
سليمان منصور.. بين الريشة والطين: إبداع مقاوم يروي مآساة وأمل فلسطين
انطلقت أولى صرخات هذا الطفل مع دوي صفارات الحرب في فلسطين، والتي بلغت ذروتها مع الأعمال الإرهابية في المناطق التي احتلها اليهود، بقتل الآلاف من الفلسطينيين العزل وطرد ما يقرب من 800 ألف فلسطيني (أو نصف سكان فلسطين العرب)، لينتهي المطاف بهم بلا وطن أو مشردين، هم وأحفادهم الذين ما زالوا بلا دولة وفي مخيمات اللاجئين.
ومنذ هذا التاريخ، ارتبط ميلاد الفنان سليمان منصور بمأساة شعب كامل، حتى شب واستطاع أن يترجم أحزان هذا الشعب بريشته التي دأبت على رسم ابتسامة الأمل على الشفاه الحزينة، وبألوانها الزاهية المتحدية، رسَمَ العباءة والكوفية الفلسطينية والأزياء الشعبية والثوب والتطريز، واستطاع أن يزرع شعار وطنه وعلم فلسطين في قلب كل إنسان، عربيا كان أو أجنبيا.
ولم تمر سوى أشهر قليلة على ميلاد الطفل سليمان خليل منصور، حتى اكتملت أركان النكبة على كامل التراب الفلسطيني، وبعد 25 خريفا دشن لوحته الأشهر "جمل المحامل"، التي أصبحت "أيقونة" للنضال وعنوانا للمأساة الفلسطينية، وأصبحت الأيقونة تُطبع وتوزع بملايين النسخ وتُعلق على كل جدران المنازل، يقتنيها كثير من الفلسطينيين والعرب في الوطن والمنفى وبلاد المهجر.
الفنان سليمان منصور فنان تشكيلي ونحات فلسطيني، يُعد من أشهر الفنانين التشكيليين العرب في العالم، استطاع أن يؤسس أرضية جديدة للفنون الجميلة في الضفة الغربية، من خلال رسوماته ولوحاته ومنحوتاته التي عبرت عن المأساة الفلسطينية في كل أطوارها. وهو أيضا رسام كاريكاتير محترف نشر رسومه بين عامي 1981 و1993 في جريدة الفجر الأسبوعية الإنجليزية التي كانت تصدر في القدس سابقا.
ترأس منصور رابطة الفنانين الفلسطينيين بين عامي 1986 و1990، وشارك في تأسيس مركز الواسطي للفنون بالقدس الشرقية عام 1994، وتولى إدارته خلال عامي 1995 و1996، وكان من المؤسسين الأوائل للأكاديمية الدولية للفنون في فلسطين عام 2004 في رام الله وعضوا بمجلس إدارتها. كما درّس الفن في العديد من الهيئات الثقافية والجامعات في كافة أنحاء الضفة الغربية، بما فيها جامعة القدس.
سافرت أعمال سليمان منصور لتُعرض في كثير من أنحاء العالم العربي والولايات المتحدة وأوروبا وآسيا، وكانت له مساهمة مميزة في معرض "ربيع فلسطين" الذي استضافه معهد العالم العربي في باريس عام 1997. وفي العام التالي، وخلال بينالي القاهرة ، فاز بجائزة "النيل الكبرى" تقديرا لعمله "أنا إسماعيل".
الفنان الفلسطيني سليمان منصور، وهو يخطو نحو عامه 78، تتذكره الميديا العربية والعالمية من جديد بعد أن كرمته مصر ومنحته "جائزة النيل"، أرفع جائزة مصرية تمنح للمبدعين والمثقفين العرب. وبمناسبة فوزه بجائزة النيل للإبداع، كان "للجزيرة نت" معه هذا الحوار.
في البداية قال الفنان سليمان منصور: "أود أن أشكر لجنة الجائزة على اختياري، وأعتبر هذا الاختيار شرفا كبيرا، كما أود أن أشكر مصر وشعبها العظيم لدعمهم التاريخي لقضية الشعب الفلسطيني في كل المجالات، وخاصة في المجال الثقافي".
حرب كسر روح المقاومة
ما هي رؤيتك وقراءتك لعمليات القتل والإبادة التي تجري في غزة على الهواء مباشرة؟ وهل انفعالك بهذه الحرب أنتج أعمالا فنية خلال العامين الأخيرين؟
أعتقد أن هدف إسرائيل من كل ممارساتها الإجرامية في غزة هو إشعار الناس باليأس والإحباط وكسر روح المقاومة لديهم، وهنا تكون الهزيمة التي توصلهم إلى السيطرة التامة على الناس وكسر إرادتهم، وعلى الأغلب تهجيرهم. وأرى أن إسرائيل تسعى لهذا، لأن أي شعور بالأمل عند الفلسطينيين يجعلهم يقاومون ويصمدون ويتمسكون بالأرض.
بعض الفنانين ينتجون لوحات فنية تعكس ممارسات الإسرائيليين من مشاهد قتل وتشويه وعذاب، وهذا يصب في جهد الإسرائيليين لقتل أي شعور بالأمل. وأنا، كمراقب لما يجري في غزة مثل أي شخص في العالم، أتأثر بالصور القادمة من هناك. في بداية الأمر رسمت بعضها، ولكن ما إن انتهيت من اللوحة حتى شعرت باليأس والإحباط والذعر، وليس هذا ما أصبو إليه في أعمالي الفنية، لذا أنجزت بعض الأعمال الرمزية التي لا تعكس الذعر في غزة.
