متغيرة، أما الفلسطيني، فما يزال عالقا في مرحلة 'اللامرئي القانوني'، لأن الاعتراف به يهدد بنية عالمية لم تتغير بعد. وقوننة العقوبات الجماعية، كما في حصار غزة، حيث يفرض العقاب على مجتمع بأكمله بذريعة الأمن، دون مساءلة دولية حقيقية، يكشف أن معايير 'العدالة' قابلة للتعليق حين يكون المستهدف من غير العرق الأبيض، لاتينيا أو إفريقيا أو عربيا، وبالأخص فلسطينيا. والأدهى، مواصلة استثناء الفلسطيني من تمثيل الألم في المحافل الدولية، فرغم التوثيق الواسع لجرائم الإبادة في غزة، لم يتم تحريك أي محكمة دولية بشكل فاعل إلا بعد ضغوط سياسية عابرة، مما يؤكد أن 'الضحية' لا تعرف من خلال عدد الشهداء، بل من خلال مكانها في منظومة المصالح الغربية. ذلك أن الاعتراف بـ ' ضحايا غزة' يربك النظام الدولي، لأنه يستلزم تسمية إسرائيل كمجرم، وهذا غير مسموح. فحتى الموت الفلسطيني نفسه يحتاج إلى موافقة جيوسياسية كي يحتسب. مثال صارخ على ذلك يظهر في المقارنة مع أوكرانيا. فبينما تمنح الأخيرة موقع 'الضحية السيادية' مباشرة، ويفعل النظام القانوني والسياسي الدولي لحمايتها. يختزل الفلسطيني في ملف إغاثي مؤقت، بلا سياق، ولا جريمة واضحة الجاني. ما يجب التوقف عنده بعمق هو أن القانون الدولي، كما تشكل تاريخيا، لم يكن نتاجا لتوافق أخلاقي كوني، بل نتيجة مباشرة لتوازنات القوى بعد الحروب الكبرى. فالقواعد التي صيغت باسم العدالة وحقوق الإنسان، إنما كتبت بلغة المنتصر، ووفق تصوراته للضحية، والمجرم، والعقوبة. ولهذا فإن الضحية لا تعترف لأنها تتألم، بل لأنها لا تهدد بنية القوة التي صاغت منطق الاعتراف ذاته. توازن القوى لا يظهر فقط في غياب المحاسبة، بل في تعريف من يحق له أن يرى كضحية أصلا. فحين يقتل ملايين الأفارقة واللاتينيين والعرب والفلسطينيين، لا يتحرك النظام الدولي إلا ببطء مثقل بالمصالح والاصطفافات. أما حين تمس مصالح الغرب، تفعل القوانين والمحاكم والقرارات بقدرة هائلة على التسمية والعقاب. بهذا المعنى، القانون لا يجرد غير الأبيض عموما، والفلسطيني خصوصا، فقط من الحماية. بل يجرده من إنسانيته القانونية، لأنه خارج توازن القوى الذي ينتج الاعتراف. وحين يخرج الفلسطيني عن صمته، ليعيد تعريف نفسه، يعاد تصنيفه لا كضحية تستحق العدالة، بل كفاعل يجب تحييده. من هنا، لا يمكن فصل مفهوم الضحية عن خرائط النفوذ. فالعدالة ليست معلقة فقط، بل مملوكة. ويعاد تعريف الإنسان وفق ما يخدم النظام لا ما يهدده. وعليه، فإن استعادة القدرة على التسمية لا تنفصل عن معركة التحرر، لأنها في جوهرها معركة على المعنى، وعلى من يملك الحق في أن يكون منظورا إليه، لا فقط ناجيا من الموت. هذا المقال، لا يسعى فقط إلى تفكيك الخطاب القانوني المشوّه، بل يتطلع لنقل مركز النقاش من الضحية التي تطلب الشفقة، إلى الفاعل الذي ينتج المعنى. من الاستثناء القانوني، إلى من يعري القانون ذاته. نحن لا نكتب فقط في مواجهة الجريمة، بل في مواجهة بنية تمنح الجريمة شرعيتها. وكل محاولة لتحرير الأرض لا توازيها محاولة لتحرير اللغة، ستعيد إنتاج الهزيمة. من هنا، فإن استعادة الفلسطيني لموقعه ليست في تقارير الأمم المتحدة، بل في اللحظة التي يعيد فيها تعريف نفسه خارج المعايير الاستعمارية، كفاعل حر، لا كمجرد ضحية صالحة للاعتراف. ذلك أن تعريف الضحية ذاته في التقارير الدولية يقوم على تجريد مزدوج، خصوصا حين يطبق على مجتمعات استعمارية. فالضحية الفلسطينية، مثلا، لا ترى