
بيروت ترى في القصف الإسرائيلي شمال الليطاني «رسائل نارية»
حملت الغارات الإسرائيلية المفاجئة التي استهدفت محيط مدينة النبطية في جنوب لبنان الخميس، رسالة نارية وسياسية للسلطات اللبنانية، تفيد بأن إسرائيل ستتحرك لتدمير المنشآت العسكرية المنسوبة لـ«حزب الله» في شمال الليطاني، إذا لم يتولَّ الجيش اللبناني هذه المهمة، حسبما قالت مصادر نيابية ووزارية لـ«الشرق الأوسط».
ونفذ الجيش الإسرائيلي ضربات جوية لتلال محيطة بمدينة النبطية الواقعة شمال نهر الليطاني، وقالت السلطات اللبنانية إنها «مفاجئة»، ووصفتها بـ«الأعنف» و«الأكثر كثافة» منذ استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت قبل أسبوعين. واستهدفت موجتا قصف الأودية، والمرتفعات، والأحراج الممتدة بين بلدات كفرتبنيت، والنبطية الفوقا، وكفر رمان، وأسفرت عن مقتل شخصين من «حزب الله»، وقالت إسرائيل إن جيشها قصف «موقع بنية تحتية في جنوب لبنان يستخدمه الحزب في إدارة منظومته لإطلاق النار والدفاع»، «بالإضافة إلى أسلحة، وفتحات أنفاق».
وجاء التصعيد الإسرائيلي في ظل نقاش لبناني حول نزع سلاح «حزب الله» في شمال الليطاني أيضاً، بعد تفكيك الجيش اللبناني لنحو 90 في المائة من منشآت الحزب في جنوب الليطاني الحدودية مع إسرائيل، وهي منطقة عمل قوات «اليونيفيل». وبدأ الرئيس اللبناني جوزيف عون بمحادثات ثنائية مع الحزب لتفكيكه، وتعهد بالتوصل إلى معالجة لهذه النقطة المطلوبة من المجتمع الدولي، فيما يضع «حزب الله» أربع أولويات قبل البدء بالنقاش حول آلية تسليم سلاحه، تتمثل في انسحاب إسرائيلي من المناطق المحتلة، ووقف الانتهاكات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار، وإعادة الإعمار، ومعالجة ملف النقاط الـ13 الحدودية التي كان لبنان وإسرائيل يتنازعان عليها منذ عام 2006.
غير أن إسرائيل، تصر على تفكيك أسلحة الحزب في كامل الأراضي اللبنانية، ويلتقي مطلبها مع مطالب دولية تدفع باتجاه حصرية السلاح. وقالت مصادر حكومية لبنانية لـ«الشرق الأوسط» إن الضربات الإسرائيلية يوم الخميس «تحمل رسالة بأن إسرائيل ستتحرك ميدانياً في حال لم تتحرك السلطات اللبنانية لسحب سلاح الحزب وتفكيك منشآته في شمال الليطاني». وأشارت المصادر إلى أن إسرائيل «تحظى بغطاء أميركي في عمليات القصف التي تنفذها».
هذه المعطيات، تؤكدها مصادر نيابية لبنانية أيضاً، مشيرة في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى أن الغارات، بكثافتها وحجمها وتوقيتها المفاجئ، تحمل رسائل إسرائيلية بأن تل أبيب ستتصرف، في حال لم يبادر الجيش اللبناني لتفكيك منشآت الحزب وسحب سلاحه شمال الليطاني، وأن إسرائيل لا تكترث للمهل والتوازنات اللبنانية القائمة لمعالجة ملف السلاح، مشيرة في الوقت نفسه إلى «غطاء أميركي للضربات الإسرائيلية».
الدخان يتصاعد من جراء غارات إسرائيلية عنيفة على محيط مدينة النبطية في جنوب لبنان (أ.ف.ب)
ويعوّل لبنان على دور أميركي للضغط على إسرائيل وضبطها لوقف انتهاكات اتفاق وقف إطلاق النار الموقع في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، رغم تقديرات مسؤوليه أن معالم أي تدخل أو اتفاق لن تظهر قبل زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى المنطقة، وقبل زيارة نائبة المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، المتوقعة أواخر الشهر الحالي، حسبما قالت مصادر وزارية، مؤكدة أن المعلومات عن زيارة وشيكة جداً «لم تُبَلّغ بها الحكومة اللبنانية بعد، ولم يتم تحديد أي موعد».
