
برناردو كاستروب: الحب هو القوة التي توحدنا
ولد كاستروب في نيتيروي بالبرازيل عام 1974، لكنه يحمل الجنسية الهولندية. وحصل على دكتوراه في الهندسة الحاسوبية من جامعة أيندهوفن، حيث ركز بحثه على الذكاء الاصطناعي والحوسبة القابلة لإعادة التكوين. ثم نال دكتوراه ثانية في الفلسفة من جامعة رادبود، تناولت أطروحته فيها الأنطولوجيا وفلسفة العقل.
بدأ مسيرته المهنية في مؤسسات علمية رفيعة مثل المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية بجنيف (CERN)، وبرز كعالم بارع في مجال النمذجة الحاسوبية. لكن اهتمامه لم يبقَ حبيس المختبرات وأروقة الأكاديميا. إذ شيئاً فشيئاً، أخذه عمله نحو الأسئلة الوجودية الكبرى؛ ما هو الوعي؟ ما هي المادة؟ هل يعكس العلم الواقع كما هو، أم هو مجرد تمثيل له؟ أسئلة دفعته إلى كسر الحدود بين العلوم النظريّة والفلسفة، وإطلاق مشروع فكري متكامل ونقد لاذع للفلسفة الماديّة، نشر في سياقه عشرات الكتب، والمقالات، ومقاطع الفيديو والبودكاست التي تشرح أفكاره للجمهور العريض.
مثالية كاستروب التحليلية تمثل في هذه اللحظة أعتى نقد موجه للفلسفة المادية التي تزعم أن العالم مكوّن من مادة فقط، وأن الوعي ظاهرة ثانوية ناتجة عن تفاعلات مادية في الدماغ. وفي كتبه مثل «لماذا المادية محض هراء؟» و«فكرة العالم»، يقدّم ما يسميه نظرية نقيضة تجعل الوعي أساس الوجود، وأن العالم المادي ليس إلا تمظهراً لهذا الوعي.
يستشهد كاستروب بما يُعرف في دنيا الفلسفة بـ«المشكلة المعقدة للوعي»، كما صاغها الفيلسوف ديفيد تشالمرز في مقالته الشهيرة بذات العنوان، التي تطرح سؤالاً تأسيسياً حرجاً؛ كيف يمكن للصفات الفيزيائية أن تشرح الخبرات الذاتية؟ كيف تفسر الكتلة أو الزخم أو التسارع مسائل مثل الإحساس بالحب، أو الخوف، حتى مذاق الفراولة؟ وجهة نظره؛ لا يمكنها ذلك، ولن يمكنها أبداً.
من هنا، يرى أن العقل لا يمكن أن يكون نتيجة للمادة، بل العكس؛ المادة هي مجرد شكل يظهر فيه العقل حين يُنظر إليه من الخارج. وكما أن الدموع على وجه الحزين لا تختزل الحزن ذاته، فإن الكون المادي لا يعكس جوهر الواقع، بل هو تمثيله الخارجي فقط.
ويقول كاستروب إن المادة، كما تفهمها الفيزياء الحديثة، لا تملك واقعية قائمة بذاتها. فهي تتحلل في النهاية إلى «حقول كميّة» مجرّدة، لا وجود محسوساً لها. بل إن هذه الحقول، كما يقول، «أدوات رياضية نفترض وجودها لأن العالم يتصرف كما لو كانت موجودة». أما الزمان والمكان، فهما أيضاً ليسا إطارين مطلقين كما ظنّ نيوتن، بل مجرد «طرائق معرفية» تساعدنا على فهم العالم، والفيزياء المعاصرة - خاصة مع نظريات النسبية العامة والجاذبية الكميّة – تؤكد ذلك؛ أن الزمان والمكان ليسا أساسيين، بل طارئان.
من هنا، ينتقد كاستروب الوضع الراهن، حيث يعامل كثير من العلماء الماديّة على أنها حقيقة لا جدال فيها، بينما هي مجرد فرضية تفسّر العالم بطريقة واحدة. لكنها، في رأيه، طريقة معيبة، تفتقر إلى التماسك، وتفشل في تفسير الوعي، وتقوم على نموذج كوني يعترف بأنه لا يفسّر سوى 5 في المائة من الكون، بينما يظل الباقي في ظلمة «المادة المظلمة» و«الطاقة المظلمة».
ومن هنا، يقدّم كاستروب استعارة بديعة؛ الواقع يشبه كتاباً مكتوباً بلغة مادية، لكنه يشير إلى ما هو خلفه، إلى المعنى. فإذا تعاملنا مع المادة بوصفها نهاية المطاف، أصبح العالم مسطحاً، خانقاً، خالياً من المعنى، أما إذا أدركنا أن المادة مجرد مظهر لعقلٍ كوني أعمق، أصبح الكون كله رسالة يجب فك شيفرتها.