كفاعل سياسي أو أخلاقي، بل كجسد يعاني. وهنا يظهر، أيضا، البعد الجندري في عملية النفي، إذ يعاد إنتاج الضحية لا فقط بوصفها مستثناة من الحقوق، بل كامرأة تجرد من الوكالة، وتختزل إلى الألم، بينما يطمس العنف الجندري المرتبط بالاستعمار في الخطاب القانوني الدولي. هكذا، يتحوّل القانون إلى أداة لتأنيث الاستعمار، لا فضحه. والمعضلة هنا لا تكمن في النصوص المعيارية ذاتها التي صاغت بعض مبادئ العدالة الكونية. بل في المواقع السياسية التي تحتكر تفسيرها وتطبيقها. إن القانون الدولي كما تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، تأسس على وعد بإنهاء منطق الغلبة. لكنه أخضع هذا الوعد لأجهزة سلطوية صنعتها القوى المنتصرة. بذلك، صار القانون، لا بوصفه نصا، بل كمنظومة تطبيقية، أداة تمديد للهيمنة، وخصوصا حين يتحول إلى أداة لتأجيل العدالة، أو لمنح الاستثناء صفة الشرعية الدولية. وفي خضم النقد للقانون الدولي، لا بد من التمييز الضروري بين مستوى القانون كمجموعة معايير ومبادئ، وبين مستوى التطبيق المؤسساتي عبر أدوات مثل مجلس الأمن، ومحكمة الجنايات الدولية، وهيئات الأمم المتحدة. هذا التفريق مهم لأربعة أسباب جوهرية: 1. حتى لا نرمي المعايير مع البنى الفاسدة. الميثاق الأممي، ومبادئ القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف، والحق في تقرير المصير. هي جميعها أدوات قانونية تحتوي على مضامين معيارية يمكن استخدامها لتعزيز النضال التحرري. لكن المشكلة لا تكمن في هذه المبادئ كمجرد نصوص، بل في انحياز مؤسسات تطبيقها، وفي اختلال ميزان القوى الذي يفرغها من المضمون. لقد أدرك الفلسطينيون هشاشة الحماية القانونية الدولية، ورغم ذلك، واصلوا الاشتباك معها، ليس من باب الوهم، بل باعتبارها ساحة منازعة. غير أن هذا الاشتباك ظل محكوما بتناقض قاتل: الدخول إلى النظام ذاته الذي يمأسس نفيهم. لقد قدمت القيادة الفلسطينية نموذجا على هذا التناقض، حين انخرطت في المحكمة الجنائية الدولية دون أن تغيّر ميزان القوة الرمزية، أو تبني خطابا حقوقيات مواز يستند إلى تجربة التحرر. وهنا، لا بد من الاعتراف بأن الدخول في الحقل القانوني لا يكفي، إن لم يقترن بإعادة تعريف الفاعل القانوني نفسه. 2. لفتح أفق الفعل بدل الاستسلام للعدمية القانونية. فإذا اختزلنا القانون الدولي في مجلس الأمن، أو في المحكمة الجنائية التي تطارد الأفارقة واللاتينيين والعرب، وتتعامى عن جرائم الاستعمار. فإننا نقع في فخ العدمية القانونية، حيث يصبح القانون كله أداة قمع. بينما الفصل بين المعيار والمؤسسة يتيح لنا استخدام أدوات القانون نفسها في خدمة مشروع تحرري، حتى حين نفضح ازدواجية التطبيق. ورغم أن المقال يدمج القانون وممارسته السياسية في سلة واحدة، وهو مصيب إلى حد بعيد، إذ لا يمكن فهم البنية القانونية في السياقات الاستعمارية أو السلطوية بوصفها بنية محايدة. غير أن تعميق التحليل قد يقتضي التمييز الجدلي بين القانون كنص وبين القانون كممارسة تأويلية سلطوية. هذا التفكيك لا يهدف إلى إعادة إنتاج أوهام الحياد القانوني، بل إلى الكشف عن كيفية تحول النصوص القانونية، عبر التأويل الموجه، إلى أدوات طيعة في يد السلطة، توظف لإضفاء طابع الشرعية على السيطرة. إن هذا التمييز يتيح مقاربة أكثر تركيبا للمعركة القانونية – المعرفية، لا تنحصر في رفض القانون جملة، بل تسعى إلى فضح مفارقاته الداخلية، وإظهار تناقضاته بين ما يعد به نظريا وما يمارس فعليا، ما يفتح إمكانيات لإعادة توجيه القانون ذاته، أو بالأحرى، لتوظيفه كحقل صراع قابل للاختراق والمناورة. 