
عبد الحميد بعلبكي بين واقعية الحرب وما بعد الحداثة
لم يعرف الرسام عبد الحميد بعلبكي المهادنة، بل عاش حياته منسجماً مع أفكاره وقناعاته الفنية، التي لم تكن تتفق دوماً مع الاتجاهات الفنية التي عرفتها بيروت طوال مراحل الحرب. فقد جسّد عبد الحميد بعلبكي ذروة الانقسام الحاصل بين العودة إلى الواقعية كنتيجة من نتائج الحرب وتداعياتها، وتوجهات فنون ما بعد الحداثة الغربية، التي اعتبرت أن العودة إلى الواقع يعني رجوع الفن إلى الوراء. وقد تجلى ذلك حين تقدم بعلبكي بلوحة من أعماله ليشارك بها في صالون الخريف في متحف سرسق (عام 1992) لِيُفاجأ برفضها من قِبل لجنة التحكيم، مما أثار زوبعة في الوسط الثقافي والإعلامي، على أثرها أعلن الفنان استنكاره ودعا في بيانٍ له إلى إقامة "صالون للمرفوضين" بديلٍ عن صالون سرسق، أسوة بمثيله في باريس وبعض الصالونات الأخرى كصالون المستقلين.
رسم ذاتي للفنان عبد الحميد بعلبكي (خدمة المتحف)
كأن الزمن كفيلٌ بالمصالحة بين الماضي والحاضر، لذا جاءت مبادرة متحف سرسق (بعد 33 عاماً) لكي تردّ الاعتبار إلى الفنان عبد الحميد بعلبكي، في موقف تضامنيّ مع أهل الجنوب المنهكين من الحرب الأخيرة، وكتحية تقدير لمنجز الفنان بشكل خاص، لا سيما بعد دمار بيته ومحترفه الفني بالكامل من جراء القصف الإسرائيلي المتكرر على مسقط رأسه في بلدة العديسة الجنوبية، الذي حوّل المكان إلى أنقاض. وهي خسارة كبيرة بلغت ما يفوق العشرين لوحة من أعماله، وما لا يحصى من الرسوم فضلاً عن مكتبته التي تضم مئات المؤلفات من الكتب النفيسة الفنية والأدبية والمخطوطات النادرة. لعل ما خفف من وطأة الخسارة أن قسماً كبيراً من اللوحات الناجية والتي سبق وعُرضت في قصر بيت الدين (يوليو/ تموز 2024)، هي من مقتنيات عائلة الفنان وبعض أصحاب المجموعات الخاصة. المعرض الذي يستمر لغاية 28 أيلول/ سبتمبر المقبل، تمكّن من استعادة جزءٍ مهم من إرثه الفني، ولكن ما لا يمكن استرجاعه هو ذكريات العمر، التي لا تُنسى في أحضان البيت الذي شيده الفنان بحبّ على رغم الأخطار على المنطقة الحدودية على تراب أجداده حيث تتعانق حكايات الأرض والطبيعة وصور الطفولة الضائعة في خزائن الماضي.
الواقعية الساخرة
بائع البطيخ- زيتية 1981 (خدمة المتحف)
بعد الغفلة تنبّه جيلٌ جديد من المسؤولين عن إدارة متحف سرسق إلى أن عبد الحميد بعلبكي هو فنانٌ مبدع ويستحق التكريم، وأن واقعيته الساخرة لا تعبّر عن الزمن الذي جاءت منه فحسب، بل تتخطى الأزمنة والذوقية الماضية، كي تطلّ علينا في أعمال أقل ما يقال عنها إنها معاصرة وقريبة من القلب ومن العين معاً. فهو يعيدنا إلى أمجاد زمن اللوحة وسيادة الموضوع ووحدة الأسلوب وصدق التوجّه الفني في ما يتعلق بالقضايا الإنسانية والمواقف السياسية والاجتماعية.
ظلّ عبد الحميد بعلبكي متمسكاً بالواقعية في الفن مثلما كان متمسكاً بأوزان الخليلي في نظم الشعر، غير أن لوحاته تعتبر شهادات على زمن الحرب الأهلية اللبنانية، والتجذّر العميق السياسي والثقافي في طروحات الهوية العربية، للتّميز عن اتجاهات الحداثة الغربية التي فرضت ذائقتها الخاصة على روح القرن العشرين. فقد ابتكر لنفسه نهجاً غير تقليدي في محاكاة التراث من مكان قريب أي من بيئته الشعبية، من خلال التماهي مع التراث الشفوي والطقوس العاشورائية والاحتفالات الدينية والحياة الداخلية المنزلية والموضوعات اليومية المستلهمة من الأحياء الفقيرة في ضواحي بيروت، بلغة واقعية ساخرة وعبثيّة وفكاهية في آن واحد لم تكن موجودة من قبل، مرتبطة بمستجدات الواقع الديموغرافي الجديد الذي أفرزته الحرب الأهلية اللبنانية. تلك اللغة الشعبية الأليفة كادت أن تؤسس لمدرسة خاصة بها لولا أن الفنان كان مُقلاً في إطلالاته ومعارضه، مع توزُّع اهتماماته بين قضايا الفن والسياسة والشعر والتفعيلة فضلاً عن انشغاله لفترة من حياته بإدارة جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت والتعليم في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية.