في صلب رؤية كاستروب يقبع مفهوم الحب بوصفه القوة التي توحّد، وتقابل الخوف الذي يفرّق. عندما نؤمن بأننا كيانات منفصلة، نعيش في عزلة وانفصال. لكن إذا فهمنا أن كلّ ما نراه – من نجوم ومجرات إلى أجسادنا – ليس سوى تمثيل لمجال عقلي واحد شامل، فإننا نبدأ رحلة الاندماج من جديد في مصفوفة الكينونة، كما يسميها. وهذا الاندماج، في نظره، هو جوهر الحب.
وهو يعترف بأن نقل هذه الأفكار إلى جمهور علمي ليس بالأمر السهل. فالفلسفة تُجبره على استخدام لغة رمزية، بينما يتطلّب الخطاب العلمي دقة رياضية وتجريبية. واللغة، كما يقول، مشبعة بأطرنا المعرفية المسبّقة، فهي تُبنى على مفاهيم مثل المكان والزمان، ليست بالضرورة موجودة في الواقع الموضوعي. لذلك، فإن إحدى المهام الأساسية لديه هي تفكيك فكرة أن الإدراك يعكس العالم كما هو. لا، بل الإدراك مشفّر، انتقائي، متحيز. إنه واجهة تشغيل، لا نافذة شفافة. وهذا يجعل من التفكير الفلسفي الميتافيزيقي ضرورة، لا ترفاً.
مثالية كاستروب التحليلية تمثل في هذه اللحظة أعتى نقد موجه للفلسفة المادية التي تزعم أن العالم مكوّن من مادة فقط
يدرك كاستروب أن كلمة «ميتافيزيقا» قد تثير عند البعض صوراً روحية أو غامضة أقرب للصلاة والتصوّف، لكنه يُعيد تعريفها ببساطة؛ هي دراسة ما هو موجود. الفيزياء تدرس كيف تتصرف الأشياء، أما الميتافيزيقا فتسأل؛ ما هي الأشياء أصلاً؟
لكن هل تبقى هذه الأفكار طليقة سماء التجريد وملاعب الجدل الفلسفي فحسب؟ ليس بالضرورة. إذ يرى أن تبنّي هذا النموذج المثالي التحليلي للعالم يمكن أن يغيّر طريقة فهمنا للذات، وللرعاية الصحية. فإذا كنا في جوهرنا كائنات عقلية، لا مادية، فإن الصحة العقلية يجب أن تُعامل كأساس، لا كمجرد بعد ثانوي. وحينها، يصبح العقل وسيلة للشفاء، لا مجرد متلقٍّ للعلاج.
قد يتفق المرء مع كاستروب، أو يختلف معه. لكن المؤكد أن ما يقدّمه ليس مجرّد طرح فلسفي آخر، بل دعوة حقيقية لتوسيع أفق فهمنا للوجود، وإعادة النظر في كثير من البديهيات والمسلمات. ونصيحته؛ لا تأخذوا «الواقع» كما يُقدَّم لكم. راقبوا، واسألوا، وتأمّلوا. فقد تكون «المادة» مجرّد قناع يرتديه العقل.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صحيفة سبق
منذ 2 أيام
- صحيفة سبق
فلكيًا: سماء المملكة والعالم القديم بلا بدر هذا الشهر.. ورصد "قمر سمك الحفش"
تشهد سماء المملكة ومعظم دول آسيا وأوروبا وأفريقيا هذا الشهر ظاهرة فلكية نادرة، تتمثل في غياب مشهد اكتمال القمر (البدر) رغم حدوثه فلكيًا. وأوضح عضو نادي الفلك والفضاء عدنان الرمضون أن القمر ظهر في سماء مدينة عرعر، اليوم الجمعة 8 أغسطس 2025، عند الساعة 6:50 مساءً، وهو في طور الأحدب المتزايد، ويُعرف بدر أغسطس باسم "قمر سمك الحفش" (Sturgeon Moon). وسيظل على هذا الطور حتى يغرب عند الساعة 5:21 فجر السبت 9 أغسطس، دون أن يُشاهد مكتملًا في الأفق المحلي. وبيّن أن لحظة الاكتمال الفلكي للقمر ستحدث عند الساعة 10:55 صباحًا بتوقيت المملكة، أي بعد غروبه، ما يحول دون رؤيته بدرًا في معظم مناطق آسيا وأوروبا وأفريقيا، لتكون من الأشهر النادرة التي لا يُرصد فيها البدر بصريًا في هذه المناطق. وأضاف "الرمضون" أن القمر سيعاود الظهور مساء السبت 9 أغسطس عند الساعة 7:26 مساءً، وقد بدأ حينها الدخول في طور الأحدب المتناقص، ما يعني أن سكان نصف الكرة الشرقي سيفوتهم مشهد البدر، بينما سيتمكن سكان أمريكا الشمالية والجنوبية من مشاهدته مكتملًا فوق الأفق في أبهى صورة. ويعود اسم "قمر سمك الحفش" إلى القبائل الأمريكية الأصلية التي أطلقت هذه التسمية على بدر أغسطس، نظرًا لوفرة صيد هذا النوع من الأسماك الكبيرة في البحيرات والأنهار خلال هذه الفترة من العام، حيث كان يمثل مصدرًا مهمًا للغذاء. وتُعد هذه الظاهرة تذكيرًا بأهمية الفروق الزمنية والموقع الجغرافي في رصد الأحداث الفلكية، وتجسيدًا لدقة علم الفلك في تتبع أطوار القمر.


