
إردام أوزان يكتب: وهم "الشرق الأوسط الجديد"
بعد قرابة 30 عامًا في الدبلوماسية، كُرِّس الكثير منها للشرق الأوسط، أشعر بخيبة أمل عميقة. لقد تعلمنا أن الدبلوماسية ينبغي أن تكون أداة للسلام والعدالة وتمكين الشعوب. ومع ذلك، فقد حُوِّلت مرارًا وتكرارًا إلى نشاط نخبوي: الترويج لرؤى واتفاقيات وأطر عمل براقة دون إشراك أو احترام الشعوب التي تدعي تمثيلها. نادرًا ما يُشرك قادة المنطقة شعوبهم في القرارات التي تُشكل مستقبلهم.
الآن، ومع بروز مبادرات جديدة تحت ستار التقدم، أرى تكرارًا مُفجعًا لنفس المنطق الاستعماري الذي قسم هذه المنطقة سابقًا بموجب اتفاقية سايكس بيكو: التقسيم، والهيمنة، والاستنزاف. ما نواجهه ليس خطة جديدة؛ إنه نفس التهميش القديم، مُقنّعًا في صورة فرصة.
أولا: الإجماع المصطنع.. التطبيع والعسكرة ووهم الاستقرار
في أعقاب دمار غزة والصراع الإسرائيلي-الإيراني، عادت قصة مألوفة للظهور: "الشرق الأوسط الجديد". تُسوّق هذه الرؤية، التي يروج لها استراتيجيون أمريكيون ومسؤولون إسرائيليون، وبشكل متزايد بعض العواصم العربية، على أنها إعادة ترتيب إقليمي قائم على اتفاقيات تطبيع وممرات اقتصادية وتحالفات أمنية جديدة. لكن وراء كواليس القمم ومؤتمرات الاستثمار، ثمة حقيقة متقلبة. ما يُعرض ليس نظامًا إقليميًا موحدًا؛ بل إعادة صياغة التقسيم كخطة.
في صميم هذا الوهم تكمن فكرة مُشوهة عن التطبيع. كان يُنظر إليه في الأصل كوسيلة لتعزيز المصالحة، لكنه أصبح الآن وسيلة للتهدئة الاستراتيجية. لم تكن "اتفاقيات إبراهيم" يومًا هدفًا لإحلال السلام؛ بل كانت تهدف إلى تغيير المواقف. المغرب والسودان، والآن السعودية، يتم جرهم إلى إطار لا يقوم على إرادة الشعب، بل على مزايا مشروطة يتم التفاوض عليها خلف الأبواب المغلقة، كصفقات الأسلحة، وتخفيف أعباء الديون، والاعتراف الدولي. أما الأراضي الفلسطينية، التي كانت في السابق البوصلة الأخلاقية للمنطقة، أصبحت الآن ورقةً للمساومة تُستخدم لتحقيق مكاسب غير ذات صلة.
لبنان وسوريا هما التاليان في هذا المسار. يُضغط على لبنان لتبني نهج أمني يهدف إلى تحييد المقاومة دون حل الأزمة السياسية. تُعتبر سوريا مجرد قطعة على رقعة شطرنج لإعادة التوازن بين الخليج وإسرائيل، وليست دولة بحاجة إلى السيادة أو إعادة الإعمار أو المصالحة. هذه ليست دبلوماسية، بل تلاعب مُتحكّم به عن بُعد. وهدفها ليس السلام، بل السيطرة.
ثانيًا: السلام المُعسكر والتآكل الاستراتيجي
تُستخدَم لغة السلام كسلاح. ويُصوَّر تدمير غزة على أنه "إعادة ضبط" ضرورية. تُقصف إيران باسم الردع، حتى مع تحمل قوتها. تُنتزع سيادة العراق من قِبَل ميليشيات مدعومة من الخارج وخطوط حمراء خفية. أصبحت الأدوات الاقتصادية للإمبراطورية، كالعقوبات والإعفاءات وشروط المساعدات، هي أساليب الإكراه المفضلة.
وبينما تدّعي واشنطن وإسرائيل تحقيق "مكاسب استراتيجية"، فإن الواقع مختلف. فالردع ينهار، وعدم الاستقرار ينتشر، والنفوذ العربي يتلاشى. ويُطلب من شعوب المنطقة قبول هذه الرواية وإلا ستُوصف بأنها عقبات أمام التقدم.
ثالثًا: تركيا.. الوسيط الاستراتيجي على الحافة
في هذا الوهم المُدبّر بعناية، تجد تركيا نفسها عند مفترق طرق خطير. لفترة طويلة، عوملت كميسّر لا كصانع قرار. يُطلب منها بناء الطرق، وتصدير الطائرات المسيّرة، والتوسط في الأزمات، ولكن ليس تشكيل أجندة معينة. ومع ذلك، كانت تركيا من الأطراف القليلة في المنطقة التي وقفت إلى جانب شعبها. من غزة إلى ليبيا، ومن القوقاز إلى شمال سوريا، ضخّمت الدبلوماسية التركية أصواتًا سعى آخرون إلى إسكاتها.