وأعتقد أنه بعد أن يمر بعض الوقت، تختمر الأفكار وتخرج أعمال أفضل، فالفن انفعال ذاتي، ولكنه في النهاية يحتاج إلى وقت حتى ينصهر في بوتقة الزمن. وأفضل القصص واللوحات التي خلدت فظائع الحرب العالمية الثانية لم تكتب أثناء الحرب، بل كتبت أو رسمت بعد انتهاء الحرب وليس خلالها.
أفضّل أن يُنظر إلي كفنان فلسطيني، لأن هذه هي الحقيقة، ولقد أثبتت الأحداث أن قضية فلسطين قضية عالمية تهم كل الناس الذين يهمّهم العدل ويكرهون الظلم والتنمر. فيكفيني أن أكون فنانا فلسطينيا وفقط، لأنني بذلك أكون فنانا إنسانيا يحمل رسالة عالمية.
قانون الاحتلال هو الرقابة والمنع
في ظل الاحتلال، ما التحديات التي تواجه الفنان داخل فلسطين؟ وكيف يمكن للفن أن يخلق فضاء حرا؟
إعلان
خلال فترة الاحتلال وقبل عام 1994 كان نشاطنا الفني مراقبا، نُمنع من الرسم بألوان معينة مثل ألوان العلم الفلسطيني، ونُمنع من تأسيس كليات للفنون، كما نُمنع من تأسيس متاحف لأنها كانت معرضة للمصادرة.
بعد عام 1994 أصبح العمل الفني أكثر حرية وأمنا، ولكن من ناحية أخرى أصبح التواصل مع أجزاء الوطن صعبا، فمثلا فنانو منطقة جنين ليس من السهل أن يشركوا زملاءهم في رام الله في معارضهم، وهذا ينطبق على كل المناطق. بل كان من الصعب أيضا عقد اجتماعات عامة لتنظيم العمل الفني النقابي، كما أصبح نقل الأعمال الفنية صعبا ليس فقط داخليا، ولكن أيضا عند الشحن للخارج، وخاصة عند استرداد اللوحات من الخارج.
يمكن للفن أن يخلق فضاء حرا، ولكن ضمن منطقة محدودة. كما لا يوجد سوق فني جاد، وإنما عدد قليل من المقتنين. كما أن عدد الوظائف التي تدعم الفنانين قليل جدا، لذا فإن الفنان يضطر للعمل في مجالات لا علاقة لها بالفن، ويتوجه غالبية الخريجين إلى تدريس الفن في المدارس.
كثير من الفنانين الفلسطينيين عاشوا في المنافي.. هل ترى في المنفى حافزا أم عبئا؟
العيش في المنفى يساعد الفنان على الخروج من سطوة الاحتلال وأفعاله وردود الفعل على هذه الحالة، ويساعد الفنان في تطوير أعماله والاستفادة من التجارب الفنية التي تقع من حوله. وأحيانا، كمن يراقب الأمر عن بعد، فإن عمله الفني وتوجهه السياسي يكون أشمل وأشد، كما في أعمال ناجي العلي على سبيل المثال.
الفن الفلسطيني لا يشكل سوى رافد صغير في الفن العربي ككل، فنحن شعب عددنا قليل نسبيا، ونعيش ملهاة البحث عن الأمان ولقمة العيش والتواصل بين أجزائه المتنوعة والمقطعة، ونعيش مناخا لا يعكس سوى الحصار والرقابة المشددة، فلا يوجد لدينا سوى شبه سوق فني وثلاثة معارض، ولا يوجد نقد فني ولا دعم من الدولة.
سمح لنا الاحتلال مؤخرا بتأسيس كليات فنون فقط، وكل جهد نقوم به لتطوير الحركة الفنية يواجِه الفشلَ في نهاية المطاف بسبب قلة الموارد المالية. وفي ظل هذه الظروف، أعتقد أن الفنانين الفلسطينيين أبطال، لأنهم استطاعوا أن يؤكدوا وجودهم على الساحة الفنية العربية.
فن له خصوصيته
كيف ترى موقع الفن الفلسطيني داخل خريطة الفن العربي المعاصر؟ هل استطاع أن يفرض خصوصيته؟
الفن الفلسطيني جزء من الفن العربي الواسع، ولكن له خصوصيته من خلال تركيزه على القضية الوطنية ورموزها، وعلى الهوية الوطنية ورموزها، وعلى رأسها الأزياء الشعبية والثوب والتطريز. كل هذه الأمور تعطي خصوصية معينة، وليست بالضرورة خصوصية جيدة فنيا، لكنها تظل خصوصية.
التراث الفلسطيني حاضر بقوة في أعمالك: الثوب، المفتاح، الكوفية، البيت القروي.. ما الذي يعنيه لك التراث؟
اهتمامي بالتراث كان بسبب اهتمامي بموضوع الهوية، وهو الأمر الذي شغل الحركة الفنية الفلسطينية بعد النكبة، وردا على المحاولات الصهيونية المكثفة لإنكار وجود الشعب الفلسطيني من قبل إسرائيل ومؤيديها من حكومات الغرب، خاصة في السبعينيات ولغاية اليوم.
واستفاد الفنانون الفلسطينيون في بحثهم عن عناصر بصرية جديدة من فنون المنطقة القديمة، كالفن الكنعاني، تأكيدا على الهوية. وذهبوا ثانيا إلى الفنون الإسلامية، وخاصة الخط العربي والزخارف النباتية والهندسية. وثالثا، اعتصامهم بالتراث أغنى هذه المصادر. ورابعا، المشهد الطبيعي، ويشمل العمارة الشعبية والمناطق الزراعية وأثر الفلاحين فيها بما تحويه من أشجار مختلفة كالزيتون والبرتقال، ونباتات كالصبر، وأزهار برية، وطيور مثل طائر الشمس الفلسطيني، والحيوانات مثل الحصان والحمار والماعز والقط والكلب، وأحيانا الذئب، وهكذا.