3. لتوظيف القانون كساحة صراع، لا كقيد ثابت. بدل أن نسلم بأن القانون لا يخدم سوى الأقوياء، يمكننا التعامل معه كساحة صراع رمزي وحقوقي، تخاض فيها معركة المعنى، والاعتراف، والتمثيل، تماما كما فعلت حركات التحرر في جنوب إفريقيا، وبلدان أمريكا اللاتينية، وبعض لجان الحقيقة والمصالحة التي أعادت تأويل القانون من أسفل. وهكذا لا يصبح النقد تفكيكا قاتما يفضي إلى الاستقالة من ساحة القانون، بل نقدا مزدوجا غير تناقضي: ضد القانون حين يخون، ومع المعيار حين ينصف. نقدا لمؤسسات التطبيق حين تخضع للهيمنة. وتفعيلا للمستوى المعياري كجزء من أدوات النضال. بهذا المعنى، لا نطالب بإنهاء القانون الدولي، بل بإعادة تشكيله من موقع الضحية، والمستعمر، والمحروم، والمقاوم، عبر تفكيك الشرعية القائمة، وبناء شرعية مقاومة، تستند إلى مبادئ العدالة لا إلى توازنات القوة. فإذا كان القانون الدولي كما يطبق اليوم يقصي الفلسطيني من موقع الضحية الفاعلة، ويعيد إنتاجه ككائن قانوني منقوص، فإن المواجهة لا تكتمل بفضح هذا التواطؤ القانوني–السياسي، بل تستوجب تقديم بدائل قانونية نابعة من موقع تحرري، تعيد تعريف العدالة من خارج مركز الهيمنة. ويمكن تحديد ملامح أولية لهذه البدائل، لا بوصفها وصفات جاهزة، بل كبذور تفكير نقدي واستراتيجي: – أولا: بدل الارتهان لمحاكم دولية خاضعة لميزان القوى، يمكن بالتوازي بناء آليات تحقيق مستقلة، يقودها خبراء قانونيون وأخلاقيون من الجنوب العالمي، ومن شبكات حقوقية مستقلة، تتولى توثيق الجرائم وكتابة السردية من وجهة نظر الضحية/الفاعل، وليس المنظومة الاستعمارية. هذه الأدوات تشبك بين المعرفة القانونية، والسرديات التاريخية، والشهادة الحية. وتنتج أرشيفا قانونيا – تحرريا يكون مرجعا للحركات السياسية، وللعدالة المستقبلية. ثانيا: في مواجهة قانون دولي صيغ بلغة المنتصر، لا تقتصر الحاجة على كشف محدودية أدوات القانون الدولي السائد، بل تستدعي مساءلة شرعية معاييره، وابتكار أفق قانوني بديل، ينتج من موقع الضحية ذاتها لا عنها. قانون يصدر عن الجنوب بوصفه حقلا لتجارب الاستعمار والتجريد، لا ككائن ينتظر الاعتراف. ذلك يعني الانتقال من الاستجداء الحقوقي إلى الفعل التأسيسي: تفرق بين القانون كمجموعة معايير ومبادئ، وبين مستوى التطبيق المؤسساتي، وتفتح الباب أمام التفكير في أدوات قانونية بديلة، وإبراز إفلاس النظام القانوني السائد. ويمكن لفلسطين أن تحتضن محكمة شعبية دائمة، توثق الإبادة والاقتلاع، وتحاكم الصهيونية كنظام، لا فقط كجرائم منفردة. هذه المحاكم لا تمنح أحكاما تنفيذية، لكنها تمنح شرعية خطابية – أخلاقية -تحليلية تؤسس لعدالة مستقبلية، وتفضح التواطؤ القائم. وإقامة تحالفات جنوب–جنوب لتوثيق الجرائم ومحاكمتها، أو مشاريع تأريخ قانوني مضاد تسجل الرواية من موقع الضحية المغيبة، لا المؤسسة المهيمنة. ومنتديات قانونية جنوبية، تتجاوز الانحباس في هياكل الإبقاء على الوضع القائم. وفي هذا الإطار يمكن تأسيس شبكات قانونية عابرة للقوميات، تضم فلسطين، جنوب إفريقيا، الجزائر، رواندا، وأمريكا اللاتينية، لتبادل الخبرات، وإنتاج مقاربات قانونية بديلة. هذا التمثيل لا يكون فقط في المنابر، بل في صياغة مسودات بديلة لمفاهيم 'العدالة، الضحية، السيادة، الإرهاب، المقاومة'. ثالثا: من المهم أن ينتج الفلسطيني والعربي والجنوبي أرشيفا قانونيا مضادا، يوثق عبره الرواية من موقع الكينونة، لا من موقع الإغاثة. وهذا يتطلب: تفكيك المفاهيم القانونية الاستعمارية (مثل: 'اللاجئ'، 'غير اليهودي'، 'الأمن'، 'الإرهاب'). واستبدالها بمفاهيم تنبع من التاريخ السياسي الفلسطيني: مثل 'المُقتَلع'، 'المحروم من التمثيل'، 'المقاوم كفاعل قانوني'. إن هذه البدائل لا تسعى فقط لكشف نفاق القانون الدولي، بل لطرح سؤال جذري: من له الحق في أن ينتج القانون؟ وإعادة تعريف مفاهيم الشرعية والسيادة والحقوق بما يتجاوز الإطار الليبرالي الفردي، نحو حقوق جماعية، وحق في المقاومة، والسيادة التنموية، والعدالة البيئية العابرة للحدود. لا يكتمل نقد القانون الدولي، بوصفه أداة للهيمنة، دون التوقف عند البدائل التي نشأت خارج المركز الغربي، خاصة تلك التي تبلورت في خضم حركات التحررالوطني. فقد خاضت تجارب ثورية مثل الجزائر وفيتنام وجنوب إفريقيا معارك شرسة ضد القوانين الاستعمارية، وابتدعت منظومات قانونية تستمدّ شرعيتها من المقاومة والشعب، لا من 'الشرعية الدولية' التي احتكرتها القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. هكذا، نشأ ما يمكن تسميته بـ 'القانون الثوري'، حيث أعادت حركات التحرر تعريف مفاهيم مثل العدالة، السيادة، والشرعية، ورفضت الخضوع لمنظومة قانونية لم تعترف أصلا بوجودها ككيانات مستقلة. وإلى جانب هذه التجارب، حاولت حركات الجنوب العالمي – كـ ' مجموعة ال 77″ و' حركة عدم الانحياز'- بلورة خطاب قانوني بديل داخل أروقة الأمم المتحدة، يدعو إلى 'نظام اقتصادي دولي جديد'، ويطالب بالعدالة التنموية وحق تقرير المصير الاقتصادي. كما أنتجت نخبا فكرية من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أطروحات قانونية عابرة للاستعمار والمركزية الأوروبية، رفضت الحياد الزائف للقانون، وفضحت علاقته البنيوية بالقوة المهيمنة. فتجاوز منطق الضحية لا يقتصر على تفكيك قانون الهيمنة – كما سبقت الإشارة – بل يقتضي بناء أدوات قانونية جديدة. من هنا، تبرز الحاجة إلى بلورة تصور تحرري لـ' قانون من الجنوب'، لا بوصفه بديلا تقنيا فحسب، بل كمشروع قيمي ومؤسساتي يعيد تعريف العلاقة بين القانون، والشعوب، والمقاومة، والعدالة. يمكن لهذا المشروع أن يتجسد في: · تحالف قانوني شعبي من الجنوب، يضم باحثين، نقابات، حركات اجتماعية، ومنظمات حقوقية مستقلة، يعكف على صياغة ' شرعة قانونية جنوبية' تنبثق من تجارب المقاومة واحتياجات الشعوب لا من إملاءات الدول المانحة. · محاكم رمزية بديلة، كتلك التي عرفناها في 'محكمة راسل' ضد جرائم أمريكا في فيتنام، أو 'محكمة كوالالمبور' حول العدوان على العراق، تعيد الاعتبار إلى صوت الضحية، وتفضح انتقائية العدالة الدولية. · ولعلّ ما يعمق الحاجة لهذا البديل، هو تشابك القانون الدولي مع العولمة النيوليبرالية، بوصفها السياق المؤسس لإنتاج الضحية المراقبة والممولة. فالمنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومؤسسات 'العدالة الانتقالية' و' حقوق الإنسان'، باتت أذرعا قانونية لإعادة تشكيل الدولة الضعيفة وفق نموذج السوق، وتقليص السيادة باسم 'الإصلاح'، وشرعنة القمع باسم 'الاستقرار'. والإبادة باسم 'القضاء على الإرهاب وإحلال السلام'. و'العدالة الانتقائية' التي تروّج لها كبرى منظمات التمويل الغربي، تعيد تعريف الضحية بما يلائم سردية الإغاثة لا التحرر. وتقصي الفاعلين السياسيين والمقاومين