لوحة زيتية "بلا عنوان" (خدمة المتحف)
تمثّل أعمال عبد الحميد بعلبكي حقبة من الصراع بين طبقات الثقافة في بيروت قبيل الحرب وبعدها. طبقة النخبة من الفنانين بالنسبة لنقاد الصحف والغاليريات، والطبقة الأخرى المنسية التي تنتج وتقيم معارضها على إيقاع التوتر والمواجهة المبنية على ظروف الحرب وملابساتها وكمائنها. فحركة الترويج الفني والإعلامي وحركة البيع والشراء كانت تقودها غالباً البرجوازية اللبنانية، التي ظل عبد الحميد بعلبكي بعيداً منها بالفطرة والانتماء، منصرفاً إلى هموم العيش والإقامة والارتحال والنزوح وصعوبة التأقلم.
أسس عبد الحميد بعلبكي عائلة فنية بامتياز: أخوه الرسام فوزي وابنه أسامة وأبناء أخيه أيمن وسعيد جميعهم رسامون، وهو من مواليد العديسة، حيث نشأ في بيئة متواضعة ومعزولة وشغوفة بنظم الشعر العربي. درس الفن في باريس (1971- 1974) وتأثر بأعمال مارك شاغال وغوغان وحصل على دبلوم دراسات عليا في الفن الجداري من المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية. من أبرز لوحاته التي أنجزها في محترفه الباريسي جدارية "شجرة الحياة". أما لوحة "الحاج" التي يعود تاريخها لعام 1974 فهي تجسد طقساً شعبياً عن الاحتفال المرافق لعودة حجاج بيت الله الحرام من مكة المكرمة، تعكس تأثيرات فن الواسطي، على أسلوب بعلبكي في طريقة التسطيح والتنميق المنتمي إلى التراث الحداثي العربي.
لوحة "الحطاب" (خدمة المتحف)
أقام عبد الحميد بعلبكي في منطقة الشياح في مراهقته، وكانت الهجرة من الريف إلى المدينة سمة من سمات أهل الجنوب، قبل أن تكون سمة المثقفين منهم قبيل اندلاع الحرب الأهلية، وزادت عمليات القصف الإسرائيلي المتتالية على قرى الجنوب من حدّة هذه الهجرة باتجاه بيروت. "أرسم عالم المدينة الذي هو قدرنا من الآن فصاعداً. لكن كان التصوّر السائد أن المدينة هي عالم الأغنياء فقط، فالمناطق الشعبية داخل المدينة وفي ضواحيها هي عالمي الذي أتناول منه هذه المواضيع وأنا مرتاح، لأن تناولها والإصرار عليها لم يكونا مألوفين في الفن اللبناني من قبل".
هكذا راح عبد الحميد يراقب وجوه الناس ويلتصق بعالمهم الحميم في الحيّ الذي يقطن فيه في الشيّاح حيث كان يحظى بموضوعات مُلهمة لا حصر لها. ومن هناك ظهرت مجموعة من اللوحات منها: "في غياب سيدة البيت" و"الإسكافي العجوز" و"حارة أبو سعيد"، لعل أهمها لوحة "المرحوم" التي تعود لعام 1974 وهي عبارة عن بورتريه جنائزية ذات مناخ شعبي تستحضر إلى أذهاننا السلطة الأخلاقية للعائلة والسلوكيات الاجتماعية التي كانت تعتمد طريقة تعليق صور الراحلين على جدران الماضي. ولكنها منفّذة بأسلوب فكاهي ظريف بعيد من الجديّة. كان الأسلوب الشعبي والملحمي في سرد معاناة الناس والتعبير عن أحزمة البؤس لدى عبد الحميد بعلبكي، يكمل المسار الذي بدأه كلٌ من رفيق شرف وبول غيراغوسيان في استيحاء مناخات الحياة البائسة لدى العائلات الأرمنية في منطقة برج حمّود.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في مطلع الثمانينيات تميزت لوحة "القبضاي" الخارج عن القانون -التي دعيت أيضاً "أبو الجماجم" الذي يمثّل من وجهة نظر بعلبكي "نموذجاً لشخص استفاد من الحرب من دون أن تكون له قضية". أما لوحة "غيفارا 2" فهي عن رجل ثوري محبط وحزين. وضمن إطار الحرب والاضطراب السياسي، تعكس لوحة "الحيّ" في مشهديتها الآسرة طراز الأبنية السكنية العشوائية في بيروت. وتتميز من بين أعمال تلك المرحلة لوحة "المقهى" وهي مثقلة بالتلميحات السياسية، لا سيما وأنها تضم العديد من الشخصيات السياسية المعروفة في ذلك الحين الجالسة في المقهى وهي تدخن النارجيلة وتتحدث وتقرأ الصحف، في تنوع انفعالي مشرقي يعكس الاحتفالية المشهدية والمناخ اللذين تعج بهما المقاهي الشعبية في لبنان ومختلف العواصم العربية.
