يا خفي الألطاف.. توازن القوى في مهب الريح
الناس تطلب التغيير وتسعى إليه باعتباره أحد آليات أو دوافع التطور. بعض الناس تذهب إلى التغيير، وبعضها يهرب منه، لكن التغيير باعتباره سنة كونية، يقع حتى على من يقاومونه، كما يقع على من يسعون إليه.
من يسعون إلى التغيير يعرفون الطريق إليه، ولا يحتاجون إلى دليل أو مرشد، او حتى خريطة، ومن يقاومون التغيير، يرفضون حتى تلقي المساعدة على التكيف معه.
إيقاع التغيير القسري تحت وطأة حروب ممتدة في منطقة الشرق الأوسط، منذ عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/كتوبر 2023، بات أسرع من قدرة أغلبنا على ملاحقته، فما جرى قد طوى بقسوة صفحات حاضر لم يكن سعيداًعلى أي حال، كما أطلق سراح خطط وتصورات لم تدر بخلد أغلب سكان الإقليم، الذين استكانوا لعوامل الاستقرار، واستطابوا العيش تحت ظروف اعتادوا على قسوتها.
بعد دقائق من بدء زيارة تضامن أميركية مع اسرائيل، سارع بها الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وبايدن من جلسة محادثات وقد تأبط الأول ملفاً قال وهو يشير إليه: "سوف نقضي على حماس وسنغير وجه الشرق الأوسط"!! .. قلت ساعتها وأنا أتابعه: "لا تكن غراً وتقسو على نفسك هكذا..! تبنى أهدافاً قابلة للتحقق، حتى لا يراك الناس من حولك كذاباً"! لكن ما جرى منذ السابع من اكتوبر، كان يجري حيث يريد نتنياهو له، بل إنه تجاوز في أحيان كثيرة أحلام نتنياهو ذاته، خذ مثلاً ما جرى لحزب الله في لبنان، وما فرضه نتنياهو من حسابات ومعادلات جديدة في سوريا، ثم ما جرى ويجري في إيران ومعها، وقبل كل هذا وبعده ما جرى ويجري في غزة وفي الضفة الغربية.
تحولات عميقة، وأخاديد جديدة غائرة فوق خريطة الشرق الأوسط الجديد، لا تدع أمام شعوبه وحكوماته ودوله، أدنى فرصة للتحرك دون الاستعانة بتطبيق GPS أو Waze وإلا ضاع من بين أقدامها الطريق، فالعالم الذي عرفته أجيال خلال المئة عام المنصرمة لم يعد هو ذاته، لا بخرائطه، ولا بقوانينه ولا بأعرافه، ولا بموازين القوى وحساباتها فيه.
دعونا نعترف أن سلام توازن القوى، قد تبدل حاله بعدما اختل التوازن الذي كرسته نتائج الحرب العالمية الثانية، بسقوط جدار برلين، وكل توابعه من انهيارات، كان انهيار الاتحاد السوفياتي أعنفها وأشدها أثراً.
دعونا نعترف كذلك أن ثمة خطايا عظمى قد أفرزتها سياسات ما بعد الاستفراد الأميركي بزعامة نظام دولي أحادي القطب، ارتضى شهوده -اضطراراً- بتسليم عجلة القيادة فيه للولايات المتحدة باعتبارها القطب الأوحد، لكن خطايا أميركا في طور الاستفراد بإدارة النظام الدولي كانت أكبر حتى من أن تحتملها أميركا ذاتها، بعدما ارتكبت أم الخطايا في أفغانستان والعراق وليبيا، وبعد تجاربها بالفوضى البناءة، وما أفرزته من كوارث عصفت بالإقليم، ولهذا رأينا عجزاً في موضع القدرة، جعل رئيس أميركي مثل باراك أوباما يترك الفوضى الليبية ليديرها حلف الناتو معللاً ذلك بأنه "القيادة من مقعد خلفي"، ثم يداوي أخطاء هذا المنهج "الخلفي"، بالحديث عن معالجة فوضى الربيع السوري، بمنهج "الشراكة الأمامية" أي القيادة من مقعد بجوار السائق، وكلنا نعرف الآن بعد سنوات، مآلات التردد الأميركي في الوفاء باستحقاقات قيادة النظام الدولي.