الحقيقيين وتستبدلهم بالتكنوقراط باسم الحياد والمهنية. وتفرض شروطا قانونية على التمويل تفرّغ العدالة من مضمونها السياسي والاجتماعي. ختاما، ليست المعضلة في أن القانون الدولي مسيس، فهذا بات بديهيا، بل في أنه يخفي تسييسه خلف خطاب كوني زائف، يجعل من نقده ذاته وكأنه خروج عن 'الشرعية'، ومن مقاومته 'إرهابا'، ومن الضحية المتمردة 'عقبة أمام السلام'. أمام هذا الواقع، يصبح التحدي الحقيقي ليس فقط في فضح القانون الدولي كمؤسسة هيمنة، بل في إعادة ابتكار القانون ذاته كأداة تحرر. وهذا ما يتطلب منا اليوم الانتقال من موقع النقد الغاضب إلى موقع البناء الواعي، انطلاقا من تجارب الشعوب التي قاومت، لا من قاعات المؤتمرات الدولية. فمشروع 'قانون من الجنوب' لا يعني القطيعة مع القانون الدولي فحسب، بل يعني تجاوزه برؤية تاريخية وجذرية تعيد الاعتبار إلى مقاومة الشعوب كمنبع للشرعية، وتحرر المفاهيم من احتكار المركز. فما نحتاجه، إذن، ليس فقط مساءلة الشرعية القانونية التي تضفي المشروعية على الاستثناء، بل الشروع في كتابة مانيفستو قانوني من الجنوب، يستمد مشروعيته من رواسب التجربة الاستعمارية، ويعيد تعريف الحق خارج منطق الهيمنة. مانيفستو يتجاوز طلب الاعتراف، ويعيد صوغ العلاقة بين الضحية والقانون بوصفها علاقة تأسيس، لا استجداء. ذلك وحده كفيل بتحويل القانون من أداة تأبيد للهيمنة إلى إمكان للفعل التحرري. وحين نستعيد هذا الحق، نحرر القانون من المركز، ونحرر أنفسنا من موقع المتلقي الصامت. بهذا المعنى، فإن المقاومة الفلسطينية – كما الجزائرية من قبلها، وكمقاومات الجنوب العالمي عموما – ليست فقط نضالا ماديا على الأرض، بل هي أيضا مختبر قانوني وأخلاقي وسياسي، يطرح أسئلة جوهرية: من يملك الحق في صياغة القانون؟ ولصالح من تصاغ القاعدة القانونية؟ وهل يمكن أن تولد عدالة حقيقية من رحم نظام دولي متواطئ بطبيعته؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة لا تكمن في انتظار إصلاح القانون الدولي، بل في التحرر من هيبته الزائفة، وفك ارتباطنا الذهني والأخلاقي به، وبناء شرعية من نوع جديد، تتكئ على تاريخ الكفاح، وذاكرة الاستعمار، وتجارب المقاومة، وتحالفات الشعوب. هذا هو التحدي القانوني- التحرري القادم، الذي يطرح على المثقف القانوني الفلسطيني والعربي وفي الجنوب العالمي مسؤولية مزدوجة: تفكيك القانون القائم، وصياغة قانون بديل لا يعيد إنتاج القهر باسم الحق. 7/6/2025


ساحة التحرير
منذ يوم واحد
- ساحة التحرير
ستالين إلى مترو الأنفاق في موسكو!سعيد محمد
ستالين إلى مترو الأنفاق في موسكو! سعيد محمد* بعد تغييب دام ما يقرب من ستة عقود، عاد وجه القائد السوفياتي التاريخي جوزيف ستالين إلى الحياة اليوميّة في موسكو مع افتتاح السلطات هناك منحوتة بارزة ضخمة له في إحدى محطات مترو الأنفاق الرئيسيّة في العاصمة الروسيّة. ويظهر ستالين في المنحوتة مرتدياً زيه العسكري بينما يحدق في الأفق بحكمة فيما يتحلق حوله العمال والأطفال الذين يرفعون له الزهور تقديراً. والمنحوتة نسخة طبق الأصل لعمل سابق أزيل في العام 1966 ضمن الحملة المضادة للستالينية التي شنها مناهضون له وصلوا إلى قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي الحاكم حينها. ويقول سكان المدينة أن المنحوتة أصبحت نقطة جذب، حيث يترك كثيرون باقات من الورد، أو يتوقفون لالتقاط الصور التذكاريّة العائليّة، أو يتأملون تفاصيل العمل المشغول