وانعكست تلك التعقيدات السياسية بين المساعي اللبنانية ومطالب «حزب الله» والاندفاعة الإسرائيلية، على ملف المنطقة الحدودية وإعادة الإعمار. وإزاء الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة لاتفاق وقف إطلاق النار، باتت المنطقة الحدودية أشبه بمنطقة معزولة، لا تتوافر فيها الخدمات الأساسية، وتفرض فيها إسرائيل حظراً بالنار على العائدين لجهة الاستهدافات المباشرة والقنابل الصوتية وترسيم حدود تحرك السكان واستهداف البيوت الجاهزة، بما يمنع السكان من العودة، وباتت إثرها المنطقة شبيهة إلى حد بعيد بواقعها قبل الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، حيث كانت تحت الاحتلال شبه معزولة عن المناطق اللبنانية الأخرى التي تدور فيها الحياة بشكل مختلف.
أما ملف إعادة الإعمار، فيبدو متعذراً في الوقت الراهن، على ضوء «إحجام الدول المؤثرة في الملف اللبناني عن تمويله، قبل معالجة ملف سلاح حزب الله بالكامل في لبنان»، حسبما قالت مصادر وزارية لـ«الشرق الأوسط»، في وقت يعد «حزب الله» هذا الملف أولوية، وقد بحثه المعاون السياسي للأمين العام للحزب حسين الخليل مع رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام في 23 أبريل (نيسان) الماضي خلال لقاء جمعهما، وأعاد فيه التذكير بموقف الحزب حيال ضرورة تحرك الحكومة لمعالجة هذا الملف والشروع بإعادة الإعمار.
ويتمسك لبنان بالمعالجة الدبلوماسية لأزمة الجنوب، كما يتمسك بدور قوات حفظ السلام المؤقتة في الجنوب (اليونيفيل)، وأكد وزير الخارجية اللبناني يوسف رجي خلال لقائه برئيس البعثة الجنرال أرولدو لاثارو، «تمسّك لبنان بدور قوات اليونيفيل وشكرها على الجهود التي تقوم بها في الجنوب»، مشدداً على أهمية تمكينها من أداء مهامها وفق الولاية التي حددها لها مجلس الأمن، والتي يُرتقب تمديدها في أغسطس (آب) المقبل.
وعرض اللواء لاثارو على الوزير رجّي طبيعة المهام التي تقوم بها قوات اليونيفيل في الجنوب في الفترة الأخيرة ورصدها للانتهاكات لقرار مجلس الأمن رقم 1701. كما تطرق إلى التعاون والتنسيق القائمَين بين اليونيفيل والجيش اللبناني، مشيداً بالعلاقة المميزة بين الجانبين.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ ساعة واحدة
- عكاظ
ترمب: لدينا أخبار سارة بشأن «غزة»
تابعوا عكاظ على قال الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، فجر اليوم الاثنين، إنه يعتقد أن الولايات المتحدة لديها أخبار سارة قادمة مع حركة حماس بشأن غزة. وأضاف: «تحدثنا مع إسرائيل ونريد أن نرى ما إذا كان بوسعنا وقف هذا الوضع بأكمله في أقرب وقت ممكن». وذكرت مصادر في إدارة ترمب أن الأخير يضغط على حكومة نتنياهو لوقف الحرب، وأن الرئيس الأمريكي ساخط على استمرار الحرب. وتقول المصادر إن الإدارة الأمريكية فتحت قناة اتصال مع حماس عبر رجل الأعمال الأمريكي الفلسطيني بشارة بحبح. وأضافت أن الأطراف المعنية تستعد لاستئناف المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وحركة حماس بشأن صفقة لتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، في إطار مبادرة تقودها الولايات المتحدة عبر مبعوثها الخاص ستيف ويتكوف. ووفق مصادر دبلوماسية مطلعة، طُلب من إسرائيل تأجيل تصعيدها الميداني، والسماح بتوسيع نطاق إيصال المساعدات الإنسانية، بهدف تهيئة الأجواء لعودة المفاوضات، لكن ما تزال إسرائيل ترتكب جرائم في غزة بشكل يومي. وبحسب تقارير إعلامية، من المتوقع أن يصل وفد إسرائيلي إلى القاهرة، الإثنين، لبحث