
وثائق قضائية تكشف استعانة إيران بعصابات إجرامية لتنفيذ اغتيالات في الخارج
كثّف النظام الإيراني في السنوات الأخيرة من محاولاته لاختطاف أو اغتيال معارضين وصحفيين وخصوم سياسيين خارج البلاد، بحسب تقارير لوكالات استخبارات غربية، تشير إلى تصاعد حاد في هذه الأنشطة.
وتصاعدت هذه المحاولات بشكل كبير منذ عام 2022، وكان من بين الأهداف المفترضة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفي المملكة المتحدة، تحقق الشرطة مع عدد من الإيرانيين الذين اعتُقلوا في وقت سابق من هذا الشهر، بشبهة التخطيط لهجوم إرهابي، وتفهم بي بي سي أن الهدف المحتمل كان السفارة الإسرائيلية في لندن.
كما تتضمن وثائق قضائية من تركيا والولايات المتحدة - اطلعت عليها وحدتا "بي بي سي آي تحقيقات" و"بي بي سي الفارسية" - أدلة على أن إيران استعانت بعصابات إجرامية لتنفيذ عمليات قتل على أراض أجنبية، وهي اتهامات سبق للنظام الإيراني أن نفى صحتها، ولم يرد المسؤولون الإيرانيون على طلب جديد للتعليق.
واسم واحد تكرر ظهوره مراراً في تلك الوثائق: ناجي شريفي زندشتي، وهو زعيم عصابة إيرانية معروف بتهريب المخدرات عبر الحدود الدولية.
وقد ورد اسمه في لائحة اتهام تركية على صلة بعملية اغتيال وقعت عام 2017 في إسطنبول، راح ضحيتَها سعيد كريميان، رئيس شبكة تلفزيونية فارسية كانت تبث أفلاماً وبرامج غربية إلى داخل إيران.
واعتبرت السلطات الإيرانية أن سعيد كريميان يمثل تهديداً للقيم الإسلامية، وبعد ثلاثة أشهر من اغتياله، كانت محكمة الثورة الإسلامية في طهران قد حكمت عليه غيابياً بالسجن ست سنوات.
ورأى مسؤولون أمريكيون وأتراك أن مقتله مرتبط بصراع بين عصابات المافيا.
لكن في عام 2019، حين اغتيل مسعود مولوي، المنشق عن الحرس الثوري الإيراني، في إسطنبول، ألقى ذلك الضوء على الدور المزعوم لزندشتي في اغتيال كريميان.
كان مولوي قد بدأ في كشف ملفات فساد على أعلى مستويات القيادة الإيرانية، واكتشفت الشرطة التركية أن بستاني زندشتي كان حاضراً في موقع اغتيال مولوي، وأن سائقه كان موجوداً في موقع مقتل كريميان.
واشتبهت الشرطة في أن البستاني والسائق أُرسلا من قبل زندشتي.
وقد اعتُقل زندشتي على خلفية مقتل كريميان، لكن أُفرج عنه بعد ستة أشهر فقط، في خطوة أثارت جدلاً قانونياً واسعاً في تركيا، وأصدر قاضٍ في محكمة عليا أمراً بإعادة اعتقاله، لكنه كان قد غادر البلاد بالفعل. ثم فرّ إلى إيران، ما أثار شبهة بأنه ربما كان يعمل لصالح الاستخبارات الإيرانية منذ البداية.
ويقول جنكيز إردينتش، وهو صحفي استقصائي تركي، إنه عندما يُقتل أشخاص مغضوب عليهم من قبل النظام الإيراني، يكون رجال زندشتي في موقع الجريمة، ويضيف: "ليست هذه هي المرة الأولى، فهناك دائماً علاقة بين الجريمة المنظمة وأجهزة الاستخبارات".
وقبل أكثر من ثلاثة عقود، أُدين زندشتي في إيران بتهريب المخدرات وصدر بحقه حكم بالإعدام، لكن شائعات أشارت إلى أن هروبه من السجن - الذي قاده إلى تركيا - ربما كان مخططاً له من قبل الاستخبارات الإيرانية.
"إذا تمكّن شخص محكوم بالإعدام في إيران من الفرار بعد قتله حارساً، فمن غير المرجح أن ينجو بحياته، إلا إذا كان هناك ما هو أبعد من ذلك"، وفق شهادة شخص مقرّب من زندشتي، حجبت بي بي سي هويته حفاظاً على سلامته.
