logo
وداعاً ماما هيا... يا نور اللواوين

وداعاً ماما هيا... يا نور اللواوين

الرأي٢٨-٠٧-٢٠٢٥
ذهبت جدتي برفقة والدي إلى باحات الحرم، وتركاني عند أختي الكبرى. فلما عادا، عاتبتُهما عتاب الطفل لوالديه، فهمس والدي في أذني أنهما ذهبا للتصدّق على فقراء مكة، وأن «ماما هيا» تحب أن تخفي هذا الأمر طمعاً في بشارة رسول الله ﷺ الذي قال: «سبعة يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...»، وذكر منهم: «ورجلٌ تصدّق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».
كانت «ماما هيا» مصدر الدفء في حياتنا. أحبتنا، وأكرمتنا، وأمطرتنا بدعائها الدائم. وكل مرة أسألها الدعاء، كانت تقول لي: «أدعو لك كدعاء أمي لطيفة لأخي عبدالعزيز: ربي يجعلك بركة عشرة أولاد».
جدتي هي ابنة الحاج علي عبدالوهاب المطوع، الرجل الذي تعلّق بباب الملتزم ودعا ربه متضرعاً أن يرزقه سبعاً من البنات لينال بشارة النبي ﷺ لوالد البنات. وقد أُجيبت دعوته، فآتاه الله بدرية، ونجيبة، وهيا، ونعيمة، وشفيقة، ووسمية. أما السابعة، فقد توفيت في مهدها.
بيد أن والدها خصّها بمزيتين: أولاهما أنه سمّاها باسم أمه هيا الياسين، وثانيهما أنه اصطفاها من بين عياله ليشدّ معها الرحال إلى الحرمين والمسجد الأقصى. وكان ينشد لطفلته في الطريق:
«هياوين نور اللواوين»،
واللِّيوان في اللهجة الكويتية هو مكان مسقوف ومفتوح من الأمام، يطل على الحوش، ينفذ منه النور، كما يلجأ إليه أهل البيت للوقاية من الشمس والمطر، وهي كناية أنكِ يا ابنتي نور البيت.
روت لي جدتي أنها نشأت في بيت فسيح ومضياف في فريج الجناعات، يقصده الناس من كل نواحي الكويت. الرجال يملأون ديوان والدها حتى أذان العشاء، والنساء يجلبن الأقمشة ليخطنها في المكائن الميكانيكية التي كانت نادرة في تلك الأيام. سألتها متعجباً: ألا تشترون الملابس من السوق؟ فأجابت بالنفي: «نحن نشتري الأقمشة فقط، ونخيطها بأيدينا»!
تعلّمت رحمها الله تعليماً نظامياً في المدرسة القبلية، وكانت فخورة بتحصيلها العلمي، تروي أيامها هناك بفخر، وتعدّد أسماء معلماتها وزميلاتها، اللواتي ظلّت وفية بوصلهن حتى أقعدها المرض.
عشقت العلم، وبثّت هذا الحب في بنيها وحفدتها؛ دفعت والدي د. صلاح العبدالجادر لنيل الدكتوراه، حين كان أبناء جيله يندفعون إلى التجارة أو الوظائف المرموقة. وشجعت أعمامي وائل وعبدالحميد، وعمّاتي أفراح وإصلاح، على العلم والإيمان. غرست فيهم تقوى الله، واتباع أوامره وحث الناس على المعروف الأقربين منهم والأبعدين، كما تأمر دوماً بأداء النوافل من صيامٍ وصدقةٍ وصلاة، وحسن الخُلق، والإتقان في عمل الدنيا، والإحسان في أعمال الآخرة. وأشهد أنها تأمر بالمعروف وتفعله.
ومما عزز لدي قناعة حبها للعلم أنني قبل بضع سنوات لما ودّعتها قبل سفري للبعثة، لمعت عيناها وامتلأت غبطةً ارتسمت على محياها، فكان الوجه الطلق والدعوات التي تبعته دفقةً من التشجيع استعنت بها على مشقة الطريق طوال سنواتي الخمس في أميركا.
ومما اشتهر عنها في البلاد أنها كانت تفيض كرماً وعطاءً، فقد كان المال في يدها كالماء، يجري إلى منافذ الصدقة حيث وُجدت فكما رأت عيني وسمعت أذني، كان باب بيتها مقصداً لأهل الفاقة؛ تخرج إليهم، تسأل عن حالهم، وتعطيهم ما تيسّر.
رافقها في رحلة الحياة زوجها، جدي عبدالقادر ابن النوخذة عبدالحميد العبدالجادر، الذي وقاه والده من ركوب البحر خوفاً عليه، فاستحال إلى تاجر أقمشة يملك دكاناً صغيراً في المباركية.
وكانت «ماما هيا» خير ما تكون المرأة من سندٍ لزوجها؛ وكان يجد فيها سَنَده الأقرب، كلما اشتدت عليه منعطفات الحياة، حتى توفّي عنها وهو راضٍ. رحمه الله.
يطول الحديث عن «ماما هيا»، ولكني أردت من هذا المقال أن أرثيها، وأن أنقل للقارئ الكريم قبساً من سيرة امرأة حزن لفقدها خلقٌ كثير، مثل حزننا وزيادة. وهذا الفضل لا يُتأتى إلا لمن عاش حياة ملأى بحب الله، والسعي لرضاه، والإحسان إلى خلقه.
ولعمري، قلّ من اجتمعت فيه خصال جدتي.
الملتقى في الجنة، يا نور حياتنا، ويا نور اللواوين.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الممر...
الممر...