مع الناس وضد اللوحة الصالونية
لطالما كان مفتوناً بالفن الجداري، منذ لوحة "عاشوراء" بطقسها الديني الملحمي انتقالاً إلى "جدارية الحرب" التي أعقبت حرب السنتين، واعتبرت وثيقة إدانة صارخة لهمجية الحرب والقتل والتدمير حتى دعيت في ما بعد بـ"الغرنيكا". سعى عبد الحميد إلى مخاطبة الجماهير عبر جداريات تصوّر مواضيع تاريخية ملحمية، آتية من إغراءات فكرة الرسم الجداري في الفن المكسيكي الحديث (ريفيرا وأوزوكو وسيكيروس) الذين غطت جدارياتهم الملحمية قاعات المعارض، بما يخدم أغراض التوجه الشعبيّ. وفي هذا المعنى اللوحة هي نقيض اللوحة الصالونية البرجوازية.
وكان يستشهد بقول للشاعر نيرودا: "أعلن الآن، اختار هذا المكان، كلماتي فؤوس ولصوتي شكل اليدين، أعلن الآن أني حطّاب هذا الزمان"، ثم لتأتي جدارية "الحطّاب" التي رسمها بعلبكي عام 1990 التي تشغل فضاءها غابة من الأشجار الميتة ذات الأغصان المتشابكة والمسننة على نحو غرائبي، على أرضية من العشب الأخضر، حيث يجلس الحطّاب متأملاً تاركاً منجله مغروساً في لحم الشجرة. وقد سبقت هذه اللوحة دراسات عديدة بالطبشور الأحمر تعود لعام 1989، تومئ بالبعد الإنساني للأشجار التي تنوء كالبشر وتتألم وتصرخ وتفزع وتنحني وتيبس وتموت. وعلى رغم أن عبد الحميد بعلبكي عاش 23 سنة بعد هذه الجدارية ولكنها بقيت تحفته الأخيرة، وظلت النظرة العدمية تظهر بين حين وآخر في نتاجه ما بعد عام 1990 ضمن إطار مناظره الطبيعية للصخور والقرى والأرياف، تدل على اليباس الروحي والشجن العاطفي.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الوطن
٠٥-٠٤-٢٠٢٥
- الوطن
التنافر المعرفي بين العقلانية والعقلنة 2-2
سنكمل المقاربة باستخدام مصطلحين، وهما (العقلانية/Rationality) باعتبارها القدرة على التفكير بطريقة منطقية، و(العقلنة/ Rationalization)، باعتبارها عملية تفسير وتبرير سلوكيات أو قرارات لتبدو منطقية، حتى لو كانت قد نفذت بدوافع غير عقلانية، ثم تتضح الصورة أكثر في معنى «العقلنة» من خلال ما ذكره الأخوان بعلبكي في قاموسهما عن كلمة: (rationalize: يعزو «المرء» تصرفاته إلى عوامل عقلانية مشرفة من غير تحليل للدوافع الحقيقية، وبخاصة للدوافع اللاواعية) المورد: عربي إنجليزي، ط4، 1999، ص760-761. وهنا تبدأ «مذبحة التنوير العربي» ما بين «العقلانية والعقلنة بسبب التنافر المعرفي» منذ عودة «الطهطاوي إلى مصر، فعمل لمدة كمترجم في مدارس التخصص الجديدة وفي 1863 عين رئيساً لمدرسة اللغات الجديدة/راجع: ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة 1798ــــ1939، ص81»، فالأغلبية من أكاديميي العالم العربي انحازت إلى «العقلنة» لنغرق في بحر من «الثرثرة الأكاديمية!!»