logo
الثائر علي بن الفضل الحميري… موحّد اليمن وقاهر الإمامة الزيدية وضحية التشويه السلالي

الثائر علي بن الفضل الحميري… موحّد اليمن وقاهر الإمامة الزيدية وضحية التشويه السلالي

خبر للأنباءمنذ 2 أيام
إحالة:
لا أدري كيف يستسيغ البعض ما هب ودب من الروايات التاريخية التي يختلط سقيمها بصحيحها، دون تمحيص أو تدقيق أو نقد، معللين قبولهم لها بأنها قد وردت في كتاب كذا من الكتب التاريخية أو حتى الكتب الدينية.
في سجل اليمن المليء بالتحولات، يطل اسم الثائر القيل علي بن الفضل الحميري كأحد أبرز القادة الذين جمعوا بين الإرادة السياسية، والقدرة العسكرية، وحلم الوحدة الوطنية.
خرج من قرية صُهيب في جيشان أبين، ليقود "ثورة الجياع" التي لم تكن تمردا عابرا، بل مشروعا وطنيا لتحرير اليمن من التبعية، وتوحيد أراضيه، وكسر شوكة الإقطاعيين وقوى الغزو السلالي.
ولأنه هدد مشاريع الاستلاب، حظي بنصيب وافر من حملات التشويه، خاصة من أئمة الزيدية وكتّابهم، الذين صوّروه بأسوأ الصور، ونسجوا حوله اتهامات وأساطير سقطت أمام الحقائق التاريخية.
اليمن في زمن ابن الفضل: صراعات وجوع
في القرن الثالث الهجري، كانت اليمن غارقة في الانقسام بين بقايا النفوذ العباسي بدولة بني زياد في زبيد، والمشروع الرسي الزيدي الهادوي القادم من صعدة بقيادة يحيى بن الحسين الرسي طباطبا، والامارات المحلية المتحكمة في صنعاء ومحيطها.
الفقر كان ينهش الغالبية، والنخب تتحالف مع أي قوة خارجية لحماية سلطتها، ووسط هذا المشهد، وجدت دعوة ابن الفضل صدى واسعا، لأنها وعدت بالعدل وتوزيع الثروة، وإنهاء احتكار السلطة.
النشأة والهوية:
وُلد علي بن الفضل في صُهيب بجيشان لأسرة حميرية عريقة، وتلقى علوم اللغة والدين والتاريخ والأنساب، فحاز مكانة فكرية مبكرة، وعُرف بتقواه وقربه من الناس.
التقى في شبابه بدعاة الإسماعيلية أثناء الحج وسافر إلى الكوفة، لكنه سرعان ما اكتشف زيف الخرافات الشيعية، فعاد إلى اليمن وابتعد عن أي نشاط فاطمي، بل إنه حارب منصور بن الحوشب – أبرز دعاة الفاطميين في اليمن – وأخضعه عام 298هـ، ما يؤكد استقلال مشروعه وكونه يمنيا خالصا لا فاطميا ولا قرمطيا.
تحالف الخصوم ومواجهة الرسي:
مع اتساع دعوته بين الفلاحين والفقراء، رأت الدويلات فيه خطرا داهما، فتحالفت مع يحيى الرسي رغم خلافاتها معه، فلجأ الرسي طباطبا إلى سلاحه المفضل: التشويه الأخلاقي، باتهامات المجوسية وإباحة المحرمات وادعاء الألوهية، وهي نفس التهم التي رددها ضد خصومه الآخرين.
لكن على الأرض، كان ابن الفضل يكوّن جيشا منظما، ويستعد لأوسع توسع سياسي وعسكري شهدته اليمن آنذاك.
ثورة الجياع: مشروع عدالة وتوحيد
عام 290هـ أطلق علي بن الفضل ثورته من سرو حمير ويافع، رافعا شعار "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" بمعناه السياسي والاجتماعي: مواجهة الظلم، وتوزيع الثروة، وتحرير القرار اليمني.
بمجرد سيطرته، صادر ثروات النافذين لصالح الفقراء، ووفّر الغذاء، وحصّن القرى، وجنّد المظلومين، فتحولت دعوته إلى حركة جماهيرية واسعة وضعت اللبنات الأولى لدولة قوية.
معارك التوسع والسيطرة:
بدأ بضم لحج وأبين وحضرموت، ثم سيطر على الدملؤة، وفي 291هـ هزم جيش ابن زياد في وادي نخلة بتهامة، فسيطر على زبيد وبقية تهامة.
تحرير صنعاء وخروج الرسي
في 293هـ، تقدم نحو صنعاء بتحالف قبلي واسع، ودخلها بخمسة آلاف فارس بعد فرار الحاكم العباسي وأعوان الرسي من الطبريين الفرس، وانضمت إليه قبائل همدان وحاشد وبكيل وقادة بارزون، فتراجع الرسي إلى صعدة حتى وفاته 298هـ.
أصبح ابن الفضل أول زعيم يوحّد معظم اليمن بعد الإسلام.
الحكم للشعب
رفض على بن الفضل خرافة "الحق الإلهي" وأرسى حق اليمني في حكم نفسه، فوزع السلطة على ولاة من مختلف مناطق اليمن: أسعد الحوالي في صنعاء وذمار، بنو الدعّام في همدان وبكيل، إبراهيم الحكمي في زبيد وتهامة، أبو الفتوح الخولاني في خولان، أحمد الأكيلي في صعدة ونجران، وذو الطوق اليافعي في سرو حمير، وغيرهم، محققا توزيعا غير مسبوق للسلطة.