الرأي

timeمنذ 10 ساعات

  • الرأي

الممر...

نسمات عصرية في يوم معتدل البرودة، خطوات باتجاه الشارع الرئيسي المزدحم، خروجاً من المدينة القديمة بل القديمة جداً، كقدم الإمبراطورية المغربية تلك التي كانت تحدها فرنسا شمالاً وأعماق أفريقيا جنوباً. ما بين الحاضر والماضي، ما بين الحداثة والأصالة، تتثاقل الخطوات في ذلك الممر الواسع على ضفة الطريق المؤدي لمراكش القديمة، والعكس باتجاه مراكش الحديثة حيث شارع محمد الخامس، الذي يضج بالمحلات والبنوك والمولات والقيصريات، ويضج بشتى أجناس وجنسيات البشر... خطوات ترافقها أفكار تدق في ذاكرة مزدحمة ما بين وجوه جميلة ووجوه تخفي نواياها خلف أقنعة أو مساحيق تجميل تطل منها نوايا الغدر المؤجل، نسمات عليلة تهدئ من رنين التساؤل المستمر... لماذا كل هذا يا رفاق؟ الغربة ليست جغرافيا، ولكن تاريخ ينخر في الوجدان، تاريخ مليء بالذكريات، يعمق الأنين لا الحنين، أي بقعة في تلك الأرض التي خلقها الله عزوجل والتي هي لا شيء يذكر في ملكوت الخالق العظيم تبارك اسمه، هي مجرد بقعة كبقية بقاع المعمورة ولا تختلف إلا بالأشياء الجميلة التي ترسخ الحنين إليها... أما أن تكون أرض نزيف يستهلك كل مخزون الجمال ويستبدله بقبح الأفعال وسوء النوايا، فالرحيل إلى غيرها لن يكون جريمة يحاسب عليها المرء في آخرته، مع الدعاء لها بأن تبقى في أمان الخالق لأن أياديها البيضاء رسمت الابتسامة على وجوه الملايين من البؤساء في أنحاء العالم لذلك وحتما سيحميها الله من عواصف الدهر وتقلباته. يا له من ممر ذلك الذي يؤدي إلى اتجاهين متعاكسين على ضفة تلك (الزنقة) التاريخية التي هي شاهد على عصور مضت وبطولات وانكسارات تشبه ذواتنا المترنحة، بسبب نوايانا الساذجة، وسذاجة قلوبنا، التي كانت هي النوافذ التي ننظر من خلالها إلى عالم مليء بمساحيق التجميل القبيحة... دمتم بخير.

