
كيف تخسر أميركا حرب المسيرات
وفي الماضي، مثلت المسيرات أدوات مكلفة تدار من بعد مخصصة للضربات الموجهة والرصد الاستراتيجي. وحاضراً، باتت المسيرات تشترى ببضع مئات من الدولارات، وتنفذ مروحة واسعة من المهمات، تمتد من استشكاف أرض المعركة، إلى توصيل وحدات الدم والأدوية إلى الجرحى في الخطوط الأمامية.
وفي العالم بأسره، تختبر الجيوش أجيالاً جديدة من المسيرات تعمل في كل مناحي القتال. ومثلاً، استخدمت إسرائيل وأوكرانيا طائرات مسيرة تدار بمنظور الشخص الأول لتنفيذ هجمات داخل أراضي العدو، وتطلق روسيا موجات من طائرات انقضاضية وصواريخ وقنابل موجهة في استهدافها منشآت الطاقة والصناعة الأوكرانية. وفي الخطوط الأمامية بأوكرانيا، تستعمل موسكو وكييف كلاهما مسيرات صغيرة وذخائر غير موجهة، في تدمير الفرق المقاتلة والدبابات ومعدات الدعم. وكذلك يستمر الطرفان في الاعتماد على مركبات جوية مؤتمتة في إعادة التزود بالإمدادات، وفرز الإصابات والتعرف إلى العدو المقترب. ولم تعد تلك المسيرات تدار من بعد، بل إنها باتت تنغرس في الخنادق أو ترسل إلى عمق مناطق العدو.
وإلى حد كبير، فوتت الولايات المتحدة فرصة مواكبة هذه الثورة في التكنولوجيا العسكرية. وعلى رغم وعد وزير الدفاع بيت هيغسيث بـ"إفلات العقال أمام الهيمنة الأميركية على المسيرات"، إلا أن ترسانة الولايات المتحدة من تلك المركبات تبقى تحت سيطرة أنظمة من أنواع أضخم وأغلى ثمناً، وصنعتها الولايات المتحدة خلال فترة ريادتها لتلك الصناعة في العقد الماضي. وكذلك هناك مجموعة من البرامج الجديدة ما زالت في المهد وقيد مرحلة صنع النماذج الأولية، على غرار برنامج "طائرة القتال المشترك" Collaborative Combat Aircraft في القوات الجوية، و"منظومة الاستطلاع والقصف من ارتفاع منخفض" Low Altitude Stalking and Strike Ordnance في الجيش. ويصعب وصف تلك المعدات بأنها رخيصة الثمن، إذ تقدر كلفة كل وحدة في برنامج "طائرة القتال المشترك" بما يتراوح بين 15 إلى 20 مليون دولار، فيما تتكلف المسيرة الأصغر في مشروع الجيش ما يتراوح بين 70 ألفاً و170 ألف دولار. وحتى إذا أنتج قطاع الدفاع عدداً أكبر من المسيرات مما يخطط له حاضراً، فمن غير الواضح مدى قدرة الشركات الأميركية على إنتاج نحو 200 ألف مسيرة شهرياً، على غرار ما تنهض به أوكرانيا حاضراً.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وللاستفادة من ثورة المسيرات، لا يكفي أن تركز الولايات المتحدة على بناء القدرات المتمثلة بزيادة التمويل والإنتاج وتسريع وتيرة الاستحواذ. وإضافة إلى ذلك، يتوجب على القادة العسكريين والمدنيين في الولايات المتحدة أن يطرحوا أسئلة أساسية عن أفكار كثيراً ما عملت على تشكيل الجيش الأميركي وحملاته العسكرية. ويتأتى تأخر الولايات المتحدة في تبني جيل المسيرات الجديد، من قناعات قوية ترسخت لديها عبر حروب العقود الستة الأخيرة. وتشمل تلك القناعات أن أميركا تستطيع، ويتوجب عليها، أن تتمرس بالتكنولوجيا المدارة من بعد كي تحقق نصراً سريعاً في صراعات تخاض من مسافات بعيدة. ولقد اعتقدت الولايات المتحدة أنها تستطيع الركون إلى تكنولوجيا مكلفة في المسيرات كي تحافظ على أرواح طياريها، وتوصل معلومات استخبارية في الوقت الحي المباشر إلى صناع القرار، وتعزز الاستهداف الموجه بدقة.
والآن، وقع قادة الولايات المتحدة تحت ضغط ضرورة تبني طريقة جديدة في الحرب، باتت ملامحها قيد التشكل في صراعات أوروبية وشرق أوسطية. وأدى استعمال دول أخرى المسيرات إلى تغيير ديناميكيات القتال على الأرض. مما يعني أن نوع الحملات منخفضة الخسائر التي بنيت من أجلها قوة المسيرات الأميركية قد يصبح أقل شيوعاً، ولكن قبل التسرع في الاستثمار في موجة جديدة من التكنولوجيات، يحتاج مخططو الدفاع الأميركيون إلى مراجعة معتقدات وافتراضات أساسية قادت نهج امتلاكهم لوسائل القتال خلال 50 عاماً خلت. وبالتالي، يتوجب عليهم إعادة النظر في مدى تقبل الجمهور الأميركي للخسائر، وإعادة تقييم العمليات الراسخة في عقود المشتريات، والدخول في صراع مع ميل أجهزة رسيمة عدة إلى الضغط لمصلحة أنظمة أضخم وأغلى ثمناً. وقبل كل شيء، يحتاج قادة الولايات المتحدة إلى صوغ نظرية جديدة عن النصر تضع في الحسبان كيفية عمل المسيرات على مساعدة الولايات المتحدة في تحقيق نجاح استراتيجي.
الدعم التقني
سعت القوات المسلحة الأميركية الحديثة منذ زمن طويل إلى تطوير التكنولوجيا، لجعل الحروب أكثر دقة وكفاءة وأقل خطورة بالنسبة إلى القادة الأميركيين والقوات التي يدفعون بها إلى ساحات القتال. ففي عام 1965، طلب الرئيس الأميركي ليندون جونسون من وزير دفاعه روبرت مكنامارا، البحث عن حلول تكنولوجية للمهمات الاستطلاعية الخطرة في حرب فيتنام، التي أخذت آنذاك تفقد تأييدها الشعبي، قائلاً "أتعتقد يا بوب [روبرت] أن هناك طريقة، من خلال طائراتك الصغيرة أو المروحيات، يمكنك بها رصد هؤلاء الأشخاص ثم إرسال إشارة لا سلكية ليأتي الطيران ويقصفهم بشدة؟".
ومع التقدم في الرقاقات الإلكترونية عام 1971، انطلقت موجة ابتكار المسيرات، وأدمجت أولى قدراتها مع القوات المقاتلة على الأرض. وأنجزت مسيرات "لايتنغ باغ" و"بافالو هنتر" ما يزيد على 4 آلاف طلعة جوية في فيتنام، ونهضت بأمر مهمات "مبهمة وخطرة وقذرة" لم تنجز قبل ذلك إلا بواسطة طياريين من البشر. وكذلك استعملت المسيرات طعوماً لاستدراج ردود مواقع الدفاع الجوي الأرضية، وصورت صواريخ أرض - جو في فيتنام الشمالية ومخيمات الاعتقال فيه، إضافة إلى تنفيذ عمليات الاستطلاع في ظروف جوية غير مواتية، وإلقاء مناشير دعائية.