ويضيف: "الطريقة الوحيدة المعقولة التي تمكّنه من العودة والعيش بحرية، هي أن يكون قد عمل لصالح أجهزة الاستخبارات الإيرانية، بحيث يبدو هروبه جزءاً من قصة غطاء مخططة لأداء مهام استخباراتية مع الأجهزة الأمنية والحرس الثوري".
في عام 2020، ورد اسم زندشتي مجدداً في لائحة اتهام تركية تتعلق باختطاف حبيب شعب، المعارض الإيراني الذي جرى استدراجه إلى إسطنبول، ثم اختُطف، وظهر لاحقاً على التلفزيون الرسمي الإيراني.
وقد صدر حكم بالإعدام على شعب وتم تنفيذه، وأُلقي القبض على ابن شقيقة زندشتي في تركيا على صلة باختفائه، فيما نفى زندشتي أي دور له في القضية.
ثم في عام 2021، ذُكر اسم زندشتي في مخطط داخل الولايات المتحدة ووفقاً لوثائق محكمة في ولاية مينيسوتا، تم توثيق اتصالات بين زندشتي وكندي على صلة مباشرة بعضو في عصابة "ملائكة الجحيم" الإجرامية.
وزُعم أن زندشتي عرض 370 ألف دولار مقابل اغتيال اثنين من المنشقين الإيرانيين في ولاية ماريلاند، وقد تدخّل مكتب التحقيقات الفيدرالي واعتقل رجلين قبل تنفيذ العملية.
كشفت تحقيقاتنا في وثائق المحاكم أيضاً أن الحرس الثوري الإيراني، ولا سيما "فيلق القدس" المسؤول عن العمليات الخارجية، كان يتعاون مع منظمات إجرامية مثل عصابة "لصوص الشرف" - وهي شبكة إجرامية دولية معروفة تنشط في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق - لتنفيذ عمليات اختطاف واغتيال.
وتقول مصادر استخباراتية أمريكية وإسرائيلية إن وحدة 840 التابعة لفيلق القدس مسؤولة بشكل رئيسي عن التخطيط لإنشاء بنى تحتية لعمليات إرهابية خارج إيران.
وفي مارس/آذار، أدانت هيئة محلفين في نيويورك رجلين على صلة بعصابة "لصوص الشرف" بتهمة التخطيط لاغتيال الناشطة الإيرانية-الأميركية مسيح علي نجاد، ويُزعم أن عملاء إيرانيين عرضوا 500 ألف دولار مقابل قتلها، وقبل ذلك بعامين، أُلقي القبض على رجل يحمل سلاحاً محشواً بالقرب من منزلها في بروكلين.
وبعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني، القائد البارز في الحرس الثوري، على يد الولايات المتحدة، توعّدت إيران بالانتقام، ومنذ ذلك الحين، تقول واشنطن إن طهران تخطط لاغتيال مسؤولين سابقين في إدارة ترامب ممن شاركوا في عملية الاغتيال، من بينهم مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، ومايك بومبيو، الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية ووزير الخارجية.
وخلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية العام الماضي، اتّهم الادعاء إيران بالتخطيط لاغتيال دونالد ترامب، وهو ما نفته طهران بشدة.
ورداً على تصاعد هذه التهديدات، فرضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عقوبات على شخصيات مرتبطة بعمليات الاستخبارات الإيرانية، من بينهم زندشتي، وعدد من الدبلوماسيين الإيرانيين، وأعضاء في الحرس الثوري.
وينفي زندشتي بشدة أن يكون قد عمل مع أجهزة الاستخبارات الإيرانية.
وفي عام 2024، قال كين ماكالوم، مدير جهاز الاستخبارات الداخلية البريطانية، إن هناك 20 تهديداً موثوقاً به استهدف أشخاصاً داخل المملكة المتحدة على صلة بإيران.
وفي إحدى الحوادث غرب لندن، اعتُقل رجل شيشاني بالقرب من قناة "إيران إنترناشيونال"، وهي محطة تلفزيونية ناطقة بالفارسية في لندن، وقد أُدين بتهمة جمع معلومات لصالح عملاء إيرانيين.
وفي العام الماضي، تعرّض بوريا زيراتي، المذيع المقيم في لندن ويعمل لدى "إيران إنترناشيونال"، لهجوم بسكين، وبعد فترة قصيرة، اعتُقل رجلان في رومانيا بطلب من شرطة مكافحة الإرهاب البريطانية.