لكن ما لم تُثبت أنقرة وجودها بوضوح، فسوف تغرق في وهم لم تخلقه، مُتحملةً تكاليفه دون أن تُحدد مساره. وستُختزل جهود تركيا الإنسانية في غزة وسوريا، واستثماراتها الإقليمية، وإرثها التضامني إلى مجرد هوامش في خطة أخرى. والأسوأ من ذلك، أن أهميتها الجيوسياسية قد تُحيّد، وتُطغى عليها التحالفات الخليجية-الإسرائيلية، حيث تُصبح المنطقة ممرًا لرأس المال، لا مكانًا للكرامة.
بمعنى آخر، إذا لم تتول تركيا مسؤولية تشكيل البنية التحتية، فإنها ستنتهي بوضع أثاث قصر شخص آخر وتغطية التكلفة.
رابعًا: استعادة المنطقة.. من الوهم إلى الشمول
علينا أن نحوّل نقدنا من وصف هذا الأمر بـ"إعادة تصميم" إلى اعتباره استيلاءً عدائيًا يُقصي ويستغل ويمحو. لكن الأوهام تفقد قوتها بمجرد انكشافها، وشعوب هذه المنطقة أصبحت الآن واعية ويقظة.
لا تزال تركيا تتمتع بنفوذ، لكنها بحاجة إلى التطور. لا يمكنها الاكتفاء بالتسهيلات، بل يجب أن تُشكّل. عليها أن تعود إلى جذورها الدبلوماسية، ليس فقط كقوة مؤثرة، بل أيضًا كصوت للشعب. وهذا يعني:
• استعادة القيادة المتعددة الأطراف ليس فقط خلف الأبواب المغلقة ولكن أيضًا في المنتديات العامة حيث تطالب تركيا بالمساءلة، وليس فقط بالتوافق.
بناء منتديات إقليمية تُركّز على الشعوب، لا على النخب فحسب. يمكن لتركيا أن تجمع الفاعلين العرب والأكراد والفلسطينيين والإقليميين في إسطنبول أو أنقرة، بعيدًا عن الضغوط الخارجية، لتطوير رؤية سلام حقيقية.
• الاستثمار في الدبلوماسية العامة والإعلام والتعليم لتعزيز خطابات الكرامة والعدالة والمستقبل المشترك في جميع أنحاء المنطقة، وليس فقط المشاريع وخطوط الأنابيب.
إذا لم تتول تركيا مسؤولية هذا الجهد، فسوف يشكل آخرون مستقبل المنطقة دون محاسبة، وستجد أنقرة نفسها عالقة في إدارة عدم الاستقرار الذي لم تخلقه، وحل الأزمات التي لم تتمكن من إيقافها.
الكلمة الأخيرة: الأوهام لا تبني المستقبل
"الشرق الأوسط الجديد" ليس جديدًا؛ إنه ببساطة أكثر صقلًا، وأكثر انتهازية، وأكثر خطورة. يَعِدُ بالسلام دون عدالة، وبالنمو دون سيادة، وبالشراكة دون شعوب. لكن الأوهام لا تدوم. لا في غزة، ولا في بيروت، ولا في طرابلس، ولا في أنقرة.
لقد حان الوقت للتوقف عن مطاردة السراب. لقد حان الوقت لخلق شيء حقيقي، مع الناس، وليس ضدهم.
* نبذة عن الكاتب:
إردام أوزان دبلوماسي تركي متمرس يتمتع بخبرة 27 عامًا في الخدمة الدبلوماسية. وقد شغل العديد من المناصب البارزة، بما في ذلك منصبه الأخير كسفير لدى الأردن، بالإضافة إلى مناصب في الإمارات العربية المتحدة والنمسا وفرنسا ونيجيريا.
ولد في إزمير عام 1975، وتخرج بمرتبة الشرف من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة. واكتسب معرفة واسعة بالمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث قام بتحليل تعقيدات الصراعين السوري والفلسطيني، بما في ذلك جوانبهما الإنسانية وتداعياتهما الجيوسياسية.