تحولات وخيارات
نشأت في بيت جالا، قرب بيت لحم ، في بيئة خصبة فنيا ونضاليا.. ما الذي شكل وعيك البصري والفكري في البدايات؟ وما أول لوحة شعرت أنها عبّرت عنك كفنان فلسطيني؟
إعلان
قضيت فترة الطفولة والمراهقة في مدرسة داخلية في بيت لحم، ومثل كل الأطفال لم أستفد من حصص الفن في شيء، حتى ساق لي القدر أستاذا ألمانيا انتبه إلى موهبتي، وصار يساعدني ويوفر لي كل ما يلزم لتطوير هذه الموهبة. وكانت البداية عندما حفزني للمشاركة في مسابقة فنية لأطفال العالم من خلال الأمم المتحدة، وكانت المفاجأة أن فزت بالجائزة الأولى، وطبعت لوحتي على غلاف كتالوج المسابقة، وحصلت على مكافأة بقيمة 200 دولار.
كانت هذه الجائزة نقطة تحول كبيرة في حياتي وفي توجهي نحو الفن، والتحول الثاني كان مع هزيمة 1967، إذ رغم فداحة هذه الحرب على المستوى القومي العربي، فإنها منعتني من السفر إلى الولايات المتحدة للدراسة وربما للهجرة، فالتحقت بكلية الفنون في القدس الغربية، وبدأت حياتي تأخذ منحى آخر لم أخطط له كثيرا. وأستطيع القول إن بقائي في فلسطين أثر كثيرا في توجهي الفني وخياراتي الثقافية والسياسية وحياتي بمجملها.
هذا التحول، كيف استثمرته لتصبح فنان الشعب الذي تحتضن رسوماته كل جدار في أرض فلسطين وفي بلاد المنفى؟
كان التحول نتيجة ممارسات ظالمة ضد شعب فلسطين، ممارسات عشتها ورأيتها بعيني، ومن خلال النشاط الفني وزيارتي للكثير من المعارض بداية السبعينيات من القرن العشرين، ربطتني صداقة قوية بعدد من الفنانين التشكيليين، منهم: نبيل عناني، وفيرا تماري، وبشير السنوار، وعصام بدر، وكامل المغني، وأسسنا رابطة الفنانين التشكيليين في الأرض المحتلة، وكانت هذه نقطة محورية أخرى ساهمت في بلورة أسلوبي وتوجهي الفني.
عقدنا العديد من المعارض الفنية، وكنا نلتقي بالجمهور المتعطش للفن، وأشعرتنا هذه اللقاءات والنقاشات بأهمية الفن في تعبئة الناس، وهذا الشعور قادنا إلى التفكير في الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من الشعب الفلسطيني، خاصة في الريف والمخيمات.
ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف، طبعنا أعمالنا الفنية في ملصقات (بوسترات) يسهل حملها وتوزيعها في كل مكان، وكانت هذه محطة أخرى في مشواري الفني، إذ أدت إلى تعريف واسع بالفنانين وإنتاجهم الفني.
وكانت لوحة "جمل المحامل" من أول الأعمال التي طبعت وانتشرت بشكل واسع، وحولنا هذا النشاط إلى شخصيات ثقافية معروفة ومحبوبة، ولكن من ناحية أخرى لفتت انتباه سلطات الاحتلال إلينا وإلى نشاطنا الفني، وبدأت سلسلة من ردود الفعل كمصادرة البوسترات، ثم مصادرة أعمال فنية، واعتقال فنانين، وإصدار قوانين مختلفة تحرم العرض الحر، بل حتى تمنع استعمال ألوان العلم الفلسطيني (الأحمر والأخضر والأبيض والأسود). وكانت الصحف المحلية وبعض الصحف الأجنبية تنقل أخبار هذه الممارسات، الأمر الذي أدى إلى حملة تضامن من فناني دول كثيرة في العالم.
هذا الاهتمام الواسع، بالإضافة إلى شعورنا بمحبة وتقدير الجمهور الفلسطيني لنا، جعلنا نتعامل مع إنتاجنا الفني بجدية واحترام كبيرين.
اللوحة الأيقونة
"جمل المحامل" أصبحت "أيقونة" بصرية فلسطينية، بل ربما عربية.. كيف ولدت هذه اللوحة؟ ومتى أدركت قوتها الرمزية؟
يقول الفنان التشكيلي والنحات الفلسطيني سليمان منصور: حاولت عام 1971 رسم الحمال في أزقة القدس، حيث كان الحمال جزءا من مشهد القدس القديمة. وفي عام 1973 تطورت لوحة الحمال إلى شخص يحمل القدس على ظهره، وبوسطها قبة الصخرة. حذفت كل المؤثرات البصرية التي قد تشوش على الفكرة، وأصبح الحمال يسير في فراغ تام والقدس على ظهره.
في البداية، شعرت أن اللوحة التي أنجزتها مجرد عمل فني جميل وقوي، وظننت أنها ستمر كأي لوحة سبقتها أو لحقت بها، ولم أحلم أن يكون لها كل هذا الصدى والاهتمام فلسطينيا وعربيا. ومع مرور الوقت، أصبحت رسمة الحمال موضوع نقاش بين الفنانين والصحفيين وحتى السياسيين، وبدأت رموزها تتضح لي شيئا فشيئا، وترسخت قيمتها بمرور السنين.