استئناف المحادثات، في حين لم تؤكد إسرائيل رسميا هذه الخطوة حتى الآن. أخبار ذات صلة خطة ويتكوف ويسعى الأمريكيون إلى التوصل لاتفاق شامل ومتدرج، يبدأ بإطلاق سراح جزء من الأسرى، ويشمل في مراحله اللاحقة إنهاء الحرب وإطلاق سراح جميع الأسرى لدى حماس، وذلك من خلال «خطة ويتكوف». وقالت مصادر لصحيفة «إسرائيل اليوم» إن إدارة الرئيس الأمريكي ترفض التخلي عن المسار الدبلوماسي، وتعتبره ضروريا لتحقيق تسوية مستدامة في غزة، قبل الدخول في أجواء الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ووفقا للمصادر، فإن واشنطن ترى أن إضعاف البنية العسكرية لحماس والضغوط المتزايدة التي تتعرض لها، قد تفتح نافذة سياسية نادرة لدفع الحركة نحو تنازلات غير مسبوقة. في المقابل، لا تزال حماس ترفض الشروط الإسرائيلية المعلنة لإنهاء الحرب، والتي أكدها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وتشمل إطلاق سراح جميع الرهائن، أحياء وأمواتا وتسليم حماس لجميع أسلحتها، ومغادرة قادة الحركة قطاع غزة، وإنهاء أي دور لحماس في حكم القطاع مستقبلا. /*.article-main .article-entry > figure img {object-fit: cover !important;}*/ .articleImage .ratio{ padding-bottom:0 !important;height:auto;} .articleImage .ratio div{ position:relative;} .articleImage .ratio div img{ position:relative !important;width:100%;} .articleImage .ratio img{background-color: transparent !important;}


الشرق الأوسط
منذ 4 ساعات
- الشرق الأوسط
العراق والأفخاخ والأدوار
تشعر بغدادُ بالارتياح لأنَّها «تحاشت الوقوع في أكثر من فخ». غداة انطلاق «طوفان الأقصى» في غزةَ و«جبهة الإسناد» في لبنان، راودت فصائلَ عراقيةً أحلامُ توسيع دائرة النار. لكن مزيجاً من النَّصائح الداخلية والتحذيرات الخارجية أبعدَ عن شفتي العراق كأسَ الانزلاق إلى الدوامة. كانت التهديدات الإسرائيلية صريحةً وكان لا بدَّ من التدخل الأميركي لمنع تنفيذها في مقابل «كبح حماسة بعض الفصائل». نجت بغداد من فخ آخر. لم يخطر ببال بعضِ الفصائل العراقية أنَّ نظام بشار الأسد يمكن أن يتبخَّرَ فجأة وأن تصبحَ طريقُ طهران - بغداد - دمشق - بيروت محظورةً ومجردَ ذكرى من الماضي. وفوجئت هذه الفصائل بإطلالة أحمدَ الشرع من القصر الذي كان يجلس فيه الأسد. راودت فصائلَ محدودة أفكارُ الاستعداد لقلب الأمور ثم تبين أنَّ القصة أكبر وأخطر وأنَّ إيران تحتاج على الأقل لوقت لالتقاط الأنفاس. هكذا رأى العراق الأمور تتغير من حوله. تدير بغداد علاقاتها الحالية مع طهران وواشنطن «بأكبر قدر ممكن من التوازن. أميركا هي أميركا ونحن نحتاج إليها في أمور كثيرة. وإيران جار تربطنا به علاقات ومصالح وروابط. والحقيقة أنَّ واشنطن أكثر واقعية من السابق. وأنَّ طهران قاآني أقل تطلباً من طهران سليماني. هامش الحركة العراقية أكبر من الماضي. المهم أن لا تحدث مواجهة عسكرية لأنَّها ستكون بمثابة الفخ الكبير للعراق والمنطقة». في الحوارات التي تجري في بغدادَ هذه الأيام جنوحٌ نحو الواقعية فرضته دروسُ الفترة العاصفة الماضية. يمكن الحديث عن نقاط مشتركة تتكرر في الحوارات: - اللاعب الأول في هذا الجزء من العالم كان ولا يزال اللاعب الأميركي. نحن نحب امتداح الأدوار الروسية والصينية والأوروبية لكنَّها في جزء منها وليدة تمنيات أكثر مما هي ترجمة لحقائق. القوات الروسية التي تدخلت في العقد الماضي لإنقاذ نظام بشار الأسد لم تتدخل للدفاع عنه ولم تتعهد حتى بدعمه. روسيا التي تربطها