بعناية. وكان الزعيم السوفياتي (1878-1953) قد تولى قيادة الدّولة بعد فلاديمير لينين قائد الثورة البلشفية، وقاد عمليّة بناء روسيا كدولة عظمى، وقطب اشتراكي نقيض للغرب الرأسمالي، وكان له الفضل في انتصار العالم على النازية الألمانية بعد عدوانها الواسع على بلاده خلال الحرب العالمية الثانية. على أن تراث ستالين لم يخل من الجدل يوماً بسبب حملة الشيطنة المكثفة التي شنّها الغرب عليه طوال مائة عام وشارك فيها التيار الرجعي الذي تسرب إلى مواقع السلطة بعد رحيله – وانتهى في 1991 إلى تفكيك الاتحاد السوفياتي برمته وانهاء التجربة الاشتراكية -. إذ ألصقت به تهم بالمسؤولية عن مجاعات، وتطهير واسع في كوادر الدولة والحزب، ونفي المعارضين إلى معتقلات في سيبيريا، وعمليات ترحيل جماعيّ لأقليات. ومع ذلك، فإن كثيرون ما زالوا يحنون إلى أيام الدولة السوفياتية وبخاصة بين الأجيال الأكبر سناً التي عاشت صدمة الرّدة المؤلمة إلى الرأسمالية خلال تسعينيات القرن الماضي. في عهد روسيا الرأسمالية، استمر العداء لشخص ستالين، لا سيّما في أيّام بوريس يلتسن، على أنّ الكرملين في ربع قرن من حكم الرئيس الحالي فلاديمير بوتين حاول انتهاج خط ثالث، ينتقد جوانب من التجربة الستالينية، لكنّه لا يدينها بالمطلق، قبل أن تأخذ الأمور منحنى مختلفاً إثر تصاعد الصراع مع الغرب وسلسلة الثورات الملونة التي نظمتها المخابرات الامريكية في غير ما جمهورية سوفياتية واشتراكية سابقة بغرض إيصال موالين لواشنطن إلى السلطة فيها، ومن ثم ضمها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) فيما يشبه حلقة ضاغطة تحيط بخناق روسيا. إذ تغيّر تدريجياً الخطاب الرسمي بشأن ستالين، وشرع الرئيس بوتين يتحدث عن 'الشيطنة المفرطة لستالين التي كانت إحدى طرق الغرب لمهاجمة الاتحاد السوفيتي وروسيا'، فيما بدا أنه إيذان بتحرك شامل لكن هادئ لإعادة تأهيل الزعيم الراحل، رغم تذمر الليبراليين الروس، وجأرهم بالشكوى. ولاحظ متابعو الفنون في روسيا استعادة ملفتة لأكثر من 108 نصب تذكاري لستالين في جميع أنحاء البلاد بوتيرة تسارعت منذ انطلاق العملية العسكريّة في أوكرانيا (فبراير 2022)، وما رافقها من إعادة صياغة للسردية الرسمية لتاريخ روسيا باعتباره سلسلة من الانتصارات المجيدة على الغرب، والتي يصمم الشعب الروسي على استكمالها في أوكرانيا. وأعادت السلطات في شهر أبريل الماضي تسمية مطار فولغوغراد بمطار ستالينجراد، كما كانت تسمى المدينة من عام 1925 إلى عام 1961، تكريماً للزعيم ستالين، قائد المعركة الهائلة التي خاضها الجيش الأحمر دفاعاً عن المدينة من العدوان النازي عليها خلال الحرب العالمية الثانية. – لندن 2025-06-07


شفق نيوز
منذ 3 أيام
- شفق نيوز
"غزة لم تعد جحيماً فقط، بل أصبحت أسوأ"
قالت رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر لهيئة لبي بي سي إن غزة أصبحت أسوأ من الجحيم على الأرض. وفي مقابلة أجرتها بي بي سي في مقر اللجنة بجنيف، قالت رئيسة المنظمة ميرْيانا سبولياريتش إن "الإنسانية أخفقت" بينما يشاهد العالم أهوال الحرب في القطاع. وفي غرفة قريبة من واجهة عرضت عليها ثلاث جوائز نوبل للسلام حصلت عليها اللجنة، سألنا سبولياريتش عن تصريحاتها في شهر أبريل/نيسان حين وصفت غزة بأنها "جحيم على الأرض"، وما إذا كان هناك شيء قد تغيّر منذ ذلك الحين، فأجابت: "لقد أصبح الأمر أسوأ، لا يمكننا الاستمرار في مشاهدة ما يحدث، إنه يتجاوز أي معيار