في طور تحولات في النظام الدولي اتسمت بالعنف وبالعشوائية، شق دونالد ترامب طريقه إلى البيت الأبيض، مصحوباً بتأييد شعبي، ظن وما يزال يعتقد، أنه يخول له فعل ما يشاء، وقتما يشاء، وأينما يشاء، منطلقاً من تصورات يعود بعضها إلى زمن الحروب الصليبية، وبعضها الآخر إلى زمن الكشوف الجغرافية، فيتصرف أحياناً ويتحدث أحياناً عن خرائط يريدها لنفسه بوضع اليد أو بالشراء أو بالتأجير…
كل ما جرى ويجري في غزة، ما زال يدار متأثراً بمنطلقات السلوك والتصورات لدى ترامب (غزة الجميلة بتاعتي)، وكل ما جرى ويجري إزاء ايران ما زال واقعاً تحت تأثير ترامب وتصوراته للشرق الاوسط وللعالم.
فائض القوة لدى كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، هو "أبو الدوافع" لسياسات البلدين تجاه الشرق الأوسط الجديد، الذي تتطلع إسرائيل لزعامته والهيمنة على القرار فيه، بينما يراه ترامب مقدمة لا غنى عنها لتثبيت دعائم الاستفراد الأميركي بزعامة نظام دولي جديد، قلبه ومفتاحه في إسرائيل.
وفق هذه الصيغة تصبح أي محاولة لتثبيت دعائم نظام إقليمي يقوم على مبدأ توازن القوى، تحدياً لإسرائيل المتطلعة إلى استفراد ممتد بزعامة النظام الإقليمي الشرق أوسطي الجديد. ووفق هذه الصيغة ذاتها، فإن أي محاولة لقوة عظمى قائمة أو محتملة (روسيا أو الصين مثلاً) لمنازعة الانفراد الأميركي بالزعامة الدولية، سوف تعتبر تحدياً تتصدى الولايات المتحدة له بذراع قوتها الذاتية أو بذراع قوة إسرائيل.
معركة اقتسام الحصص للسيطرة على النظام الإقليمي الشرق أوسطي الجديد، لم تنتهِ بعد، لكنها دخلت طور الحسم، وهو طور قد يمتد لسنوات، تشهد المنطقة خلالها منافسات بالقوة المسلحة، أو بالقدرات العلمية والثقافية والمالية، لن يحسمها إلا صاحب الجاهزية الأعلى، دعونا نرصد ونتابع ونشارك في صياغة خارطة جديدة للإقليم، تصون هويته وتحمي مقدراته.
توازن القوى، الذي وضع سقفاً للصراعات، بات هو ذاته في مهب الريح، وبات مستقبل المنطقة في غيابه محفوفاً بالمخاطر.. يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


بيروت نيوز
منذ ساعة واحدة
- بيروت نيوز
بالفيديو.. صواريخ إيرانية في سماء قطر وقواعد أميركية تحت النار!
رصدت عدسات الكاميرات، مساء الإثنين، رشقات صاروخية أطلقتها إيران باتجاه قواعد أميركية في قطر. وذكرت التقارير أن طهران أطلقت 6 صواريخ لاستهداف قاعدة العديد الأميركية وذلك في إطار عملية حملت اسم 'بشائر الفتح'. في الوقت نفسه، ذكرت وسائل إعلام إيرانية أن 'بداية الرد على الولايات المتحدة سيكون بضرب قاعدة العديد في قطر وقواعد أميركية في العراق'. ويأتي هذا الهجوم رداً على استهداف الولايات المتحدة لـ3 منشآت نووية إيرانية، فجر الأحد، وهي نطنز وأصفهان وفوردو. كذلك، تحدثت التقارير عن دوي صافرات الإنذار داخل القواعد الأميركية في الكويت والعراق والبحرين، فيما أفيد عن دخول القوات الأميركية الملاجئ في قاعدة عين الأسد بالعراق. إلى ذلك، قال مسؤول أميركي إن البيت الأبيض ووزارة الدفاع على دراية بالتهديدات لقاعدة العديد الجوية في قطر.