وقالت مصادر في الأجهزة الأمنية البريطانية لبي بي سي إن الرجلين ينتميان إلى عصابة "لصوص الشرف"، ويُشتبه في أنهما استُأجرا من قبل عملاء إيرانيين.
وكانت سيما ثابت، المذيعة في "إيران إنترناشيونال"، من بين المستهدفين، لكن محاولة تفجير سيارتها باءت بالفشل.
وتقول سيما، التي اطلعت على ملف القضية لدى الشرطة: "عندما أدركوا أنهم لا يستطيعون زرع قنبلة في سيارتي، طلب العملاء من الرجل تنفيذ المهمة بطريقة هادئة".
وتتابع: "سألهم: ماذا تقصدون بالهدوء؟ فأجابوا: أن يكون صامتاً، مثل طعنة بسكين في المطبخ".
وبعد اغتيال أربعة من القادة الأكراد الإيرانيين على يد مسلحين ملثمين داخل مطعم في برلين عام 1992، حمّل المدّعون الألمان القيادة الإيرانية بأكملها مسؤولية العملية، وقد نُفذ الهجوم من قبل عملاء إيرانيين وعناصر من حركة حزب الله.
وصدرت مذكرة توقيف دولية بحق وزير الاستخبارات الإيراني، فيما أعلنت المحكمة أن عملية الاغتيال نُفذت بعلم المرشد الأعلى لإيران ورئيس الجمهورية.
ولجأ النظام الإيراني إلى استخدام منظمات إجرامية لتنفيذ عمليات خطف واغتيال، في محاولة لعدم ربط هذه الهجمات به بشكل مباشر.
لكن مات جوكس، رئيس وحدة مكافحة الإرهاب في الشرطة البريطانية، يقول إن اختراق هذه الجماعات الإجرامية يبقى سهلاً نسبياً، لأنها لا تحمل ولاءً أيديولوجياً للنظام الإيراني.
وهذا ما يسميه "الاختراق الزاحف" من قبل إيران، والذي تحاول الشرطة تعطيله.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


BBC عربية
منذ 18 ساعات
- BBC عربية
بعد مرور عام، لا تزال التساؤلات قائمة حول حادث تحطم طائرة الرئيس الإيراني
صعد إبراهيم رئيسي سريعاً في هيكل السلطة في إيران، لكن رئاسته انتهت فجأةً، بحادث تحطم مروحية، لم يُسهم تفسيره الرسمي - المتعلق بالطقس - في تهدئة أمة غارقة في الشكوك. في 19 مايو/أيار 2024، توفي الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في حادث تحطم مروحية في محافظة أذربيجان الشرقية، بالقرب من الحدود مع أذربيجان. كما قُتل في الحادث أيضا وزير الخارجية آنذاك، حسين أمير عبد اللهيان، وعدد من كبار المسؤولين. بعد عام، لا يزال التفسير الرسمي - أن سوء الأحوال الجوية تسبب في اصطدام الطائرة بجبل - موضع تساؤل واسع النطاق داخل إيران، حيث يسود انعدام ثقة الجمهور في روايات الحكومة. التقارير الرسمية والتناقضات أصدر الجيش الإيراني ثلاثة تقارير تستبعد التخريب أو الاغتيال. وأشار أحدثها إلى تراكم الضباب المتصاعد كسبب. مع ذلك، صرّح رئيس الأركان السابق في عهد رئيسي بأن الطقس كان صافيا، ويشير منتقدون إلى احتمال وجود أعطال فنية بالطائرة. بينما حاولت الدولة إغلاق القضية، تزايدت التكهنات العامة. ولم تؤدِّ الصور المحدودة والضبابية لحطام الطائرة إلا إلى تأجيج الشكوك. شكوك داخلية ورحلة مثيرة للجدل جاء الحادث بعد تغيير في خطط سفر رئيسي. ووفقاً لـ مجتبى موسوي، الذي ترأس شقيقه فريق أمن رئيسي وتوفي في الحادث، فإن الرحلة إلى حدود أذربيجان لم تكن الوجهة الأصلية - وقد عارضتها وحدة الأمن بشدة. وقال إنه تم تقديم خطاب رسمي يعترض على الزيارة. رفض الجيش هذه التعليقات ووصفها بأنها محاولة "لزرع الشك"، لكن هذه الرواية اكتسبت زخماً، لا سيما في ظل التوترات الإقليمية واجتماع رئيسي مع الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، قبل وقت قصير من الحادث. شائعات التصفية السياسية ألمح سياسيون متشددون علناً إلى أن رئيسي ربما يكون قد قُتل عمداً. ادعى عضو البرلمان، حامد رسايي، أنه "أقُصي" لإزالة عقبة داخلية أمام التطورات الإقليمية. وذهب نائب آخر، وهو كامران