، بينما الأقلية وهم النخبة الفكرية من الأكاديميين تعيش أول حياتها «الكفاح العلمي» في «عقلانية» راقية، يحطمها -في كل يوم تذهب فيه إلى الجامعة- الأغلبية التي تخلت عن «العقلانية» وعاشت «العقلنة» ليصبح نشازًا بينهم، ولأن «العقلنة» أقرب للإطار الاجتماعي ومتطلباته وأعرافه فسيقود التأثير الاجتماعي من يستطيع مثلاً تأليف كتاب عن «الإعجاز العلمي» في قصيدة «امرؤ القيس» الذي سبق «نيوتن» ببضعة قرون في اكتشاف قانون الجاذبية عندما قال: «كجلمود صخر حطه السيل من عل»؟!، ثم تجد هؤلاء يثيرون الرأي العام ضد رموز العقلانية وصولاً للمحاكم أو الموت أحيانًا- هذا مثال افتراضي تجنبًا لذكر أمثلة وأسماء أكاديمية حقيقية- وعليها قس ما شئت من كوميديا سوداء في «ألعاب العقلنة» التي لا علاقة لها بالعقلانية لا من قريب ولا من بعيد، المهم أن يردم الأكاديمي الحاصل على «الدكتوراه» هذا «التنافر المعرفي» الضاغط على وجدانه وعقله، وهنا يظهر لنا النموذج الأخير في معالجة التنافر المعرفي، والذي سبق وأن وقع فيه علماء غربيون عندما كتبوا عن الشرق، فجاء أنور عبدالملك محذراً ثم إدوارد سعيد كاشفاً اللامنهجية عند كثير منهم في كتابه «الاستشراق»، وسبب هناتهم في نظري هي في «التنافر المعرفي» الضاغط على منهجيتهم العلمية إلى حد الوقوع فيما ذكره إدوارد سعيد، ولأن الجمل لا يرى اعوجاج رقبته. فقد أقام حسن حنفي منذ أكثر من عقدين مقدمته في «علم الاستغراب» لتنهمر علينا حتى الآن دراسات ومؤلفات كأنها الوجه المقابل لنفس أخطاء «الاستشراق»، يقول الدكتور أنور مغيث، أستاذ الفلسفة والمدير السابق للمركز القومي للترجمة: «كل الاعتراضات على الاستشراق تبدو منعكسة على الاستغراب، ويؤخذ عليه نفس المأخذ، إنه يتكلم عن الغرب على أنه وحدة واحدة، وجوهر واحد، وله تصور نمطي عن الغرب، أنه قاهر ومستبد فقط.. عبارة عن تصورات مع الغرب وليس الغرب كله، ومن ثم هو علم من الناحية المعرفية مطعون في تأسيسه.. كل هذا كفيل أن ينتج أحكامًا ولا يدرس معارف، لن نحصل منه على معرفة جديدة، وإنما على أحكام، بأن هذا غرور، وأن هذا كبرياء، وأن هذه غطرسة، وأن هذا استبداد، وأن هذا توحش، أحكام كثيرة، ليست خاطئة، ولكن ليس هذا ما ننتظره، العلم مفروض أن ينتج معرفة وليس أحكاماً أخلاقية وقيمية على الآخرين». علمًا بأن التغيير بالقوة وفق «نظرية التنافر المعرفي» لا تثق به مهما كانت الشعارات وصلابة القمع، قرأناه في الاتحاد السوفيتي وفي ناصرية مصر ثم رأيناه في بعث العراق وسورية، وعقدة نرسيس المزمنة في «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى».. التغيير بالقوة يجعل الزعيم على سجادة فاخرة وتحتها عفن يفوح لصديد وقيح «الرأي العام»، مهما أسرف في بخور الاستعراض العسكري وعطور البروباغندا. أخيرًا: لا أبرئ نفسي من «العقلنة» إذ تغلبني المسغبة فأجامل السراب بألقاب «الماء»، لكن يقينًا أني بذلت مجهودي في الطهارة الفكرية، متيممًا صعيد الواقع، ضربت بيدي على التراب ومسحت وجهي وكفي.. أضرب أكباد إبلي/كتبي منذ ثلاثين عامًا ولمَّا أصل بعد.


