
العمل الخيري في مناطق النزاع: عبور "الجبهة الإنسانية" نحو أفق جديد
لطالما ارتبط العمل الإنساني في المخيلة البشرية بصورةٍ من النبل المطلق؛ أيادٍ ممدودة بالعون تعبر الحدود والحواجز لتبلسم جراح المنكوبين، مدفوعة بقيمة إنسانية عالمية تتجاوز السياسة والعرق والدين.
كانت هذه الصورة، في جوهرها، تعبيرًا عن حصانة أخلاقية تمنح العاملين في هذا الحقل تذكِرة عبور آمنة في أكثر بقاع الأرض اشتعالًا. لكن، على مدى العقدين الماضيين، بدأت هذه الصورة المثالية تتشظى، وتلك الحصانة تتآكل، ليجد العمل الخيري نفسه في قلب العاصفة.
في ورقة عمل بحثية مؤثرة صدرت عام 2008، صاغ الباحث برونو دي كوردييه مصطلحًا دقيقًا لوصف هذا الواقع الجديد: "الجبهة الإنسانية الأمامية" (The Humanitarian Frontline). هذا المفهوم لا يشير إلى خط تماس جغرافي، بل إلى سياق عملياتي معقد أصبحت فيه المساعدات الإنسانية خاضعة للاستقطاب، ومُسيَّسة، ومرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بأجندات أمنية وجيوسياسية.
يستكشف هذا المقال أبعاد هذه الجبهة المعقدة، انطلاقًا من تآكل النموذج التقليدي، مرورًا بازدواجية دور الفاعل الديني، وصولًا إلى ما كشفته حرب غزة من تجسيد دامٍ لهذا الواقع، لنستشرف في النهاية ملامح إستراتيجية جديدة للبقاء والتأثير.
تآكل النموذج التقليدي: حين يصبح "الحياد" تهمة
كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، وما تلاها من "حرب على الإرهاب"، بمثابة نقطة تحول زلزلت أسس العمل الإنساني. فمع غزو أفغانستان ثم العراق، وتنامي الخطاب العالمي الذي يقسم العالم وفق "معنا أو ضدنا"، أصبح من المستحيل تقريبًا الحفاظ على مسافة آمنة من السياسة.
لقد تمَّ دمج المساعدات الإنسانية والتنموية بشكل متزايد ضمن إستراتيجيات الأمن القومي للدول المانحة الغربية، بوصفها أداة من أدوات القوة الناعمة لتحقيق الاستقرار وكسب "القلوب والعقول".
هذا "الاستتباع" السياسي، سواء كان حقيقيًا أم متصورًا، قاد إلى نتيجة كارثية على الأرض: تآكل الثقة؛ ففي نظر شرائح واسعة من المجتمعات المحلية في مناطق النزاع، لم يعد بالإمكان التمييز بوضوح بين الجندي الغربي الذي يحمل بندقية، والدبلوماسي الذي يقدم وعودًا سياسية، والعامل الإنساني الذي يوزع الطحين.
صار الحياد الذي تتغنى به المنظمات الإنسانية في مواثيقها تهمة لا فضيلة، وبات يُنظر إليه كقناع يخفي أجندة استعمارية جديدة. هذا الواقع لم يؤدِّ فقط إلى زيادة المخاطر الأمنية، بل قوّض أيضًا من فاعلية البرامج نفسها، تاركًا فراغًا هائلًا على الأرض.
صعود الفاعل الديني: ملء الفراغ أم تعميق الانقسام؟
في خضم هذا الفراغ، بزغ نجم فاعل جديد قديم: المنظمات الخيرية القائمة على أساس ديني. لم يكن صعودها وليد الصدفة، بل جاء نتيجة لقدرتها على تقديم نموذج يستمد شرعيته من الداخل. تتمتع هذه المنظمات بمزايا نسبية لا يمكن تجاهلها، أهمها التجذر الثقافي والشرعية المحلية المستمدة من مؤسسات دينية موثوقة، وشبكات اجتماعية أصيلة.
لكن هذا الصعود محفوف بازدواجية معقدة، فالقوة التي تمنحها الهوية الدينية لهذه المنظمات هي نفسها مصدر خطرها الأكبر؛ فهناك خطر الاستغلال والتوظيف السياسي من قبل أطراف النزاع أو الجماعات المتطرفة، وخطر الانغلاق والطائفية الذي قد يعمق الانقسامات الاجتماعية.