لم تحدث المسيرات تغييراً أساسياً في آليات الحرب الفيتنامية، لكنها أسرت خيال الجيش الأميركي، لأنها برهنت على قدرة تكنولوجيا لا يقودها بشر في تخفيف الأخطار على الإنسان. وفي عام 1973، اكتسبت تلك الإمكانية أهمية أكبر مع إيقاف الجيش التعبئة الفعلية والتغييرات التي حدثت في القوات المعتمدة على المتطوعين بصورة كلية. وأدى إنهاء التجنيد الإجباري إلى امتناع الرؤساء في أعوام تالية، عن إرسال أعداد أكبر من القوات إلى الحرب. وفي المقابل، طلب أولئك الرؤساء من القوات المسلحة وضع استراتيجيات عسكرية جديدة تعتمد على القوات التي يظنون أنهم يقدرون على تجنيدها فعلياً. وعلى نحو مماثل، دفعت تبدلات في الجغرافيا السياسية إلى زيادة الاهتمام بتقنيات عسكرية جديدة قابلة للتطبيق على أرض المعركة. ومع بداية ثمانينيات القرن الـ20، واجهت الولايات المتحدة مشكلة التفوق العددي للجيش السوفياتي، وصار الجيش الأميركي بحاجة إلى إيجاد طرق للتفوق على العدد عبر النوعية.
اعتبر المخططون الاستراتيجيون الأميركيون بأن المسيرات تشكل البديل عن المهمات الجوية الخطرة بالنسبة إلى الطيارين البشر
وركز القادة الأميركيون على تمكين الجيش من القتال بقوات أصغر وأفضل تدريباً، تستخدم تقنيات التوجيه الدقيق الجديدة. وبالاستناد إلى تطورات جديدة في الرقاقات الإلكترونية أفضت إلى إعطائها القدرة على رؤية الأعداء واستهدافهم من بعد، ظهرت أطر عمل مثل عقيدة "معركة الأرض والجو" التي تمثل استراتيجية تبنتها القوات البرية والجوية كلاهما معاً. وتعتمد تلك الاستراتيجية على تسديد ضربات من مسافات بعيدة تتكامل مع عمليات أرضية تمتلك مرونة عالية في المناورة. وآنذاك، أعلن الرئيس رونالد ريغن زيادات لافتة على موازنة الدفاع الأميركية أتاحت ضخ التمويل إلى الأقمار الاصطناعية والرادارات و"الأسلحة الذكية" الجديدة المزودة بأنظمة توجيه متقدمة، وستضحي تلك التقنيات الأساس الذي ترتكز عليه الترسانة الأميركية في المسيرات.
وأضحى توق واشنطن إلى المسيرات أشد إلحاحاً بعد تفجير ثكنة المارينز في بيروت عام 1983، وإسقاط طياريين من القوات البحرية الأميركية في لبنان. واستثمرت البحرية الأميركية نحو 90 مليون دولار في نظام إسرائيلي برهن عن فاعليته، فاشترت 72 مركبة جوية غير مأهولة من نوع "بايونير". في تلك الآونة، أطلق وزير الدفاع الأميركي كاسبر واينبرغر عقيدة عسكرية جديدة فحواها الامتناع عن نشر قوات برية إلا بوصفه الخيار الأخير. ومال المخططون الاستراتيجيون إلى الإيمان بأن مسيرات من أنواع مثل "بايونير"، قد تشكل البديل عن مهمات الاستطلاع الجوية الخطرة بالنسبة إلى للبشر. وفي عام 1985، قدم كيلي بورك، المسؤول السابق عن البحوث والتطوير في القوات الجوية بين عامي 1979 و1982، شرحاً إلى صحيفة "واشنطن بوست" عن ذلك المنطق، ورد فيه "ربما يوجد شيء ما مثل طائرة رخيصة، لكن لا وجود لشيء رخيص اسمه طيار أميركي".
وتزامن إطلاق عقيدة واينبرغر مع بزوغ فجر عصر المعلوماتية، وكثيراً ما رغبت الولايات المتحدة في تجنب حرب استنزاف مديدة، وبدا أن التطورات السريعة في التقنية الرقمية تقدم أخيراً ما يمكن من تحقيق ذلك الهدف. وفي ثنايا "البنتاغون"، ثمة حفنة من الاستراتيجيين يعملون في "مكتب التقييم الاستراتيجي" [يعرف أحياناً بمكتب "التقييم الصافي" Office of Net Assessment]، وقد ركزوا آنذاك على الكيفية التي قد تغدو بها أنظمة جديدة كالمسيرات شديدة القدرة على إحداث ثورة في الاستراتيجية العسكرية عبر تقصي العدو واستهدافه من بعد، وبالتالي كسب الحروب بسرعة مع تقليص الأخطار للقوات الأميركية المقاتلة. وفي تقرير بالغ البصيرة كتب عام 1986، تصور مجموعة من استراتيجيي المكتب ساحة معركة تغمرها أجهزة استشعار استطلاعية طائرة و"ألغام جوية" متحركة، إذ تعتمد المدفعية والطائرات المأهولة على أجهزة استشعار غير مأهولة لاختيار الأهداف تلقائياً.
عوائد بلا أخطار
لكن هذين الهدفين، تقليل الأخطار البشرية وتعزيز فعالية المعركة، لم يتوافقا تماماً. فمنذ حرب الخليج عام 1991، اتسمت استراتيجية المسيرات الأميركية بالتجاذب المتوتر بين تجنب الأخطار والرغبة في تحقيق انتصارات سريعة وحاسمة مدعومة بالتكنولوجيا. خلال الحرب، حاولت الولايات المتحدة الموازنة بين تقليل الأخطار وتعظيم الفعالية من خلال اتباع استراتيجية هجينة: بدأت القوات الجوية الحرب بحملة "الصدمة والرعب" مدعومة بقنابل دقيقة وصواريخ بعيدة المدى، بينما شنت القوات البرية مناورة حاسمة دمرت الجيش العراقي، وأشار نجاح الحرب إلى أسلوب أميركي جديد في القتال، يتميز بالحملات السريعة والحاسمة وقليلة الخسائر.
وعقب انهيار الاتحاد السوفياتي، عمد الكونغرس وإدارة كلينتون إلى تقليص موازنة وزارة الدفاع، وجهدت أفرع من المؤسسات العسكرية في وضع سلم أولويات عما تفضله من برامج الأسلحة الموجودة بالفعل. وأدى ذلك توجيه الاستثمارات نحو المنصات الكبيرة المأهولة بشرياً، على غرار حاملات الطائرات والمقاتلات الجوية والدبابات، على حساب منصات الأسلحة التي لا يقودها البشر، والذخائر الحربية الصغيرة. كما اندمجت شركات الصناعات الدفاعية، مما ترك الشركات المتبقية بموازنات أصغر ورغبة أقل في تخصيص موارد للبحث والتطوير خارج متطلبات وزارة الدفاع المعلنة.
وعلى رغم هذه القيود، تمكنت إدارة كلينتون خلال التسعينيات من بناء ترسانة من الطائرات الشبح، وصواريخ كروز بعيدة المدى، وقنابل موجهة بنظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس" (GPS). كانت تلك سنوات الحرب الجوية ذات التدخلات العسكرية منخفضة الأخطار وعالية التقنية. ورأت وزارة الدفاع في عهد كلينتون إمكانات كبيرة في الطائرات المسيرة، حتى وإن لم تكن ضمن أولويات أي فرع من فروع القوات المسلحة. وفي بداية فترة توليه منصب نائب وزير الدفاع، أسس جون دويتش هيئة مشتركة تدعى "مكتب الاستطلاع الجوي الدفاعي" لتشجيع الجيش على تبني تكنولوجيا الطائرات المسيرة. وخلص المكتب في عام 1994 إلى أن الطائرات غير المأهولة "تمثل بديلاً قابلاً للتطبيق في ظل التحديات التي تواجهها القوات أثناء تقليص حجمها". وحلقت أولى طائرات "بريداتور" من دون طيار، التي اخترعتها شركة طاقة تدعى "جنرال أتوميكس" ولم يكن لها داعم واضح داخل القوات المسلحة، فوق يوغوسلافيا السابقة في صيف عام 1995.