غضنفري، إلى أبعد من ذلك، مدعياً وجود عملية مشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وأذربيجان أسفرت عن مقتله - دون تقديم أدلة. تتزامن هذه الادعاءات مع أحداث إقليمية، بما في ذلك مقتل قادة من حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني على يد إسرائيل. وقد نفى المسؤولون الإسرائيليون أي تورط في الحادث. في مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع تظهر امرأة، عُرِّفت بأنها والدة رئيسي، في حالة من الضيق الشديد، وهي تقول: "أياً كان من قتلك، أرجو من الله أن يُقتل". لم يتسن التحقق من صحة الفيديو بشكل مستقل، ولكنه انتشر على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي. غموض حول موقع التحطم كانت التقارير الإعلامية الإيرانية الأولية متناقضة. قال البعض إن رئيسي واصل رحلته براً، ووصف آخرون الحادث بأنه "هبوط اضطراري". وسرعان ما تحول السرد إلى حادث تحطم مميت، وبدأت حملة وطنية للدعاء. كان رئيسي على متن إحدى ثلاث طائرات هليكوبتر تحلّق في دوائر. أدلى المسؤولون بتصريحات متضاربة حول ترتيبات الموكب. استغرق تحديد موقع الحطام أكثر من 16 ساعة، على الرغم من مزاعم بأن أحد الركاب رد على اتصال عبر هاتف محمول بعد الحادث. أعلنت تركيا أن إحدى طائراتها المسيرة حددت الموقع، لكن بي بي سي الخدمة الفارسية وجدت أن الإحداثيات التي تمت مشاركتها غير دقيقة. بدلاً من ذلك، كانت مجموعة من سائقي الدراجات النارية عبر الطرق الوعرة أول من وصل إلى الموقع، وهي حقيقة لم تعترف بها وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية. جثث محترقة، وأمتعة غير محترقة أظهرت الصور المنشورة جثثاً متفحمة، إلا أن بعض المتعلقات والأمتعة بدت سليمة نسبياً. زعم أحد المشاركين في التأبين، وهو مؤيد للحكومة، أن جثمان رئيسي كان محترقاً بشدة لدرجة أنه تم إجراء "التيمم" للكفن، بدلاً من الغسل التقليدي. وبحسب ما ورد، لم يُسمح لزوجة الرئيس ووالدته برؤية الجثمان. صرح بعض المسؤولين لاحقاً بأنه لم يتم العثور على أجزاء من جثمان رئيسي، ما زاد من شكوك الرأي العام. إرث من انعدام الثقة لا يمكن فصل الشكوك المحيطة بوفاة رئيسي عن تاريخ إيران الطويل من السرية. من إسقاط طائرة أوكرانية عام 2020، إلى وفاة الشابة مهسا أميني أثناء احتجازها لدى الشرطة، إلى عقود سابقة من الاغتيالات السياسية، شهد الإيرانيون مراراً وتكراراً روايات رسمية لم تحل ألغاز تلك الأحداث. حتى لو كان حادث التحطم عرضياً بحتاً، فإن سجل الدولة أدى إلى عدم تصديق رواية الأجهزة الأمنية من قِبل مواطنيها. صعود رئيسي وأفوله السياسي كان رئيسي، رجل الدين ورئيس السلطة القضائية السابق، يُنظر إليه في السابق على أنه "خليفة محتمل" للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. بدعم من النخبة المحافظة في إيران، انتُخب عام 2021، مع وعوده بالإصلاح الاقتصادي والاستقرار السياسي. لكن رئاسته واجهت صعوبات. ارتفع التضخم بشكل حاد، وتعثرت دبلوماسيته الدولية، وأدت الاحتجاجات التي أعقبت وفاة الشابة مهسا أميني إلى إضعاف إدارته بشكل أكبر. ووصف محللون من مختلف الأطياف السياسية حكومته بأنها غير فعالة. بحلول عام 2024، كان مستقبل رئيسي السياسي غامضاً. لقد أنهى موته فجأةً مشروعاً سعى إلى بناء جيل جديد من القيادة "الشبابية والثورية". نهاية مفتوحة على الرغم من جهود الدولة لتصوير رئيسي على أنه "شهيد"، إلا أن ظروف وفاته زادت من سخرية الرأي العام. وبعد مرور عام على الحادث، لا تزال فكرة أن الرئيس الإيراني اختفى في سحابة، بالنسبة لكثير من الإيرانيين، غير معقولة لدرجة يصعب تقبلها.