الميادين
منذ ساعة واحدة
- الميادين
إعادة صناعة الأسطورة الصهيونية
قد نحتاج إلى وقت طويل لنستطيع الحديث عن التفاصيل الحقيقية لهجوم العدو الصهيوني على إيران. ما نمتلكه من معلومات يعتمد في أغلبه على الرواية الصهيونية الأميركية التي تروّجها وسائل الإعلام الصهيونية والأميركية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي ترسم صورة مرعبة لنتائج العدوان من أنه دمّر قدرات الدفاع الجوي الإيراني بالكامل، وأنّ العدو تمكّن من نقل أسلحة إلى الداخل الإيراني واستعملها عملاء العدو في العدوان. في السياق نفسه تخلّى العدو عن الغموض الذي يحيط به عملياته العسكرية والاستخبارية عادة، ونشر معلومات "مفصّلة" عن العمل الاستخباري والتخريبي الذي قام به عملاء الموساد في الداخل الإيراني. أضاف التحالف الغربي إلى موجة التبجّح الصهيوني، تصريحات تعبّر عن دعمه الكامل للعدوان سواء بوصف ترامب للعدوان بأنه ممتاز، وأنّ على إيران القبول بالصفقة التي تعرضها الولايات المتحدة فيما يتعلّق بالاتفاق النووي ثمّ الحديث عن استسلام إيراني كامل، وبعكس ذلك فإنّ الاستعدادات لضربات أكثر قسوة جاهزة، في الوقت الذي أعلنت فيه وسائل الإعلام الصهيونية مشاركة طائرات من بريطانيا وفرنسا وأميركا والأردن بالتصدّي للمسيّرات والصواريخ الإيرانية وتدميرها قبل وصولها إلى سماء فلسطين. الصورة كما يرسمها الإعلام الصهيوني والمتصهين، هزيمة نكراء لإيران وتفوّق كامل للعدو الصهيوني. لكن على الأرض يتصاعد الحديث عن فتح الملاجئ ورفع درجات استعداد في الجبهة الداخلية للكيان، ونقل طائرات العدو المدنية إلى قبرص وإغلاق الأجواء الفلسطينية. المطلوب منّا تصديق الروايتين؛ إيران مهزومة لكنها قادرة على تعطيل الحياة داخل الكيان لمدة أطول من المعتاد كما صرّح الإرهابي بنيامين نتنياهو، وتدمير مراكز العدو العسكرية والعلمية. كما هو واضح حتى اللحظة، الرواية الاستعمارية غير مقنعة رغم تعزيزها بأفلام ومواد وثائقية يسهل تزويرها، وأنّ هدفها هو إعادة صناعة أسطورة "الجيش الذي لا يقهر" التي تهاوت تحت وطأة ضربات المقاومة منذ عام 2000 وحتى السابع من أكتوبر 2023، وصور الدمار في المدن الفلسطينية المحتلة. التسرّع في نشر التفاصيل وقبل اتضاح صورة الردّ الإيراني على العدوان إنما يعكس مدى ضرورة استعادة صورة الأسطورة بغضّ النظر عن نتائج المواجهة. 23 حزيران 12:27 23 حزيران 08:50 قد يرى البعض أنّ موضوع إعادة صياغة صورة "إسرائيل" كشرطيّ المنطقة أمر ثانوي أمام نتائج المعركة وبشكل خاصّ خسارة محور المقاومة للعديد من القيادات العسكرية والسياسية، وهذا الرأي فيه الكثير من الصواب، إذا كان صادراً عن حرص على المقاومة، وليس حقاً يراد به تسويق باطل التفوّق الصهيوني. الصورة ليست مهمة للعدو فقط، ولكن للعديد من حلفائه في المنطقة الذين خدّروا شعوبهم على مدى 50 عاماً بالحديث عن عجز هذه الأنظمة عن مواجهة التفوّق الصهيوني ـــــ الأميركي العسكري والاقتصادي. الصورة