لم يكن سقوط المشروع الإمامي الزيدي أمام ضربات علي بن الفضل هزيمة عسكرية فقط، بل خسارة سياسية ورمزية دفعت خصومه للبحث عن سلاح بديل، وحين عجزوا عن هزيمته في الميدان، لجأوا إلى أخطر الأسلحة عبر التاريخ: اغتيال السمعة، فشنوا حملة دعائية ضخمة استهدفت شخصه وتاريخه، مستخدمين الاتهامات الأخلاقية والتشويه المذهبي، تماما كما فعلوا مع كل من وقف في وجه مشروعهم حتى اليوم، وهنا تبرز مجموعة من الحقائق التي تكشف زيف تلك الروايات.
أولا: مصادر منحازة
أقدم من كتب عن ابن الفضل هو علي بن محمد العلوي – ابن عم يحيى الرسي وقائد جيوشه – ثم ابن سمرة الجعدي بعد قرن، وكلاهما كان خصما مباشرا وجزء من الآلة الزيدية الإعلامية.
يقول د. علي محمد زيد: "ما لحق بابن الفضل من تشويه يعود إلى مؤرخي دعوات أخرى كانت في صراع معه، واستخدمت هذه الاتهامات كدعاية سياسية لإثناء الفقراء عن الانضمام إليه."
ثانيا: تهم متكررة
أئمة الزيدية نسبوا نفس تهم "الإباحية" و"شرب الخمر" لكل خصومهم، مثل الشيخ الدعام وقبائل يام وغيرهم، ما يؤكد أنها دعاية سياسية جاهزة.
ثالثا: القصيدة المسيئة
اتهم الرسيون علي ابن الفضل بالفواحش ونسبوا اليه زورا بأنه قال قصيدة فاحشة مطلعها:
"خذي الدف يا هذه واضربي … نقيم شرائع هذا النبي"
لكن الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (ج6، ص341) أكد أن هذه الأبيات من شعر مسيلمة الكذاب قبل ميلاد بن الفضل بقرون، كما أورد أبو العلاء المعري أن جزءا منها يعود لشاعر عباسي يُدعى "الصناديقي".
رابعا: شهادات معاصرة ومحدثة
القاضي محمد بن علي الأكوع الحوالي قال في تعليقه على حديث للرسي: "كلمة تبرئ ساحة علي بن الفضل مما رموه به من فظائع".
محمد حسين الفرح نقل عن السلالي أحمد محمد الشامي اعترافه_ بعد ان كتب قصيدة مسيئة لعلي بن الفضل اثناء ثورة سبتمبر_: "أشهد لله أن علي بن الفضل كان ملكا مظلوما، وأن تاريخه هُمّش من قبل أعدائه".
الأستاذ عبدالله الشماحي قال عن بن الفضل: "حمل مشروعا لوحدة اليمن والقضاء على المذهبية، فأثار عليه الزيدية والإسماعيلية، فشنوا عليه دعاية كاذبة."
الدكتور عبدالعزيز المقالح نفى تماما صحة هذه التهم واعتبرها "شائعات خصومه الإماميين"، وله ديوان يحمل اسم الثائر ابن الفضل
الأستاذ والمؤرخ الكبير مطهر الإرياني مدح علي بن الفضل شعرا:
و(ابن الفضل) كم شهدوا حروبا … أرتهم صولة المستبسلينا
وأشعل ضدهم حربا ضروسا … وأعلن ثورة المتمردينا
أتى صنعاء يرفع عن ذراها … مظالم جثمت والفاسقينا
إرثه السياسي والاجتماعي:
ترك علي بن الفضل الحميري إرثا سياسيا واجتماعيا غير مسبوق في تاريخ اليمن، إذ أعاد رسم خريطة البلاد موحدًا معظم أراضيها تحت راية واحدة، ولم يكن مشروعه قائما على العصبية أو خرافة "الحق الإلهي"، بل على فكرة أن الدولة مصلحة عامة تقوم على العرف والعهد، وأن السلطة حق لأبناء البلاد جميعا، كما عمل على إعادة توزيع الثروات المصادَرة من النافذين لصالح الفقراء، مما أرسى شكلا مبكرا من العدالة الاجتماعية.
بنى علي ابن الفضل قاعدة شعبية واسعة من المهمشين والمظلومين. وبتحريره القرار السياسي من التبعية العباسية، وتصديه للمشاريع المذهبية الوافدة وعلى رأسها مشروع الكاهن يحيى الرسي القادم من فارس، وجّه ضربة قاصمة للكهنوت السلالي، وفتح الباب أمام نموذج حكم وطني قائم على إشراك القبائل ومختلف المكونات في إدارة شؤون البلاد.
لقد شكّل حكمه أول هزيمة ماحقة لمشروع الإمامة الزيدية في اليمن، إذ حاصرها في شرعيتها ورمزيتها، لا في ميدان القتال فحسب.
الاغتيال والنهاية:
ظل يحكم حتى وفاته في مذيخرة عام 303هـ/915م، وأغلب الروايات تشير إلى أنه اغتيل بسم دسّه له طبيب يُدعى علي البغدادي، بتدبير خصومه الذين عجزوا عن هزيمته عسكريًا، خاصة بعد أن حارب الفاطميين والهادويين معا.
خلاصة
لم يكن علي بن الفضل قرمطيا أو مبيحا للمحرمات كما صوّرته الدعاية، بل قائدا قحطانيا حمل همّ توحيد اليمن واستقلاله، وأطلق أول مشروع عدالة اجتماعية واسع، وخاض اول نصر ناجز ضد ولاية البطنين وخرافة الحق الالاهي ودعاوى الزيدية الإمامية.
فشل خصومه في هزيمته بالسلاح، فاغتالوا سمعته. لكن التاريخ المنصف يعيده إلى مكانته كرمز للثورة على الظلم، ودليل على أن التعافي يبدأ من هزيمة الموروث الإمامي الغازي.
*صفحته على إكس
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