BBC عربية
منذ 2 أيام
- BBC عربية
اتفاقيات ثنائية تشهدها قمة بريطانية أوروبية هي الأولى بعد "بريكست"
استضافت لندن، الإثنين، قمة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، ناقش خلالها القادة مواضيع عدة شملت الدفاع، والتجارة، وحقوق صيد الأسماك. وتُعد القمة الأولى التي تجمع القادة الأوروبيين والبريطانين منذ "بريكست"، أي خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي قبل خمس سنوات. وخلال القمة، أبرمت كل من بريطانيا والاتحاد الأوروبي "شراكة استراتيجية جديدة" لتعزيز العلاقات، ولا سيما في مجال الدفاع. ووقع الجانبان اتفاق "الشراكة الأمنية والدفاعية"، وعلى بيان مشترك بشأن التضامن الأوروبي، ووثيقة تفاهم بشأن قضايا تشمل التجارة والصيد وتنقل الشباب. وفي افتتاح القمة، قال رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، إن الاتفاق بين الطرفين "منصف ويمثل بداية عصر جديد في علاقتنا"، مضيفاً: "نحن نتفق على شراكة استراتيجية جديدة تناسب متطلبات زمننا". وأكد خلال مؤتمر صحفي مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، بأن الاتفاق "جيد للطرفين". وأشار ستارمر إلى أن المملكة المتحدة ستجني "فوائد حقيقية وملموسة" في مجالات، مثل "الأمن، والهجرة غير النظامية، وأسعار الطاقة، والمنتجات الزراعية والغذائية، والتجارة"، بالإضافة إلى "خفض الفواتير، وتوفير فرص العمل، وحماية الحدود". من جهتها، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية، إن هذا اليوم يمثّل "طيّاً لصفحة وافتتاحاً لفصل جديد"، مؤكدة أهمية هذا الاتفاق، في ظل "تصاعد التوترات الجيوسياسية". وأشار دبلوماسيون أوروبيون إلى أن الاتفاق أُنجز بعد مفاوضات جرت في وقت سابق ليلاً، وتم خلالها تجاوز الخلافات في قضايا رئيسية. وجاءت هذه التطورات بعد مفاوضات استمرت لأشهر، واتفق الجانبان على رفع القيود المفروضة على الصادرات البريطانية إلى دول الاتحاد الأوروبي الـ 27، في مقابل تمديد بريطانيا حقوق الصيد للاتحاد الأوروبي في مياهها الإقليمية لمدة 12 عاماً إضافياً. ومن المفترض أن تؤدي شراكة الدفاع إلى إجراء محادثات منتظمة أكثر، مع احتمال مشاركة بريطانيا في بعثات عسكرية تابعة للاتحاد الأوروبي، فضلاً عن إمكانية استفادة لندن الكاملة من صندوق دفاعي بقيمة 167 مليار دولار اتفقت دول الاتحاد على إنشائه، لكن العديد من التفاصيل المتعلقة بالشراكة الدفاعية ستُترك لتُنجز لاحقاً. ومن شأن الاتفاق كذلك "أن يؤدي إلى تنفيذ الغالبية العظمى من عمليات نقل الحيوانات ومنتجاتها والنباتات ومنتجاتها بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي من دون الحاجة إلى الشهادات أو إجراءات الرقابة المعمول بها حاليا". كما اتفق المفاوضون على صياغة عامة تؤجل التفاوض إلى وقت لاحق فيما يتعلق بمسألة تنقل الشباب، إذ تخشى لندن أن يُؤدي أي برنامج لتنقل الشباب إلى عودة حرية التنقل بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة. ورفض ستارمر العودة إلى حرية الحركة الكاملة، لكنه منفتح على برنامج تنقل يتيح لبعض الشباب البريطانيين والأوروبيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً، التنقل من أجل الدراسة والعمل في المملكة المتحدة وبالعكس. وأشارت رئاسة الحكومة البريطانية (داونينغ ستريت)، في بيان إلى أن هذا الاتفاق سيضيف "ما يقرب من 12 مليار دولار إلى الاقتصاد البريطاني بحلول عام 2040". اتفاق "استسلام" للاتحاد الأوروبي