قانوني أو أخلاقي أو إنساني مقبول"، وأضافت: "مستوى الدمار، مستوى المعاناة، والأهم من ذلك، حقيقة أننا نشهد شعباً يُجرد بالكامل من كرامته الإنسانية، يجب أن يصدم ذلك ضميرنا الجماعي". وأكدت على ضرورة أن تبذل الدول المزيد لإنهاء الحرب، ووقف معاناة الفلسطينيين، وضمان إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين. كلماتها، التي بدا واضحاً أنها اختارتها بعناية شديدة، تحمل ثقلاً أخلاقياً كبيراً كونها صادرة عن رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر. إذ أن الصليب الأحمر الدولي، منظمة إنسانية عالمية تعمل منذ أكثر من 150 عاماً على تخفيف المعاناة خلال الحروب، كما أنها الجهة الراعية لاتفاقيات جنيف، وهي مجموعة من القوانين الإنسانية الدولية التي تهدف إلى حماية المدنيين وغير المقاتلين. وأحدث نسخة من تلك الاتفاقيات، هي اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تم تبنيها بعد الحرب العالمية الثانية بهدف منع تكرار المجازر بحق المدنيين. وفي حين تبرر إسرائيل ما تقوم به في غزة على أنها دفاع عن النفس، تقول سبولياريتش إن ""لكل دولة حق في الدفاع عن نفسها، ولكل أم الحق في أن ترى أطفالها يعودون إليها، ولا يوجد أي مبرر لأخذ رهائن، ولا يوجد أي مبرر لحرمان الأطفال من الغذاء أو الرعاية الصحية أو الأمان"، مشيرة إلى أن "هناك قواعد تحكم الأعمال القتالية، وعلى كل طرف في أي نزاع احترامها". وعند سؤالها عمّا إذ كان ذلك يعني أن هجوم عناصر من حماس وفصائل أخرى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، الذي أدى إلى مقتل نحو 1200 شخص واحتجاز حوالى 250 رهينة بحسب السلطات الإسرائيلية، لا يبرر تدمير إسرائيل لقطاع غزة وقتل أكثر من 50,000 فلسطيني؟، فأجابت: "لا يوجد أي مبرر لانتهاك أو تفريغ اتفاقيات جنيف من مضمونها، ولا يُسمح لأي طرف بخرق القواعد مهما كانت الظروف، وهذا أمر مهم، لأن القواعد نفسها تنطبق على كل إنسان بحسب اتفاقيات جنيف، الطفل في غزة يتمتع بالحماية ذاتها التي يتمتع بها الطفل في إسرائيل". وأضافت سبولياريتش: "أنت لا تعرف أبداً متى قد يكون طفلك هو الطرف الأضعف، وسيحتاج لهذه الحماية". وتُعتبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر مصدراً موثوقاً للمعلومات بشأن ما يحدث في غزة، خصوصاً مع منع إسرائيل لوسائل الإعلام الدولية، بما فيها بي بي سي، من إرسال صحفيين إلى القطاع. وتشكل تقارير أكثر من 300 موظف يعملون لدى الصليب الأحمر في غزة، 90 في المئة منهم فلسطينيون، جزءاً مهماً من سجل الحرب. وتتحدث سبولياريتش يومياً مع قائد فريق اللجنة في غزة، كما يُعد المستشفى الجراحي التابع للجنة في رفح أقرب منشأة طبية إلى المنطقة التي شهدت مقتل العديد من الفلسطينيين أثناء عملية توزيع المساعدات من قبل مؤسسة غزة الإنسانية المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل. وعلى غرار الأمم المتحدة، لا تشارك اللجنة الدولية في العملية الجديدة لتوزيع المساعدات، إذ تقول إن أبرز عيوب هذه العملية هو اجبار عشرات الآلاف من المدنيين الجائعين على المرور داخل منطقة حرب نشطة. وقالت سبولياريتش إنه "لا يوجد أي مبرر لتغيير وكسر شيء يعمل، واستبداله بشيء لا يبدو أنه يعمل". وفي الأيام الأخيرة، تعرض الفريق الجراحي في مستشفى الصليب الأحمر في رفح لحالة من الإنهاك الشديد مرتين على الأقل نتيجة تدفق المصابين أثناء توزيع الغذاء. وأكدت سبولياريتش