وفي ذلك الصيف نفسه، أسقط طيار مقاتلة "أف 16" سكوت أوغرايدي فوق أراض صربية في البوسنة. وشكل ذلك إحراجاً للجيش الأميركي، وأسهم في دفع قائد أركان القوات الجوية رونالد فوغلمان، إلى التوسع في وضع مسيرات "بريدايتور" قيد الخدمة الفعلية. وأسس فوغلمان وحدة أولى للمسيرات في يوليو (تموز) عام 1995، وساند الكونغرس جهود فوغلمان. ووفق شرح من جون ورنر، رئيس لجنة مجلس الشيوخ المعنية بالقوات العسكرية، "في رأيي، لن تسمح هذه البلاد على الإطلاق للقوات المسلحة بأن تنخرط في صراعات تتضمن وقوع مستوى من الخسائر البشرية يتساوى مع شهدناه عبر التاريخ"، وخلص إلى أن ذلك يعني تحركاً حتمياً باتجاه التقنيات غير المأهولة.
هدف ضيق
عقب هجمات الـ11 من سبتمبر 2001، أضحت مسيرات "بريدايتور" و"ريبر" ملمحاً مهيمناً على الاستراتيجية العسكرية الأميركية. وخلال عقدين من الزمن، اشترت الولايات المتحدة 500 مسيرة "بريدايتور" و"ريبر" (بكلفة بلغت عشرات المليارات من الدولارات)، واستخدمتها في تنفيذ آلاف من الضربات بالمسيرات في أفغانستان والعراق وليبيا وباكستان وسوريا واليمن ودول أخرى. واستطاع قادة يجلسون في مراكز العمليات تتبع الأهداف المطلوبة، على مدار الساعة وبالزمن الحي المباشر.
لكن استخدام الطائرات المسيرة ظل مثيراً للجدل، فهذه الأنظمة لم تكن رخيصة، ولا كانت مرنة أو مقاومة بما يكفي. ولم يكن الجنود على الأرض راضين تماماً عنها، إذ كانت الطائرات تعاني اضطرابات في الطقس السيئ وتأخيراً في نقل البيانات، وكانت تشغل بالكامل تقريباً من القوات الجوية، واشتكى الجنود من أن الطيارين المسؤولين عن المسيرات لم يتلقوا تدريباً كافياً لدعم العمليات الأرضية، كما شكك كثيرون في الاعتماد الواسع على المسيرات كبديل للمقاتلين البشر. ففي أفغانستان والعراق، كانت الولايات المتحدة تخوض حرباً لكسب "قلوب وعقول" السكان المحليين، لكن هذا الهدف بدا أحياناً متناقضاً مع قصفهم من مسافة آمنة وغير شخصية.
وتفردت القوات الجوية بكونها الفرع الوحيد في الجيش الذي استثمر فعلياً في المسيرات خلال "الحرب على الإرهاب" التي تمددت في أرجاء العالم، وعلى رغم إمكان أن تهدد المسيرات الدور التاريخي للطيارين في الخدمة العسكرية، إلا أن رغبة القوات الجوية في السيطرة على المهمات الجوية أوصلها إلى أن تقود التوجه إلى تبني تكنولوجيا المسيرات. وبدلاً من الاستمرار في الارتباط مع الوحدات المقاتلة على الأرض، أدارت طواقم من القوات الجوية مسيرات "بريدايتور" و"ريبر"، بالاستناد إلى نموذج وحدات الطائرات المقاتلة. وفي معظم الأحيان، أدار طيارون سابقون المسيرات مستخدمين أساليب توزيع المهمات تتشابه مع تلك التي ألفوها في الطائرات التي يقودها بشر. وبالتالي، ليس من مفاجأة أن يجيء استخدام الولايات المتحدة للمسيرات كنسخة شبه تامة عن المهمات الأساسية للقوات الجوية على غرار القصف الاستراتيجي والمهمات الاستطلاعية. وتغاضى الجيش عن احتكار القوات الجوية لهذه التكنولوجيا، مستثمراً بصورة محدودة في أنظمة أصغر، بينما أبدت البحرية اهتماماً ضئيلاً بثورة الدرون، إذ ظلت تركز على المنصات الكبيرة مثل حاملات الطائرات التي تعد جزءاً من هويتها.
وبالنتيجة، أدى التركيز الضيق المنحصر في استعمال تكنولوجيا متقدمة للحد من الأضرار بين الجنود، إلى تحفيز المؤسسة العسكرية على شراء نوع محدد من المسيرات يتمثل في تلك التي تدار من بعد وتستطيع تتبع الأهداف لفترات طويلة، ويتاح استعمالها في أجواء خطرة. وقد استند ذلك التركيز الضيق في المشتريات إلى عشرات السنين من القرارات في شأن الكيفية التي أرادت بها الولايات المتحدة القتال بعد حرب فيتنام، وفي شأن الدروس التي يتوجب استنباطها من "حرب الخليج"، وفي شأن الاستثمارات الدفاعية إبان فترة الهيمنة الأميركية الأحادية. وكذلك أوصل عقدين من الحروب في أفغانستان والعراق، إلى ترسيخ تلك الخيارات.
لكن الحرب في أوكرانيا تحدت هذا النهج العسكري، ونتيجة لذلك تسارع الولايات المتحدة الآن إلى الاستثمار في مجموعة أوسع من الطائرات المسيرة، وتمنح عقوداً لشركات دفاع جديدة، وتجري محاكاة حربية لمهمات جديدة للطائرات. ووجه وزير الدفاع بيت هيغسيث أخيراً الوحدات العسكرية لشراء واختبار مسيرات متوفرة تجارياً، ولكن تلك القرارات جاءت مرتجلة وكرد فعل على طريقة استعمال المسيرات في معارك تخاض في بلدان أخرى، بدلاً من أن تنبع من خطة استراتيجية واضحة تحدد أدوارها في الحروب الأميركية المستقبلية.
العودة للأساسيات
إذا أرادت الولايات المتحدة الفوز في حروب الاستنزاف كتلك التي تخوضها أوكرانيا وتحدث المسيرات فيها تأثيراً كبيراً، فستحتاج إلى مزيد من الطائرات منخفضة الكلفة المرتبطة بوحدات القتال، التي يمكنها التكيف بسرعة مع جهود التصدي للمسيرات، لكن لا يمكنها ببساطة نسخ استراتيجيات الطائرات المسيرة الأوكرانية أو الإسرائيلية. وقبل التسرع في الشراء، يحتاج الاستراتيجيون الأميركيون إلى صياغة نظرية جديدة للنصر، ومراجعة المعتقدات والافتراضات التي شكلت قرارات اقتناء التكنولوجيا على مدى الأعوام الـ50 الماضية.
على مدى نصف قرن، بنت الولايات المتحدة جيشاً على أساس الاعتقاد بأن الشعب الأميركي لن يضحي بدمائه، لكنه مستعد لإنفاق ثروته. ومع تفاقم العجز المالي، وازدياد رغبة الناخبين الأميركيين في معاقبة الرؤساء بسبب تفاقم التضخم وهدر الإنفاق الحكومي، لم يعد بإمكان القادة الأميركيين الافتراض ببساطة أنهم يستطيعون إنفاق الأموال على تقنيات باهظة لتقليل الأخطار السياسية. وفي الوقت نفسه، فإن الاعتقاد الذي ساد في الثمانينيات والتسعينيات - بأن التكنولوجيا غير المأهولة ستؤدي إلى حروب أسرع تخاض من مسافات بعيدة - بات موضع شك. فاستخدام الطائرات المسيرة في الساحات الأوروبية والشرق أوسطية يسهل نشوب صراعات أقرب مدى: ألغام، وحروب خنادق، واستهداف للمدنيين، وهذه كلها لم تكن في صلب الاستراتيجية الأميركية منذ حرب فيتنام.