الشرق الأوسط
منذ 2 أيام
- الشرق الأوسط
برج إيفل... عملاق باريس يتمدَّد تحت شمس الصيف
الهيكل المعروف اليوم باسم «برج إيفل» كان يُعرَف في الأصل بـ«برج الـ300 متر»، وهو اسم اقترحه المهندسان موريس كوشلان وإميل نوجييه على غوستاف إيفل، الذي أشرف على بنائه. وكان الاسم يعكس طموح تشييد إنجاز هندسي غير مسبوق يحطِّم الأرقام القياسية في الارتفاع. لكن المفاجأة أنّ برج إيفل يزداد ارتفاعه فعلياً خلال أشهر الصيف مع ارتفاع درجات الحرارة، ليتجاوز تصميمه الأصلي. وذكرت «الإندبندنت» أنّ برج إيفل شُيّد ضمن فعاليات المعرض العالمي لعام 1889، بمناسبة الذكرى المئوية للثورة الفرنسية. وكان مقرراً أن يكون نقطة مراقبة رئيسية، وقاعدة للبث الإذاعي. وهو عبارة عن هيكل شبكي ضخم ثلاثي الشكل، يشبه إلى حد كبير جسر غارابيت (من تصميم مكتب إيفل أيضاً) وجسر فورث في اسكوتلندا، وكلاهما من الحقبة عينها. هندسة تستجيب للفصول (غيتي) تتمدَّد هذه الهياكل عندما ترتفع درجة حرارة المواد المصنوعة منها. لكن، وعلى عكس الجسور التي تتمدَّد بطرق أكثر تعقيداً، فإنّ برج إيفل يتمدَّد وينكمش عمودياً في الغالب، بفعل ما يُعرف بـ«التمدد الحراري». ومن المعروف أيضاً أن غالبية المواد الصلبة تتمدَّد مع ارتفاع الحرارة وتنكمش عند انخفاضها، إذ تؤدّي حرارة الذرات إلى تباعدها عن بعضها. وتعتمد درجة التمدُّد على طبيعة الروابط بين الذرات: السيراميك والزجاج، ذات الروابط الأقوى، تتمدَّد أقل من المعادن، وهذه بدورها تتمدَّد أقل من البوليمرات. ويحسب المهندسون هذا التمدُّد بدقة، إذ يعتمد مقداره على 3 عوامل رئيسية: طول العنصر، ومقدار تغير درجة الحرارة، ومعامل التمدد الحراري للمادة. على سبيل المثال: معامل التمدُّد للمواد السيراميكية يتراوح بين (0.5×10⁻⁶) و(1.5×10⁻⁶) لكل درجة مئوية، وللمعادن بين (5×10⁻⁶) و(30×10⁻⁶)، وللبوليمرات بين (50×10⁻⁶) و(300×10⁻⁶). وتُعدّ البوليمرات الأكثر تمدّداً، إذ تتمدَّد 10 أضعاف أكثر من المعادن، وهذه بدورها 10 أضعاف أكثر من السيراميك. الحديد المطاوع المستخدم في بناء برج إيفل، ومعظم أجزائه الفولاذية، له معامل تمدد يبلغ نحو 12×10⁻⁶، ما يعني أنّ قضيباً طوله متر واحد يتمدَّد بمقدار 12 ميكروناً لكل درجة حرارة واحدة، أي أقل من سماكة شعرة الإنسان. لكن، هل التمدُّد الحراري مرئي فعلاً؟ الإجابة: نعم، إذا أخذنا في الحسبان الطول الكبير للهيكل وتفاوت درجات الحرارة. يبلغ طول برج إيفل 300 متر، بينما يمتدّ جسر غارابيت إلى 565 متراً، وجسر فورث يزيد على 2.5 كيلومتر. وفي باريس، سُجّلت تاريخياً درجات حرارة بين -20 شتاء و+40 صيفاً، لكن الأسطح المعدنية المُعرَّضة للشمس يمكن أن تصل حرارتها إلى 60 أو حتى 70 درجة مئوية. يرتفع رمز باريس كما لو كان حيّاً (غيتي) لنحسب الأمر: إذا تمدَّد قضيب معدني طوله متر واحد بمقدار 0.000012 متر لكل درجة مئوية، فقضيب طوله 100 متر يتمدَّد 12 سنتيمتراً عند تغير درجة الحرارة 100. وبرج