زيغود يوسف.. الشخصية القيادية التي فجّرت هجومات الشمال القسنطيني – المؤسسة العمومية للتلفزيون الجزائري
زيغود يوسف.. الشخصية القيادية التي فجّرت هجومات الشمال القسنطيني – المؤسسة العمومية للتلفزيون الجزائري

التلفزيون الجزائري

timeمنذ 3 ساعات

  • التلفزيون الجزائري

زيغود يوسف.. الشخصية القيادية التي فجّرت هجومات الشمال القسنطيني – المؤسسة العمومية للتلفزيون الجزائري

أجمع باحثون في التاريخ أن الشخصية القيادية التي تمتع بها قائد الولاية التاريخية الثانية، الشهيد البطل زيغود يوسف (1921-1956)، سمحت بتفجير هجومات الشمال القسنطيني يوم 20 أغسطس 1955، ونجحت بمهارة في تشكيل قوة مكوّنة من وحدات جيش التحرير الوطني ومن الفدائيين المدنيين من الشعب، زعزعت الوجود الفرنسي في الجزائر وساهمت في إدراج القضية الجزائرية ضمن جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وفي هذا الصدد، أوضح الأستاذ عبد الله بوخلخال (صاحب عدة بحوث حول هذا الشهيد ومدير سابق لجامعة العلوم الإسلامية الأمير عبد القادر بقسنطينة) أن زيغود يوسف تميّز بصفات قيادية وشخصية قوية أهلته للتعبئة والكفاح ورصّ الصف الوطني ضد المستعمر الفرنسي، وذلك بعد استشهاد حليفه وقدوته الشهيد ديدوش مراد (1927-يناير 1955)، أشهر قبل هجومات الشمال القسنطيني في 20 أغسطس 1955. شرع الشهيد زيغود في رصّ الصفوف بين جيش التحرير الوطني والشعب، فباشر بنشر التوعية والتحفيز عبر قرى ومداشر الشمال القسنطيني من أجل الرد العسكري على المستعمر. زيغود يوسف، الذي وُلد سنة 1921 ببلدية كوندي سمندو الواقعة شرق الجزائر والتي تحمل اسمه حاليا، نال في مساره الدراسي الشهادة الابتدائية، وهي سقف المستوى الذي يسمح به الاستعمار للجزائريين، ثم عمل حدادًا في ريعان شبابه. وكانت تربطه علاقات جيدة بالفلاحين، فقد كان يصنع لهم الأدوات اللازمة للعمل ويعمل على توصيلها لهم إلى عدة قرى، أين اكتسب سمعة طيبة وتعرّف على خصوصيات كل منطقة وطرقاتها ومسالكها الجبلية ونمط معيشة سكانها، مثلما أبرزه ذات الباحث. من جهته، أشار الدكتور أحسن تليلاني (أستاذ باحث بجامعة سكيكدة) أن الشهيد كان ناشطًا سياسيًا بحزب الشعب الجزائري ثم بحركة انتصار الحريات الديمقراطية قبل أن يقود مظاهرات 8 مايو 1945 على مستوى قريته، معتبرًا أن هذه التجربة جعلت منه 'شخصية ذات شعبية كبيرة ومكّنته من التأثير على الجماهير الواسعة'. وأرجع ذات الباحث سبب نجاح زيغود في التعبئة ضد المستعمر الفرنسي وإشعال الحرب ضده من قبل عناصر جيش التحرير الوطني بالتفاف من الشعب إلى 'ثقة المواطنين بقائد منطقة الشمال القسنطيني'، الذي كانوا يلقبونه بـ'سيدي أحمد'، حيث كانوا يشيدون بصفاته كونه 'مخططًا استراتيجيًا ممتازًا ومنضبطًا حكيمًا، متزنًا وملتزمًا بالسرية'، مؤكدا أن هذه المميزات 'جعلت الجميع يحترمه وينفذ أوامره'. ومن جهته، كشف المجاهد موسى بوخميس، الذي كان تحت إمرة هذا البطل، في شهادات أدلى بها سابقًا، أن هدف زيغود يوسف طيلة حياته كان 'تكوين جيل من حديد، يلتزم أبناؤه بتعاليم الإسلام ويقدّمون التضحيات الجسام من أجل الوطن'. وأفاد ذات المجاهد أنه انضم، وعمره 18 سنة، إلى المواجهة المسلحة رفقة العديد من المدنيين الذين توافدوا بأعداد كبيرة بعد أن بلغهم نداء زيغود يوسف. وأضاف موسى بوخميس: 'البلاغة التي كان زيغود يتحدث بها وأسلوبه في الإقناع وثقافته الواسعة شكّلت حافزًا للمجاهدين لتلبية النداء والتضحية من أجل تحرير الوطن'. وقبل أيام قليلة من شن هجومات 20 أوت 1955، توجّه زيغود يوسف إلى مزرعة عائلة بوخلخال الواقعة في المكان المسمى 'كاف لكحل' (حي جبل الوحش شمال قسنطينة حاليا)، حيث باشر لقاءاته بالفدائيين وحثّهم على العمل من أجل الانعتاق والتخلص من براثن الاستعمار وعلى حب الوطن وفدائه بالروح، ما تجسّد على أرض الواقع بفضل هذا الشهيد البطل والملايين من الشهداء الذين سقطوا في ميدان الوغى.