يجب على إدارة ترمب أن تدرس بعناية ما إذا كان ينبغي للجيش الأميركي تبني تكنولوجيا الطائرات المسيرة التي تتيح هذا النوع من الحروب، وذلك في سياق مراجعة أوسع للاستراتيجية العسكرية الأميركية. وفقط حينها يمكن مواءمة موازنة الدفاع الأميركية (واستثمارات طائرات الدرون) مع أولويات استراتيجية واضحة. في السابق، نجح وزراء الدفاع في تجاوز الصراعات بين فروع الجيش في شأن الموازنات من خلال نقل البرامج من الخدمات الفردية أو توليها مباشرة، أو إقالة رؤساء الأركان، أو الضغط على الكونغرس لتمويل برامج محددة.
لا يقتصر واجب الكونغرس على تسريع عملية اقتناء المعدات العسكرية وجعلها أكثر كفاءة فحسب، بل يجب عليه أيضاً تمكين الابتكار من القاعدة إلى القمة، من خلال السماح لقادة الوحدات القتالية الصغيرة بشراء وإدارة برامجهم الخاصة للطائرات المسيرة. وسيتطلب ذلك إصلاحاً تشريعياً كبيراً على غرار قانون "غولدووتر-نيكولز" لعام 1986، الذي أحدث تغييرات جذرية في وزارة الدفاع. وقد يتطلب تحديث الاستراتيجية الدفاعية الأميركية أيضاً قيادة قوية داخل القوات المسلحة، بما في ذلك تعيين قادة يتمتعون بفترات خدمة أطول من المعتاد حالياً.
لقد انخدع الجيش الأميركي بنجاحاته التشغيلية والتكتيكية، لكنه فشل في الحفاظ على التفوق الاستراتيجي اللازم للنجاح في صراعات القرن الـ21. ومن دون إعادة تقييم لطريقة الحرب الأميركية، لن تتمكن أية كمية من الطائرات من دون طيار من حماية الولايات المتحدة من حروب لا ترغب في خوضها.
جاكلين شنايدر هي زميلة في كرسي هارغروف هوفر في "معهد هوفر"، ومديرة "مبادرة المحاكاة العسكرية وإدارة الأزمات" التابعة للمؤسسة، وزميلة مشاركة في "مركز الأمن والتعاون الدولي" بجامعة ستانفورد.
جوليا ماكدونالد هي مديرة البحوث والتواصل في مؤسسة "آسيا-نيوزيلندا"، وزميلة بارزة في "مركز الدراسات الاستراتيجية" بجامعة فيكتوريا في ويلينغتون.
مترجم عن "فورين أفيرز"، 31 يوليو 2025
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوئام
منذ 17 ساعات
- الوئام
بحجم مشبك ورق.. خطة لإرسال مركبة فضائية إلى ثقب أسود
في اقتراح يبدو أقرب إلى الخيال العلمي، كشف عالم فيزياء فلكية عن خطة طموحة لإرسال مركبة فضائية لا يزيد حجمها عن مشبك ورق لاستكشاف أقرب ثقب أسود من الأرض. ووفقًا للدراسة المنشورة في مجلة 'iScience'، يمكن لهذه المركبة النانوية، المدفوعة بأشعة ليزر قوية من الأرض، أن تصل إلى وجهتها خلال القرن المقبل، مما قد يغير فهمنا لقوانين الفيزياء. مهمة طموحة لتحدي قوانين الفيزياء قدم كوزيمو بامبي، عالم الفيزياء الفلكية بجامعة فودان في شنغهاي، هذا المخطط الجريء كوسيلة لاختبار نظريات آينشتاين في بيئة الجاذبية القصوى للثقوب السوداء. وقال بامبي: 'قد يبدو الأمر جنونيًا، لكن الناس قالوا سابقًا إننا لن نتمكن أبدًا من رصد موجات الجاذبية أو تصوير ظلال الثقوب السوداء، وقد فعلنا ذلك'. تحديات عملاقة أمام الحلم الفضائي تعتمد الخطة على تقنيات غير موجودة حاليًا وتواجه تحديين رئيسيين: – العثور على الهدف: أقرب ثقب أسود معروف حاليًا يبعد 1500 سنة ضوئية، وهي مسافة بعيدة جدًا. تنجح المهمة فقط إذا تم اكتشاف ثقب أسود 'قريب' في نطاق 25 سنة ضوئية، وهو أمر يأمل بامبي أن يتحقق خلال العقد المقبل بفضل تقنيات الرصد الجديدة. – الوصول إلى الهدف: يقترح بامبي استخدام مركبة نانوية بوزن غرام واحد مزودة بشراع ضوئي مساحته 10 أمتار مربعة. سيتم دفع هذه المركبة بواسطة أشعة ليزر قوية من الأرض لتصل سرعتها إلى ثلث سرعة الضوء، مما يسمح لها بقطع المسافة في حوالي 70 عامًا. تكلفة باهظة ومستقبل واعد يعترف بامبي بأن تكلفة طاقة الليزر وحدها قد تتجاوز اليوم تريليون دولار، وأن التقنيات اللازمة غير متوفرة بعد. ولكنه يصر على أن التخطيط للمستقبل أمر ضروري، مضيفًا: 'لا نملك التكنولوجيا الآن، لكن قد نمتلكها في غضون 20 أو 30 عامًا'.

سعورس
منذ 2 أيام
- سعورس
المملكة تقدم أعلى العروض الوظيفية لمواهب الذكاء الاصطناعي
تأتي الدراسة نتيجة جهد تعاوني بين المنتدى المالي الدولي (IFF) ومجموعة المعرفة العميقة (DKG). المنتدى الدولي للتنمية هو منظمة غير حكومية وغير ربحية تأسست في أكتوبر 2003 من قبل دول مجموعة العشرين والمنظمات الدولية بما في ذلك الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. أما مجموعة المعرفة العميقة فهي مركز أبحاث عالمي رائد متخصص في أبحاث الذكاء الاصطناعي والابتكار، مع التركيز على تعزيز التقدم في التكنولوجيا والرعاية الصحية والقطاعات الاستراتيجية الأخرى. في إنجاز غير مسبوق، دخلت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (KAUST) ضمن أفضل 150 جامعة على مستوى العالم في إعداد وتخريج مواهب الذكاء الاصطناعي، لتصبح بذلك الجامعة الأعلى تصنيفاً في الشرق الأوسط، يعكس هذا النجاح الجهود الحثيثة للمملكة بهدف ترسخ مكانتها الريادية في مجال الذكاء الاصطناعي. واستثمرت المملكة 20 مليار دولار في شراكات مع جامعات مرموقة مثل: جامعة ستانفورد لتأسيس جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، التي تضم أحد أبرز مختبرات بحوث الذكاء الاصطناعي في العالم، بالإضافة إلى ذلك، تهدف برامج مثل "10,000 مبرمج" إلى تدريب الشباب السعودي، مزودةً إياهم بأحدث المهارات في مجال الذكاء الاصطناعي. وقال تشو جيان، خبير البيانات في المنتدى المالي الدولي (IFF): "يعد هذا التقرير الثالث في سلسلة تقارير مؤشر القدرة التنافسية العالمي لمنظمة الذكاء الاصطناعي، التي ينشرها المنتدى المالي الدولي. ومنذ نوفمبر من العام الماضي، أصدرنا تقارير تناولت تطوير مؤسسات الذكاء الاصطناعي العالمية، وكذلك أبحاث وابتكارات الذكاء الاصطناعي. واستكمالاً للجزأين الأولين من التقرير، تبرز المواهب كمحرك رئيس لمنتجات الخوارزميات وبراءات اختراع البحث العلمي، وهي العامل الأساسي لتحقيق التوازن بين الفوائد التكنولوجية والمخاطر، وهدفنا هو بناء فهم شامل لتدفق مواهب الذكاء الاصطناعي عالمياً، وإجراء دراسات حالة للبلدان التي تتركز فيها هذه المواهب، مما يوفر مرجعاً قيماً لجميع المعنيين في الذكاء الاصطناعي. من خلال التقارير المستقبلية، نخطط لاستكشاف تطور أسواق الذكاء الاصطناعي العالمية وإشراف السياسات، ونتطلع إلى المزيد من التحليلات المتعمقة. وقال ديمتري كامينسكي، الشريك العام في مجموعة المعرفة العميقة: "فيما يتعلق برأس المال البشري، تعد مواهب الذكاء الاصطناعي الأصول الأكثر قيمة في جميع الاقتصادات المستقبلية التي ستعتمد بشكل حتمي على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي"، وأضاف: "إن التركيز الاستراتيجي للمملكة ولدولة الإمارات على الذكاء الاصطناعي، واستثماراتهما الضخمة في التعليم والبنية التحتية والابتكار، وقدرتهما على استقطاب أفضل المواهب والاستثمارات، كلها تمهد الطريق لمرحلة جديدة من النمو في المنطقة، إن كلا البلدين يحققان خطوات كبيرة ليصبحا رواداً عالميين في الذكاء الاصطناعي، حيث تضع الإمارات نفسها كلاعب رئيس في حوكمة الذكاء الاصطناعي وتطوير تقنياته، بينما تبني السعودية بيئة قوية تدعم مواهب الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته". وفي إطار رؤية المملكة 2030، تم تحديد الذكاء الاصطناعي كإحدى الركائز السبع للتحول الاقتصادي الوطني، تسعى المملكة لاستقطاب استثمارات بقيمة 20 مليار دولار وخلق 200,000 وظيفة عالية التقنية، بهدف أن تصبح واحدة من أفضل 10 دول في العالم في مجال أبحاث وتطبيقات الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030، وقامت المملكة بإنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (SDAIA) لقيادة الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي، تستفيد المشاريع الكبرى في مجال الذكاء الاصطناعي من عملية موافقة سريعة، حيث تُتخذ القرارات عادةً في غضون 30 يوماً. وتسهم الصناديق السيادية في دعم نمو الذكاء الاصطناعي، حيث أطلق صندوق الاستثمارات العامة السعودي (PIF) صندوقاً استثمارياً بقيمة 1.5 مليار دولار يصب في مجال الذكاء الاصطناعي، كما تواصل المملكة استثمارها في مشاريع استراتيجية مثل: " نيوم" (NEOM)، حيث تمثل البنية التحتية للذكاء الاصطناعي أكثر من 30 % من ميزانيتها البالغة 500 مليار دولار، مما يشكل معياراً جديداً لتطوير المدن الذكية. تقدم المملكة أعلى العروض الوظيفية للمواهب في الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، حيث يتقاضى العلماء البارزون راتباً سنوياً متوسطاً قدره 420,000 دولار، معفى من الضرائب، كما تقدم " نيوم" مكافآت عند التوقيع تصل إلى 5 ملايين دولار لقادة في مجال الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى تقديم إعانات كاملة لتعليم أطفالهم، قدمت المملكة برامج إقامة وقامت بتخفيف القيود الثقافية خاصة في مناطق مثل: " نيوم"، وذلك في إطار جهودها لاستقطاب أفضل العقول في مجال الذكاء الاصطناعي، مما مكن الخبراء الأجانب من العيش والعمل في ظل ظروف تمزج بين أسلوب حياتهم والنسيج الثقافي للمملكة. ستكون مدينة "ذا لاين" (The Line) في منطقة " نيوم" أول مدينة على صعيد العالم يتم التحكم فيها بواسطة الذكاء الاصطناعي، مع خدمات مثل النقل والطاقة التي تدار بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي. سيوفر جمع البيانات واسع النطاق والمراقبة البيومترية في المدينة فرصاً لا مثيل لها لتطوير الذكاء الاصطناعي في الحيات الواقعية. واختتم البروفيسور باتريك غلاونر، منسق لجنة الذكاء الاصطناعي في المنتدى المالي الدولي: "إن الدول التي تستثمر في مواهب الذكاء الاصطناعي اليوم لا تشكل مستقبلها الرقمي فحسب، بل تضمن أيضاً قدرتها التنافسية العالمية لعقود قادمة". إن جهود المملكة لسد الفجوة بين الشرق والغرب قد مكنتها من أن تصبح "منطقة محايدة" تسعى للابتكار في مجال الذكاء الاصطناعي، إن علاقات المملكة الاستراتيجية مع كل من الصين والولايات المتحدة تضعها في موقع فريد، مما يجعلها وجهة متميز لشركات التكنولوجيا والمواهب العالمية التي تبحث عن بيئة سياسية محايدة وآمنة.


Independent عربية
منذ 4 أيام
- Independent عربية
كيف تخسر أميركا حرب المسيرات
قبل 10 أعوام فقط، كانت الولايات المتحدة تمسك بزمام القيادة العالمية في ابتكار المسيرات، إذ حلقت مسيراتها من نوعي "بريدايتور" Predator و"ريبر" Reaper واستهدفت وقتلت إرهابيين في بلدان بعيدة. وفي تطور حديث برهنت عليه حملات دراماتيكية شنتها إسرائيل وروسيا وأوكرانيا، هناك ثورة جديدة في عالم المسيرات. وفي الماضي، مثلت المسيرات أدوات مكلفة تدار من بعد مخصصة للضربات الموجهة والرصد الاستراتيجي. وحاضراً، باتت المسيرات تشترى ببضع مئات من الدولارات، وتنفذ مروحة واسعة من المهمات، تمتد من استشكاف أرض المعركة، إلى توصيل وحدات الدم والأدوية إلى الجرحى في الخطوط الأمامية. وفي العالم بأسره، تختبر الجيوش أجيالاً جديدة من المسيرات تعمل في كل مناحي القتال. ومثلاً، استخدمت إسرائيل وأوكرانيا طائرات مسيرة تدار بمنظور الشخص الأول لتنفيذ هجمات داخل أراضي العدو، وتطلق روسيا موجات من طائرات انقضاضية وصواريخ وقنابل موجهة في استهدافها منشآت الطاقة والصناعة الأوكرانية. وفي الخطوط الأمامية بأوكرانيا، تستعمل موسكو وكييف كلاهما مسيرات صغيرة وذخائر غير موجهة، في تدمير الفرق المقاتلة والدبابات ومعدات الدعم. وكذلك يستمر الطرفان في الاعتماد على مركبات جوية مؤتمتة في إعادة التزود بالإمدادات، وفرز الإصابات والتعرف إلى العدو المقترب. ولم تعد تلك المسيرات تدار من بعد، بل إنها باتت تنغرس في الخنادق أو ترسل إلى عمق مناطق العدو. وإلى حد كبير، فوتت الولايات المتحدة فرصة مواكبة هذه الثورة في التكنولوجيا العسكرية. وعلى رغم وعد وزير الدفاع بيت هيغسيث بـ"إفلات العقال أمام الهيمنة الأميركية على المسيرات"، إلا أن ترسانة الولايات المتحدة من تلك المركبات تبقى تحت سيطرة أنظمة من أنواع أضخم وأغلى ثمناً، وصنعتها الولايات المتحدة خلال فترة ريادتها لتلك الصناعة في العقد الماضي. وكذلك هناك مجموعة من البرامج الجديدة ما زالت في المهد وقيد مرحلة صنع النماذج الأولية، على غرار برنامج "طائرة القتال المشترك" Collaborative Combat Aircraft في القوات الجوية، و"منظومة الاستطلاع والقصف من ارتفاع منخفض" Low Altitude Stalking and Strike Ordnance في الجيش. ويصعب وصف تلك المعدات بأنها رخيصة الثمن، إذ تقدر كلفة كل وحدة في برنامج "طائرة القتال المشترك" بما يتراوح بين 15 إلى 20 مليون دولار، فيما تتكلف المسيرة الأصغر في مشروع الجيش ما يتراوح بين 70 ألفاً و170 ألف دولار. وحتى إذا أنتج قطاع الدفاع عدداً أكبر من المسيرات مما يخطط له حاضراً، فمن غير الواضح مدى قدرة الشركات الأميركية على إنتاج نحو 200 ألف مسيرة شهرياً، على غرار ما تنهض به أوكرانيا حاضراً. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) وللاستفادة من ثورة المسيرات، لا يكفي أن تركز الولايات المتحدة على بناء القدرات المتمثلة بزيادة التمويل والإنتاج وتسريع وتيرة الاستحواذ. وإضافة إلى ذلك، يتوجب على القادة العسكريين والمدنيين في الولايات المتحدة أن يطرحوا أسئلة أساسية عن أفكار كثيراً ما عملت على تشكيل الجيش الأميركي وحملاته العسكرية. ويتأتى تأخر الولايات المتحدة في تبني جيل المسيرات الجديد، من قناعات قوية ترسخت لديها عبر حروب العقود الستة الأخيرة. وتشمل تلك القناعات أن أميركا تستطيع، ويتوجب عليها، أن تتمرس بالتكنولوجيا المدارة من بعد كي تحقق نصراً سريعاً في صراعات تخاض من مسافات بعيدة. ولقد اعتقدت الولايات المتحدة أنها تستطيع الركون إلى تكنولوجيا مكلفة في المسيرات كي تحافظ على أرواح طياريها، وتوصل معلومات استخبارية في الوقت الحي المباشر إلى صناع القرار، وتعزز الاستهداف الموجه بدقة. والآن، وقع قادة الولايات المتحدة تحت ضغط ضرورة تبني طريقة جديدة في الحرب، باتت ملامحها قيد التشكل في صراعات أوروبية وشرق أوسطية. وأدى استعمال دول أخرى المسيرات إلى تغيير ديناميكيات القتال على الأرض. مما يعني أن نوع الحملات منخفضة الخسائر التي بنيت من أجلها قوة المسيرات الأميركية قد يصبح أقل شيوعاً، ولكن قبل التسرع في الاستثمار في موجة جديدة من التكنولوجيات، يحتاج مخططو الدفاع الأميركيون إلى مراجعة معتقدات وافتراضات أساسية قادت نهج امتلاكهم لوسائل القتال خلال 50 عاماً خلت. وبالتالي، يتوجب عليهم إعادة النظر في مدى تقبل الجمهور الأميركي للخسائر، وإعادة تقييم العمليات الراسخة في عقود المشتريات، والدخول في صراع مع ميل أجهزة رسيمة عدة إلى الضغط لمصلحة أنظمة أضخم وأغلى ثمناً. وقبل كل شيء، يحتاج قادة الولايات المتحدة إلى صوغ نظرية جديدة عن النصر تضع في الحسبان كيفية عمل المسيرات على مساعدة الولايات المتحدة في تحقيق نجاح استراتيجي. الدعم التقني سعت القوات المسلحة الأميركية الحديثة منذ زمن طويل إلى تطوير التكنولوجيا، لجعل الحروب أكثر دقة وكفاءة وأقل خطورة بالنسبة إلى القادة الأميركيين والقوات التي يدفعون بها إلى ساحات القتال. ففي عام 1965، طلب الرئيس الأميركي ليندون جونسون من وزير دفاعه روبرت مكنامارا، البحث عن حلول تكنولوجية للمهمات الاستطلاعية الخطرة في حرب فيتنام، التي أخذت آنذاك تفقد تأييدها الشعبي، قائلاً "أتعتقد يا بوب [روبرت] أن هناك طريقة، من خلال طائراتك الصغيرة أو المروحيات، يمكنك بها رصد هؤلاء الأشخاص ثم إرسال إشارة لا سلكية ليأتي الطيران ويقصفهم بشدة؟". ومع التقدم في الرقاقات الإلكترونية عام 1971، انطلقت موجة ابتكار المسيرات، وأدمجت أولى قدراتها مع القوات المقاتلة على الأرض. وأنجزت مسيرات "لايتنغ باغ" و"بافالو هنتر" ما يزيد على 4 آلاف طلعة جوية في فيتنام، ونهضت بأمر مهمات "مبهمة وخطرة وقذرة" لم تنجز قبل ذلك إلا بواسطة طياريين من البشر. وكذلك استعملت المسيرات طعوماً لاستدراج ردود مواقع الدفاع الجوي الأرضية، وصورت صواريخ أرض - جو في فيتنام الشمالية ومخيمات الاعتقال فيه، إضافة إلى تنفيذ عمليات الاستطلاع في ظروف جوية غير مواتية، وإلقاء مناشير دعائية. لم تحدث المسيرات تغييراً أساسياً في آليات الحرب الفيتنامية، لكنها أسرت خيال الجيش الأميركي، لأنها برهنت على قدرة تكنولوجيا لا يقودها بشر في تخفيف الأخطار على الإنسان. وفي عام 1973، اكتسبت تلك الإمكانية أهمية أكبر مع إيقاف الجيش التعبئة الفعلية والتغييرات التي حدثت في القوات المعتمدة على المتطوعين بصورة كلية. وأدى إنهاء التجنيد الإجباري إلى امتناع الرؤساء في أعوام تالية، عن إرسال أعداد أكبر من القوات إلى الحرب. وفي المقابل، طلب أولئك الرؤساء من القوات المسلحة وضع استراتيجيات عسكرية جديدة تعتمد على القوات التي يظنون أنهم يقدرون على تجنيدها فعلياً. وعلى نحو مماثل، دفعت تبدلات في الجغرافيا السياسية إلى زيادة الاهتمام بتقنيات عسكرية جديدة قابلة للتطبيق على أرض المعركة. ومع بداية ثمانينيات القرن الـ20، واجهت الولايات المتحدة مشكلة التفوق العددي للجيش السوفياتي، وصار الجيش الأميركي بحاجة إلى إيجاد طرق للتفوق على العدد عبر النوعية. اعتبر المخططون الاستراتيجيون الأميركيون بأن المسيرات تشكل البديل عن المهمات الجوية الخطرة بالنسبة إلى الطيارين البشر وركز القادة الأميركيون على تمكين الجيش من القتال بقوات أصغر وأفضل تدريباً، تستخدم تقنيات التوجيه الدقيق الجديدة. وبالاستناد إلى تطورات جديدة في الرقاقات الإلكترونية أفضت إلى إعطائها القدرة على رؤية الأعداء واستهدافهم من بعد، ظهرت أطر عمل مثل عقيدة "معركة الأرض والجو" التي تمثل استراتيجية تبنتها القوات البرية والجوية كلاهما معاً. وتعتمد تلك الاستراتيجية على تسديد ضربات من مسافات بعيدة تتكامل مع عمليات أرضية تمتلك مرونة عالية في المناورة. وآنذاك، أعلن الرئيس رونالد ريغن زيادات لافتة على موازنة الدفاع الأميركية أتاحت ضخ التمويل إلى الأقمار الاصطناعية والرادارات و"الأسلحة الذكية" الجديدة المزودة بأنظمة توجيه متقدمة، وستضحي تلك التقنيات الأساس الذي ترتكز عليه الترسانة الأميركية في المسيرات. وأضحى توق واشنطن إلى المسيرات أشد إلحاحاً بعد