وفوق كل ذلك، تواجه هذه المنظمات -وخاصة الإسلامية منها- تحديًا خارجيًا هائلًا، يتمثل في القيود المالية المشددة المفروضة من قبل الحكومات الغربية تحت شعار "مكافحة الإرهاب".
وهكذا، تجد المنظمة الخيرية الدينية نفسها عالقة بين مطرقة الشكوك المحلية وسندان القيود الدولية. ولم تكن هناك ساحة كشفت هذه التعقيدات بشكل أكثر مأساوية من غزة.
غزة 2024: التجسيد الدامي لـ "الجبهة الإنسانية الأمامية"
لقد حولت الحرب على غزة منذ أواخر 2023 مفهوم "الجبهة الإنسانية الأمامية" من إطار نظري إلى حقيقة دامية لا يمكن إنكارها. لقد أصبحت غزة المختبر الأكثر وحشية الذي تتجسد فيه كل مخاطر تسييس المساعدات، حيث تحول العمل الإنساني إلى جزء من ساحة المعركة نفسها.
أولًا، تجلى استخدام الغذاء كسلاح حرب بأوضح صوره عبر سياسة الحصار الخانق، والتحكم الصارم في المعابر، إذ تحولت المساعدات من حق إنساني أساسي إلى أداة ضغط عسكري، يتم منحها أو منعها بما يخدم أهداف الحرب، وهو ما وثقته كبرى المنظمات الحقوقية العالمية.
ثانيًا، شهدت هذه الجبهة الانهيار الكامل لمبدأ الحصانة الإنسانية.. كانت حادثة مقتل سبعة من عمال الإغاثة التابعين لمنظمة "المطبخ المركزي العالمي" (World Central Kitchen) بغارات إسرائيلية دقيقة، في أبريل/ نيسان 2024، بمثابة الصدمة التي كشفت هذا الواقع. لم يكن الضحايا في المكان الخطأ بالصدفة؛ لقد تم استهداف قافلتهم المعروفة والمنسقة مسبقًا، ما بعث برسالة واضحة مفادها أنه لا يوجد مكان آمن للمساعدات في غزة.
ثالثًا، وهو الأخطر، برزت إشكالية "الأيادي الخفية" وتوظيف الواجهات الإنسانية؛ فمع إنشاء الرصيف البحري الأميركي، الذي قُدّم كحل إنساني، تكشفت خيوط علاقة معقدة بين العمل العسكري والإنساني. بلغت أزمة الثقة ذروتها بعد عملية تحرير الرهائن في النصيرات، حيث ظهرت اتهامات قوية بأن المنطقة المحيطة بالرصيف الإنساني قد استُخدمت كغطاء للعملية العسكرية.
هذا التداخل بين ما هو إنساني وما هو عسكري-استخباراتي دمر ما تبقى من ثقة لدى السكان المحليين، وحوّل الرصيف من ممر للغذاء إلى أداة عسكرية مشبوهة في نظرهم، ما ورط المنظمات الإنسانية، وجعلها عرضة للاتهام بالتواطؤ.
إن أحداث غزة أثبتت أن "الجبهة الإنسانية" لم تعد مجرد نظرية، بل هي واقع يومي يُقتل فيه عامل الإغاثة، ويُستخدم فيه رغيف الخبز كأداة حرب، وتُطمس فيه الحدود بين يد العون ويد القوة القاهرة.
ما بعد الجبهة الأمامية: ملامح إستراتيجية جديدة للبقاء والتأثير
إن عبور هذه الجبهة الدامية لا يعني العودة إلى نموذج البراءة المفقود، بل يتطلب تطوير إستراتيجية جديدة أكثر نضجًا ووعيًا بالواقع.
لم يعد كافيًا أن تكون النوايا حسنة؛ بل يجب أن تقترن بالحكمة والاحترافية والجرأة. ويمكن تحديد ملامح هذه الإستراتيجية في ثلاثة محاور رئيسية:
الاحترافية الجذرية والشفافية المطلقة: لمواجهة تهمة التسييس وسوء الإدارة، يجب على جميع المنظمات الخيرية أن تتبنى أعلى معايير الحوكمة الرشيدة. هذا يعني وجود أنظمة محاسبة مالية صارمة، وآليات واضحة للمراقبة والتقييم، ونشر تقارير دورية شفافة.