الثائر علي بن الفضل الحميري… موحّد اليمن وقاهر الإمامة الزيدية وضحية التشويه السلالي
الثائر علي بن الفضل الحميري… موحّد اليمن وقاهر الإمامة الزيدية وضحية التشويه السلالي

خبر للأنباء

timeمنذ 2 أيام

  • خبر للأنباء

الثائر علي بن الفضل الحميري… موحّد اليمن وقاهر الإمامة الزيدية وضحية التشويه السلالي

إحالة: لا أدري كيف يستسيغ البعض ما هب ودب من الروايات التاريخية التي يختلط سقيمها بصحيحها، دون تمحيص أو تدقيق أو نقد، معللين قبولهم لها بأنها قد وردت في كتاب كذا من الكتب التاريخية أو حتى الكتب الدينية. في سجل اليمن المليء بالتحولات، يطل اسم الثائر القيل علي بن الفضل الحميري كأحد أبرز القادة الذين جمعوا بين الإرادة السياسية، والقدرة العسكرية، وحلم الوحدة الوطنية. خرج من قرية صُهيب في جيشان أبين، ليقود "ثورة الجياع" التي لم تكن تمردا عابرا، بل مشروعا وطنيا لتحرير اليمن من التبعية، وتوحيد أراضيه، وكسر شوكة الإقطاعيين وقوى الغزو السلالي. ولأنه هدد مشاريع الاستلاب، حظي بنصيب وافر من حملات التشويه، خاصة من أئمة الزيدية وكتّابهم، الذين صوّروه بأسوأ الصور، ونسجوا حوله اتهامات وأساطير سقطت أمام الحقائق التاريخية. اليمن في زمن ابن الفضل: صراعات وجوع في القرن الثالث الهجري، كانت اليمن غارقة في الانقسام بين بقايا النفوذ العباسي بدولة بني زياد في زبيد، والمشروع الرسي الزيدي الهادوي القادم من صعدة بقيادة يحيى بن الحسين الرسي طباطبا، والامارات المحلية المتحكمة في صنعاء ومحيطها. الفقر كان ينهش الغالبية، والنخب تتحالف مع أي قوة خارجية لحماية سلطتها، ووسط هذا المشهد، وجدت دعوة ابن الفضل صدى واسعا، لأنها وعدت بالعدل وتوزيع الثروة، وإنهاء احتكار السلطة. النشأة والهوية: وُلد علي بن الفضل في صُهيب بجيشان لأسرة حميرية عريقة، وتلقى علوم اللغة والدين والتاريخ والأنساب، فحاز مكانة فكرية مبكرة، وعُرف بتقواه وقربه من الناس. التقى في شبابه بدعاة الإسماعيلية أثناء الحج وسافر إلى الكوفة، لكنه سرعان ما اكتشف زيف الخرافات الشيعية، فعاد إلى اليمن وابتعد عن أي نشاط فاطمي، بل إنه حارب منصور بن الحوشب – أبرز دعاة الفاطميين في اليمن – وأخضعه عام 298هـ، ما يؤكد استقلال مشروعه وكونه يمنيا خالصا لا فاطميا ولا قرمطيا. تحالف الخصوم ومواجهة الرسي: مع اتساع دعوته بين الفلاحين والفقراء، رأت الدويلات فيه خطرا داهما، فتحالفت مع يحيى الرسي رغم خلافاتها معه، فلجأ الرسي طباطبا إلى سلاحه المفضل: التشويه الأخلاقي، باتهامات المجوسية وإباحة المحرمات وادعاء الألوهية، وهي نفس التهم التي رددها ضد خصومه الآخرين. لكن على الأرض، كان ابن الفضل يكوّن جيشا منظما، ويستعد لأوسع توسع سياسي وعسكري شهدته اليمن آنذاك. ثورة الجياع: مشروع عدالة وتوحيد عام 290هـ أطلق علي بن