logo
مفتي الجمهورية يوجه رسالة رمضانية إلى اللبنانيين

مفتي الجمهورية يوجه رسالة رمضانية إلى اللبنانيين

لبنان اليوم٢٨-٠٢-٢٠٢٥

وجه مفتي الجمهورية اللبنانية، الشيخ عبد اللطيف دريان، رسالة إلى اللبنانيين بمناسبة شهر رمضان المبارك، جاء فيها:
'يقول المولى تعالى في محكمِ تنزيله :﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ .
أيها المسلمون :
يقدم علينا شهر رمضان كل عام خير مقدم . فالصوم فريضة في القرآن، بمقتضى قوله تعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون﴾ . وهو عمل رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه ، وحبه وأداؤه للطاعات ، يدل على ذلك كثرة أحاديثه في الحث على أداء الفريضة ، وفي تبيان الفضائل الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية لرمضان وصومه. وإذا كانت الصلاة عماد الدين ، والحج موطن اجتماع جماعة المسلمين، فإن الصوم فضلا عن كونه عبادة رئيسة في الإسلام والأديان ، فقد صار علما على الإسلام في العالم.
نحن مأمورون بصوم شهر رمضان ، وبالعيش فيه ومعه ، باعتباره شهرا للعبادة والتوبة ، والسلوك الخير، والعمل الصالح .
لقد حدد الله سبحانه وتعالى لفرض الصوم، وفي شهر رمضان بالذات ، سببين :
الأول : أنه عبادة مفروضة علينا كما كتبت على الذين من قبلنا في سائر الديانات.
والسبب الثاني: أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن ، قال تعالى : ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾ .
فالسبب الأول : تعليل تعبدي ، ذو فضائل نفسية وخلقية واجتماعية.
أما السبب الثاني : فهو شكر وحمد لله سبحانه وتعالى على النعمة التي أسبغها علينا بإنزال القرآن ، وبعثة خاتم النبيين محمد ، صلوات الله وسلامه عليه . وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾ ، وهذه الأمور الثلاثة : إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، والرضا ، هي مقتضى الرحمة الإلهية ، التي وسعت كل شيء . قال تعالى : ﴿ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون﴾ ، وقال تعالى : ﴿كتب ربكم على نفسه الرحمة﴾ ، فنحن في شهر رمضان، وفي كل شهر وعام ، برحمة ونعمة وعناية من الله سبحانه وتعالى ، الذي له الخلق والأمر. ثم إن شآبيب الرحمة والنعمة ، والعناية المتنزلة على البشرية ، المراد منها أن تتحول إلى أخلاق للأفراد وفضائل ، يتعامل بها الناس فيما بينهم بالمعروف. ويبدو ذلك كله درسا تربويا عظيما في شهر رمضان ، بالصوم والصدقة ورعاية الأهل والولد، والإقبال على فعل الخير للناس ، ومع الناس ، وبقدر الوسع والطاقة، فالله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها. لكن الآية الكريمة تضيف: ﴿لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾ ، وهذا هو التوازن الرائع، فيا أيها الإنسان المؤمن ، بينك وبين الله عهد ووعد، وإن العهد كان مسؤولا ، فما استطعت فافعل ، انطلاقا من هذه المسؤولية ، وهذه الأمانة التي تحملتها. واعلم أنه من مقتضيات المسؤولية أنه من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، وذلك لأن النفس الإنسانية العاقلة والعاملة ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
أيها المسلمون، أيها اللبنانيون:
يرسل إلينا رمضان هذا العام، رسائل عدة، وليس رسالة واحدة. فهو شهر للصوم، كما لدى سائر أهل الرسالات: ﴿كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم﴾. ولذلك ﴿فمن شهد منكم الشهر فليصمه﴾. وهو شهر تميز عن بقية الشهور بإنزال القرآن فيه: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن﴾، وهو الشهر الذي تحل فيه ليلة القدر: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾.
وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي، عن بعض خصوصيات هذا الشهر الكريم، عندما قال صلوات الله وسلامه عليه: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به).
أيها المسلمون، أيها اللبنانيون:
لقد مرت على لبنان وفلسطين وسوريا والعراق، وسائر البلاد العربية، رمضانات عدة ، كانت فيها الظروف ظروف بلاء وشدائد ، وكان علينا اللجوء فيها إلى الصبر. لقد دامت محنة سوريا قرابة العقدين ، ومحنة فلسطين عقودا وعقودا ولما تزل ، ولا تسل عن لبنان ، وقد تذكرنا قبل أيام ، الذكرى العشرين لاستشهاد الرئيس رفيق الحريري رحمه الله ، الذي كانت شهادته رمزا قاسيا لمرحلة من مراحل معاناة الوطن والدولة والنظام . إن أولى مظاهر التغيير وظواهره ، زوال الجهات التي اغتالت الرئيس الحريري ومئات اللبنانيين ، وعشرات الألوف من السوريين ، هي غمة انكشفت مرة واحدة عن سوريا ولبنان .