تفجير ثكنة المارينز في بيروت عام 1983، وإسقاط طياريين من القوات البحرية الأميركية في لبنان. واستثمرت البحرية الأميركية نحو 90 مليون دولار في نظام إسرائيلي برهن عن فاعليته، فاشترت 72 مركبة جوية غير مأهولة من نوع "بايونير". في تلك الآونة، أطلق وزير الدفاع الأميركي كاسبر واينبرغر عقيدة عسكرية جديدة فحواها الامتناع عن نشر قوات برية إلا بوصفه الخيار الأخير. ومال المخططون الاستراتيجيون إلى الإيمان بأن مسيرات من أنواع مثل "بايونير"، قد تشكل البديل عن مهمات الاستطلاع الجوية الخطرة بالنسبة إلى للبشر. وفي عام 1985، قدم كيلي بورك، المسؤول السابق عن البحوث والتطوير في القوات الجوية بين عامي 1979 و1982، شرحاً إلى صحيفة "واشنطن بوست" عن ذلك المنطق، ورد فيه "ربما يوجد شيء ما مثل طائرة رخيصة، لكن لا وجود لشيء رخيص اسمه طيار أميركي". وتزامن إطلاق عقيدة واينبرغر مع بزوغ فجر عصر المعلوماتية، وكثيراً ما رغبت الولايات المتحدة في تجنب حرب استنزاف مديدة، وبدا أن التطورات السريعة في التقنية الرقمية تقدم أخيراً ما يمكن من تحقيق ذلك الهدف. وفي ثنايا "البنتاغون"، ثمة حفنة من الاستراتيجيين يعملون في "مكتب التقييم الاستراتيجي" [يعرف أحياناً بمكتب "التقييم الصافي" Office of Net Assessment]، وقد ركزوا آنذاك على الكيفية التي قد تغدو بها أنظمة جديدة كالمسيرات شديدة القدرة على إحداث ثورة في الاستراتيجية العسكرية عبر تقصي العدو واستهدافه من بعد، وبالتالي كسب الحروب بسرعة مع تقليص الأخطار للقوات الأميركية المقاتلة. وفي تقرير بالغ البصيرة كتب عام 1986، تصور مجموعة من استراتيجيي المكتب ساحة معركة تغمرها أجهزة استشعار استطلاعية طائرة و"ألغام جوية" متحركة، إذ تعتمد المدفعية والطائرات المأهولة على أجهزة استشعار غير مأهولة لاختيار الأهداف تلقائياً. عوائد بلا أخطار لكن هذين الهدفين، تقليل الأخطار البشرية وتعزيز فعالية المعركة، لم يتوافقا تماماً. فمنذ حرب الخليج عام 1991، اتسمت استراتيجية المسيرات الأميركية بالتجاذب المتوتر بين تجنب الأخطار والرغبة في تحقيق انتصارات سريعة وحاسمة مدعومة بالتكنولوجيا. خلال الحرب، حاولت الولايات المتحدة الموازنة بين تقليل الأخطار وتعظيم الفعالية من خلال اتباع استراتيجية هجينة: بدأت القوات الجوية الحرب بحملة "الصدمة والرعب" مدعومة بقنابل دقيقة وصواريخ بعيدة المدى، بينما شنت القوات البرية مناورة حاسمة دمرت الجيش العراقي، وأشار نجاح الحرب إلى أسلوب أميركي جديد في القتال، يتميز بالحملات السريعة والحاسمة وقليلة الخسائر. وعقب انهيار الاتحاد السوفياتي، عمد الكونغرس وإدارة كلينتون إلى تقليص موازنة وزارة الدفاع، وجهدت أفرع من المؤسسات العسكرية في وضع سلم أولويات عما تفضله من برامج الأسلحة الموجودة بالفعل. وأدى ذلك توجيه الاستثمارات نحو المنصات الكبيرة المأهولة بشرياً، على غرار حاملات الطائرات والمقاتلات الجوية والدبابات، على حساب منصات الأسلحة التي لا يقودها البشر، والذخائر الحربية الصغيرة. كما اندمجت شركات الصناعات الدفاعية، مما ترك الشركات المتبقية بموازنات أصغر ورغبة أقل في تخصيص موارد للبحث والتطوير خارج متطلبات وزارة الدفاع المعلنة. وعلى رغم هذه القيود، تمكنت إدارة كلينتون خلال التسعينيات من بناء ترسانة من الطائرات الشبح، وصواريخ كروز بعيدة المدى، وقنابل موجهة بنظام تحديد المواقع العالمي "جي بي إس" (GPS). كانت تلك سنوات الحرب الجوية ذات التدخلات العسكرية منخفضة الأخطار وعالية التقنية. ورأت وزارة الدفاع في عهد كلينتون إمكانات كبيرة في الطائرات المسيرة، حتى وإن لم تكن ضمن أولويات أي فرع من فروع القوات المسلحة. وفي بداية فترة توليه منصب نائب وزير الدفاع، أسس جون دويتش هيئة مشتركة تدعى "مكتب الاستطلاع الجوي الدفاعي" لتشجيع الجيش على تبني تكنولوجيا الطائرات المسيرة. وخلص المكتب في عام 1994 إلى أن الطائرات غير المأهولة "تمثل بديلاً قابلاً للتطبيق في ظل التحديات التي تواجهها القوات أثناء تقليص حجمها". وحلقت أولى طائرات "بريداتور" من دون طيار، التي اخترعتها شركة طاقة تدعى "جنرال أتوميكس" ولم يكن لها داعم واضح داخل القوات المسلحة، فوق يوغوسلافيا السابقة في صيف عام 1995. وفي ذلك الصيف نفسه، أسقط طيار مقاتلة "أف 16" سكوت أوغرايدي فوق أراض صربية في البوسنة. وشكل ذلك إحراجاً للجيش الأميركي، وأسهم في دفع قائد أركان القوات الجوية رونالد فوغلمان، إلى التوسع في وضع مسيرات "بريدايتور" قيد الخدمة الفعلية. وأسس فوغلمان وحدة أولى للمسيرات في يوليو (تموز) عام 1995، وساند الكونغرس جهود فوغلمان. ووفق شرح من جون ورنر، رئيس لجنة مجلس الشيوخ المعنية بالقوات العسكرية، "في رأيي، لن تسمح هذه البلاد على الإطلاق للقوات المسلحة بأن تنخرط في صراعات تتضمن وقوع مستوى من الخسائر البشرية يتساوى مع شهدناه عبر التاريخ"، وخلص إلى أن ذلك يعني تحركاً حتمياً باتجاه التقنيات غير المأهولة. هدف ضيق عقب هجمات الـ11 من سبتمبر 2001، أضحت مسيرات "بريدايتور" و"ريبر" ملمحاً مهيمناً على الاستراتيجية العسكرية الأميركية. وخلال عقدين من الزمن، اشترت الولايات المتحدة 500 مسيرة "بريدايتور" و"ريبر" (بكلفة بلغت عشرات المليارات من الدولارات)، واستخدمتها في تنفيذ آلاف من الضربات بالمسيرات في أفغانستان والعراق وليبيا وباكستان وسوريا واليمن ودول أخرى. واستطاع قادة يجلسون في مراكز العمليات تتبع الأهداف المطلوبة، على مدار الساعة وبالزمن الحي المباشر. لكن استخدام الطائرات المسيرة ظل مثيراً للجدل، فهذه الأنظمة لم تكن رخيصة، ولا كانت مرنة أو مقاومة بما يكفي. ولم يكن الجنود على الأرض راضين تماماً عنها، إذ كانت الطائرات تعاني اضطرابات في الطقس السيئ وتأخيراً في نقل البيانات، وكانت تشغل بالكامل تقريباً من القوات الجوية، واشتكى الجنود من أن الطيارين المسؤولين عن المسيرات لم يتلقوا تدريباً كافياً لدعم العمليات الأرضية، كما شكك كثيرون في الاعتماد الواسع على المسيرات كبديل للمقاتلين البشر. ففي أفغانستان والعراق، كانت الولايات