الفضل ثورته من سرو حمير ويافع، رافعا شعار "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" بمعناه السياسي والاجتماعي: مواجهة الظلم، وتوزيع الثروة، وتحرير القرار اليمني. بمجرد سيطرته، صادر ثروات النافذين لصالح الفقراء، ووفّر الغذاء، وحصّن القرى، وجنّد المظلومين، فتحولت دعوته إلى حركة جماهيرية واسعة وضعت اللبنات الأولى لدولة قوية. معارك التوسع والسيطرة: بدأ بضم لحج وأبين وحضرموت، ثم سيطر على الدملؤة، وفي 291هـ هزم جيش ابن زياد في وادي نخلة بتهامة، فسيطر على زبيد وبقية تهامة. تحرير صنعاء وخروج الرسي في 293هـ، تقدم نحو صنعاء بتحالف قبلي واسع، ودخلها بخمسة آلاف فارس بعد فرار الحاكم العباسي وأعوان الرسي من الطبريين الفرس، وانضمت إليه قبائل همدان وحاشد وبكيل وقادة بارزون، فتراجع الرسي إلى صعدة حتى وفاته 298هـ. أصبح ابن الفضل أول زعيم يوحّد معظم اليمن بعد الإسلام. الحكم للشعب رفض على بن الفضل خرافة "الحق الإلهي" وأرسى حق اليمني في حكم نفسه، فوزع السلطة على ولاة من مختلف مناطق اليمن: أسعد الحوالي في صنعاء وذمار، بنو الدعّام في همدان وبكيل، إبراهيم الحكمي في زبيد وتهامة، أبو الفتوح الخولاني في خولان، أحمد الأكيلي في صعدة ونجران، وذو الطوق اليافعي في سرو حمير، وغيرهم، محققا توزيعا غير مسبوق للسلطة. لم يكن سقوط المشروع الإمامي الزيدي أمام ضربات علي بن الفضل هزيمة عسكرية فقط، بل خسارة سياسية ورمزية دفعت خصومه للبحث عن سلاح بديل، وحين عجزوا عن هزيمته في الميدان، لجأوا إلى أخطر الأسلحة عبر التاريخ: اغتيال السمعة، فشنوا حملة دعائية ضخمة استهدفت شخصه وتاريخه، مستخدمين الاتهامات الأخلاقية والتشويه المذهبي، تماما كما فعلوا مع كل من وقف في وجه مشروعهم حتى اليوم، وهنا تبرز مجموعة من الحقائق التي تكشف زيف تلك الروايات. أولا: مصادر منحازة أقدم من كتب عن ابن الفضل هو علي بن محمد العلوي – ابن عم يحيى الرسي وقائد جيوشه – ثم ابن سمرة الجعدي بعد قرن، وكلاهما كان خصما مباشرا وجزء من الآلة الزيدية الإعلامية. يقول د. علي محمد زيد: "ما لحق بابن الفضل من تشويه يعود إلى مؤرخي دعوات أخرى كانت في صراع معه، واستخدمت هذه الاتهامات كدعاية سياسية لإثناء الفقراء عن الانضمام إليه." ثانيا: تهم متكررة أئمة الزيدية نسبوا نفس تهم "الإباحية" و"شرب الخمر" لكل خصومهم، مثل الشيخ الدعام وقبائل يام وغيرهم، ما يؤكد أنها دعاية سياسية جاهزة. ثالثا: القصيدة المسيئة اتهم الرسيون علي ابن الفضل بالفواحش ونسبوا اليه زورا بأنه قال قصيدة فاحشة مطلعها: "خذي الدف يا هذه واضربي … نقيم شرائع هذا النبي" لكن الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (ج6، ص341) أكد أن هذه الأبيات من شعر مسيلمة الكذاب قبل ميلاد بن الفضل بقرون، كما أورد أبو العلاء المعري