ليس استطرادا ولا خروجا على السياق، عندما نذكر يوم التأسيس في المملكة العربية السعودية، الذي احتفلت به المملكة ، واحتفلنا به قبل أيام ، وهي الذكرى الثلاثمائة ، ثلاثة قرون على قيام الدولة الوطنية العربية والإسلامية ، فلا ميليشيات ، ولا انقسام ولا شرذمة ولا ظلم ، وإنما هو أمن وسعة ومجد ، بحيث لم يملك الأميركان والروس مكانا للاجتماع ، إلا في رحاب المملكة ذات الدور العالمي لها ، وللعرب والمسلمين ، في سائر أنحاء المعمورة . إننا نأمل في مطلع رمضان لهذا العام ، أن نرى ونشهد في رمضان المقبل ، قيام دولة فلسطين ، بفضل صبر شعبها وكفاحه ، وإجماع العرب والمسلمين ، على تجديد تجربة الدولة الوطنية الحرة والسيدة ، في سائر الديار العربية ، التي عانت وما تزال ، من الاحتلالات والديكتاتوريات، وخراب الإرهاب والاستعباد.
أيها اللبنانيون:
يتجدد الأمل في كل مكان والحمد لله ، وها نحن نشهد بعد سنوات الأزمات والحروب ، وتعطل مقتضيات الأمن والدستور، ومحن العيش ، نعمة انتخاب رئيس جديد للبلاد ، رئيس واعد ، وإنجاز تشكيل الحكومة ، وبشرى بأن تنتهي أزمنة الحيرة بين الدولة واللادولة ، وبين الهدن والحروب ، وبين الاستقرار والاضطراب.
نعم، كان لا بد من بداية جديدة ، وقد تراكمت التوترات والإعاقات ، حتى كاد الناس ييأسون ، لولا رحمة الله والأمل فيها . لا مخرج بعد الليل الطويل ، إلا بانبثاق الفجر الساطع ، الذي يضع الفرق بين الليل والنهار . نحن نعرف أن الصعوبات كبيرة وكثيرة. لكن وعد الانفراج والإنقاذ في انتخاب الرئيس ، وخطاب القسم ، يحمل معه عشرات السبل التي تنفتح للبلاد والعباد ، من خلال السلام بالجنوب، وأمل استعادة الدولة سلطتها على أرضها ، والعودة للعرب ، وللعلاقات الطبيعية مع العالم.
واليوم، بعد أن نالت الحكومة ثقة المجلس النيابي ، هي في مرحلة متابعة واختبار، لتثبت للرأي العام اللبناني والعربي، وحتى الدولي، أن الدولة اللبنانية هي وحدها صاحبة القرارات على أراضيها، وهي وحدها في صياغتها للعلاقات بينها وبين الأشقاء العرب ، وبقية الأصدقاء ، وفي هذه المناسبة ، ندعو إلى الالتزام، والحفاظ على القيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية، التي نص عليها الدستور اللبناني في فقرته التاسعة، لأن الأوطان لا تبنى بالأفكار المستوردة والغريبة عن قيمنا التي نعتز بها، وإنما بثقافة الشعب وتنوعه الديني ، والأمة التي ينتمي إليها الوطن ، وأي تغيير أو تعديل ، من دون الأخذ بعين الاعتبار ، خصوصية رسالة لبنان، ودوره الحضاري، في العيش المشترك بين أتباع الشرائع ، التي أنزلها الله، كي لا ينعكس سلبا على المسيرة الوطنية ، التي نأمل جميعا أنها مسيرة خير وسلام ، وإنماء وازدهار للشعب اللبناني بكل فئاته .
إن محنة لبنان الكبرى ، اضطراره كل عقد أو عقدين لإعادة الإعمار . ولدينا عشرات ألوف المواطنين ، الذين فقدوا أعزاءهم أو منازلهم وقراهم ، لا إعمار بدون إصلاح ، ليس بسبب مشكلة الموارد فقط ، بل ولأن الإصلاح هو ضمانة استتباب الإعمار والعمران وبقائه ، فقد رأينا كيف أقبل الفساد خلال عقدين، على تدمير إعمار الرئيس الحريري وعمرانه . فالإصلاح هو مقدمة الإعمار وقرينه، وبخاصة، إذا لاحظنا الأولويات في خطاب القسم لفخامة الرئيس .
أيها المسلمون، أيها اللبنانيون:
رمضان شهر الخير . وقد قيل في سيرة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه : إنه كان جوادا في كل آن، فقد كان الجود خلقا من أخلاقه ، لكنه في رمضان، كان أجود من الريح المرسلة ، إننا نعلم جميعا تحكم الضيق المعيشي برقاب المواطنين وعقولهم وأيديهم . ولذلك ، فإن الإنفاق بقدر الوسع والطاقة، هو صدقة وإحسان مأجور ، کما أنه اندفاع في نهج الدولة الإصلاحي المأمول . لقد تعود المسلمون على أداء زكواتهم في رمضان ، ومؤسساتنا وصناديق الزكاة ، جاهزة لذلك ، جمعا وتوزيعا ، بحسب مصارف الزكاة ، والمزكون متعودون على كفاءة مؤسساتنا ونزاهتها . وعلى ذلك ، فإن المؤسسات العريقة، العاملة في مكافحة الفقر والصحة والتعليم ، ورعاية الأيتام والعجزة ، والمهتمة بالشأن الاجتماعي العام ، متوافرة بحمد الله في مدننا وقرانا ، وتستحق الاهتمام أيضا . إنها رسالة الخير والإحسان ، والانفتاح على الجوار الوطني والعربي . وإذا أقبل الخير كما نشهد ونشاهد ، تنفتح الأبواب على الكبير والكثير، وجالب الفرج والراحة.
أيها المسلمون، أيها المواطنون:
ليست هناك فترة وزمن كنا محتاجين فيه إلى التضامن والتآزر، وصنع الجديد والجليل والمتقدم ، مثل هذه الفترة ، وكذلك فإن الجود بالأيدي في رمضان ، يكون أيضا بجود الوجوه ، والتطلعات والمبادرات للإخوة والأصدقاء ، وأهل مجتمعنا المتنوع ، المقبل بتفاؤل على عهد جديد ، فيه الأمل والانفتاح، وإزالة وجوه التوتر في مجتمعنا، والعلاقة الودود والندية بجوارنا العربي.
جاءَ في القرآنِ الكَرِيم، في صَدَدِ المُصَالَحَة، وَصُنْعِ السَّلامِ الاجتماعِيّ، قولُه تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ * وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ .
صدق الله العظيم . كُلُّ رَمَضَانَ وَأنتُمْ بِخَير'.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