Independent عربية
١٠-٠٣-٢٠٢٥
- Independent عربية
عبد الحميد بعلبكي بين واقعية الحرب وما بعد الحداثة
لم يعرف الرسام عبد الحميد بعلبكي المهادنة، بل عاش حياته منسجماً مع أفكاره وقناعاته الفنية، التي لم تكن تتفق دوماً مع الاتجاهات الفنية التي عرفتها بيروت طوال مراحل الحرب. فقد جسّد عبد الحميد بعلبكي ذروة الانقسام الحاصل بين العودة إلى الواقعية كنتيجة من نتائج الحرب وتداعياتها، وتوجهات فنون ما بعد الحداثة الغربية، التي اعتبرت أن العودة إلى الواقع يعني رجوع الفن إلى الوراء. وقد تجلى ذلك حين تقدم بعلبكي بلوحة من أعماله ليشارك بها في صالون الخريف في متحف سرسق (عام 1992) لِيُفاجأ برفضها من قِبل لجنة التحكيم، مما أثار زوبعة في الوسط الثقافي والإعلامي، على أثرها أعلن الفنان استنكاره ودعا في بيانٍ له إلى إقامة "صالون للمرفوضين" بديلٍ عن صالون سرسق، أسوة بمثيله في باريس وبعض الصالونات الأخرى كصالون المستقلين. رسم ذاتي للفنان عبد الحميد بعلبكي (خدمة المتحف) كأن الزمن كفيلٌ بالمصالحة بين الماضي والحاضر، لذا جاءت مبادرة متحف سرسق (بعد 33 عاماً) لكي تردّ الاعتبار إلى الفنان عبد الحميد بعلبكي، في موقف تضامنيّ مع أهل الجنوب المنهكين من الحرب الأخيرة، وكتحية تقدير لمنجز الفنان بشكل خاص، لا سيما بعد دمار بيته ومحترفه الفني بالكامل من جراء القصف الإسرائيلي المتكرر على مسقط رأسه في بلدة العديسة الجنوبية، الذي حوّل المكان إلى أنقاض. وهي خسارة كبيرة بلغت ما يفوق العشرين لوحة من أعماله، وما لا يحصى من الرسوم فضلاً عن مكتبته التي تضم مئات المؤلفات من الكتب النفيسة الفنية والأدبية والمخطوطات النادرة. لعل ما خفف من وطأة الخسارة أن قسماً كبيراً من اللوحات الناجية والتي سبق وعُرضت في قصر بيت الدين (يوليو/ تموز 2024)، هي من مقتنيات عائلة الفنان وبعض أصحاب المجموعات الخاصة. المعرض الذي يستمر لغاية 28 أيلول/ سبتمبر المقبل، تمكّن من استعادة جزءٍ مهم من إرثه الفني، ولكن ما لا يمكن استرجاعه هو ذكريات العمر، التي لا تُنسى في أحضان البيت الذي شيده الفنان بحبّ على رغم الأخطار على المنطقة الحدودية على تراب أجداده حيث تتعانق حكايات الأرض والطبيعة وصور الطفولة الضائعة في خزائن الماضي. الواقعية الساخرة بائع البطيخ- زيتية 1981 (خدمة المتحف) بعد الغفلة تنبّه جيلٌ جديد من المسؤولين عن إدارة متحف سرسق إلى أن عبد الحميد بعلبكي هو فنانٌ مبدع ويستحق التكريم، وأن واقعيته الساخرة لا تعبّر عن الزمن الذي جاءت منه فحسب، بل تتخطى الأزمنة والذوقية الماضية، كي تطلّ علينا في أعمال أقل ما يقال عنها إنها معاصرة وقريبة من القلب ومن العين معاً. فهو يعيدنا إلى أمجاد زمن اللوحة وسيادة الموضوع ووحدة الأسلوب وصدق التوجّه الفني في ما يتعلق بالقضايا الإنسانية والمواقف السياسية والاجتماعية. ظلّ عبد الحميد بعلبكي متمسكاً بالواقعية في الفن مثلما كان متمسكاً بأوزان الخليلي في نظم الشعر، غير أن لوحاته تعتبر شهادات على زمن الحرب الأهلية اللبنانية، والتجذّر العميق السياسي والثقافي في طروحات الهوية العربية، للتّميز عن اتجاهات الحداثة الغربية التي فرضت ذائقتها الخاصة على روح القرن العشرين. فقد ابتكر لنفسه نهجاً غير تقليدي في محاكاة التراث من مكان قريب أي من بيئته الشعبية، من خلال التماهي مع التراث الشفوي والطقوس العاشورائية والاحتفالات الدينية والحياة الداخلية المنزلية والموضوعات اليومية المستلهمة من الأحياء الفقيرة في ضواحي بيروت، بلغة واقعية ساخرة وعبثيّة وفكاهية في آن واحد لم تكن موجودة من