"الجمل" يمثل في رأيي كل إنسان فلسطيني، وكل امرأة فلسطينية؛ فهو -أو هي- يحمل هم القضية، خاصة إذا كان مهاجرا يحمل ذكريات أرضه وأهله وهموم الوطن صباح مساء. أما الذي يعيش في الداخل الفلسطيني، حيث الأرض محتلة، فهو مهدد بالتهجير وقطع الرزق والسجن والاضطهاد.
ولعل السر في انتشار "جمل المحامل" حتى أصبح على جدران كل بيت فلسطيني في الداخل أو الشتات أو المنفى، يرجع -في اعتقادي- إلى أنه يمثل كل أبناء الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجدهم.
لماذا اتجهت للعمل في الصحافة؟ ألم تخش أن تتآكل موهبتك الفنية في ظل العمل اليومي؟
مع بداية الثمانينيات، اتجهت للعمل في مجال الصحافة الأجنبية، خصوصا في الرسوم المرافقة للمقالات. حينها أدركت قدرة الفن على التأثير في القارئ الأجنبي أحيانا بشكل أسرع وأعمق مما تتركه المقالات السياسية الطويلة والمكررة.
ترسخ لديّ إيمان قوي بأن الفن -سواء كان أدبا أو موسيقى أو سينما أو فنا تشكيليا- قادر على مخاطبة قلوب البشر بعمق أكبر من الخطب والمقالات السياسية، وأن أثره يمكن أن يستمر ويؤثر في النفس الإنسانية لفترات طويلة، بشرط أن يحترم الفنان جمهوره. فالفن الحقيقي لا يكذب أبدا، والفن الصادق، كالمعدن النفيس، لا يفقد بريقه ولا يمكن تزييفه.
انتبهتَ مبكرا لموضوع الهوية والدفاع عن الأرض، متى اكتشفت أن الفن يمكن أن يكون وسيلة مقاومة؟
خلال الانتفاضة الأولى ، كان شعوري مثل غيري من الفنانين بالعجز عن المنافسة في مواجهة طوفان الصور الفوتوغرافية التي تتابع الحدث لحظة بلحظة وتغرق الميديا العربية والعالمية بسيل من الصور الفورية.
كنت أرى الانتفاضة وهي تشتد وتقوى في مواجهة آلة العنف والقتل وتكسير العظام، ورأيت الانتفاضة تحمل معها فلسفتها في الاعتماد على الذات، وكانت الدعوة قوية إلى مقاطعة المنتجات الإسرائيلية. شعرت حينها بضرورة الدخول في تجارب فنية جديدة لم تكن لدينا الشجاعة للقيام بها سابقا.
وتجاوبا مع استدعاءات انتفاضة الحجارة عام 1987، أسستُ بالاشتراك مع أصدقائي الفنانين فيرا تماري وتيسير بركات ونبيل عناني مجموعة "نحو التجريب والإبداع"، وهي مبادرة أطلقت ردا على أحداث الانتفاضة الأولى (1987 – 1993).
ومن خلال مقاطعة الألوان والأدوات التقليدية التي كانت إسرائيلية في معظمها، أو مستوردة عن طريق تجار إسرائيليين، كان لا بد من البحث عن مواد خام محلية، وبهذا العمل ربطنا الفن وصناعته بالأرض والنضال.
استخدمنا مواد طبيعية مثل القهوة والحنة والطين، واستطاعت مجموعتنا الفنية أن توثق مرحلة هامة من تاريخ الفن الفلسطيني، حيث لم يعد الفن مجرد تعبير عن السياسة، بل أصبح الإنتاج الفني بحد ذاته فعلا سياسيا.
كانت هذه التجربة ضرورية للربط بين الفن الفلسطيني ما بعد النكبة وبين الفن الفلسطيني المعاصر، وكفنان رأيت أن الفن الفلسطيني في مفترق طرق، وأن الفرصة باتت مواتية لأن أعتمد على نفسي في التجريب والاكتشاف. واستطعت -من خلال مجموعة من الأعمال استخدمت فيها الطين مادةً فنية عبر صب طبقات من الطين وتشكيل تركيبات تصويرية داخل إطار خشبي- إنتاج سلسلة من الأعمال بدأتها عام 1996 بعنوان "أنا إسماعيل".
لك موقف رافض لعرض أعمالك في الخارج احتجاجا على التضييق الصهيوني على الفنانين الفلسطينيين، ما الذي دفعك إلى اتخاذ هذا القرار الصعب؟
عدم عرض أعمالي في الخارج نابع من عدم فهم منظمي المعارض للتعامل المحترم مع العمل الفني ومع الفنان. كثير من أعمالي وأعمال زملائي فُقدت في معارض بالخارج ولم تعد للفنان، وإذا عادت تكون بحالة سيئة. ومؤخرا قلّ إنتاجي كثيرا بسبب المرض، ولا يوجد ما يكفي لعمل معارض في الخارج، بالإضافة إلى أن أولادي يريدون الاحتفاظ بما أنجزته الآن، وهم ليسوا في حاجة لبيع شيء من أعمالي في الوقت الحالي.
الحركة الفنية في مناطق عرب 48 متأثرة جدا بالفن الغربي والإسرائيلي، ويوجد عدد منهم على مستوى فني عظيم.