لبنان اللاوُنَينُ
لبنان اللاوُنَينُ

النشرة

timeمنذ 7 ساعات

  • النشرة

لبنان اللاوُنَينُ

حَقيقَتُهُ مُعطاةٌ مِنَ الكَشفِ الى الوجودِ. مِنَ الفِعلِ الطَلِقِ الى المُجاهَدَةِ. مِنَ الحَدِّ الى تَجاوزِ الحَدِّ. مِنَ الجَوهَرِ الى الحُضورِ. أمِنَ العَقلِ الى ما يُمليهِ التَعَقُّلُ؟ بَل مِنَ الضابِطِ الكُلِّ وَهو اللهُ الى الخُلوصِ بِهِ. هو إطلالَةُ الأرضِ على عَوالِمَ الأبَدِ. هو في الوجودِ وَيَحيا فيهِ... حينَ الآخَرونَ لا يَعيشونَهُ حَتَّى. هو الجَوهَرُ وَيَتَجَلَّى فيهِ... حينَ الآخَرونَ مُكوثُهُمُ في الأقنِعَةِ. هو الساجِدُ بِبَساطَةِ النورِ الآخِذِ صَوبَ المَغزى، الداعي الكُلَّ الى حُدوثِهِ. حينَ العالَمُ أطهارٌ وَفاسِقونَ. مَوتٌ... بَينَ ذُهولِ المَنابِعَ، وَتَفَجُّرِ الطُغيانِ. الصَميميَّةُ تِلكَ، رَفَعَها شِعراً جِبرائيلُ إبنُ القِلاعيِّ الِلحفِديُّ (1447-1516)، في بِدايَةِ تَفَتُّحِها، فَرَصَفَ ابناءَها شُهوداً-شُهَداءً بِزَجَلِيَّتِهِ "مَديحَةٌ على جَبَلِ لبنانَ": "كانْ ملوكْ مِنهُم وأبطالْ أحموا السَواحِلْ وِالأجبالْ وْذَكْروا عَنهُمْ الأجيالْ، وْقالوا في جَبَل الله سُكَّانْ. واللهْ كانْ مَعْهُمْ ساكِنْ، وِيحمي القَرايا وِالمْواطِنْ، وْيرفَعْ لِمن هو مِتكامِنْ وِيعطيهْ حُكْمْ عْلى الأعْوانْ..." لِأجلِهِ هَذا الُلبنانُ، لِأجلِ قُطُون اللهِ فيه وَإستِقرارِهِ في اللهِ، كانَت شَهادَةُ الحَبرِ الأعظَمِ لاوُنَ العاشِرِ (1513-1521)، فيهِ وَبأبنائِهِ، وَهو بَعدُ في مَطالِعَ تِكَيُّنِهِ، بِرِسالَةٍ الى البَطريَركِ المارونيِّ شَمعونَ الحَدَثيِّ: "نَشكُرُ العِنايَةَ الإلَهِيَّةَ إذ شاءَت، بِحُلمِها العَظيمِ، أن تُبقيَ عَبيدَها المؤمِنينَ، مِن بَينِ الكَنائِسَ الشَرقِيَّةِ، مُصانينَ وَسَطَ الكُفرِ والبِدَعِ كالوَردَةِ بَينَ الأشواكِ..." نَعيمُ النُزوعِ هَذا الُلبنانُ النَعيمُ في نُزوعِهِ مِنَ اللامُدرَكِ الى التَحَقُّقِ، أعلاهُ لاوُنُ البابا مؤَكِّداً لَيسَ فَقَط أنَّهُ يَتَخَطَّى الإدراكَ، وَفي ذاكَ تَحَدّيهِ الأفعَلَ، بَل هو الشَهادَةُ والشاهِدُ في الحَقِّ، والحَقُّ خَليقٌ بِهِ. بِذَلِكَ يَسمو بالتاريخَ-صُنعَتِهِ الى فَرَحِ الحَياةِ... والحَياةُ قانونُ إيمانٍ. وَمَن يُجافيهِ، يَلفُظُهُ التاريخُ كَما تَلفُظُ الأرضُ الأشواكَ، وَتَصُدُّ عَنهُ الأبَدَ. خَمسَةُ قُرونٍ وَنَيِّفٍ... إنقَضَت، وَتَكَيَّنَ لبنانُ. غَدا كِيانِيَّاً وجودِيَّاً لِجَوهَرٍ. وإرتَفَعَت "أشواكُ" العالَمِ مِن حَولِهِ... عالَمٌ مُتخَمٌ بِنَهَمِ القَضاءِ عَلَيهِ، لأنَّهُ كانَ وَسَيَبقى قَبلَ كَينونَةِ العالَمِ... وَبَعدَ أُفولِهِ في زَمَنِيَّاتِ تَمَرُّدِهِ على ذاتِهِ حَدَّ الإفناءِ أو الإنتِحارِ فالإندِثارِ. وَجاءَ لاوُنٌ، أبٌ أقدَسٌ آخَرٌ. لاوُنُ الرابِع عَشَر، الآتي مِن دَولَةِ القُوَّةِ الأعظَمَ في التاريخِ. وَفي قَلبِ الكَنيسَةِ الجامِعَةِ صَرَخَ: "أَنتَ المَسيحُ إبنُ اللهِ الحَيّ" (مَتّى 16/16). بِهَذِهِ الكَلِماتِ عَبَّرَ بُطرُسُ بإختِصارٍ، عِندَما سألَهُ المُعَلِّمُ والتّلاميذَ الآخَرينَ عَن إيمانِهِ بِهِ (...)، وَقَبلَ المُحادَثَةِ التي أعلَنَ فيها بُطرُسُ عَن إيمانِهِ، كانَ أيضاً سؤالٌ آخَرٌ: سألَ يَسوعُ: "مَن إبنُ الإِنسانِ في قَولِ النَّاسِ؟" (مَتّى 16/13). (...). يَقولُ الإنجيلِيُّ مَتّى إنَّ المُحادَثَةَ بَينَ يَسوعَ وَتَلاميذِهِ حَولَ هَوِيَّتِهِ جَرَت في مَدينَةِ قَيصَرِيَّةِ فيليبُّسَ الجَميلَةِ، المَليئَةِ بالقُصورِ الفَخمَةِ، والمُحاطَةِ بِمَناظِرَ طبيعِيَّةٍ ساحِرَةٍ، عِندَ أقدامِ جَبَلِ حَرَمونَ، وَهي أيضاً مَركَزٌ لِدَوائِرَ سُلطَةٍ قاسِيَةٍ وَمسرَحُ خياناتٍ وَعَدَمِ أمانَةٍ. هَذِهِ الصورَةُ تُعَبِّرُ عَن عالَمٍ يَعتَبِرُ يَسوعَ (...) إذا صارَ حُضورُهُ مُزعِجاً (...)، فَلَن يَتَرَدَّدَ هَذا 'العالَمُ' عَن رَفضِهِ وَتَصفِيَتِهِ". مِن ذاكَ اللاوُنَ ألكَرَّسَهُ الى هَذا اللاوُنَ ألثَبَّتَهُ، لبنانُ-الكَيانُ ‒مِن جَبَلِ لبنانَ الى حَرَمونَ-التَجَلِّيَ‒، نَعيمُ النُزوعِ في الأُلوهَةِ، وَمِنها، وَلَها: إنتِصارُ الحَقِّ-البُطولَةِ في أعلى مَرتَبِيَّةِ الوجودِ بِطَبيعَتَيهِ: الأُلوهَةُ في وَطَنٍ، وَوَطَنٌ في الأُلوهَةِ... والعالَمُ عِندَ "أقدامِهِ".