ومن سيصدقني يا خديجة؟!
ومن سيصدقني يا خديجة؟!

الرأي

timeمنذ 3 أيام

  • الرأي

ومن سيصدقني يا خديجة؟!

بين جبال مكة... قلب يرتجف... لم يكن محمد بن عبدالله، يعرف أن تلك الليلة ستقسم حياته إلى زمنين... في غارٍ ضيقٍ في أعلى حراء، كان قلبه ينبض بأسئلة لا صوت لها: من أنا؟ ولماذا هذا العالم معتمٌ إلى هذا الحد؟ كيف ينام الناس في حضن أصنام لا تتكلم، ولا تعطي، ولا تمنع؟ لماذا الظلم وسحق الضعفاء؟ هناك، حيث لا أنيس إلا الصمت، جاءه الصوت: «اقرأ!» ارتجف الجسد... ارتجف النبض... حتى الجبل نفسه أحسّ أن في الصخر حياةً ترتعش. «ما أنا بقارئ!» ولم تكن هذه فقط كلمة العجز، بل صرخة الإنسان في وجه المستحيل: كيف أقرأ وأنا ابن الصحراء، لم أتعلم من أحد، ولا كتب عندي ولا أقلام؟! الصوت يعود... والرهبة تزداد... «اقرأ باسم ربك الذي خلق...». هنا بدأ الكون كله يتغير في عيني محمد -صلى الله عليه وسلم-... لم يعد مجرد رجل يبحث عن معنى، بل صارت كل ذرة في جسده مرآة للغيب؛ من أين جاء هذا الكلام؟ من يصدّقني لو قلت إنني سمعت صوت السماء؟ عاد للبيت... وما أصعب العودة إلى البيت حين لا تعود كما خرجت! طرق الباب على خديجة، لكنه لم يعد زوجها الذي عهدته، بل رجل رأى ما لا يُرى، وسمع ما لا يُسمع. «زملوني... زملوني...». كانت يداه ترتجفان، وصدره يعلو ويهبط كمن خرج من قاع البحر... تنظر إليه خديجة بقلق ودهشة: - «ما بك يا ابن عبدالله؟» - «لقد خِفت على نفسي... جاءني جبريل... قال لي: اقرأ!» وهنا... يختصر محمد -صلى الله عليه وسلم- كل قلق النبوة في سؤال واحد: «ومن سيصدقني يا خديجة؟!» مشاعر الإنسان... لا مشاعر النبي فقط، في تلك اللحظة لم يكن محمد النبي، ولا الرسول المبعوث، بل كان الإنسان الذي يواجه أكبر اختبار: هل أنا مجنون؟ هل كل ما عشته من صدق وأمانة واحتمال وصبر كان فقط ليقال عني في النهاية: أصابه شيء من الجن؟ كان يتذكر أيام فقد أمه، وأيام اليتم عند جده، وساعات الرعي وحيداً في بادية بني سعد، ثم ليالي التأمل الطويل في حراء... كل هذا ليواجه الآن شكوك مكة كلها! وفي عيني خديجة... وجد الجواب: - «والله لا يخزيك الله أبداً...» خديجة لم ترَ جبريل، ولم تسمع الوحي، لكنها رأت في عيني محمد -صلى الله عليه وسلم- صدقاً لا يخطئه قلب. كانت أول من صدق، أول من صدّر الطمأنينة، أول من قال له: «لا... أنت لست مجنوناً. أنت صادقٌ أمينٌ، تصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم...» وفي تلك الليلة، بدأ تاريخ جديد... من بيت صغير في مكة، إلى كل بيت فوق الأرض. من رجل متحنث في غار... إلى أمة من مليارين! من كان يظن أن ذاك الرجل الذي احتضنته خديجة بين يديها، سيصبح اليوم قدوة لأكثر من ملياري إنسان؟ من كان يظن أن تلك الدموع المرتجفة ستصبح نوراً يفيض على قلوب لا نهاية لها؟ كل نبي، وكل مرسل من الله، يبدأ بصدى سؤال كهذا: «من سيصدقني؟». ويكون الجواب دائماً في صدق التجربة، وفي عمق الألم، وفي الأمانة مع النفس. محمد -صلى الله عليه وسلم- خرج من الغار مرتجفاً، لكنه لم يخرج وحده. معه حملت خديجة ثقله، وسار معه أبوبكر، وأحبّه علي، وآمن به بلال... ثم صبر على السخرية، والاتهام، والإيذاء. لم يأتِ النصر في يوم وليلة. بل في كل ليلة كان ينام فيها على يقين بأن الله أصدق من قريش، وأن قلب خديجة أحن عليه من كل مكة. اليوم، يردد المسلمون الشهادتين في كل قارة... واسم محمد -صلى الله عليه وسلم- الأكثر ليس فقط في بلاد المسلمين ولكن أيضاً في بلاد الإنكليز. لكن الحقيقة أن كل إسلام جديد هو صدى لتلك اللحظة الأولى، حين وقف محمد -صلى الله عليه وسلم- أمام خديجة وقال: «ومن سيصدقني يا خديجة؟!». وكل مؤمن جديد يردد في سره السؤال نفسه، ويجد الجواب في عيني أمٍّ، أو صديق، أو زوجة أو قلب يصدق وينصت للحق. هكذا بدأت الرحلة... وهكذا تستمر... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله... أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله يضمحل.