أجيال فنية مقاومة بطريقتها الخاصة
كيف ترى الأجيال الجديدة من الفنانين الفلسطينيين؟ وهل ترى بينهم من يحمل شعلة المقاومة بلغة بصرية جديدة؟
الأجيال الجديدة من الفنانين يحملون بالطبع شعلة المقاومة، ولكن بطريقتهم الخاصة، وهذا حقهم وواجبهم باكتشاف وسائل جديدة تتلاءم مع زمنهم. الأدوات الفنية اختلفت عند هذا الجيل، وأصبحت الكاميرا والفيديو والكمبيوتر والطباعة ثلاثية الأبعاد كلها وسائل عصرهم، وأشياء كثيرة لم يحلم بها جيلنا. كما أن تطور وسائل التواصل وثورة الإنترنت فتحت باب المعرفة عندهم على مصراعيه، وبالتالي باب المؤثرات والتأثيرات المختلفة، السيئة والجيدة. لهذا كان لا بد لفنهم أن يختلف، وهذا الاختلاف يُفسَّر أحيانا بقلة الانتماء إلى القضية، وهذا خطأ كبير في رأيي.
هل تخطط لكتابة مذكراتك أو إصدار سيرة فنية توثق هذه التجربة الفنية الفريدة؟
الآن تتم عملية التدقيق اللغوي لكتاب عن سيرة حياتي منذ الطفولة حتى اليوم، ومن المتوقع أن تصدر هذه المذكرات في كتاب خلال ثلاثة أشهر.
سؤال محرج، فأنا مثلا أحب أجزاء من عمل معين وأكره أجزاء من أعمال أخرى، وأحب عملا معينا في فترة زمنية وأكرهه في فترات أخرى. القضية ليست بهذه السهولة كالأبيض والأسود، فمثلا: جمل المحامل كنت أكرهها في البداية لأنها وضعتني في شبه سجن فني ومنعتني من المغامرة، وهذه من مُتع العملية الفنية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 5 ساعات
- الجزيرة
دجاج الطحين وفاصوليا الصبّار.. طاهية أردنية تبتكر وصفات لمواجهة التجويع في غزة
بعبارة "يا أهلنا الثابتين بغزة"، تستهلّ الطاهية ياسمين ناصر فيديوهاتها الأخيرة من مطبخها في العاصمة الأردنية عمّان، والذي حولته إلى مساحة للابتكار والمقاومة في وجه التجويع، مستفيدة من خبرتها الأكاديمية في فنون الطهو، تقدم وصفات تُجسد حلولا عملية لمواجهة الأزمات الإنسانية القاسية التي يعيشها الفلسطينيون في غزة. ففي ظل نقص المواد الغذائية الأساسية، بدأت ياسمين، الحاصلة على شهادة متقدمة في فنون الطهو من مدرسة "لو كوردون بلو" الفرنسية، بتقديم وصفات بديلة تحاكي أطعمة لم تعد متوفرة في القطاع، مثل "دجاج من الطحين" و"فاصوليا من ورق الصبّار" و"لحم من العدس". هذه الأطباق، وإن بدت غريبة، صُمّمت لتحتوي على الحد الأدنى من القيم الغذائية، وتمنح العائلات طعاما يشبه في الشكل والمذاق ما اعتادوا عليه قبل الحصار. تقول ياسمين ناصر إن هذه الأفكار وُلدت من رحم الأزمة: "جاءت نتيجة قلة المكوّنات المتوفرة بسبب المجاعة الممنهجة التي يتعرض لها أهلنا في غزة، وكيف يمكن ابتكار أطعمة من المكوّنات المتاحة لهم، هذه أطباق نباتية شائعة في النظام النباتي، لكن التحدي الأكبر كان في صنعها فعليا من لا شيء. رغبتي الشديدة في مساعدة أهلنا بأي شكل ممكن هي ما دفعني إلى الاستمرار وتقديم المزيد". وتضيف ياسمين للجزيرة نت: "كل المشاهد هناك في غزة أثرت بي، من الأطفال الذين يواجهون الموت بسبب الجوع، إلى كبار السن والمرضى. كان التحدي الأكبر غياب المكوّنات الأساسية، لذا كان عليّ تبسيط الطريقة ليتمكن الجميع من تطبيق الوصفات". View this post on Instagram A post shared by Yasmin Nasir ياسمين ناصر (@ ردود فعل محفّزة المبادرة لم تبقَ حبيسة الشاشة، إذ وجدت طريقها سريعا إلى أهالي غزة، تقول ياسمين: "كانت ردود الفعل رائعة، خاصة من الأطفال". وتابعت "وصلني الكثير من الفيديوهات من أهل غزة وهم يطبّقون الوصفات، وكانوا سعداء جدا بالنتيجة، وهذا شجعني أكثر لأقترح وصفات جديدة". إعلان تشير ياسمين، التي يتابع فيديوهاتها ملايين المشاهدين، إلى كون التجربة قد عززت من نظرتها الخاصة إلى مهنتها فهي ترى أن الطبخ ليس مجرد حرفة لصناعة النكهات، بل رسالة إنسانية تقول: "لطالما كان لدي تقدير كبير لنعمة الله وهي الطعام، أتبنى أسلوب "صفر هدر" في المطبخ، ودائما أحاول ابتكار شيء من لا شيء". وعن مدى فاعلية هذه الوصفات، تؤكد ياسمين أنها اختبرتها بنفسها قبل مشاركتها، قائلة إنها "جربت وصفة دجاج السيتان باستخدام 6 أنواع مختلفة من الطحين، تتراوح بين الأرخص والأغلى، لضمان نجاحها مع الجميع. النتيجة كانت أن الطعم يُشبه الدجاج بنسبة 85%، أما القوام فبلغت دقته نحو 95%. من حيث القيمة الغذائية، فهي وصفة نباتية مغذية جدا، لكنها تختلف بالطبع عن الدجاج الحقيقي، إذ تحتوي على بروتينات نباتية، وكلاهما مفيد ولكن بطرق مختلفة". View this post on Instagram A post shared by Yasmin Nasir ياسمين ناصر (@ شغف الطبخ درست ياسمين إدارة الأعمال والتسويق وعملت في مجال الإعلان 13 عاما، ثم قررت أن تحوّل شغفها بالطبخ إلى احتراف فالتحقت بـ"لو كوردون بلو"، إحدى أعرق مدارس الطهو في العالم، وتقدم برنامجها التلفزيوني "يلا نطبخ" على إحدى القنوات المحلية، إضافة إلى إسهامات تلفزيونية طوال العام فضلا عن تقديم تجاربها الخاصة عبر مواقع التواصل. وفي ظل تصاعد الحصار على غزة، تطرح وصفات ياسمين ناصر مثالا على قدرة الإبداع على الاستمرار في مواجهة الظروف الصعبة، حيث يمكن للطهو أن يتجاوز دوره التقليدي كفن أو مهارة، ليصبح وسيلة للتكيف ومساندة المجتمعات المتأثرة. وتُبرز تجربتها كيف يمكن توظيف الخبرات والتخصصات الفردية في دعم القضايا الإنسانية.