أن جزءا منها يعود لشاعر عباسي يُدعى "الصناديقي". رابعا: شهادات معاصرة ومحدثة القاضي محمد بن علي الأكوع الحوالي قال في تعليقه على حديث للرسي: "كلمة تبرئ ساحة علي بن الفضل مما رموه به من فظائع". محمد حسين الفرح نقل عن السلالي أحمد محمد الشامي اعترافه_ بعد ان كتب قصيدة مسيئة لعلي بن الفضل اثناء ثورة سبتمبر_: "أشهد لله أن علي بن الفضل كان ملكا مظلوما، وأن تاريخه هُمّش من قبل أعدائه". الأستاذ عبدالله الشماحي قال عن بن الفضل: "حمل مشروعا لوحدة اليمن والقضاء على المذهبية، فأثار عليه الزيدية والإسماعيلية، فشنوا عليه دعاية كاذبة." الدكتور عبدالعزيز المقالح نفى تماما صحة هذه التهم واعتبرها "شائعات خصومه الإماميين"، وله ديوان يحمل اسم الثائر ابن الفضل الأستاذ والمؤرخ الكبير مطهر الإرياني مدح علي بن الفضل شعرا: و(ابن الفضل) كم شهدوا حروبا … أرتهم صولة المستبسلينا وأشعل ضدهم حربا ضروسا … وأعلن ثورة المتمردينا أتى صنعاء يرفع عن ذراها … مظالم جثمت والفاسقينا إرثه السياسي والاجتماعي: ترك علي بن الفضل الحميري إرثا سياسيا واجتماعيا غير مسبوق في تاريخ اليمن، إذ أعاد رسم خريطة البلاد موحدًا معظم أراضيها تحت راية واحدة، ولم يكن مشروعه قائما على العصبية أو خرافة "الحق الإلهي"، بل على فكرة أن الدولة مصلحة عامة تقوم على العرف والعهد، وأن السلطة حق لأبناء البلاد جميعا، كما عمل على إعادة توزيع الثروات المصادَرة من النافذين لصالح الفقراء، مما أرسى شكلا مبكرا من العدالة الاجتماعية. بنى علي ابن الفضل قاعدة شعبية واسعة من المهمشين والمظلومين. وبتحريره القرار السياسي من التبعية العباسية، وتصديه للمشاريع المذهبية الوافدة وعلى رأسها مشروع الكاهن يحيى الرسي القادم من فارس، وجّه ضربة قاصمة للكهنوت السلالي، وفتح الباب أمام نموذج حكم وطني قائم على إشراك القبائل ومختلف المكونات في إدارة شؤون البلاد. لقد شكّل حكمه أول هزيمة ماحقة لمشروع الإمامة الزيدية في اليمن، إذ حاصرها في شرعيتها ورمزيتها، لا في ميدان القتال فحسب. الاغتيال والنهاية: ظل يحكم حتى وفاته في مذيخرة عام 303هـ/915م، وأغلب الروايات تشير إلى أنه اغتيل بسم دسّه له طبيب يُدعى علي البغدادي، بتدبير خصومه الذين عجزوا عن هزيمته عسكريًا، خاصة بعد أن حارب الفاطميين والهادويين معا. خلاصة لم يكن علي بن الفضل قرمطيا أو مبيحا للمحرمات كما صوّرته الدعاية، بل قائدا قحطانيا حمل همّ توحيد اليمن واستقلاله، وأطلق أول مشروع عدالة اجتماعية واسع، وخاض اول نصر ناجز ضد ولاية البطنين وخرافة الحق الالاهي ودعاوى الزيدية الإمامية. فشل خصومه في هزيمته بالسلاح، فاغتالوا سمعته. لكن التاريخ المنصف يعيده إلى مكانته كرمز للثورة على الظلم، ودليل على أن التعافي يبدأ من هزيمة الموروث الإمامي الغازي. *صفحته على إكس