الشفافية لم تعد ترفًا، بل هي درع الحماية الأساسي في بيئة مليئة بالشكوك.
نحو "المَحَلّيّة المفرطة" (Hyper-Localization): أثبتت التجربة أن الحلول الأكثر استدامة هي تلك التي تنبع من المجتمع نفسه. على المنظمات الدولية الكبرى أن تتخلى عن دور المنفّذ المباشر، وتتحول إلى دور المُمكّن والداعم للمنظمات المحلية.
يجب تحويل السلطة والموارد والقرار إلى الفاعلين المحليين الذين يمتلكون المعرفة والثقة والقدرة على الوصول.
بناء الجسور وتوسيع التحالفات: في عالم مستقطب، يكمن الأمان في بناء التحالفات الواسعة.. على المنظمات الدينية أن تسعى بوعي لتقديم خدماتها للجميع دون تمييز، وأن تبني شراكات مع منظمات من خلفيات أخرى، بما فيها العلمانية. وعلى المنظمات العلمانية أن تتخلى عن نظرتها الفوقية للدين، وأن تعترف بالدور الإيجابي الذي يمكن أن يلعبه الفاعلون الدينيون.
في الختام، إن مفهوم "الجبهة الإنسانية الأمامية"، الذي تجسد بأبشع صوره في غزة، ليس حكمًا بالإعدام على العمل الخيري، بل هو دعوة للاستيقاظ.. إنه يجبرنا على التخلي عن التبسيط، والنظر بعمق في تعقيدات عالمنا.
إن الطريق إلى الأمام ليس بالعودة إلى حياد مستحيل، بل بصياغة "حياد ملتزم"، حياد لا يعني الصمت عن الظلم، بل يعني الالتزام المطلق بالمبادئ الإنسانية الأساسية، والتفاوض بصلابة للحفاظ على مساحة مستقلة للعمل، والتجذر بعمق في المجتمعات التي نخدمها.
إن عبور هذه الجبهة يتطلب جيلًا جديدًا من العاملين في الحقل الإنساني، يجمع بين إيمان القلب وعقلانية التخطيط، ليستعيدوا للعمل الخيري جوهره الأصيل: كونه أسمى تعبير عن إنسانيتنا المشتركة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 43 دقائق
- الجزيرة
مظاهرات في فرنسا تطالب بالإفراج عن نشطاء سفينة مادلين
فرنسا- تشهد عدة مدن فرنسية، اليوم الاثنين، وقفات احتجاجية ومظاهرات تنديدا باحتجاز قوات الاحتلال الإسرائيلية نشطاء كانوا على متن سفينة "مادلين" التي كانت في طريقها لكسر الحصار المفروض على قطاع غزة. وكانت البحرية الإسرائيلية قد اعترضت السفينة، مساء أمس، في عرض البحر واقتادتها إلى ميناء أسدود، حيث تم احتجاز 12 ناشطا من جنسيات مختلفة، بينهم النائبة في البرلمان الأوروبي ريما حسن، والناشطة السويدية غريتا ثونبرغ، إضافة إلى صحفيين ومتضامنين آخرين. ويأتي هذا التحرك في سياق أوسع من التضامن مع أهالي قطاع غزة، حيث يدعو المحتجون إلى رفع الحصار الإسرائيلي وفتح الممرات الإنسانية أمام المساعدات الدولية ووقف الإبادة الجماعية. مظاهرات وبدعوة من حزب "فرنسا الأبية" اليساري المتطرف، تجمع مناصرو القضية الفلسطينية، مساء اليوم، في ساحة الجمهورية استجابة لدعوات التضامن والدعم التي تم إطلاقها عبر منصات التواصل الاجتماعي. كما شهدت هذه الساحة تجمعا مماثلا، مساء أمس، شارك فيه المئات بعد ساعات قليلة من احتجاز النشطاء على متن السفينة "مادلين". وفي تعليقه على احتجاز النشطاء، أدان جان لوك ميلانشون ، زعيم حزب "فرنسا الأبية" العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، قائلا "منذ ارتكاب جريمة الحرب هذه، والتي يجب أن نسميها محاولة إبادة