طوله 300 متر يتمدَّد 36 سنتيمتراً، أي أكثر من ثلث متر. لكن البرج ليس قضيباً بسيطاً، بل يتألَّف من أكثر من 18 ألف قطعة حديدية مثبتة بالمسامير، موضوعة بزوايا واتجاهات متعدّدة. ولأنَّ الشمس تسطع على جانب واحد منه، يتمدَّد هذا الوجه أكثر من غيره، ما يؤدّي إلى انحناء طفيف في البرج نحو الجهة المعاكسة للشمس. وقدَّر المتخصِّصون أنّ برج إيفل يزداد ارتفاعه بين 12 و15 سنتيمتراً عند المقارنة بين أيام الشتاء الباردة وأيام الصيف الحارة. وهكذا، فإنه، إلى جانب كونه مَعْلماً شهيراً، وبرج اتصالات، ورمزاً لباريس، هو أيضاً ترمومتر حراري عملاق.


الشرق الأوسط
منذ 2 أيام
- الشرق الأوسط
«سبيس إكس» تُبرم اتفاقية تاريخية مع إيطاليا لاستكشاف المريخ
وقّعت شركة «سبيس إكس» المملوكة للملياردير إيلون ماسك، شراكة رائدة مع وكالة الفضاء الإيطالية لنقل أدوات علمية إلى المريخ، على ما أعلن مسؤولون في الجهتين الخميس. وكتب رئيس الوكالة الإيطالية (ASI) تيودورو فالنتي عبر منصة «إكس»: «إيطاليا في طريقها إلى المريخ!»، مُعلنا عن هذه الاتفاقية التي من شأنها أن تتيح «نقل تجارب إيطالية خلال أولى رحلات مركبة ستارشيب التجارية إلى المريخ». Italy is going to Mars! @ASI_Spazio and @SpaceX have signed a first-of-its-kind agreement to carry Italian experiments on the first Starship flights to Mars with customers. The payloads will gather scientific data during the missions. Italy continues to lead in space exploration! — Teodoro Valente (@Valente_Teodoro) August 7, 2025 لا يزال هذا الصاروخ العملاق الذي طورته «سبيس إكس» للذهاب إلى القمر والكوكب الأحمر، قيد التطوير، وقد انتهت آخر رحلاته التجريبية في وقت سابق من هذا العام بانفجارات ضخمة. مع ذلك، لا يزال إيلون ماسك الذي يهدف إلى «استعمار المريخ» والمعروف بتوقعاته الطموحة للغاية، يعوّل على إطلاق أولى رحلات المركبة رسميا في عام 2026، حسب «وكالة الصحافة الفرنسية». وكتبت رئيسة «سبيس إكس» غوين شوتويل عبر منصة «إكس» الخميس: «تحضّروا! نحن في طريقنا إلى المريخ! (سبيس إكس) باتت تقدّم خدمات ستارشيب إلى الكوكب الأحمر»، مرحّبة بالشراكة المُوقّعة مع إيطاليا ومُتعهّدة بإعلان خطوات مقبلة في هذا الاتجاه. Get on board! We are going to Mars! SpaceX is now offering Starship services to the red excited to work with the Italian Space Agency on this first-of-its-kind agreement. More to come — Gwynne Shotwell (@Gwynne_Shotwell) August 7, 2025 أقام إيلون ماسك، الذي كان مُقرّبا جدا من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، علاقة شخصية مع رئيسة الحكومة الإيطالية المُحافظة جورجيا ميلوني، بموازاة دعمه العلني لأحزاب اليمين المُتطرّف الأخرى في أوروبا. انتقدت قوى المعارضة الإيطالية بشدة عقد الأمن السيبراني المُقترح بين روما و«سبيس إكس» في وقت سابق من هذا العام.