نهجُ الإِمام علي (ع).. اقتداء وانتماء والتزام
نهجُ الإِمام علي (ع).. اقتداء وانتماء والتزام

شبكة النبأ

timeمنذ 2 أيام

  • شبكة النبأ

نهجُ الإِمام علي (ع).. اقتداء وانتماء والتزام

لا أَحدَ يُجبِرُكَ على الإِلتزامِ بنهجِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) في الحُكمِ ولكن؛ عندما تدَّعي الإِنتماء فعليكَ بالإِلتزامِ، وهنا يأتي الإِكراهُ حتَّى تلتزِمَ أَو تدع!. لا يحِقُّ لكَ أَن تدَّعي التزامكَ بنهجهِ (ع) ثُمَّ تُخالفَهُ أَو تُناقِضهُ، فذلكَ هوَ النِّفاقُ والكذِبُ والغشُّ بعينهِ، فأَنت مُحاسَبٌ في الدُّنيا قبلَ الآخِرة... (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). إِنَّ نهجَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) حقائِقٌ ووقائِعٌ ونماذِجٌ وقُدوةٌ وأُسوةٌ، فهوَ ليسَ مِثاليٌّ خارج المألُوف أَبداً، كما أَنَّهُ ليسَ بمُعجزةٍ لا يُمكِنُ تصوُّرَ الإِهتداءَ بهِ، ولو أَردنا أَن نعتبِرهُ كذلكَ للتهرُّبِ من المسؤُوليَّةِ أَو لتبريرِ عدمِ التزامِنا بهِ والسَّيرِ على نهجهِ، فهذا يعني أَنَّنا ننظُرَ إِلى كُلِّ الرُّسُلِ والأَنبياءِ بمثلِ ذلكَ؛ مناهجٌ مثاليَّةٌ وسِيَرٌ خارِقةٌ للعادةِ! وهذا جهلٌ مُركَّبٌ أَو خرقٌ غَيرُ مُبرَّرٍ، وهو الذي يعتمِدهُ تُجَّار الدِّينِ والعقيدةِ!. حتَّى لُقمانَ (ع) يكُونُ حسبَ هذا الرَّأي منهجٌ مِثاليٌّ! فما فائِدةُ القُرآن الكريم وقصصهِ وأَمثالهِ إِذن؟!. ما الفرقُ بينَ نهجِ رسُولِ اللهِ (ص) ونهجِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) الذي يصفُ علاقتهُ بنفسهِ (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) وابنِ عمِّهِ بقَولهِ (وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّه (ص) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ ولَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِه (ص) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاه ولَا يَرَاه غَيْرِي ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّه (ص) وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ، ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه (ص) فَقُلْتُ؛ يَا رَسُولَ اللَّه مَا هَذِه الرَّنَّةُ؟! فَقَالَ؛ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِه، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ). فإِذا اعتبرنا نهجُ عليٍّ (ع) مثاليٌّ وخارج المألُوف لا يُمكِنُ بل من المستحيلِ الإِلتزامَ بهِ، فكذلكَ سنقُولُ نفسَ الكلامِ عن نهجِ رسُولِ الله (ص) فأَينَ تذهبُونَ؟!. صحيحٌ لا أَحدَ يقدرُ على الإِلتزامِ بنهجِ الإِمامِ (ع) بحذافيرهِ إِلَّا أَنَّهُ (ع) رسمَ طريقاً ينتهي إِليهِ مَن يسعى لذلكَ قائلاً (أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِه ويَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِه أَلَا وإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاه بِطِمْرَيْه ومِنْ طُعْمِه بِقُرْصَيْه، أَلَا وإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ ولَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وعِفَّةٍ وسَدَادٍ). حتَّى هذهِ الخِصال الأَربع لم نلمسَها أَو نراها فيمن يدَّعي التزامهُ بنهجِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) في الحكُمِ، بل لم نلمِسَ حتَّى خِصلةً واحدةً منها، فلم نرَ منهُم ورعاً في الإِدارةِ ولا اجتهاداً في الإِنجازِ الحقيقي الذي يخدِم عبادَ الله تعالى ولا عِفَّةً في التَّعامُلِ معَ بيتِ المالِ ولا سداداً في قَولٍ أَو فعلٍ، فيما يُفترضُ أَن يكُونوا ممَّن يجتهِدُ في أَن يقدِرَ على ذلكَ كما يقُولُ (ع) (فَوَاللَّه مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلَّا وأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي وتَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي وذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلَالِهَا وإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا). فإِذا كانُوا يتصوَّرُونَ أَنَّ نهجَ الإِمامِ (ع) مثاليٌّ فلماذا يدَّعُونَ الإِنتماءَ إِليهِ؟! لماذا، إِذن، يكذِبون؟!. السَّببُ واضحٌ فهُم يريدُونَ مصادرَة التَّاريخ لصالحِ أَجنداتهِم الخاصَّة، وبذلكَ يسعَونَ لتضليلِ السذَّجِ من النَّاسِ. إِنَّهُم يريدُونَ النَّهجَ شِعارٌ للتستُّرِ بهِ ويتجاهلُونهُ دِثاراً لأَنَّهُ يتضارب ومصالِحهُم الخاصَّة!. وهذهِ هي مُشكلةُ النَّاسِ عادةً فهُم يعرفُونَ الحقَّ بالرِّجالِ ولذلكَ يخطأُونَ المسيرَ ولا يصلُونَ إِلى نتيجةٍ معقُولةِ ومقبُولةٍ ولا يستقيمُونَ على الجَّادَّةِ ولا يتَّبِعُونَ الإِنسان الصَّح في الوقتِ الصَّح!. فقَد قِيلَ إِنَّ الْحَارِثَ بْنَ حَوْطٍ أَتَى أَميرَ المُؤمنينَ (ع) فَقَالَ؛ أَتَرَانِي أَظُنُّ أَصْحَابَ الْجَمَلِ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ؟! فَقَالَ (ع)؛ يَا حَارِثُ إِنَّكَ نَظَرْتَ تَحْتَكَ ولَمْ تَنْظُرْ فَوْقَكَ فَحِرْتَ، إِنَّكَ لَمْ تَعْرِفِ الْحَقَّ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاه ولَمْ تَعْرِفِ الْبَاطِلَ فَتَعْرِفَ مَنْ أَتَاه. فَقَالَ الْحَارِثُ فَإِنِّي أَعْتَزِلُ مَعَ سَعِيدِ بْنِ مَالِكٍ وعَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ (ع)؛ إِنَّ سَعِيداً وعَبْدَ اللَّه بْنَ عُمَرَ لَمْ يَنْصُرَا الْحَقَّ ولَمْ يَخْذُلَا الْبَاطِلَ). هذا هوَ نهجُ الإِمام (ع) لمَن أَرادَ أَن يسيرَ عليهِ من دونِ خداعٍ للذَّاتِ. أَمَّا الذينَ يحدِّثنا عنهُم القرآن الكريم بقولهِ (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). فهؤُلاء مهما حرَّفوا وغيَّروا وكتبُوا وضللَّوا وزوَّروا وغشُّوا فلن يكتبُوا لنا نهجاً علوَّياً [جديداً] حسبَ مزاجهِم، فالمنهجُ العلويٌّ واضِحٌ وضُوحَ الشَّمسِ في رابعةِ النَّهارِ لا يمكنُ لأَحدٍ أَن يغيِّرهُ ويبدِّلهُ فهوَ عصيٌّ على التَّزييفِ وأَنَّ من يفعَل ذلكَ أَو يُحاوِلُ لا يخدَع إِلَّا نفسهُ ولا يضحَك إِلَّا على ذقنهِ. إِنَّهم يعتاشُونَ على الكذبِ والتَّزويرِ والتَّدليسِ والدَّجلِ والتقمُّصِ غَير المحمُود، ولقد وصفَ القرآن الكريم حالهُم بقولهِ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ). ومن مصاديقهِ سعيهُم للتَّرويجِ لتزويرهِم المفضُوحِ من خلالِ مُسلسلٍ تجاريٍّ لا يمتُّ لحقائقِ التَّاريخي بأَيِّ صلةٍ!. وبمثلِ هؤُلاء يصفُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) زماننا بقولهِ (والَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً ولَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً ولَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلَاكُمْ وأَعْلَاكُمْ أَسْفَلَكُمْ ولَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا ولَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا، واللَّه مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً ولَا كَذَبْتُ كِذْبَةً ولَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا الْمَقَامِ وهَذَا الْيَوْمِ). فهؤُلاء بلاءٌ علينا وفتنةٌ للأُمَّةِ لأَنَّهم مصداقَ قولِ الله تعالى (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ). الانتماء يستدعي الالتزام (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ). لا أَحدَ يُجبِرُكَ على الإِلتزامِ بنهجِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) في الحُكمِ، ولا أَحدَ يغتصِبُ أَحداً لتنفيذِ مُفرداتِ سيرتهِ، ولكن؛ عندما تدَّعي الإِنتماء فعليكَ بالإِلتزامِ، وهنا يأتي الإِكراهُ حتَّى تلتزِمَ أَو تدع!. لا يحِقُّ لكَ أَن تدَّعي التزامكَ بنهجهِ (ع) ثُمَّ تُخالفَهُ أَو تُناقِضهُ، فذلكَ هوَ النِّفاقُ والكذِبُ والغشُّ بعينهِ، فأَنت مُحاسَبٌ في الدُّنيا قبلَ الآخِرة. يقُولُ تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ). ما الفرقُ بينهُم وبينَ مَن يصفهُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) بقَولهِ (رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالإِسْلَامِ لَا يَتَأَثَّمُ ولَا يَتَحَرَّجُ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّه (ص) مُتَعَمِّداً فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّه مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْه ولَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ). فذاكَ مُتصنِّعُ الإِسلامِ وهذا مُتصنِّعُ النَّهجِ العلويِّ!. فإِلى الذين يدَّعُونَ أَنَّهُم على نهجِ أَميرِ المُؤمنينَ (ع) في السُّلطةِ والحُكمِ، تعالُوا نتابع معكُم جردةَ الحِسابِ هذهِ لنرى أَينَ أَنتُم منها؟! وأَينَ تقِفونَ؟!. فمن ملامحِ نهجِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) ما يلي؛ - لم يتهالَك الإِمامُ على السُّلطةِ والخِلافةِ أَبداً لأَنَّ السُّلطةَ عندهُ وسيلةٌ وليست هدفاً، فإِذا ساعدَت في تحقيقِ رسالتهِ وإِنجازِ عهُودهِ ووعُودهِ ومكَّنتهُ من أَهدافهِ الرِّساليَّة فبِها وإِلَّا فلا حاجةَ لهُ بها. ولذلكَ عندما انثالَ عليهِ النَّاسُ يُبايعونهُ للخلافةِ خطبَ فيهِم قبلَ أَن يمُدَّ يدهُ لهُم قائلاً (دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَه وُجُوهٌ وأَلْوَانٌ لَا تَقُومُ لَه الْقُلُوبُ ولَا تَثْبُتُ عَلَيْه الْعُقُولُ وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ واعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ ولَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ وإِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ ولَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وأَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ وأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً!). يقُولُ عَبْدُ اللَّه بْنُ عَبَّاسِ؛ دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع) بِذِي قَارٍ وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَه فَقَالَ لِي؛ مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟! فَقُلْتُ؛ لَا قِيمَةَ لَهَا! فَقَالَ (ع) (واللَّه لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا). فمَن مِن الذينَ يدَّعُون الإِنتماء