أنه "لا يوجد مكان آمن في غزة، لا للمدنيين، ولا للرهائن. هذه حقيقة، حتى مستشفانا ليس آمناً، لا أتذكر حالة مشابهة رأينا فيها أنفسنا نعمل في وسط العمليات العسكرية". وقبل بضعة أيام، أُصيب طفل صغير برصاصة اخترقت نسيج خيمة المشفى أثناء علاجه. وتابعت سبولياريتش أنه "لا يوجد لدينا أمن حتى لموظفينا، إنهم يعملون 20 ساعة في اليوم، يرهقون أنفسهم، ولكن الوضع يفوق قدرة البشر". وقالت اللجنة إن فرقها الجراحية في رفح استقبلت خلال ساعات قليلة فقط صباح الثلاثاء 184 مصاباً، من بينهم 19 توفوا لحظة وصولهم، و8 آخرون توفوا متأثرين بجراحهم لاحقاً. وكان ذلك أعلى عدد من الإصابات في حادثة واحدة منذ إنشاء المستشفى الميداني قبل أكثر من عام. ووقع الحادث عند الفجر، إذ قال شهود فلسطينيون وأطباء من اللجنة إن مشاهد القتل كانت مروعة حين فتحت القوات الإسرائيلية النار على فلسطينيين اقتربوا من موقع توزيع المساعدات الجديد جنوب غزة، بينما وصف شاهد أجنبي المشهد بـ"المجزرة الكاملة". في المقابل، قدمت إسرائيل رواية مختلفة تماماً. ففي بيان رسمي، قالت إن "مشتبه بهم" اقتربوا من القوات الإسرائيلية "من خارج المسارات المحددة"، مضيفة أن قواتها "أطلقت نيران تحذيرية، وتم توجيه طلقات إضافية بالقرب من بعض المشتبه بهم الذين واصلوا التقدم نحو القوات". وقال متحدث عسكري إن السلطات الإسرائيلية تحقق في ما جرى، ونفى إطلاق النار على فلسطينيين في حادثة مماثلة يوم الأحد. وقالت سبولياريتش إن اللجنة تشعر بقلق عميق تجاه الخطاب الداعي إلى النصر بأي ثمن، والحرب الشاملة، وتجريد البشر من إنسانيتهم. وأضافت: "نحن نشهد أموراً ستجعل العالم مكاناً أكثر بؤساً، ليس فقط في هذه المنطقة، بل في كل مكان، لأننا نُفرغ القواعد التي تحمي الحقوق الأساسية لكل إنسان من معناها". وحذرت سبولياريتش من مستقبل مظلم للمنطقة في حال عدم التوصل إلى وقف لإطلاق النار، مؤكدة أن "هذا أمر مصيري للحفاظ على طريق نحو السلام في المنطقة، إذا دمرنا هذا الطريق إلى الأبد، فلن تجد المنطقة أبداً الأمن والاستقرار. ولكن يمكننا إيقاف ذلك الآن، لم يفت الأوان بعد". ودعت سبولياريتش قادة الدول للتحرك، قائلة: "على قادة الدول الالتزام بالتحرك. أنا أناشدهم أن يفعلوا شيئاً، أن يفعلوا المزيد، وأن يستخدموا كل ما في وسعهم، لأن ما يحدث سيرتد إليهم وسيطاردهم وسيصل إلى أبوابهم". وتُعد اللجنة الدولية للصليب الأحمر الجهة الراعية لاتفاقيات جنيف، خاصة الاتفاقية الرابعة التي أُقرت بعد الحرب العالمية الثانية لحماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة. وأكدت سبولياريتش أن هجمات عناصر من حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لا تبرر ما يجري حالياً، إذ "لا يُسمح لأي طرف بخرق القواعد، مهما كان". وأطلقت إسرائيل حملتها العسكرية في غزة رداً على هجوم عناصر من حماس، أسفر عن مقتل حوالي 1,200 شخص واحتجاز 251 آخرين كرهائن بحسب السلطات الإسرائيلية. ومنذ ذلك الحين، قُتل ما لا يقل عن 54,607 أشخاص في غزة، منهم 4,335 منذ استئناف إسرائيل لهجومها في 18 مارس/آذار، بحسب وزارة الصحة في القطاع. وفي ختام المقابلة، دعت سبولياريتش إلى وقف فوري للعدوان، وقالت: "لا يمكننا الاستمرار في مشاهدة ما يحدث، إنه تحدٍ الإنسانية، وسيطاردنا جميعاً". وأضافت أن "على كل دولة الالتزام باستخدام الوسائل السلمية المتاحة لديها للمساعدة لتغيير ما يحدث اليوم في غزة".