وكان كير ستارمر قد تعهد بعد فوز حزبه في انتخابات يوليو/تموز 2024، بإعادة رسم العلاقة مع الاتحاد الأوروبي بعد خروج المملكة المتحدة منه، لكن ستارمر رسم عدة خطوط حمراء قال إنه لن يتجاوزها. وانتقدت زعيمة حزب المحافظين المعارض، كيمي بادنوك، الاتفاق، قائلة إنه يمثل "استسلاماً" للاتحاد الأوروبي، وإن بروكسل "تملي مجدداً الدروس على بريطانيا". فيما قال زعيم حزب "إصلاح المملكة المتحدة" اليميني، نايجل فاراج، إن الاتفاق يمثل "نهاية قطاع صيد الأسماك في بريطانيا"، وإنه "باع قطاع صيد الأسماك باسم تعزيز الشراكة مع اتحاد يتضاءل باستمرار"، على حدّ وصفه. كما انتقد نائب زعيم الحزب، ريتشارد تايس، الاتفاق، قائلاً إن "ستارمر يستسلم"، و"يبيع قطاع الصيد"، وأضاف أن حزب "إصلاح المملكة المتحدة" سيُلغى هذا الاتفاق "عندما يفوز في الانتخابات العامة". وصرّحت وزيرة الداخلية السابقة، سويلا برافيرمان، بأن الحكومة "خذلت مجتمع الصيادين لدينا". وتفاعلت العديد من الصحف ووسائل الإعلام الأوروبية مع الاتفاق، إذ كتبت صحيفة "سبانش إكسبانسيون" الإسبانية: "على جانبي القنال الإنجليزي، هناك إجماع بشأن صحة طيّ صفحة الطلاق الذي بدأ بالاستفتاء الكارثي". ورحّبت صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" الألمانية بالاتفاق، لكنها حذّرت من أنه سيكون بمثابة "اختبار للواقع" بالنسبة لأولئك الذين تاقوا إلى "عصر ما قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي". ووصفت صحيفة "كوريري ديلا سيرا" الإيطالية الاتفاق بأنه "إعادة ضبط مصغرة"، لكنها أشارت إلى "الخطوط الحمراء" للمملكة المتحدة فيما يتعلق بالسوق الموحدة وحرية التنقل، قائلة إن أي تغيير سيكون "تجميلياً" وليس جوهرياً.


BBC عربية
منذ 4 أيام
- BBC عربية
هل تقترب بريطانيا من العودة إلى الاتحاد الأوروبي؟
في وقت سابق من هذا الشهر، وبينما كان عدد من السياسيين الأوروبيين يناقشون في الطابق العلوي من "لانكاستر هاوس" في لندن مستقبل التعاون الأوروبي، كانت الأجواء في الأسفل هادئة، يحرسها ضباط من وحدة الحماية الدبلوماسية في شرطة العاصمة البريطانية. وكان المكان ملائماً تماماً لهذه اللحظة؛ إذ تكشف كل زاوية في "لانكاستر هاوس" عن عمق وتشابك التاريخ بين المملكة المتحدة وأوروبا. السلم المزدوج الفخم في القاعة صُمّم خصيصاً ليحاكي قصر فرساي، وفي القاعة جلست الملكة فيكتوريا عام 1848 تستمع إلى فريدريك شوبان وهو يعزف على البيانو، وفي عام 2003، استضاف توني بلير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هنا خلال قمة الطاقة. وشملت القضايا البارزة على جدول أعمال الاجتماع، الذي استضافه وزير الخارجية ديفيد لامي، آخر التطورات في حرب أوكرانيا، وردّ أوروبا لضمان أمن القارة، وللمرة الأولى منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قمة مرتقبة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي تُعقد في 19 مايو/ أيار. وترى الحكومة البريطانية أن هذه اللحظة تُمثل محطة مهمة. قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان رؤساء الوزراء البريطانيون يتوجهون إلى بروكسل أربع مرات في السنة أو أكثر للمشاركة في قمم مع قادة مؤسسات الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء الـ27، وكانت المفاوضات تمتد حتى ساعات الليل المتأخرة، لكن تلك القمم توقفت تماماً بعد البريكست. اليوم، تسعى الحكومة العمالية، التي انتُخبت العام الماضي على أساس برنامج