بلمهدي يستقبل من طرف شيخ الأزهر
بلمهدي يستقبل من طرف شيخ الأزهر

الخبر

timeمنذ 4 أيام

  • الخبر

بلمهدي يستقبل من طرف شيخ الأزهر

استقبل شيخ الأزهر الشريف، الشيخ أحمد الطيب، اليوم الأربعاء بمقر مشيخة الأزهر، وزير الشؤون الدينية والأوقاف، يوسف بلمهدي، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى الدكتور مبروك زيد الخير، ضمن وفد وزراء الأوقاف والمفتين ورؤساء المجامع الفقهية المشاركين في المؤتمر العالمي العاشر للإفتاء. وحسب ما أفاد به بيان لوزارة الشؤون الدينية، اليوم الخميس، فإن اللقاء "تمحور حول ضرورة وضع استراتيجية تعليمية شاملة لرفع وعي الأجيال بتاريخ الأمة، مع التركيز على القضية الفلسطينية، في مواجهة محاولات تزييف الحقائق التاريخية، ودفاعًا عن صورة الإسلام ورسالة السلام التي يحملها". وأشاد شيخ الأزهر بدور العلماء في مواجهة حملات التشويه الممنهجة، ودعا إلى ميثاق أخلاقي لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في خدمة الفتوى، بما يحفظ كرامة الإنسان ويحمي خصوصيته. من جانبهم، أعرب المشاركون عن تقديرهم للدور الذي يؤديه الأزهر الشريف، ومواقفه الراسخة وجهوده الفكرية والعلمية التي تمتد آثارها الإيجابية إلى كل أنحاء العالم.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store