إِلى نهجِ الإِمامِ (ع) في الحُكمِ التزمَ بهذا الثَّابت فلم يُغيِّر ويبدِّل فقط من أَجلِ أَن يصلَ إِلى السُّلطةِ وعندها [لكُلِّ حادثٍ حديثٍ] كما يقولُونَ؟!. مَن منكُم لَم تحوِّلهُ السُّلطةُ إِلى نعلٍ ينتعِلهُ الظُّلم والجَور؟!. - السُّلطةُ أَداةٌ لإِقامةِ الحقِّ والعدلِ، وهي وسيلةٌ لمُكافحةِ الفسادِ المالي والإِداري على حدٍّ سَواء، فما حاجةُ الإِمام (ع) للحُكمِ إِذا عجزَ عن تحقيقِ ذلكَ؟!. يقُولُ (ع) (أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ومَا أَخَذَ اللَّه عَلَى الْعُلَمَاءِ أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ، لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا، ولأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِه أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ!). وقد خطبَ (ع) في أَوَّلِ خلافتهِ مُهدِّداً ومُحذِّراً الذين ينتظرُونَ منهُ أَن يغُضَّ النَّظر عن فسادهِم ولصُوصيَّتهِم فيطوي صفحةَ الماضي الفاسِد والفاشِل ليبدأَ عهداً جديداً من النَّزاهةِ الماليَّةِ والإِداريَّة (واللَّه لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِه النِّسَاءُ ومُلِكَ بِه الإِمَاءُ لَرَدَدْتُه فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً ومَنْ ضَاقَ عَلَيْه الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْه أَضْيَقُ!). لقد خيَّبَ الإِمامُ آمالهُم بإِمكانيَّةِ التَّغاضي عن سرقاتهِم والتَّغافُلِ عن فسادهِم، ففي نهجِ (ع) لا يسقطُ الحقُّ المسرُوق بالتَّقادُمِ إِذ لا بُدَّ مِن إِعادةِ الحقُوقِ إِلى أَصحابِها مهما طالَ الزَّمن!. وعندما دعاهُ بعضُ الصَّحابة إِلى أَن يميِّزَ في العطاءِ بينَ أَهل السَّابِقة في الدِّين [جماعةُ الخِدمة الجِهاديَّة] وبينَ مَن يرَونهُ مُواطناً من الدَّرجةِ الثَّانيةِ إِعتبرَ ذلكَ ظُلمٌ وفسادٌ وتجاوزٌ على حقِّ الرَّعيَّةِ قائلاً (أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْه! واللَّه لَا أَطُورُ بِه مَا سَمَرَ سَمِيرٌ ومَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّه! أَلَا وإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّه تَبْذِيرٌ وإِسْرَافٌ وهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا ويَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ ويُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ ويُهِينُهُ عِنْدَ اللَّه، ولَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ ولَا عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلَّا حَرَمَهُ اللَّه شُكْرَهُمْ وكَانَ لِغَيْرِه وُدُّهُمْ، فَإِنْ زَلَّتْ بِه النَّعْلُ يَوْماً فَاحْتَاجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ وأَلأَمُ خَدِينٍ!). فكانَ اليأسُ يدبُّ في نفُوسِ هذهِ النَّماذجِ عندما كانُوا يسمعُونهُ (ع) يقُولُ (واللَّه لَوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّه فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُه وإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا). وكتبَ لأَحدِ عُمَّالهِ الفاسدينَ مُحذِّراً (كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وطَعَاماً وأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وتَشْرَبُ حَرَاماً وتَبْتَاعُ الإِمَاءَ وتَنْكِحُ النِّسَاءَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ والْمُؤْمِنِينَ والْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّه عَلَيْهِمْ هَذِه الأَمْوَالَ وأَحْرَزَ بِهِمْ هَذِه الْبِلَادَ! فَاتَّقِ اللَّه وارْدُدْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللَّه مِنْكَ لأُعْذِرَنَّ إِلَى اللَّه فِيكَ ولأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِه أَحَداً إِلَّا دَخَلَ النَّارَ!). وعندما طلبَ منهُ أَخوهُ عقيلٌ أَن يُزيدهُ من بيتِ المالِ [قرضاً] فوقَ حقِّهِ أَجابهُ في قصَّةٍ مشهورةٍ يروِيها الإِمامُ (ع) قائلاً (واللَّه لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وقَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً ورَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ وعَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً فَأَصْغَيْتُ إِلَيْه سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي وأَتَّبِعُ قِيَادَه مُفَارِقاً طَرِيقَتِي فَأَحْمَيْتُ لَه حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا وكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا فَقُلْتُ لَه؛ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِه وتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِه! أَتَئِنُّ مِنَ الأَذَى ولَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى؟!). فمَن مِن هؤُلاء المُدَّعين التزامهُم بنهجِ الإِمامِ أَحمى حديدةً لنفسهِ قبلَ غيرهِ ليُذكِّرَها بالمآلِ؟!. مَن مِنهُم تعاملَ بالعِفَّةٍ معَ المالِ العامِ المُؤتمَنُ عليهِ؟!. كفاكُم كذِباً وغُشّاً وتضليلاً وضِحكاً على ذقُونِ العوامِّ!.