تعهد بـ"علاقة محسّنة وطموحة مع شركائنا الأوروبيين"، إلى مد جسور التواصل المنتظم والجديد مع الاتحاد الأوروبي، وتُعد قمة يوم الإثنين أولى هذه الخطوات. ومن المقرر أن يستضيف رئيس الوزراء كير ستارمر عدداً من كبار قادة الاتحاد لإطلاق شراكة جديدة بين الجانبين. ووصف السفير الأوروبي لدى لندن، بيدرو سيرّانو، هذا اللقاء بأنه "ذروة الاتصالات المكثفة على أعلى المستويات منذ الانتخابات البريطانية في يوليو/ تموز 2024". لكن أسئلة عدة تُطرح حول ما ستحققه هذه القمة فعلياً. فبينما يحذّر المحافظون من أنها "قمة استسلام"، ويتخوف حزب "ريفرم يو كاي" - تأسس بهدف الضغط من أجل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي- من أن تمهّد لتنازلات تُفكك إنجازات البريكست، يرى الديمقراطيون الليبراليون أنها "فرصة هائلة" قد تُهدَر. أما كير ستارمر، فيُقدّم هذه الخطوة بوصفها مثالاً على أن "البراغماتية الجادة تتفوّق على السياسة الاستعراضية"، من خلال تقديم حلول عملية تُحدث فرقاً في حياة المواطنين. أسئلة حول اتفاقية الأمن في الليالي الطويلة والمشحونة بالأحداث عام 2020، حين كان رئيس الوزراء بوريس جونسون يفاوض على اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي، طُرحت فكرة إقامة شراكة أمنية ودفاعية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، لكن أولوية لندن حينها كانت الانفصال عن الاتحاد، لذلك لم يتم التوصل إلى أي اتفاق – وهو ما يعتبره البعض غياباً لافتاً في ملف العلاقة بين الجانبين. أما اليوم، فقد عمل الطرفان لعدة أشهر على إعداد اتفاق أمني جديد بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، من المتوقع أن يُشكّل محور التفاهمات التي سيتم الإعلان عنها قريباً. كانت كايا كالاس، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي والمشرفة على المفاوضات، حاضرة في الجلسات التمهيدية التي عُقدت في "لانكاستر هاوس". وقالت في تصريح ل بي بي سي : "علاقتنا شهدت بعض الصعوبات، لكن بالنظر إلى ما يجري في العالم [...] نحن بحاجة للمضي قدماً بهذه الشراكة". مع ذلك، يرى البعض أن بريطانيا لا ينبغي لها أن تمد يدها لهذا التعاون الأوروبي. وقال أليكس بورغارت، النائب عن حزب المحافظين، أمام مجلس العموم هذا الأسبوع: "الركيزة الأساسية لدفاعنا هي الناتو. ولا نرى أي سبب يجعل الناتو غير كافٍ". أما ريتشارد تايس، نائب زعيم حزب "ريفرم يو كاي"، فله رأي آخر. وقال: "لا توجد أي فائدة من ذلك، ونحن لا نريد أن نقيد أنفسنا بهيكل عسكري بيروقراطي مركزي مرتبك، الناتو هو من يضمن أمننا". في المقابل، تردّ الحكومة على هذه الانتقادات بالتأكيد أن الشراكة الأمنية المحتملة لن تُضعف دور حلف الناتو، بل ستُكمله، من خلال التوسّع إلى مجالات تتجاوز الدفاع التقليدي، مثل حماية الاقتصاد، والبنية التحتية، وأمن الطاقة، والهجرة، والجريمة العابرة للحدود. ويعتقد بعض الخبراء في قطاع الصناعات أن اتفاقاً أمنياً قد يعود بالفائدة على الاقتصاد البريطاني، ومن بين هؤلاء كيفن كريفن، الرئيس التنفيذي لمجموعة ADS، وهي رابطة تجارية بريطانية تمثل قطاعات الطيران والدفاع والأمن. وأشار كريفن إلى برنامج SAFE (العمل الأمني لأجل أوروبا) الذي يعمل الاتحاد الأوروبي على إطلاقه، ويهدف إلى تقديم قروض تصل إلى 150 مليار يورو لتمويل مشاريع جديدة، وفي حال أبرمت بريطانيا اتفاق شراكة أمنية مع الاتحاد، فقد تتمكن شركات الأسلحة البريطانية من الاستفادة من هذه