الجزيرة
منذ 17 ساعات
- الجزيرة
خطه بالمعتقل.. أسير فلسطيني محرر يشهر "مصحف الحفاظ" بمعرض إسطنبول
بعد 23 عاما أمضاها في سجون إسرائيل، تحرر الأسير الفلسطيني رمضان عيد مشاهرة ضمن صفقة "طوفان الأحرار"، ليحمل معه "مصحف الحفاظ" الذي وُلد في قلب الزنازين وحط رحاله في معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي. ويستعد المشاهرة لإشهار "مصحف الحفاظ" في معرض إسطنبول الدولي السبت المقبل، بعدما تتلمذ على يدي الرئيس السابق لحركة حماس يحيى السنوار ، خلال اجتماعه معه في سجون إسرائيل. و"طوفان الأحرار" صفقة تبادل للأسرى بين إسرائيل وحركة حماس، بدأت في 19 يناير/كانون الثاني الماضي، قبل أن تستأنف تل أبيب الإبادة بقطاع غزة في مارس/آذار 2025، بإعلانها انهيار الهدنة. ووفق نادي الأسير الفلسطيني، "اعتقل مشاهرة في السادس من يوليو/تموز 2002، وواجه تحقيقا قاسيا في مركز تحقيق المسكوبية، ولاحقا حكم عليه الاحتلال بالسجن المؤبد 20 مرة، وتعرض للعزل الانفرادي عدة مرات، كما تعرض منزل عائلته للهدم" من جانب الجيش الإسرائيلي. و"يعتبر الأسير مشاهرة من الأسرى البارزين والفاعلين في سجون الاحتلال على مستويات عديدة ومنها المستوى المعرفي والثقافي"، وفق المصدر نفسه. مصحف الحفاظ وفي حديث للأناضول على هامش معرض إسطنبول الدولي، يقول مشاهرة عن "مصحف الحفاظ" إن "المشروع الذي استغرق 10 سنوات من العمل اليومي بمتوسط 10 ساعات، يعد مرجعا ضخما للحفاظ والمتدبرين للقرآن الكريم". ويوضح أن المصحف يعرض "الآيات المتشابهة لفظا، ويوضح أسباب التقديم والتأخير، ويكشف مئات اللفتات الإعجازية بالقرآن". وفيما يتعلق بفكرة التأليف، يقول: "بدأت الفكرة تخطر في مخيلتي عندما بدأت حفظ القرآن في الأسر، وواجهت معوقات وصعوبات في تثبيت مسألة الحفظ واللبس بين مفردات، مثل الكافرين والظالمين والفاسقين، وأيضا مفردات أخرى مثل عزيز حكيم، وعليم حكيم". ويضيف الأسير الفلسطيني السابق أن الفكرة تخمرت في رأسه بعد عام 2012، ثم شرع في البحث، وجمع عشرات المراجع، قبل أن يضع خطة لتأليف مرجع يسد هذه الحاجة. وخلال سنوات الأسر، تواصل مشاهرة مع عدد من العلماء، وعرَض العمل على 40 حافظا للقرآن، وشكّل لجان تدقيق متخصصة، مستخدما ضوابط بصرية وألوانا لشرح المعاني. ويكمل بالخصوص: "بدأت من داخل السجن بالتواصل مع العلماء وعرضته على مجموعة من 40 حافظا، وتم تشكيل لجنتين لاحقا أيضا لتدقيق الكتاب". وعن فترة ما بعد الأسر، يقول مشاهرة: "تحررت قبل 6 أشهر، وما زال العلماء يطّلعون على الإنجاز ويعبرون عن إعجابهم، ويقولون لي إن مؤسسة كبيرة لا تستطيع القيام بهذا الجهد". ويشير إلى حيازته ترخيصا من وزارة الأوقاف الفلسطينية، مضيفا: "نسعى للحصول على الترخيص أيضا من رئاسة الشؤون الدينية، وسيكون هذا العمل وقفا لله عز وجل، ولن يكون فيه أي ربح، وكذلك كانت النية منذ اليوم الأول لتأليفه". والسبت القادم سيشهد معرض الكتاب العربي بإسطنبول حفل إشهار لـ"مصحف الحفاظ" بحسب مشاهرة، بحضور مجموعة من العلماء، وسيتم خلاله عرض النسخ الأصلية والمسودات التي تم تهريبها من السجون الإسرائيلية. وفيما يتعلق بالتحفيزات التي تلقاها، يقول مشاهرة: "عندما كنت في السجن كانت زوجتي يدي وعيني ومترجمة لأفكاري، ولن أنسى فضلها ما حييت". ويلفت إلى أن السنوار الذي اغتالته إسرائيل في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2024، كان معلمه في مادة اللغة العربية في الأسر، وتتلمذ على يديه، وله أثر في هذا الكتاب. وأمضى السنوار 23 عاما في سجون إسرائيل، قبل أن تطلق تل أبيب سراحه عام 2011 ضمن صفقة "وفاء الأحرار"، أو ما تعرف باسم "صفقة شاليط" بين إسرائيل وحركة حماس. وكان السنوار حاملا لشهادة الماجستير من الجامعة الإسلامية بغزة، بتخصص أصول الدين، ويعرف بأنه كان ضليعا باللغة العربية. أما