جماعية، يكتفي العالم بإصدار التصريحات، بينما يواصل الأقوياء الذين لا يتوقفون عن إلقاء الدروس الأخلاقية، صمتهم أمام هذه المجزرة المستمرة منذ 18 شهرا". وأشاد ميلانشون بشجاعة النشطاء الذي كانوا على متن السفينة بقوله "نحيي هؤلاء النشطاء الذين صعدوا دون تردد إلى قارب صغير، بلا سلاح سوى قناعاتهم، وبلا قوة سوى شجاعتهم التي نرفع لها التحية أمام شعب أثبت قدرته على مواصلة الحياة رغم كل شيء". كما دعا الحكومة إلى اتخاذ خطوات أكثر حسما، مضيفا "فرنسا، العاجزة عن التعبير بقوة وبشكل علني، لم يعد أمامها سوى أن تفعل الشيء الوحيد الممكن في هذه المرحلة، أي الاعتراف بدولة فلسطين فورا". مطالب بالإفراج الفوري وركز المحتجون في مطالبهم وشعاراتهم على ضرورة الإفراج الفوري عن النشطاء المحتجزين، محملين السلطات الفرنسية والأوروبية نتيجة ما حدث، وداعين كل الحكومات إلى التحرك بشكل عاجل لضمان سلامة رعاياهم وعودتهم إلى بلدانهم. وترددت في هذه المظاهرات شعارات تندد بالمجزرة المستمرة وتدعو إلى تحرير غزة من الحصار والاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك "إيمانويل ماكرون، هل أنت نائم"، "إسرائيل محرمة، ماكرون متواطئ"، "فلسطين حرة" و"الحرية للسفينة.. الحرية لريما". ومن جانبه، قال باسكال أندريه الطبيب العائد من غزة، والذي عمل في مستشفى خان يونس في فبراير/شباط 2024 "أنا فخور بابني الذي كان على متن السفينة، اسمه بابتيست أندريه ويمارس الطب في مارسيليا". وأضاف في حديثه للجزيرة نت "تم احتجاز ابني في سجن هاتشوت حيث قُدم له وجبة مشوهة ليُقال إن النشطاء تلقوا رعاية جيدة. إن الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة لا تحترم حقوق الإنسان وترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وترتكب جميع عناصر الإبادة الجماعية". دعوات للتدخل الدولي ومن المنتظر أن تتابع الخارجية الفرنسية عن كثب تطورات احتجاز نشطاء "مادلين" في وقت تتزايد فيه الضغوط على باريس وبروكسل لاتخاذ موقف أكثر حزما تجاه ما وصفته قوى سياسية فرنسية بـ"الاعتداء على القانون الدولي وانتهاك حرية الملاحة في المياه الدولية". ووسط استمرار الحرب الإسرائيلية على القطاع الفلسطيني منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يأتي اعتراض "مادلين" ضمن سلسلة من المواجهات البحرية التي شهدتها المبادرات الشعبية لكسر الحصار البحري المفروض على غزة منذ سنوات. ويعتبر الطبيب أندريه، الذي أضرب عن الطعام لمدة 25 يوما في أبريل/نيسان الماضي، أن إجبار المواطنين على تعريض أنفسهم للخطر لتطبيق القانون يتطلب تعبئة وطنية شاملة "وخير دليل على ذلك خروج الناس إلى الشوارع في 15 مدينة فرنسية الليلة. لقد حان الوقت لإخبار هؤلاء السياسيين بأن الكيل قد طفح". وأضاف "الجميع صامتون وكل المواقف متناقضة ومنافقة، ليس فقط منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بل للأسف منذ عقود. ويستمر هذا النفاق حتى اليوم رغم أن الناس بدؤوا يدركون أن الأمور قد تغيرت وأننا لن نستسلم أبدا، وأن الإفلات من العقاب غير موجود وأن كل من لا يحترم القانون اليوم مسؤول عن الوضع هناك".