المتحدة تخوض حرباً لكسب "قلوب وعقول" السكان المحليين، لكن هذا الهدف بدا أحياناً متناقضاً مع قصفهم من مسافة آمنة وغير شخصية. وتفردت القوات الجوية بكونها الفرع الوحيد في الجيش الذي استثمر فعلياً في المسيرات خلال "الحرب على الإرهاب" التي تمددت في أرجاء العالم، وعلى رغم إمكان أن تهدد المسيرات الدور التاريخي للطيارين في الخدمة العسكرية، إلا أن رغبة القوات الجوية في السيطرة على المهمات الجوية أوصلها إلى أن تقود التوجه إلى تبني تكنولوجيا المسيرات. وبدلاً من الاستمرار في الارتباط مع الوحدات المقاتلة على الأرض، أدارت طواقم من القوات الجوية مسيرات "بريدايتور" و"ريبر"، بالاستناد إلى نموذج وحدات الطائرات المقاتلة. وفي معظم الأحيان، أدار طيارون سابقون المسيرات مستخدمين أساليب توزيع المهمات تتشابه مع تلك التي ألفوها في الطائرات التي يقودها بشر. وبالتالي، ليس من مفاجأة أن يجيء استخدام الولايات المتحدة للمسيرات كنسخة شبه تامة عن المهمات الأساسية للقوات الجوية على غرار القصف الاستراتيجي والمهمات الاستطلاعية. وتغاضى الجيش عن احتكار القوات الجوية لهذه التكنولوجيا، مستثمراً بصورة محدودة في أنظمة أصغر، بينما أبدت البحرية اهتماماً ضئيلاً بثورة الدرون، إذ ظلت تركز على المنصات الكبيرة مثل حاملات الطائرات التي تعد جزءاً من هويتها. وبالنتيجة، أدى التركيز الضيق المنحصر في استعمال تكنولوجيا متقدمة للحد من الأضرار بين الجنود، إلى تحفيز المؤسسة العسكرية على شراء نوع محدد من المسيرات يتمثل في تلك التي تدار من بعد وتستطيع تتبع الأهداف لفترات طويلة، ويتاح استعمالها في أجواء خطرة. وقد استند ذلك التركيز الضيق في المشتريات إلى عشرات السنين من القرارات في شأن الكيفية التي أرادت بها الولايات المتحدة القتال بعد حرب فيتنام، وفي شأن الدروس التي يتوجب استنباطها من "حرب الخليج"، وفي شأن الاستثمارات الدفاعية إبان فترة الهيمنة الأميركية الأحادية. وكذلك أوصل عقدين من الحروب في أفغانستان والعراق، إلى ترسيخ تلك الخيارات. لكن الحرب في أوكرانيا تحدت هذا النهج العسكري، ونتيجة لذلك تسارع الولايات المتحدة الآن إلى الاستثمار في مجموعة أوسع من الطائرات المسيرة، وتمنح عقوداً لشركات دفاع جديدة، وتجري محاكاة حربية لمهمات جديدة للطائرات. ووجه وزير الدفاع بيت هيغسيث أخيراً الوحدات العسكرية لشراء واختبار مسيرات متوفرة تجارياً، ولكن تلك القرارات جاءت مرتجلة وكرد فعل على طريقة استعمال المسيرات في معارك تخاض في بلدان أخرى، بدلاً من أن تنبع من خطة استراتيجية واضحة تحدد أدوارها في الحروب الأميركية المستقبلية. العودة للأساسيات إذا أرادت الولايات المتحدة الفوز في حروب الاستنزاف كتلك التي تخوضها أوكرانيا وتحدث المسيرات فيها تأثيراً كبيراً، فستحتاج إلى مزيد من الطائرات منخفضة الكلفة المرتبطة بوحدات القتال، التي يمكنها التكيف بسرعة مع جهود التصدي للمسيرات، لكن لا يمكنها ببساطة نسخ استراتيجيات الطائرات المسيرة الأوكرانية أو الإسرائيلية. وقبل التسرع في الشراء، يحتاج الاستراتيجيون الأميركيون إلى صياغة نظرية جديدة للنصر، ومراجعة المعتقدات والافتراضات التي شكلت قرارات اقتناء التكنولوجيا على مدى الأعوام الـ50 الماضية. على مدى نصف قرن، بنت الولايات المتحدة جيشاً على أساس الاعتقاد بأن الشعب الأميركي لن يضحي بدمائه، لكنه مستعد لإنفاق ثروته. ومع تفاقم العجز المالي، وازدياد رغبة الناخبين الأميركيين في معاقبة الرؤساء بسبب تفاقم التضخم وهدر الإنفاق الحكومي، لم يعد بإمكان القادة الأميركيين الافتراض ببساطة أنهم يستطيعون إنفاق الأموال على تقنيات باهظة لتقليل الأخطار السياسية. وفي الوقت نفسه، فإن الاعتقاد الذي ساد في الثمانينيات والتسعينيات - بأن التكنولوجيا غير المأهولة ستؤدي إلى حروب أسرع تخاض من مسافات بعيدة - بات موضع شك. فاستخدام الطائرات المسيرة في الساحات الأوروبية والشرق أوسطية يسهل نشوب صراعات أقرب مدى: ألغام، وحروب خنادق، واستهداف للمدنيين، وهذه كلها لم تكن في صلب الاستراتيجية الأميركية منذ حرب فيتنام. يجب على إدارة ترمب أن تدرس بعناية ما إذا كان ينبغي للجيش الأميركي تبني تكنولوجيا الطائرات المسيرة التي تتيح هذا النوع من الحروب، وذلك في سياق مراجعة أوسع للاستراتيجية العسكرية الأميركية. وفقط حينها يمكن مواءمة موازنة الدفاع الأميركية (واستثمارات طائرات الدرون) مع أولويات استراتيجية واضحة. في السابق، نجح وزراء الدفاع في تجاوز الصراعات بين فروع الجيش في شأن الموازنات من خلال نقل البرامج من الخدمات الفردية أو توليها مباشرة، أو إقالة رؤساء الأركان، أو الضغط على الكونغرس لتمويل برامج محددة. لا يقتصر واجب الكونغرس على تسريع عملية اقتناء المعدات العسكرية وجعلها أكثر كفاءة فحسب، بل يجب عليه أيضاً تمكين الابتكار من القاعدة إلى القمة، من خلال السماح لقادة الوحدات القتالية الصغيرة بشراء وإدارة برامجهم الخاصة للطائرات المسيرة. وسيتطلب ذلك إصلاحاً تشريعياً كبيراً على غرار قانون "غولدووتر-نيكولز" لعام 1986، الذي أحدث تغييرات جذرية في وزارة الدفاع. وقد يتطلب تحديث الاستراتيجية الدفاعية الأميركية أيضاً قيادة قوية داخل القوات المسلحة، بما في ذلك تعيين قادة يتمتعون بفترات خدمة أطول من المعتاد حالياً. لقد انخدع الجيش الأميركي بنجاحاته التشغيلية والتكتيكية، لكنه فشل في الحفاظ على التفوق الاستراتيجي اللازم للنجاح في صراعات القرن الـ21. ومن دون إعادة تقييم لطريقة الحرب الأميركية، لن تتمكن أية كمية من الطائرات من دون طيار من حماية الولايات المتحدة من حروب لا ترغب في خوضها. جاكلين شنايدر هي زميلة في كرسي هارغروف هوفر في "معهد هوفر"، ومديرة "مبادرة المحاكاة العسكرية وإدارة الأزمات" التابعة للمؤسسة، وزميلة مشاركة في "مركز الأمن والتعاون الدولي" بجامعة ستانفورد. جوليا ماكدونالد هي مديرة البحوث والتواصل في مؤسسة "آسيا-نيوزيلندا"، وزميلة بارزة في "مركز الدراسات الاستراتيجية" بجامعة فيكتوريا في ويلينغتون. مترجم عن "فورين أفيرز"، 31 يوليو 2025