زوجة الأسير المحرر هند حسن عميرة التي تدير دارا لتحفيظ القرآن، فوصفت خلال حديث للأناضول، خروج "مصحف الحفاظ" من السجن بأنه كان "معجزة". وتقول عميرة: "ليرى هذا الكتاب النور كنت بحاجة إلى مئات المراجع، ولا يسمح للأسير إلا بكتابين، وكنت أقطع المسافات لأعطي أسرة كل أسير كتابين، من أجل إيصالهما لأسراهم، ومن ثم إلى زوجي". وتضيف: "رغم تعرض الزنزانة التي كان فيها زوجي لاقتحام إسرائيلي متكرر، فإن مشيئة الله أرادت أن يخرج هذا الكتاب إلى النور". وتنقل عميرة قول عدد من العلماء عن العمل: "لا يمكن لمؤسسة كاملة بجنودها كافة أن تقوم بما قام به أسير في سجنه". والسبت الماضي، انطلقت النسخة العاشرة من "معرض إسطنبول الدولي للكتاب العربي" تحت شعار "وتبقى العربية"، بمشاركة أكثر من 300 دار نشر من 20 دولة. كما يشارك في المعرض الذي يعقد في "صالة أوراسيا" بمركز يني قابي للمعارض، مجموعة واسعة من الجامعات، والمدارس، ومنظمات مدنية. وتشرف على تنظيم المعرض، الذي يستمر حتى 17 أغسطس/آب الجاري، "الجمعية الدولية لناشري الكتاب العربي"، بالتنسيق مع اتحاد الناشرين الأتراك، وجمعية الناشرين الأتراك، وبدعم من وزارة الثقافة التركية، وغرفة تجارة إسطنبول، وتعد وكالة الأناضول شريكا إعلاميا فيه.


الجزيرة
منذ 2 أيام
- الجزيرة
الموت خبزنا اليومي.. السينما الفلسطينية شاهدة على المجازر المتكررة
لطالما ارتُكبت المجازر أمام عدسات الكاميرات لتُنسى سريعًا مع تقلب الأخبار، لكن صانعي السينما اختاروا أن يقفوا بأعمالهم لا كأدوات توثيق فحسب، بل كشهود أخلاقيين وفنيين على مأساة متواصلة. وفي قلب هذه الصورة، تقف فلسطين بجراحها المفتوحة، حاضرة في أفلام وثائقية ودرامية تجسد الألم كجزء يومي من الحياة الفلسطينية. من غزة المحاصرة إلى القرى المدمرة منذ النكبة، مرورًا بمجازر "الرصاص المصبوب" ومسيرات العودة، لا تكتفي الكاميرا برصد القتل، بل تلتقط إحساس الفقدان، وتحفر في ذاكرة جمعية تُروى من الداخل بعيون الناجين، لا بخطاب المؤسسات. يستعرض هذا التقرير مجموعة من الأفلام الفلسطينية التي لا تكتفي بالبكاء على الضحايا، بل تضعهم في قلب السرد كأصحاب رواية لا شهودا صامتين، أعمال لا تستجدي التعاطف، بل تدين الصمت وتفضح التجاهل وتصر على أن الحقيقة تملك وجها وصوتا وذاكرة. الجنازات بوصفها روتينا يوميا الفيلم الوثائقي "غزة" إخراج غاري كين وأندرو ماكونيل، عرض العمل للمرة الأولى في مهرجان صندانس السينمائي الدولي، وهو نتاج تعاون بين صانعين أيرلنديين وفلسطينيين، إذ مَثّل أيرلندا رسميا في سباق الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي عام 2020. يشير العمل بالبنان إلى تفاصيل الحياة اليومية تحت الحصار حيث يعيش أهل غزة بين الأمل والموت بأسلوب بصري يعتمد على اللقطات الهادئة من مسافة بعيدة، لتسليط الضوء على الرتابة المرعبة للمأساة، مؤكدا أن المجزرة الحقيقية ليست فقط في لحظة القتل، بل في الحياة المعلقة والكرامة المنتهكة. وهو ما يقدم من خلال تصوير إنساني يبرز التناقض الصارخ بين من يسعون للعيش وأولئك الذين يلفظون أنفاسهم الأخيرة دون تجميل أو مبالغة أو لغة احتجاجية مشحونة. يجري ذلك عبر استعراض بورتريهات إنسانية لأشخاص عاديين تتشابك حكاياتهم بشكل عاطفي متقاطع، يكشف لنا غزة كجغرافيا يومية مفعمة بالأسى في حين يتخلل السرد لقطات أرشيفية لحروب سابقة تؤكد تكرار الكارثة عبر الزمن. "غزة تقاتل من أجل الحرية" (Gaza Fights for Freedom) فيلم وثائقي آخر يؤكد أن المجازر ليست استثناء. صدر العمل في 2019، وتعاونت خلاله الصحافية الأميركية آبي مارتن مع فريق فلسطيني لتقديمه رغم منعها من دخول القطاع، حيث أصبحت الكاميرا أداة مواجهة لا تقل جرأة عن أصوات المتظاهرين. يركز العمل على مسيرات العودة الكبرى التي انطلقت في مارس/آذار 2018، حين خرج