الجزيرة
منذ 43 دقائق
- الجزيرة
مغردون: "مادلين أوصلت الرسالة" رغم اعتقال الاحتلال لنشطائها
شبكات تفاعل مغردون ونشطاء على منصات التواصل الاجتماعي مع سيطرة قوات البحرية الإسرائيلية على السفينة مادلين التي كانت متجهة إلى قطاع غزة لكسر الحصار المفروض عليه. اقرأ المزيد


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
تنديد واسع باختطاف السفينة مادلين وإسرائيل تعد زنازين منفصلة لنشطائها
توالت التنديدات الدولية، اليوم الاثنين، باختطاف الجيش الإسرائيلي سفينة مادلين ومنع بلوغها قطاع غزة ، في حين قال إعلام إسرائيلي إن مصلحة السجون أعدت زنازين منفصلة للنشطاء الذين كانوا على متن السفينة. وقد أفادت مصادر في الخارجية الإسبانية، للجزيرة، بأن مدريد استدعت القائم بالأعمال في السفارة الإسرائيلية، احتجاجا على ما جرى للسفينة مادلين. وذكرت المصادر أن السلطات الإسبانية تمارس الحماية القنصلية لمواطن إسباني ضمن طاقم السفينة، وتواصلت مع عائلته، مشيرة إلى أن الخارجية الإسبانية على تواصل مباشر مع نظيرتها الإسرائيلية، لمتابعة تفاصيل الواقعة. من جهته، قال وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارّو إنّ بلاده كانت طالبت السلطات الإسرائيلية "بوضوح" بتجنب أيّ حوادث، مع اقتراب السفينة مادلين من سواحل قطاع غزّة، ضمن "أسطول الحرية". وأضاف بارو أنّ باريس أبلغت إسرائيل مسبقا اعتزامها ممارسة حقها في تفعيل الحماية القنصليّة لمواطنيها المشاركين في رحلة السفينة إلى شواطئ غزة. كما قالت المتحدثة باسم البرلمان الأوروبي إنهم اتصلوا بإسرائيل لضمان أمن النائبة ريما حسن التي كانت على متن القارب مادلين، مشيرة إلى أن "حماية أعضاء البرلمان في أي مكان في العالم ستظل على رأس أولوياتنا". بدورها، قالت رئاسة الوزراء البريطانية إنها تريد أن تحل إسرائيل قضية احتجاز السفينة "مادلين" بما يتماشى مع القانون الإنساني الدولي ، قائلة "موقفنا بشأن الوضع الإنساني في غزة واضح، وهو أنه مريع ولا يُطاق". كما قال وزير الخارجية الأيرلندي إن السفينة مادلين "رمز قوي للحاجة الملحة لإنهاء الحصار المفروض على المساعدات المتجهة إلى قطاع غزة". وقد وصفت تركيا تدخل القوات الإسرائيلية ضد السفينة مادلين بأنه "عمل شنيع من حكومة بنيامين نتنياهو ، يثبت مجددا أن إسرائيل تتصرف كدولة إرهابية"، في حين استنكرت إيران اعتراض السفينة ووصفته بأنه "قرصنة". من جهتها، قالت منظمة العفو الدولية إن "اعتراض إسرائيل للسفينة مادلين واحتجاز طاقمها انتهاك للقانون الدولي". واليوم الاثنين، قالت وكالة الصحافة الفرنسية إن السفينة مادلين وصلت إلى ميناء أسدود الإسرائيلي بعد اعتراضها، في حين نقلت أسوشيتد برس عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إنه "سيتم نقل النشطاء إلى منشأة احتجاز تمهيدا لترحيلهم من إسرائيل". وأوضحت هيئة البث الإسرائيلية أن قوات الكوماندوز البحري ووحدة سنفير وصلت إلى السفينة مادلين، في حين كانت تبحر في المياه الدولية، مشيرة إلى أن عناصر القوات الإسرائيلية صعدوا للسفينة وسيطروا عليها وهي "تتجه الآن إلى ميناء أسدود وستصل قريبا". كما نقلت وكالة الأناضول عن مركز "عدالة" الحقوقي قوله إن السفينة مادلين لا تزال وطاقمها في عرض البحر، حيث تواصل البحرية الإسرائيلية سحبها قسرا نحو ميناء أسدود بعد منعها من الوصول لقطاع غزة. زنازين للناشطين وقد اقتحمت قوة "كوماندوز" من البحرية الإسرائيلية، فجر اليوم، السفينة التي كانت متوجهة إلى غزة وعلى متنها 12 متطوعا، يحملون مساعدات إنسانية ضمن أسطول الحرية لرفع الحصار عن القطاع. واقتادت القوات الإسرائيلية السفينة إلى مكان غير معلوم، في حين نقلت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" عن مصدر