قبل، مرتبطة بمستجدات الواقع الديموغرافي الجديد الذي أفرزته الحرب الأهلية اللبنانية. تلك اللغة الشعبية الأليفة كادت أن تؤسس لمدرسة خاصة بها لولا أن الفنان كان مُقلاً في إطلالاته ومعارضه، مع توزُّع اهتماماته بين قضايا الفن والسياسة والشعر والتفعيلة فضلاً عن انشغاله لفترة من حياته بإدارة جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت والتعليم في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية. لوحة زيتية "بلا عنوان" (خدمة المتحف) تمثّل أعمال عبد الحميد بعلبكي حقبة من الصراع بين طبقات الثقافة في بيروت قبيل الحرب وبعدها. طبقة النخبة من الفنانين بالنسبة لنقاد الصحف والغاليريات، والطبقة الأخرى المنسية التي تنتج وتقيم معارضها على إيقاع التوتر والمواجهة المبنية على ظروف الحرب وملابساتها وكمائنها. فحركة الترويج الفني والإعلامي وحركة البيع والشراء كانت تقودها غالباً البرجوازية اللبنانية، التي ظل عبد الحميد بعلبكي بعيداً منها بالفطرة والانتماء، منصرفاً إلى هموم العيش والإقامة والارتحال والنزوح وصعوبة التأقلم. أسس عبد الحميد بعلبكي عائلة فنية بامتياز: أخوه الرسام فوزي وابنه أسامة وأبناء أخيه أيمن وسعيد جميعهم رسامون، وهو من مواليد العديسة، حيث نشأ في بيئة متواضعة ومعزولة وشغوفة بنظم الشعر العربي. درس الفن في باريس (1971- 1974) وتأثر بأعمال مارك شاغال وغوغان وحصل على دبلوم دراسات عليا في الفن الجداري من المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية. من أبرز لوحاته التي أنجزها في محترفه الباريسي جدارية "شجرة الحياة". أما لوحة "الحاج" التي يعود تاريخها لعام 1974 فهي تجسد طقساً شعبياً عن الاحتفال المرافق لعودة حجاج بيت الله الحرام من مكة المكرمة، تعكس تأثيرات فن الواسطي، على أسلوب بعلبكي في طريقة التسطيح والتنميق المنتمي إلى التراث الحداثي العربي. لوحة "الحطاب" (خدمة المتحف) أقام عبد الحميد بعلبكي في منطقة الشياح في مراهقته، وكانت الهجرة من الريف إلى المدينة سمة من سمات أهل الجنوب، قبل أن تكون سمة المثقفين منهم قبيل اندلاع الحرب الأهلية، وزادت عمليات القصف الإسرائيلي المتتالية على قرى الجنوب من حدّة هذه الهجرة باتجاه بيروت. "أرسم عالم المدينة الذي هو قدرنا من الآن فصاعداً. لكن كان التصوّر السائد أن المدينة هي عالم الأغنياء فقط، فالمناطق الشعبية داخل المدينة وفي ضواحيها هي عالمي الذي أتناول منه هذه المواضيع وأنا مرتاح، لأن تناولها والإصرار عليها لم يكونا مألوفين في الفن اللبناني من قبل". هكذا راح عبد الحميد يراقب وجوه الناس ويلتصق بعالمهم الحميم في الحيّ الذي يقطن فيه في الشيّاح حيث كان يحظى بموضوعات مُلهمة لا حصر لها. ومن هناك ظهرت مجموعة من اللوحات منها: "في غياب سيدة البيت" و"الإسكافي العجوز" و"حارة أبو سعيد"، لعل أهمها لوحة "المرحوم" التي تعود لعام 1974 وهي عبارة عن بورتريه جنائزية ذات مناخ شعبي تستحضر إلى أذهاننا السلطة الأخلاقية للعائلة والسلوكيات الاجتماعية التي كانت تعتمد طريقة تعليق صور الراحلين على جدران الماضي. ولكنها منفّذة بأسلوب فكاهي ظريف بعيد من الجديّة. كان الأسلوب الشعبي والملحمي في سرد معاناة الناس والتعبير عن أحزمة البؤس لدى عبد الحميد بعلبكي، يكمل المسار الذي بدأه كلٌ من رفيق شرف وبول غيراغوسيان في استيحاء مناخات الحياة البائسة لدى العائلات الأرمنية في منطقة برج حمّود. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) في مطلع الثمانينيات تميزت لوحة "القبضاي" الخارج عن القانون -التي دعيت أيضاً "أبو الجماجم" الذي يمثّل من وجهة نظر بعلبكي "نموذجاً لشخص استفاد من الحرب من دون أن تكون له قضية". أما لوحة "غيفارا 2" فهي عن رجل ثوري محبط وحزين. وضمن إطار الحرب والاضطراب السياسي، تعكس لوحة "الحيّ" في مشهديتها الآسرة طراز الأبنية السكنية العشوائية في بيروت. وتتميز من بين أعمال تلك المرحلة لوحة "المقهى" وهي مثقلة بالتلميحات السياسية، لا سيما وأنها تضم العديد من الشخصيات السياسية المعروفة في ذلك الحين الجالسة في المقهى وهي تدخن النارجيلة وتتحدث وتقرأ الصحف، في تنوع انفعالي مشرقي يعكس الاحتفالية المشهدية والمناخ اللذين تعج بهما المقاهي الشعبية في لبنان ومختلف العواصم العربية. مع الناس وضد اللوحة الصالونية لطالما كان مفتوناً بالفن الجداري، منذ لوحة "عاشوراء" بطقسها الديني الملحمي انتقالاً إلى "جدارية الحرب" التي أعقبت حرب السنتين، واعتبرت وثيقة إدانة صارخة لهمجية الحرب والقتل والتدمير حتى دعيت في ما بعد بـ"الغرنيكا". سعى عبد الحميد إلى مخاطبة الجماهير عبر جداريات تصوّر مواضيع تاريخية ملحمية، آتية من إغراءات فكرة الرسم الجداري في الفن المكسيكي الحديث (ريفيرا وأوزوكو وسيكيروس) الذين غطت جدارياتهم الملحمية قاعات المعارض، بما يخدم أغراض التوجه الشعبيّ. وفي هذا المعنى اللوحة هي نقيض اللوحة الصالونية البرجوازية. وكان يستشهد بقول للشاعر نيرودا: "أعلن الآن، اختار هذا المكان، كلماتي فؤوس ولصوتي شكل اليدين، أعلن الآن أني حطّاب هذا الزمان"، ثم لتأتي جدارية "الحطّاب" التي رسمها بعلبكي عام 1990 التي تشغل فضاءها غابة من الأشجار الميتة ذات الأغصان المتشابكة والمسننة على نحو غرائبي، على أرضية من العشب الأخضر، حيث يجلس الحطّاب متأملاً تاركاً منجله مغروساً في لحم الشجرة. وقد سبقت هذه اللوحة دراسات عديدة بالطبشور الأحمر تعود لعام 1989، تومئ بالبعد الإنساني للأشجار التي تنوء كالبشر وتتألم وتصرخ وتفزع وتنحني وتيبس وتموت. وعلى رغم أن عبد الحميد بعلبكي عاش 23 سنة بعد هذه الجدارية ولكنها بقيت تحفته الأخيرة، وظلت النظرة العدمية تظهر بين حين وآخر في نتاجه ما بعد عام 1990 ضمن إطار مناظره الطبيعية للصخور والقرى والأرياف، تدل على اليباس الروحي والشجن العاطفي.


الناس نيوز
٢٨-٠٢-٢٠٢٥
- الناس نيوز
معرض استعادي لفنان تشكيلي لبناني دمّرت الحرب منزله وقسما من أعماله
بيروت وكالات – الناس نيوز :: يعيد معرض تكريمي في بيروت إحياء عالم الفنان اللبناني الراحل عبد الحميد بعلبكي الذي دمّرت الحرب الأخيرة في لبنان منزله وقسما من نتاجه التشكيلي في قريته المتاخمة للحدود مع إسرائيل، بعدما كانت البلدة والحرب ومجتمعه مَحاور لأعماله. ويسترجع هذا المعرض الذي يفتتح الخميس ويستمر إلى 28 ايلول/ سبتمبر بمبادرة من متحف سرسق، مسيرة عبد الحميد بعلبكي (1940-2013) الذي رسم بواقعية تعبيرية مآسي الحرب وقضايا الإنسان وعائلته وبلدته العديسة التي أحبها. وقالت مديرة متحف سرسق ومنسقة المعرض كارينا الحلو لوكالة فرانس برس 'بعدما شهدنا في الحرب الأخيرة ما تعرّض له منزل الفنان بعلبكي من تدمير، أردنا ان يكون لنا دور في تكريم الفنانين اللبنانيين ليس فقط في أفراحهم بل أيضا في أحزانهم'. واضافت 'نجتمع اليوم من خلال عمله، حول الفن وليس الدمار'. ورأى نجل الرسام الراحل الفنان التشكيلي أسامة بعلبكي أن المعرض تحية إلى والده الذي اشتهر في سبعينات القرن الماضي 'ومن خلاله للإرث المنتهك ولكل الذين تعرضوا إلى خسائر في الجنوب'. – لوحة 'مهجرة'- وتوزعت في صالتين من الطبقة الأولى لمتحف سرسق ثلاث جداريات و50 لوحة