علاقات استراتيجية بإيران لم تستطع منعَ الطائرات الإسرائيلية من تدمير مواقع «الحرس الثوري» في سوريا وإرغام النفوذ الإيراني على المغادرة. تضاعف حضور اللاعب الأميركي مع وصول دونالد ترمب بفعل أسلوبه وبسبب تحول كبير في المنطقة تمثل في سقوط نظام الأسد. - الحقيقة الثانية هي إصابة اللاعب الإيراني في الإقليم بانتكاسة كبرى. قبل سنوات قليلة ساد الاعتقاد أنَّ اللاعب الإيراني هو الأول على الأرض ولا يمكن وقفه. وأنَّه سجل اختراقات ومكاسب ثابتة ويتطلع إلى ترسيخ جذوره في خرائط إضافية. وكان من الصعب تصور سوريا خارج الفلك الإيراني وتصور طهران مضطرة إلى التعامل مع مطار بيروت وفق القواعد الدولية لا بصفة بيروت واحدة من العواصم الأربع التي تدور في الفلك الإيراني. إصابة اللاعب الإيراني ليست بسيطة على الإطلاق. فمحور الممانعة الذي سقط بسقوط حلقته السورية ولد بفعل جهود طويلة وتكاليف هائلة. - الحقيقة الثالثة هي أنَّ إيران خسرت أيضاً في لبنان الذي كان الساحة الأولى لتوسع نفوذها في الإقليم. انتهت الحرب الأخيرة خلافاً لما كان يتمنى «حزب الله» الذي اختار فتح «جبهة الإسناد» غداة انطلاق عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. خسر الحزب زعيمَه التاريخي حسن نصر الله وخسر كبار قادته. وثمة من يقول إنَّه خسر القدرة على خوض حرب ضد إسرائيل بعدما خسر العمق السوري. - الحقيقة الرابعة هي أنَّ إسرائيل التي نحاول منذ عقود تفادي ذكر اسمها أو القبول بها فرضت نفسها لاعباً إقليمياً خطراً. إسرائيل المسلحة بالتكنولوجيا الأميركية قوة هائلة قادرة على التدخل في أراضي جيرانها المباشرين وتوجيه ضربات في مناطق أبعد. إنَّها دولة عدوانية ودولة احتلال لكنَّها واقع لم يعد ممكناً تجاهله. - الحقيقة الخامسة هي أنَّ التحول السوري جاء أبعد وأعمق مما تصوره الكثيرون. واضح أنَّ سوريا الشرع اختارت الخروج من الشق العسكري في النزاع مع إسرائيل وهذا تطور هو الأول من نوعه منذ عقود. التفاهمات التركية - الإسرائيلية الأخيرة بشأن سوريا تحكم إقفال الساحة السورية في وجه إيران والحزب. - الحقيقة السادسة هي تقدم الدور السعودي إلى موقع المبادرة الإقليمية والدولية وعلى قاعدة الاستثمار في الاستقرار استناداً إلى مبادئ القانون الدولي واحترام سيادة الدول والابتعاد عن سيادة تصدير النار إلى الجيران أو العالم. يمكن القول إنَّ معظم اللاعبين الذين انخرطوا في حروب ما بعد «الطوفان» أصيبوا بجروح كثيرة وسيرجعون من هذه الحروب بخيبات كثيرة. لا مجال لإنكار أنَّ إسرائيل نجحت بقوتها التدميرية في تغيير المشهد، خصوصاً عبر الحلقة السورية، لكنَّها لن تستطيع الفرار من استحقاق حل الدولتين الذي يزداد حضوراً على الساحة الدولية. «حماس» التي أطلقت شرارة «الطوفان» سترجع بما هو أقسى من الخيبة. ستخسر وجودَها المسلح في غزة وهي حالياً ليست موضع ترحيب، لا في بيروت ولا دمشق ولا عمان. وهذا يعني أنَّها تواجه خطر «التقاعد» الإلزامي إلا إذا صعدت إلى القطار. تراقب بغداد ما يدور حولها. المفاوضات النووية الأميركية - الإيرانية ملف حيوي بالنسبة لها. رسوخ وضع حكم الشرع في سوريا تطور مهم لا بدَّ من أخذه في الحسبان. إذا تابعت دمشق شهر العسل مع واشنطن فإنَّها مرشحة لدور أكبر ومكاسب أكبر. تقرأ بغداد ملامح منطقة تتغيَّر تحت وطأة الحروب وإصابات اللاعبين وخيبات العائدين من المعارك. لا بدَّ من الانتظار قليلاً لإدراك حجم التغيير الذي طرأ على أدوار دول الجوار، والذي لا يمكن إلا أن يتركَ تأثيره على العراق نفسِه.