عسكري أن السفينة ستصل إلى ميناء أسدود، حيث سيجري التحقيق مع أفراد الطاقم واستجوابهم. كما أفادت صحيفة "يسرائيل هيوم" بأن مصلحة السجون الإسرائيلية تستعد لاستقبال النشطاء الذين كانوا على متن السفينة مادلين، وقد تم تجهيز زنازين منفصلة لهم في سجن "غفعون" بمدينة الرملة. وقالت الصحيفة إن النشطاء سينقلون من ميناء أسدود بواسطة وحدة "نحشون"، التابعة لمصلحة السجون، وفي مركبات ذات نوافذ معتمة، لتقليل مظاهر الفرح العلنية قدر الإمكان. وحسب الصحيفة، فقد أوعز وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير لمصلحة السجون بمنع إدخال أي أجهزة تواصل أو إعلام إلى الزنازين التي يتوقع أن يُحتَجز فيها النشطاء. من جهته، زعم المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية ديفيد مينسر أنّ إسرائيل سيطرت على السفينة "مادلين" بسلاسة، دون أي إصابات، مشيرا إلى أنه سيجري التأكد من عودة من كانوا على متنها إلى عائلاتهم في أقرب وقت. كما قالت وزارة الخارجية الإسرائيلية، في بيان، إن السفينة "تتجه بأمان إلى سواحل إسرائيل، ومن المقرر أن يعود الركاب إلى بلدانهم". ووصفت اللجنة الدولية لكسر حصار غزة اقتحام البحرية الإسرائيلية للسفينة "مادلين" بأنها قرصنة، وإرهاب دولة، وانتهاك للقانون الدولي بشكل فاضح، ودعت اللجنة إلى الإفراج فورا عن جميع نشطاء السفينة الذين من بينهم الناشطة البيئية غريتا تونبرغ. وطالبت اللجنة العالم بإيصال المساعدات الإنسانية مباشرة إلى الشعب الفلسطيني، بعيدا عن سيطرة الاحتلال، وشددت على ضرورة محاسبة إسرائيل على هجومها على السفينتين، "مادلين" و"الضمير"، مؤكدة أن "هذه الاعتداءات الإرهابية لن توقف محاولات كسر الحصار". كما وصف كويفا باترلي -عضو تحالف أسطول الحرية- للجزيرة اعتراض السفينة مادلين بغير القانوني، قائلا "لا نملك القدرة على التواصل بشكل مباشر مع طاقم السفينة، وليس واضحا ما إذا كان النشطاء على متنها نقلوا إلى قارب آخر". وخلال ليل أمس، أعلن تحالف أسطول الحرية -المنظم للرحلة- أن الجيش الإسرائيلي اعترض المركب، قائلا -عبر تليغرام- إن الاتصال انقطع مع السفينة مادلين، وإن قوات الجيش الإسرائيلي "اختطفت" طاقم السفينة. وقالت تونبرغ في مقطع فيديو سجّلته مسبقا شاركه تحالف أسطول الحرية "إذا شاهدتم هذا الفيديو، يعني أنه تم اعتراضنا واختطافنا في المياه الدولية". وقد وصفت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) اعتراض إسرائيل السفينة "مادلين" التضامنية مع غزة في عرض البحر بأنّه "إرهاب دولة منظم، وانتهاك للقانون الدولي، واعتداء على متطوعين مدنيين تحركوا بدافع إنساني". وحيّت الحركة المتضامنين على متن السفينة، الذين أكدوا أن غزة ليست وحدها، وأن ضمير الإنسانية ما زال حيا، وطالبت بإطلاق سراح المتضامنين فورا، محمّلة الاحتلال المسؤولية عن سلامتهم، ودعت الأمم المتحدة والمنظمات الدولية إلى إدانة هذه الجريمة، والتحرّك لكسر الحصار. كما قالت حركة الجهاد الإسلامي إن إقدام قوات الاحتلال على اقتحام السفينة "مادلين" انتهاك صارخ للقانون الدولي، وإن "اقتحام السفينة اختطاف دولي، ويضيف جريمة القرصنة البحرية إلى جريمة حرب الإبادة". من جهتها، أعربت شبكة الجزيرة الإعلامية عن قلقها البالغ على سلامة الناشطين والصحفيين الذين كانوا على متن السفينة " مادلين"، وحمّلت الحكومة الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن سلامة مراسلها عمر فياض، الذي كان ينقل الأحداث مباشرة أثناء الاستيلاء القسري على السفينة. ومنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ترتكب إسرائيل جرائم إبادة جماعية في غزة، خلفت أكثر من 180 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، بجانب مئات آلاف النازحين.