آلاف الفلسطينيين بشكل سلمي إلى حدود غزة مطالبين بكسر الحصار وحق العودة، قبل أن يرصد مواجهة قوات الاحتلال تلك المسيرات بالقنص المباشر واستهداف فئات محمية بموجب القانون الدولي، مما أسفر عن مئات الشهداء وآلاف الجرحى. كذلك يعرض الفيلم شهادات الناجين وأهالي الضحايا، ويلتقط لحظات مرعبة وحصرية من أرض الميدان، بما في ذلك صور حقيقية لعمليات قنص عن بعد، واستهداف مباشر للمدنيين غير المسلحين تم تصويرها من زوايا قريبة. ورغم أن المخرجة ناشطة أميركية، فإن العمل يظهر الفلسطينيين بوصفهم أصحاب حق ورواية، وليسوا مجرد ضحايا، متخليا عن نمط الراوي الغربي الذي عادة ما يغفل السياق أو يجرم الضحية. دموع غزة والواقعية الصارخة العمل الوثائقي الأخير ضمن القائمة هو الفيلم النرويجي الفلسطيني "دموع غزة" (Tears of Gaza)، وهو شهادة صادمة ومباشرة على المجزرة الواسعة التي تعرض لها المدنيون في قطاع غزة خلال حرب 2008-2009 المعروفة باسم "عملية الرصاص المصبوب". تم تصوير الفيلم بكاميرات محلية ولقطات واقعية أعيد تركيبها بالاستخدام الذكي للمونتاج والموسيقى وضمها إلى شهادات مؤثرة لثلاث نساء ناجيات، مما جعل الفيلم يبدو كعمل فني رفيع، لا مجرد مادة أرشيفية. اختار صانعو الفيلم تقديم لقطات ميدانية صادمة، وألقوا الضوء على أحداث مأساوية من بينها استخدام القنابل المحرمة دوليا ومجزرة حي الزيتون، وقصف المدارس التابعة للأونروا. لكن ما جعل العمل مختلفا هو عدم تضمنه أي تعليقات صوتية سياسية، تاركا المساحة الكاملة للمتفرج ليكوّن حكمه الإنساني بنفسه، في إطار من الواقعية الصارخة التي جعلت العمل أقرب إلى شهادة بصرية ضد الحرب. الجنة الآن وتناقض النفس الفلسطينية بالانتقال للأفلام الدرامية، نأتي على ذكر فيلم "الجنة الآن" (Paradise Now) للكاتب والمخرج هاني أبو أسعد، وهو العمل الذي لاقى استحسانا عالميا حتى إنه ترشح للأوسكار وفاز بجائزة غولدن غلوب وجائزة النقاد في مهرجان برلين. وبالمقارنة مع الأعمال السابقة بالقائمة، قد لا يكون الفيلم يعرض موتا جماعيا أمام الكاميرا، إلا أن المجزرة حاضرة في الحوار والمكان وكحالة اجتماعية مزمنة تدفع الشباب نحو قرارات مأساوية. يقدم فيلم "الجنة الآن" معالجة معقدة للصراع النفسي الذي يعيشه الفلسطيني تحت الاحتلال، حيث تتقاطع السياسة مع الوجود الشخصي، إذ يستعرض رحلة شابين نحو قرار شائك ومصيري يتعلق بالقيام بإحدى العمليات الفدائية، متتبعا حالة الشك التي تنتابهما والتأمل في معاني مثل الحياة والموت والأمل واليأس، الأمر الذي يطرحه المخرج بوصفه فعلا أخلاقيا أكثر من كونه سياسيا. فرحة بين الحلم والنكبة فيلم "فرحة"، وهو دراما تاريخية تستند إلى قصة حقيقية جرت خلال نكبة 1984، تروي الحكاية فتاة فلسطينية مراهقة تطمح إلى إكمال تعليمها وسط عالم على وشك أن يمحى بالكامل، لكن حياتها تتحول إلى كابوس بين عشية وضحاها حين تشهد مجزرة وحشية إثر اقتحام القوات الصهيونية القرية الفلسطينية التي تسكنها. اعتمدت المخرجة دارين سلام في فيلم "فرحة" على سرد شخصي لمراهقة تواجه عنف النكبة من زاوية معزولة وصامتة عبر استخدام الضوء الشاحب والفراغ الصوتي والكادرات الضيقة لنقل شعور بالحصار النفسي والذعر، مما يجعل التجربة أكثر قربا من مأساة فردية ذات صدى جمعي، ورغم أن صوت الضحية يكاد يكون مكتوما، فإن الكاميرا تمنحه حضورا هادرا. يذكر أن الفيلم تعرض إلى هجوم واسع من الإعلام الإسرائيلي حين عرض على منصة نتفليكس، قبل أن تعقب المخرجة مؤكدة أن الفيلم مبني على شهادة حقيقية وأنه ليس أكثر فظاعة من المجازر التي أرختها الوقائع، مثل دير ياسين وصفورية والطنطورة. تجمع الأفلام السابقة بين الوثيقة والشهادة، وبين الجماليات السينمائية والصرخة الإنسانية، معيدة تعريف معنى أن تكون الضحية لكنك في الوقت نفسه مرئيا ومسموعا وممثلا بكامل إنسانيتك.