نفسها استخدمتها الأنظمة الدائرة في الفلك الصهيو ـــــ أميركي لتبرير ذهابها إلى السلام "المزعوم" مع العدو، ابتداء من جملة الخائن أنور السادات عن امتلاك أميركا 99% من أوراق اللعبة، وصولاً إلى الاتفاقيات الإبراهيمية. "إسرائيل" العاجزة عن فرض شروطها على المقاومة في غزّة بعد 16 سنة من الحصار و20 شهراً من الحرب، والولايات المتحدة التي اضطرت للتراجع أمام الصمود اليمني بعد حرب وحصار سنوات، حاولتا إقناعنا أنّ ضربة واحدة كفيلة بهزيمة دولة بحجم إيران. المشكلة أنّ هناك من شعوبنا من يصدّق هذه الرواية، وهناك من يبحث بكلّ الوسائل عن طريقة لجعل هذه الرواية قابلة للتصديق. أكثر هذه المحاولات شيوعاّ وخباثة هي تلك التي تعمد إلى عقد مقارنة بين ما حدث في إيران وما أصاب حزب الله بعد اغتيال قادته وعلى رأسهم سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله. هذه المقارنة تعتمد على تسويق روايتين استعماريتين، الأولى أنّ دور المقاومة في لبنان بالتصدّي للعدو الصهيوني قد انتهى باستشهاد قيادته، وعليه فإنّ إيران تنتظر المصير نفسه بعد اغتيال أبرز قياداتها العسكرية والعلمية. ليس المطلوب الدخول في حالة إنكار، فالعدو الذي اختار محور المقاومة التصدّي له، عدو قوي ومتفوّق عسكرياً على جميع خصومه، وهو قادر على توجيه ضربات قوية لخصومه، وهذه الحقيقة يعرفها قادة المحور جيداً، إذ إنهم يواجهون هذا العدو في الميدان ويدركون جيداً قدراته، بما في ذلك احتمال استشهاد قادة المحور، بل وحتى توجيه ضربات قاسية لبنية المحور. هذا ما حدث ويحدث خلال الأشهر الأخيرة، لكنّ العدو نفسه يدرك أنّ الوقت ما زال مبكراً على الاحتفال، لأنه يدرك تماماً أنّ إيران تمتلك من القوة ما يمكّنها من ردّ الصاع صاعين، كما أنّ الصراع ليس ثنائياً بينه وبين إيران، وأنه مهما بلغت قوته لن يستطيع شطب القضية الرئيسة في المنطقة المتمثّلة في وجود الكيان نفسه، وأن تتصدّر إيران اليوم المشروع المضاد لهذا الوجود. المقاومة لم تبدأ في السابع من أكتوبر 2023، فالثورة الأولى للشعب الفلسطيني ضدّ وجدود الكيان كانت قبل أكثر من 100 عام، ومنذ ذلك التاريخ لم يمرّ يوم من تاريخ الصراع من دون وجود شكل من أشكال المقاومة. الهدف ضرب فكرة الثورة والمقاومة التي تمثّلها إيران، والحديث عن المشروع النووي ليس سوى حجّة فارغة وكاذبة لتبرير العدوان. إيران لم تهزم، وكلّ المؤشرات تقول إنها لن تهزم أو تخسر دورها كلاعب رئيس في قضايا المنطقة. أميركا والكيان الصهيوني يبحثان عن حلّ للأزمات التي تعصف بالقوى الاستعمارية نتيجة تصاعد قوة ودور الدول والشعوب الرافضة للهيمنة الاستعمارية. الردّ العسكري الإيراني مستمرّ، لكنّ الردّ الحقيقي يكون بتعميق التمسّك بفكرة المقاومة، والالتفاف حول القوى التي تتصدّرها، والاستعداد لتقديم التضحيات في سبيلها، ومنطق التاريخ يقول إنّ الشعوب التي امتلكت إرادة المقاومة وقدّمت التضحيات الضرورية تحقّق الانتصار المنشود.