كما شارك في العمليات الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتخصص في مجال حقوق الإنسان والتطورات السياسية الإقليمية. وتشمل مساهماته توصيات لتعزيز السلام والاستقرار من خلال الحوار والتفاوض بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. ويواصل حاليا دراساته عن الشرق الأوسط بينما يعمل مستشارا.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


CNN عربية
منذ 12 دقائق
- CNN عربية
نتنياهو يهاجم الأمم المتحدة بسبب توزيع المساعدات في غزة
(CNN)-- قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن الأمم المتحدة تختلق "الكذب" بشأن طرق المساعدات الإنسانية داخل غزة. وفي زيارة لقاعدة رامون الجوية جنوبي إسرائيل، قال نتنياهو: "نحن نتقدم في القتال والتفاوض... وليكن الأمر واضحًا - سنحقق هدفنا. سنقضي على حماس". وأضاف: "في كل طريق نختاره، سنحتاج إلى الاستمرار في السماح بدخول الحد الأدنى من الإمدادات الإنسانية. لقد فعلنا ذلك حتى الآن". وزعم نتنياهو أن "الأمم المتحدة تختلق ذريعة وكذب بشأن إسرائيل. تقول: 'لن يسمحوا بدخول الإمدادات الإنسانية'. نحن نسمح لهم بالدخول". وفي إشارة إلى الهدنة التكتيكية التي أعلنها الجيش الإسرائيلي، الأحد، والتي تشمل تحديد طرق المساعدات عبر أجزاء من غزة، قال نتنياهو: "هناك طرق آمنة. لطالما كانت موجودة، لكنها اليوم أصبحت رسمية. لا مزيد من الأعذار". الجيش الإسرائيلي يعلن عن موعد بدء "الهدنة التكتيكية" ومواقعها في غزةوأفادت وكالات الأمم المتحدة بأن انعدام الأمن ورفض الجيش الإسرائيلي المتكرر السماح للقوافل بالمرور عبر غزة أعاق إيصال المساعدات. وبدأ الحصار الإسرائيلي على دخول المساعدات إلى غزة في مارس/آذار، ورُفع جزئيًا في نهاية مايو/أيار. ووفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، هناك "حالات رفض أو تأخير منتظمة من جانب الجيش الإسرائيلي للتنقلات المنسقة. وهذا يؤدي إلى تأخيرات وضياع للوقت وصعوبة في التخطيط".َ


CNN عربية
منذ 3 ساعات
- CNN عربية
الأردن والإمارات تنفذان 3 عمليات إنزال جوي للمساعدات على غزة
(CNN)-- نفذت الأردن والإمارات العربية المتحدة، الأحد، عمليات إنزال جوي للمساعدات إلى غزة، وهي الأولى لهما منذ شهور، وفقًا للقوات المسلحة الأردنية. وقالت القوات المسلحة في بيان: "نفذت القوات المسلحة الأردنية - الجيش العربي والإمارات العربية المتحدة يوم الأحد ثلاث عمليات إنزال جوي لإيصال مساعدات إنسانية وغذائية إلى عدة مواقع في قطاع غزة". وأضاف البيان أن عمليات الإنزال الجوي تضمنت "25 طنًا من المواد الغذائية والضروريات الأساسية". وتابع: "تأتي هذه الإنزالات الجوية استمرارًا لجهود الأردن المستمرة، بالتعاون مع الدول الأخرى والمنظمات الإنسانية الشريكة، لدعم الشعب الفلسطيني". ومنذ بدء الحرب في غزة، أعلنت القوات المسلحة الأردنية أنها نفذت 127 عملية إنزال جوي، بالإضافة إلى 267 عملية إنزال جوي بالتعاون مع دول أخرى. من مصر والأردن.. قوافل مساعدات تضم 160 شاحنة تتجه نحو غزةتقول بعض منظمات الإغاثة إن عمليات الإنزال الجوي مكلفة وغير فعالة وخطيرة، لكن القوات المسلحة الأردنية قالت إنها "تمثل وسيلة إضافية لإيصال المساعدات في وقت قصير، مما يسمح بتوفير المساعدات الإنسانية والإغاثية العاجلة للمناطق التي يصعب الوصول إليها". وأضافت القوات المسلحة الأردنية أن إيصال المساعدات برًا لا يزال الوسيلة الأكثر فعالية، وتعهدت بمواصلة إرسال قوافل المساعدات بالتنسيق مع المنظمات الإنسانية.


CNN عربية
منذ 4 ساعات
- CNN عربية
إليكم ما نعرفه عن "التهدئة التكتيكية" الإسرائيلية في غزة
أعلن الجيش الإسرائيلي، الأحد، عن "تهدئة تكتيكية" في العمليات العسكرية في بعض مناطق غزة، مؤكدًا أنه سيتم إنشاء "طرق آمنة" مخصصة لتمكين قوافل الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة من إيصال الغذاء والدواء إلى جميع أنحاء غزة. وفي تقرير مراسل شبكة CNN، نك روبرتسون، المزيد من التفاصيل. قد يهمك أيضًا.. الحصول على طعام أصبح معركة يومية.. لمحة من معاناة المجاعة في غزة أكاديمي إسرائيلي: ما فعله الجيش في غزة يطابق تعريف "الإبادة الجماعية" القانوني قراءة المزيد إسرائيل الأردن مصر الأمم المتحدة الجيش الإسرائيلي الفلسطينيون المساعدات الإنسانية حركة حماس غزة قطاع غزة