من خاف الله أخاف الله منه كل شيء
من خاف الله أخاف الله منه كل شيء

الأنباء

timeمنذ 3 أيام

  • الأنباء

من خاف الله أخاف الله منه كل شيء

رأس الحكمة مخافة الله، وهي الحصن الحصين والمنجية من نار وقودها الناس والحجارة، بإذن الله، وقد قال الحسن البصري، رحمه الله: «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء»، فبمخافته ننال العزة والمنعة والكرامة والهيبة، وبها نستدل على كل خير، تأملوا قول المولى عز وجل (رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) (البينة - 8)، وكذلك قوله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا) (الطلاق - 2 و3). وقد قال حكيم: أتم الناس عقلا أشدهم خوفا لله تعالى، وقال آخر: خف الله كأنك تراه، فإن لم تره فإنه يراك، ولا يمنعنا ذلك من حسن الظن بالله، فحسن الظن بالمولى عز وجل مبدأ أساس في الإسلام، وهي عبادة وجدانية عظيمة، تنعكس على سلوكنا وتجعلنا أكثر تفاؤلا وسعادة واطمئنان، فقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى (أنا عند ظن عبدي بي...) إن الخوف من الله ورجاء رحمته وعفوه واجب يلزم العبد التحلي بهما، فالعاقل الكيس لا يأمن مكر الله ولا يقنط من رحمته، فكما أن من صفاته الرحمة والعفو والمغفرة، فمن صفاته أيضا أنه ينتقم وأنه شديد العقاب (نبئ عبادي أني أنــا الغفور الرحيم وأن عذابي هــو العذاب الأليم) (الحجر- 49 و50). إن مخــافة الله سراج القلب وما فارق خوف الله قلب أحد إلا خرب، وإنما يهاب المرء على قدر هيبته الله، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله إذا خفته هربت إليه، وسبحان الله فكل الخوف خوف إلا مخافة الله فإنها سكينة وطمأنينة، وفي الختام يقول الإمام الشافعي رحمه الله: خف الله وارجوه لكل عظيمة ولا تطع النفس اللجوج فتندما وكن بين هاتين من الخوف والرجا وأبشر بعفو الله إن كنت مسلما ودمتم سالمين.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store