النهار
منذ 2 ساعات
- النهار
إلى أين تتجه المنطقة بعد الضربة الأميركية على مفاعلات إيران النووية؟
"ما قبل الضربة الأميركية على إيران، ليس كما بعدها". ورغم فاعلية الضربات، التي نفذت، فليس من الضروري أن تذهب إيران إلى صنع السلام وفق ما قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إذ من يتابع المواقف الإيرانية ومن يدر في فلك العدائية للولايات المتحدة الأميركية قبل تنفيذ الهجوم يدرك أن المنطقة تنزلق أكثر نحو دوامة من العنف التي قد تنتهي على قاعدة "منتصر ومهزوم"، وأن السلام المنشود قد لا يأتي عن طريق فرض القوى كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. مهما خلّفت الضربات الأميركية من أضرار في المنشأت، فإن هذا لا يعني أن المنطقة ذاهبة نحو السلام الأميركي والإسرائيلي، وما يأمل فيه الرئيس الأميركي من أن تؤدي الضربات على المنشآت إلى جلب طهران إلى طاولة المفاوضات قد يكون مجرّد وهم، لأنّ الأمور باتت مفتوحة على الاحتمالات كافة، وعلى رأسها فتح الصراع على مصراعيه، مما سيضع المصالح الأميركية والقواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في المنطقة إزاء خطر التصعيد. أطلقت واشنطن في ضرباتها هذه الضوء الأخضر أمام الفصائل الموالية لإيران في المنطقة لتفعيل عملياتها العسكرية وفتح أكثر من جبهة قتالية بعدما ظلت على مدة أسبوع محصورة بين الهجوم الإسرائيلي والردّ الإيراني. وإن الحرب قد تشهد تصعيداً يطال مفاعل إسرائيل النووية، التي كان أحد المسؤولين في الحرس الثوري الإيراني قد وضعها من ضمن بنك أهداف صواريخ إيران الباليستية، لكن ليس على شكل تدمير بل لرد الاعتبار للإيراني. يضع المتابع مجموعة من السيناريوهات التي قد تدخل المنطقة فيها. ولكنّ الأكيد أن الأميركي لم ينفّذ ضرباته استجابة لرغبة نتنياهو، ولا نزولًا عند ما يرضي غرور هذا الرجل الذي -على ما يبدو- لن يرضيه إلا حرب كبرى في المنطقة، كما قال الرئيس الأسبق للولايات المتحدة بيل كلينتون، في إحدى مقابلاته التي أجراها السبت 21 حزيران/ يونيو الجاري. يريد حقاً الأميركي السلام، ويريد التوصل إلى اتفاق مع النظام القائم في إيران، وهو بالطبع يخشى المواجهة الكبرى، لكنّه في الوقت ذاته لن يسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي، ولن يسمح بامتداد نيران الحرب إلى دول أخرى. لهذا لجأ الأميركي إلى تنفيذ ضربات "ردعية" لا هجومية، بمعنى أنه يريد من خلالها أخذ إيران إلى طاولة المفاوضات. أخذ طهران إلى التفاوض لن يكون عبر الضربات فقط، بل عبر إيجاد الحالة الاحتوائية التي نجحت إلى الآن في فرضها الديبلوماسية الأميركية قبل أيام من توجيه الضربات. فهي حاورت الروسي مباشرة، وهذا ما طرح معادلة "النووي الإيراني مقابل تعزيز روسي في أوكرانيا"؛ وما صرّح به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن أوكرانيا وروسيا بلد واحد لا يعني أنّه يريد ضمّ أوكرانيا، ولكنّه يريد التخلص من النظام القائم في كييف ليأتي بآخر حليف لموسكو بتغطية أميركية. ليس الروسي من احتواه الأميركي، بل هناك الباكستاني الذي عبّر في أكثر من مناسبة عن الوقوف إلى جانب إيران في هذه الحرب. فالباكستاني لا يريد الفوضى على حدوده مع إيران، إذ يكفيه ما أحدثه الأميركي في أفغانستان، ويكفيه أيضاً النزاع العسكري مع الهندي القابل للتجدد. ولكنّ جل ما يحتاجه نظاماً ضعيفاً في إيران يكون متماسكاً؛ وهذ ما وعد به ترامب قائد الجيش الباكستاني الذي كان على مأدبة الغداء في البيت الأبيض. يدرك الأميركي أن سياسات إدارة بايدن سبّبت تباعداً لحلفاء واشنطن، وجعلت البعض يذهب في اتجاه معاكس (مصر نموذجاً). هذا ما تلقفه ترامب، وذهب بعيداً في محاكاة هواجس المصري، بشأن سدّ النهضة، وتحدّث باللغة التي ترضي الخاطر المصري، من خلال الاعتراف بخطأ إدارة جو بايدن على إعطاء أثيوبيا الامتيازات. فالأميركي اليوم لا يريد توسيع دائرة الحرب، كي لا يعيد مشهدية فيتنام في إيران، ولكنّ جلّ ما يريده إعادة التوازن إلى المنطقة، بعدما شعر الجميع بأن المدّ الإيراني بات خطرًا على مصالح الدول، حتى العربية منها. إنّه سباق بين الديبلوماسية والتصعيد العسكري. الحديث عن الذهاب بالمنطقة نحو تغيير وجهتها بحسب الرؤية الإسرائيلية لم يزل حلم نتنياهو بعيد المنال، إذ أثبتت إيران قوتها في قدراتها الصاروخية وليس في امتلاكها الأسلحة النووية؛ وهذا ما ترجمته بعد الضربات الأميركية بساعات قليلة حين أطلقت مجموعة من الصواريخ على حيفا وتل أبيب. إنّ هذه القدرة على إطلاق الصواريخ تبقى من أوراق القوة لدى طهران، ولاسيما أن الحديث بدأ يتصاعد في الداخل الإسرائيلي عن نفاد مخزون إسرائيل في دفاعاتها الجوية، وعن القدرة المالية المرتفعة التي تتكبدها. ليست القوة الصاروخية الإيرانية هي الرادعة الوحيدة لجموح نتنياهو نحو تفجير المنطقة، بل هناك الدور الديبلوماسي الفاعل من الجانب القطري والتركي والمصري على صعيد المنطقة المعارض لعدوانية إسرائيل، والذي سيشكل جسر عبور نحو فرض السلام العادل والمتوازن، إضافة إلى الرفض العربي بشكل مطلق لجعل المنطقة ترزح تحت ما يسمى "السلام النتنياهوي" ذو التوجه اليميني المتطرف لفرض الاستسلام على شعوب ودول المنطقة. إن تنفيذ الضربات الأميركية ليس دليلاً على أنه انتصار ميداني لإسرائيل، بقدر ما يؤكد على الإصرار الأميركي على فرض مبدأ التسويات على قاعدة احتواء الصعود الإيراني وإزالة تهديداته. لهذا يصر الرئيس الأميركي على أخذ إيران إلى طاولة المفاوضات، وأن هذه الضربات أوصلت الرسالة. لكن التساؤل المطروح هل ستأخذ إسرائيل من الضربة الأميركية ذريعة لوقف حربها، أم أن للنظام في إيران رأياً آخر يرتكز على قاعدة "عليّ وعلى أعدائي"؟