أدب الخلاف مع الآخر عند أهل البيت (ع)
أدب الخلاف مع الآخر عند أهل البيت (ع)

شبكة النبأ

timeمنذ 2 أيام

  • شبكة النبأ

أدب الخلاف مع الآخر عند أهل البيت (ع)

من يراجع سيرة أهل البيت مع مخالفيهم سواء في العقيدة أو الرأي أو غير ذلك يتضح له بوضوح أنهم رغم قدرتهم على فرض آرائهم على غيرهم إلا أنهم لم يلجأوا إلى ذلك بل آثروا التعامل معهم بالأدب والخُلق الرفيع ما دعا كثيراً من مخالفيهم إلى الرجوع عن آرائهم ومعتقداتهم... ليس من المتوقّع أن يتحد الناس على اختلاف مذاقاتهم ومشاربهم الفكرية والعقائدية ويصبحوا على نهج واحد، لأنهم من الأساس خلقوا مختلفين وهذا ما يظهر من قوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفين‏) (1)، إنما المتوقّع منهم أن لا يجور بعضهم على الآخر ويفرض على البقية رؤاه وعقائده أو حتى سننه وعاداته المختلفة. فمن الطبيعي أن يختلف الناس فيما بينهم ولكن ليس من المقبول بتاتاً أن يخرج الإنسان في تعاطيه وتعامله من الآخرين عن أدب الخلاف ويفرض عليهم معتقداته أو آرائه ورؤاه. وقد تميّز أهل البيت (عليهم السلام) في سلوكهم الرباني وأخلاقهم العظيمة في مراعات الأدب مع من يخالفهم في المعتقد أو الرأي وضربوا للتأريخ عبر العصور خير صور في هذا المجال. وقد يُقال: أهل البيت (عليهم السلام) لم تكن لديهم القدرة في فرض معتقداتهم أو آرائهم على مخالفيهم. وفي جوابه يقال: إنّ من يراجع سيرة أهل البيت (عليهم السلام) مع مخالفيهم سواء في العقيدة أو الرأي أو غير ذلك يتضح له بوضوح أنهم رغم قدرتهم على فرض آرائهم على غيرهم إلا أنهم لم يلجأوا إلى ذلك بل آثروا التعامل معهم بالأدب والخُلق الرفيع ما دعا كثيراً من مخالفيهم إلى الرجوع عن آرائهم ومعتقداتهم واتباعهم في ذلك. الملفت للانتباه أنّ كثيرا من مخالفي أهل البيت (عليهم السلام) يعتمدون لغة التجاسر والتهجّم عليهم من دون أن يلاقوا منهم أيّ تجاسر ولو بالمثل. وقبل أن نبيّن الشواهد على ذلك نذكر نموذجين لاعتراف بعض مخالفي أهل البيت (عليهم السلام) بالتزامهم بأدب الخلاف معهم: النموذج الأول: روي عن أنس بن مالك، قال: كنت مع النبي (صلى الله عليه وآله) وعليه برد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثّرت حاشية البرد في صفحة عاتقه (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك فإنك لا تحمل لي من مالك ولا مال أبيك، فسكت النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال: المال مال الله وأنا عبده. ثم قال: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟ قال: لا، قال: لم؟ قال: لأنك لا تكافى‏ء بالسيئة الحسنة، فضحك النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر(2). النموذج الثاني: يقول المفضل بن عمر دار نقاش بيني وبين ابن العوجاء حول عظمة النبي (صلى الله عليه وآله)، فدعاني إلى الاعراض عن ذكر النبي ومناقشته حول خالق الكون. فلم أملك نفسي غضباً وغيظاً وحنقاً، فقلت: يا عدوّ الله ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك‏ في أحسن تقويم‏ وصوّرك في أتم صورة ونقلك في أحوالك حتى بلغ إلى حيث انتهيت... فقال ابن العوجاء: يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك، فإن ثبتت لك حجّة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا ولا بمثل دليلك تجادل فينا. ولقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت، فما أفحش في خطابنا ولا تعدّى في جوابنا، وإنه الحليم الرزين العاقل الرصين، لا يعتريه خُرق‏ ولا طيش ولا نزق‏، يسمع كلامنا ويصغي إلينا، ويتعرّف حجّتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننّا أنا قطعناه دحض حجّتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجة ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه رداً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه‏(3). أمّا مصاديق التزام أهل البيت (عليهم السلام) بأدب الخلاف مع ألد مخالفيهم فالشواهد على ذلك كثيرة ومنها: السام عليكم عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: دخل يهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعائشة عنده، فقال: السام‏ عليكم‏- أي الموت عليكم-، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عليكم. ثم دخل آخر، فقال مثل ذلك، فرد عليه كما رد على صاحبه. ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فردّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما ردّ على صاحبيه، فغضبت عائشة، فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة يا معشر اليهود، يا إخوة القردة والخنازير. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عائشة إنّ الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال سوء، إنّ الرفق لم يوضع على شيء قط إلا زانه، ولم يرفع عنه قط إلا شانه. قالت: يا رسول الله أما سمعت إلى قولهم: السام‏ عليكم؟ فقال: بلى، أما سمعت ما رددت عليهم؟ قلت: عليكم، فإذا سلّم عليكم مسلم فقولوا: سلام عليكم، وإذا سلم عليكم كافر فقولوا عليك(4). لا أُكافيهم بمثل ما فعلوا لما ملك عسكر معاوية الماء وأحاطوا بشريعة الفرات ومنعوا أميرالمؤمنين (عليه السلام) وجنده منها قالت رؤساء الشام له: اُقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا، فسألهم الإمام علي (عليه السلام) وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء، فقالوا: لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمأً كما مات ابن عفان. فلما رأى (عليه السلام) أنه الموت‏ لا محالة تقدّم بأصحابه وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع سقطت منه الرؤوس والأيدي وملكوا عليهم‏ الماء وصار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم، فقال له أصحابه وشيعته: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضا بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب. فقال: لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك(5). أظنّك غريباً روي أنّ شامياً رأى الإمام الحسن (عليه السلام) راكباً فجعل يلعنه والإمام الحسن (عليه السلام) لا يرد، فلما فرغ أقبل الإمام الحسن عليه فسلّم عليه وضحك، وقال: أيها الشيخ‏ أظنك‏ غريباً، ولعلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك‏، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعا أشبعناك، وإن كنت عريانا كسوناك، وإن كنت محتاجا أغنيناك، وإن كنت طريدا آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك. فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعا رحباً وجاهاً عريضاً ومالا كبيراً، فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته(6). أنت ابن الطباخة روي أنّ نصرانياً قال للإمام الباقر (عليه السلام): أنت بقر. فقال (عليه السلام): لا أنا باقر. قال: أنت ابن الطباخة. قال: ذاك حرفتها. قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية. قال: إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك، فأسلم النصراني(7). دعوة الموالين للالتزام بآداب الخلاف مع الآخرين لم يقتصر أهل البيت (عليهم السلام) مع مخالفيهم على لغة الغض وعدم الردّ بالمثل، بل أمروا من حولهم من أتباعهم ومحبّيهم بالالتزام بنفس المنطق ما يدل على عظم خُلقهم وشدّة التزامهم بأدب الخلاف مع الآخرين. قاتله الله كافراً ما أفقهه روي أنه مرّت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ أبصار هذه الفحول طوامح‏ وإنّ ذلك سبب هناتها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلمس أهله فإنّما هي امرأة كامرأة. فقال رجل من الخوارج: قاتله‏ الله‏ كافراً ما أفقهه، فوثب القوم ليقتلوه، فقال علي (عليه السلام): رويدا إنّما هو سب بسب أو عفو عن ذنب(8). مهلاً ياقنبر روي عن جابر قال: ‏ سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) رجلاً يشتم قنبراً وقد رام قنبر أن يردّ عليه، فناداه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مهلاً يا قنبر دع شاتمك‏ مُهاناً ترض الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوّك، فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه(9). اسمعوا ردّي عليه روي أنه وقف على علي بن الحسين (عليه السلام) رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه فلم يكلّمه، فلمّا انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل؟ وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى‏ تسمعوا ردي‏ عليه‏. قال: فقالوا له: نفعل ولقد كنّا نحب أن تقول له ونقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: (وَالْكاظِمينَ الْغَيْظَ وَالْعافينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنين‏) (10)، ‏ فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً. قال: فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به، فقال: قولوا له: هذا علي بن الحسين، قال: فخرج إلينا متوثبا للشر وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافئا له على بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين (عليه السلام): يا أخي إنك كنت قد وقفت علي آنفا فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيّ فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس في فغفر الله لك. قال: فقبّل الرجل ما بين عينيه، وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحق به‏(11). أقول: ما أحوجنا اليوم مع تلاطم الفتن بنا وتظاهر الأمم علينا إلى هذا المنطق والأدب الرفيع الذي تعامل به أهل البيت (عليهم السلام) مع الآخرين لنكون كما أرادوا صلوات الله عليهم زيناً لا شيناً عليهم. ..................................... (1) سورة هود: 118. (2) سفينة البحار: 2/682. (3) توحيد المفضل: 42. (4) الكافي: 2/648. (5) بحار الأنوار: 41/146. (6) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 4/19. (7) بحار الأنوار: 46/289. (8) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام): 2/113. (9) أمالي الشيخ المفيد (رحمه الله): 118. (10) سورة آل عمران: 134. (11) الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد: 2/146.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

مستعد لاستكشاف الأخبار والأحداث العالمية؟ حمّل التطبيق الآن من متجر التطبيقات المفضل لديك وابدأ رحلتك لاكتشاف ما يجري حولك.
app-storeplay-store