
TINA: الصدق المفروض قانوناً
حين تتفاوض جهة حكومية كانت أو شبه حكومية أو حتى خاصة مع طرف أمريكي، فإنها غالباً لا تدرك أنها أصبحت طرفاً في معادلة قانونية لا تشبه كثيراً البيئة التعاقدية المحلية. فالمسألة لا تقف عند تسعير الخدمة أو تقديم العرض الأنسب، بل تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك: المصداقية المعلوماتية كعنصر قانوني جوهري.
في القانون الفيدرالي الأمريكي، وتحديداً في العقود التي تتعلق بالحكومة أو وزارة الدفاع، لا يُنظر إلى التفاوض على أنه ساحة لإبراز المهارة فقط، بل هو اختبار للنية، ولسلامة الإفصاح، بل وللقيم المؤسسية التي يحملها الطرف الآخر. ومن هنا نشأ ما يُعرف بقانون Truth in Negotiations Act أو TINA، وهو نظام يلزم الشركات المتقدمة بعطاءات مع الحكومة الأمريكية بالكشف الكامل عن جميع المعلومات الواقعية المتعلقة بالتسعير والتكلفة وقت التفاوض.
اللافت أن هذا الإفصاح ليس اختيارياً، ولا حتى ضمن ما يُطلب عادةً في وثائق العطاء. بل هو إفصاح مفروض قانونًا، والإخلال به حتى لو بحسن نية قد يؤدي إلى إعادة التفاوض القسري في السعر، أو استرداد المبالغ، أو حتى التحقيق والمساءلة الجنائية، فضلًا عن الشطب من السجل الفيدرالي كمورد مؤهل.
هذا النموذج من الصرامة التعاقدية يُعيد تعريف معنى الاحتراف بالنسبة للشركات السعودية التي تدخل بقوة اليوم إلى ساحة العقود الدولية، لا سيما مع اتساع الطموح الوطني المرتبط برؤية 2030، حيث باتت المملكة لاعبًا مركزيًا في ملفات حسّاسة تتعلق بالدفاع، والتقنية، والبنية السيادية للدولة. وهو ما يفرض على الجهات السعودية ألا تدخل في هذه العقود بمنطق التاجر الحاذق أو المقاول المجتهد، بل بمنطق الشريك الواعي بالقوانين العابرة للحدود.
إن ما يجعل TINA قانوناً غير مألوف في السياق المحلي، هو أنه يُحمّل الشركة مسؤولية الإفصاح، حتى في غياب طلب صريح من الطرف الآخر. فالمعلومة التي لم تُطلب لكنها جوهرية، تصبح بموجب هذا القانون واجبًا قانونياً لا يمكن إخفاؤه، وإلا عُدّ ذلك تدليساً.
وربما يكون من المفيد التوقف عند هذا المعنى: أن النظام القانوني الأمريكي لا يُراهن على النية، بل على البينة. ولا يعترف كثيرًا بمبدأ «افترضنا أنه معروف»، بل يُحمّل الطرف الآخر مسؤولية كل ما لم يُقل، وكان يجب أن يُقال. وهذه فلسفة تُخالف في جوهرها كثيراً من أنماط التفاوض الشائعة في البيئة الخليجية، حيث لا يزال البعض يرى أن الإفصاح الزائد يُضعف مركزه التفاوضي، أو أن «السكوت» يمكن تأويله لصالحه.
في المقابل، يعكس TINA فلسفة قائمة على أن المال العام الأمريكي ليس محلاً للتفاوض، بل للحماية. وأن الشفافية في التفاوض ليست قيمة أخلاقية مستحبة، بل قيد قانوني نافذ.
من هنا، فإن أي جهة سعودية تنوي الدخول في علاقة تعاقدية مع طرف أمريكي خاصة إذا كانت العلاقة تنطوي على مكوّن دفاعي أو لوجستي أو تكنولوجي يجب أن تُعيد صياغة منظومة العمل من الداخل، سواء من حيث نماذج التسعير، أو حفظ الأدلة، أو أساليب التوثيق، أو أسلوب الكتابة نفسه. فهذه البيئات القانونية لا تغفر لمن يُخطئ، ولا تُقدّر كثيرًا منطق الاجتهاد النابع من حسن النية.
ليست القضية أن نُخضع أعمالنا بالكامل لمنطق TINA، بل أن نُدرك أن هذه القواعد موجودة، وأنها تطبَّق، وأن تجاهلها لا يعفي من تبعاتها. وحين تسعى الدولة لتعزيز وجودها في الأسواق العالمية، فلا بد أن تتماهى اللغة التعاقدية للشركات السعودية مع هذه المعايير، دون أن تفقد هويتها، ودون أن تفرّط في السيادة، ولكن أيضًا دون أن تجهل ما قد يُحمّلها أعباء لا تعلم من أين جاءت.
فما تراه تفاصيل محاسبية، قد يراه الطرف المقابل مخالفة فيدرالية.
وما تراه مهارة تفاوضية، قد يُنظر إليه هناك كـ«تضليل متعمد».
وحين تصل الأمور إلى هذه الدرجة من الدقة، فإن أول ما يجب أن نتعلّمه على الأقل هو أن الصدق، في بعض البيئات التعاقدية، ليس فقط فضيلة... بل قانون له تبعاته سلباً وإيجاباً.
أخبار ذات صلة
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