الرياض
منذ 4 ساعات
- الرياض
مسارإسرائيل.. انهيار الحصانة وخسارة الرأي العام العالمي
في قلب الدخان المتصاعد من أنقاض غزة اليوم وكل يوم، تتشكّل حقيقة استراتيجية لم تعد قابلة للإنكار مفادها أن إسرائيل، التي طالما اعتمدت على تفوقها العسكري وحصانتها الغربيّة، تخسر اليوم معركة أكثر حسمًا من أي مواجهة عسكرية - معركة الشرعية العالمية. نعم، هناك تحول جذري في المشهد الدولي يبدو أن قادة الاحتلال لا يدركون أهم أبعاده بتعاميهم الأحمق عن قراءة المتغيرات العالمية. يقول الواقع -ولعقود طويلة-، إنّ المظلة الغربية شكّلت درعًا واقيًا لإسرائيل من أي محاسبة دولية، لكن هذه المظلة بدأت تتآكل بشكل غير مسبوق. وها هي الدول التي كانت تقدّم صكّا مفتوحًا لدعم إسرائيل تتخذ اليوم مواقف لم تكن متخيّلة حتى قبل أشهر قليلة. لقد انتقل حلفاء إسرائيل اليوم من الانتقادات اللفظية إلى إجراءات ملموسة، على سبيل المثال نرى معالم سخط أميركي، وبريطانيا وفرنسا وكندا تشرع في تعليق صفقات الأسلحة، وفرض عقوبات على قادة المستوطنين، والتلويح بمراجعة اتفاقيات الشراكة الاقتصادية. وحتى إسبانيا، في خطوة تاريخية، وصفت إسرائيل بـ"دولة الإبادة"، وهو وصف كان يعتبر محرمًا في القاموس الدبلوماسي الغربي. هذا التحوّل ليس مجرد مناورات سياسية مؤقتة، بل يعكس إدراكًا عالميًا متناميًا أن الاستمرار في دعم إسرائيل بات عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا ثقيلًا. ويتّسق هذا في عالم يتّجه نحو التعددية القطبية، مع صعود قوى عالمية جديدة تتبنى خطابًا مغايرًا وتدعم القضية الفلسطينية بشكل صريح. على المستوى الشعبي، يشهد العالم تحولًا دراماتيكيًا في النظرة للحق الفلسطيني. كان يصوّر الوضع على مدى العقود كنزاع فلسطيني إسرائيلي معقد، واليوم أصبح "الشال الفلسطيني" رمزًا عالميًا للنضال ضد الظلم والاحتلال. وحتى أعرق الجامعات الأميركية، من كولومبيا إلى هارفارد، تحولت إلى ساحات احتجاج ضد السياسات الإسرائيلية. وفي أوروبا، تخرج تظاهرات حاشدة في عواصم كانت تعدّ تقليديًا معاقل للدعم الإسرائيلي، ويشارك فيها يهود مناهضون لجرائم الصهيونية ومعهم نشطاء من كل عرق ودين. هذه الاحتجاجات العالميّة التي تتعاطف إنسانيًا مع ضحايا الحرب الوحشيّة الإسرائيلية، تمثّل أيضا رفض الضمير الإنساني لمنظومة دولية تسمح بازدواجية المعايير وتغض الطرف عن انتهاكات حقوق الشعوب. وما آلاف الصور المروّعة من غزة، التي تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلّا كسر نهائي لاحتكار إسرائيل للرواية الإعلامية، وهي تعرّي الوجه القبيح لواحة للديمقراطية في الشرق الأوسط كما تروّج عن نفسها. وتأسيسًا على ذلك فإنّ الشرعية السياسية الهشّة التي بنتها إسرائيل على مدى عقود تتآكل اليوم بوتيرة متسارعة. فلم تعد جرائم الحرب الموثقة -قصف المستشفيات، تجويع المدنيين، تهجير السكان- قابلة للتبرير حتى في الخطاب الغربي التقليدي. والأخطر من ذلك، أن حكومة الاحتلال تكابر ولا تستجيب لأي رؤية سياسية مطروحة للحل، مما يعزّز الانطباع بأنها تسعى لإطالة أمد الصراع لخدمة أجندات أيدلوجية، وتكتيكية مثل إنقاذ حكومة نتنياهو من الانهيار وربما لمحاولة تعزيز التماسك الهشّ للمجتمع الإسرائيلي. والحقيقة أن هذا الفشل في التكيّف مع المتغيرات الدولية، والإصرار على سياسات الإبادة والقمع، يمثل جوهر "الغباء الاستراتيجي" لحكومة الاحتلال في مواجهة ما وصفه بعض مسؤوليها بـ"تسونامي الغضب العالمي". الخلاصة؛ إن حكومة الاحتلال تقف اليوم عند مفرق طرق تاريخي وعليها أن تختار ما بين إعادة تقييم سياساتها القائمة على القوة العمياء وتبني حلول عادلة، أو مواصلة السير في ارتكاب الأخطاء، والإصرار عليها لتكتب بيدها الفصل الأخير من فصول أفولها التاريخي. يقول التاريخ: إن الخصم الأحمق غالبًا ما يسير إلى حتفهِ وهو يرقص طربًا.