زيتية ومجموعة من 20 رسما ورقيا عنوانها 'الاشجار الميتة' ميزت عمل بعلبكي في التسعينات. وهي أعمال اختيرت من مجموعات خاصة. ويُعرض شريط فيديو يضم مقابلات لمقربين منه. فيما تستريح مجموعة من الكتب الشعرية والتراثية التي ألّفها الى جانب شاشة صغيرة تتوالى عليها صور فوتوغرافية من أرشيفه الخاص وقصاصات لمقابلات صحافية اجريت معه. و على رفّ اخر مجموعة من الكتب القديمة والنادرة التي كان يجمعها. ويدخل الزائر عالم عبد الحميد بعلبكي بمشاهد رصدتها ريشة الفنان، تحكي قصص بيروت من 'القبضاي' (أي القوي) الى بائع البطيخ. ويلامس الراحل في رسم النظرات الحزينة وجع الإنسان، كما في لوحة 'الرحيل'، وفي عيون أخرى، يتجلى الحلم، كما في لوحة الأم التي تروي قصة لابنها. وغمس عبد الحميد بعلبكي ريشته بألوان طبيعة منطقة جبل عامل التي فتح عينيه عليها وحلم في أرجائها، إذ تقع فيها بلدته في جنوب لبنان. وشرح أسامة الذي ورث روح والده الفنية 'رسم أبي مناخات المنظر الطبيعي بنكهته الجنوبية وهو من رواد من رسم هذا الاقليم الذي تميزه الألوان والضوء وطبيعة تغلب عليها الهضاب والمنحى الأجرد مما يجعل التشكيل اللوني متنوعا'. وتتوزع الوجوه المفجوعة والجثث الممددة والبيوت المدمرة والأشجار المحروقة وطائر البوم الذي ينذر بالشؤم في فضاء جدارية عنوانها 'الحرب'، رسمها بعلبكي الأب عام 1977 في المرحلة الأولى من الحرب اللبنانية. ولاحظ فيها أسامة 'تصورا فجاعيا للحرب نتيجة الصدمة التي عاشها جيل عبد الحميد بعلبكي مع بداية الحرب اللبنانية التي أحرقت كل شيء وأحرقت لبنانهم القديم'، مشيرا إلى أن لها مكانة خاصة بين بقية الأعمال التشكيلية التي أنتجت خلال الحرب. وذكّر بأن الصحافة أطلقت على هذه اللوحة إسم 'غرنيكا الحرب الأهلية' تيمنا بلوحة الفنان الاسباني بابلو بيكاسو 'غرنيكا' المستوحاة من الحرب الأهلية الإسبانية. وهذه اللوحة 'تنقلت كأنها كائن حي هجرته الحرب' رغبة من بعلبكي في الحفاظ عليها، على ما روى نجله، مضيفا: 'كان يضعها عند اصدقائه (…). وفي العام 1993 أعدناها الى بيتنا في بيروت'، قبل أن تقتنيها مجموعة مصرفية كبيرة. – المنزل المتحف- بعد وفاة عبد الحميد بعلبكي عن عمر 73 عاما، نقلت العائلة الجزء الأكبر من لوحاته الى بيروت. وروى أسامة أن بعلبكي الأب تراجع اهتمامه بالرسم بسبب انشغالاته الكثيرة 'إذ كان في ترحال دائم وتهجُّر من منطقة الى منطقة منذ طفولته حتى وفاته حيث استقر في الربع الأخير من حياته في العديسة التي استوعبت ارثه المتراكم على ضخامته'. لكنّ 'الحرب تجرف وبلمح البصر جهود اجيال'، على قول الإبن. فالجيش الإسرائيلي عمَد بين أيلول/سبتمبر وتشرين الثاني/نوفمبر الفائت، خلال حربه مع حزب الله، إلى 'تفجير منهجي' لأحياء وقرى 'دُمرت أو أحرقت وتحولت أرضا غير قابلة للعيش' بحسب الرسام الأربعيني، ومن جملتها المنزل الأندلسي الطراز الذي شيده الفنان عام 1984 وفي حديقته ووريَ رفاته ورفات زوجته. وسعى بعلبكي وهو اب لثمانية اولاد ومن بينهم، إضافة الى اسامة، كلّ من المغنية سمية والمايسترو لبنان، إلى أن يكون منزله أقرب إلى مركز فني وثقافي في المنطقة ويحتوي على الكثير من الأعمال الفنية ومكتبة ضخمة وتحف وأغراض قيمة'، لكنه أصبح اليوم مجرّد تلة ركام. لم يبق من المنزل- المتحف سوى ذكريات، وبحسب الرسام الذي نشأ في أجواء المكان ويعرف جيدا محتوياته أن التفجير أتلف عشرات الأعمال الزيتية لوالده ولوحات لفنانين آخرين، ومجموعة من ثماني منحوتات وعشرات الرسوم بالحبر إضافة الى مكتبة تحوي آلاف الكتب والمجلدات، من بينها طبعات نادرة.