مباشر
منذ 17 دقائق
- مباشر
بداية حمراء للأسهم الأمريكية في تعاملات الجمعة
مباشر: تراجعت مؤشرات الأسهم الأمريكية عند افتتاح تعاملات الجمعة، على خلفية تصاعد التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، بعدما شنت إسرائيل هجمات واسعة النطاق على إيران. وانخفض مؤشر "داو جونز" الصناعي بنسبة 1.10% أو 474 نقطة إلى 42493 نقطة. كما انخفض مؤشر "إس آند بي 500" بنسبة 0.65% أو 40 نقطة إلى 6004 نقاط، وهبط مؤشر "ناسداك" المركب بنسبة 0.80% أو 160 نقطة إلى 19501 نقطة.


مباشر
منذ 17 دقائق
- مباشر
زيادة تشويش أنظمة السفن بالشرق الأوسط بعد الهجوم على إيران
مباشر: زادت مستويات التشويش في الأنظمة الإلكترونية للسفن العاملة في الشرق الأوسط، بعد الهجوم الجوي الذي شنته إسرائيل على إيران فجر الجمعة، بحسب المركز المشترك للمعلومات البحرية. قال المركز في إشعار، صدر اليوم، إن مُشغلي السفن أبلغوا عن حدوث تداخل إلكتروني كبير في المنطقة الأعلى إنتاجاً للنفط على مستوى العالم. وأوصى المركز الشركات المُشغلة للسفن بمراقبة جميع الأنظمة الإلكترونية وشبكات الاتصالات عن كثب، تحسباً لحدوث أي تداخل إلكتروني آخر، وتجهيز خيارات بديلة في حال تعطل المساعدات الملاحية. يقع مركز التعاون البحري المشترك (JMIC) تحت مظلة القوات البحرية المشتركة، وهو تحالف بحري يضم 46 دولة وتقوده الولايات المتحدة، ومسرح عملياته هو الشرق الأوسط، ويهدف لضمان سلامة الملاحة في المنطقة.


صحيفة سبق
منذ 26 دقائق
- صحيفة سبق
"نيويورك تايمز": مقتل قائد "فيلق القدس" إسماعيل قاآني في الضربات الإسرائيلية على إيران
أفادت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، نقلًا عن مصدر إيراني، بمقتل قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، ضمن الضربات العسكرية الواسعة التي شنتها إسرائيل فجر الجمعة على مواقع حساسة داخل إيران. ويُعد قاآني من أبرز القيادات العسكرية الإيرانية، وقد خلف قاسم سليماني في قيادة "فيلق القدس" بعد مقتله في عام 2020. ويأتي الإعلان عن مقتله ليُضاف إلى قائمة قادة كبار لقوا حتفهم في العملية، من بينهم قائد الحرس الثوري حسين سلامي، ورئيس أركان الجيش محمد باقري، وفق ما تداولته مصادر إعلامية دولية. ونفذت إسرائيل عملية عسكرية مفاجئة وواسعة النطاق، استهدفت منشآت نووية وعسكرية، من بينها منشأة تخصيب اليورانيوم الرئيسية في نطنز، حسب ما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أكد أن الهدف من العملية هو "دحر التهديد الإيراني لوجود إسرائيل". ويأتي هذا التصعيد العسكري في ظل توتر غير مسبوق تشهده المنطقة، وسط تحذيرات دولية من انزلاق الأوضاع نحو مواجهة شاملة.