الأموال. وأضاف كريفن: "هناك اهتمام واسع من شركائنا الأوروبيين، ومن التحديات التي واجهت شركات الدفاع في العامين الماضيين، منذ بداية حرب أوكرانيا، قدرتها على توسيع طاقتها الإنتاجية لتلبية الطلب". وقدّر أن بريطانيا يمكن أن تُسهم بزيادة الإنتاج الدفاعي الأوروبي بنسبة تصل إلى الخُمس. من جهته، يرى كالوم ميلر، المتحدث باسم الشؤون الخارجية في حزب الديمقراطيين الليبراليين، أن اتفاق الشراكة الأمنية يمثل فرصة كبيرة للصناعات الدفاعية البريطانية، لكنه أضاف: "وبنفس القدر من الأهمية، فإنها فرصة استراتيجية جديدة لبريطانيا لتكون جزءاً من النقاش المستمر حول كيفية تعزيز تسليح القارة". ويشير آخرون إلى أن بريطانيا تتعاون فعلياً مع الاتحاد الأوروبي في المجال الدفاعي منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، سواء من خلال الناتو أو عبر ما يُعرف بـ"تحالف الراغبين". لكن، في الممارسة العملية، هل سيُحدث ذلك فرقاً كبيراً في موقع بريطانيا داخل أوروبا؟ تُجيب جيل رتر، وهي موظفة حكومية سابقة وزميلة بارزة في مركز "المملكة المتحدة في أوروبا متغيرة"، بقولها: "العلاقات في مجال الدفاع تحسنت أصلاً إلى حد بعيد منذ فترة". ومع ذلك، يرى بعض المشاركين في صياغة الاتفاق الجديد أنه قد يمهّد لآليات جديدة تمكّن بريطانيا من الانخراط والتعاون بشكل أوسع مع جيرانها الأوروبيين. تأخيرات على الحدود أحد أكثر الملفات إثارة للجدل في المحادثات مع الاتحاد الأوروبي يتمثل في سعي المملكة المتحدة لتوقيع "اتفاق بشأن فحوصات الأغذية والزراعة" بهدف تخفيف بعض إجراءات التفتيش على السلع الغذائية عند الحدود. وقال نك توماس-سيموندز، وزير شؤون مجلس الوزراء والمكلف بهذه المفاوضات، أمام مجلس العموم، إن هذا الهدف — المتمثل في خفض تكاليف الأغذية والمشروبات — وارد ضمن البرنامج الانتخابي للحكومة، وبالتالي يحظى بتفويض سياسي واضح. في المقابل، تتصاعد داخل قطاع الأغذية دعوات تطالب بإصلاحات ملموسة، وتقول جوليان بونان، المديرة التنفيذية لشركة Creative Nature المتخصصة في إنتاج وجبات خفيفة نباتية، إنها تصدّر منتجاتها إلى 18 دولة، لكن جزءاً بسيطاً فقط منها يذهب إلى الاتحاد الأوروبي بسبب الإجراءات الورقية والتفتيشات المعقدة بعد البريكست. وتضيف أن إحدى موظفاتها اضطرت إلى حمل عينات من المنتجات داخل حقيبتها اليدوية خلال رحلة ركاب إلى إسبانيا، لضمان عدم احتجاز الشحنة عند الحدود. وتؤكد بونان: "أعتقد أن هذا الاتفاق سيتيح فرصاً كبيرة أمام شركات مثل شركتي". ورغم أن الحكومة البريطانية تسعى لإبرام اتفاق بشأن فحوصات الأغذية والزراعة لتسهيل حركة السلع، إلا أن هذا التوجّه يواجه تحذيرات سياسية، نظراً لما قد يترتب عليه من التزامات تشريعية. إذ يتطلب الاتفاق من بريطانيا أن توائم بعض قواعدها الخاصة بالغذاء والمشروبات مع قواعد الاتحاد الأوروبي، وأن تتحرك لاحقاً بما يتماشى مع بروكسل، مع خضوع هذه القواعد لإشراف المحاكم الأوروبية. وقال أندرو غريفيث، وزير الأعمال والتجارة في حكومة الظل عن حزب المحافظين: "أسميها قمة الاستسلام". وأضاف أن الاتفاق سيؤدي إلى فقدان بريطانيا "حريتها في وضع قوانينها الخاصة". ويؤكد حزب المحافظين أنه "ناضل طويلاً وبشدة" من أجل "استعادة السيطرة على قوانيننا وحدودنا وأموالنا"، وأن هذا المكسب لا ينبغي التراجع عنه الآن. تحوّل جذري أم تنازل؟ لم يُخفِ حزب "ريفرم يو كاي" نبرته التصعيدية، إذ قال زعيمه ريتشارد تايس إن بريطانيا تتجه نحو ما وصفه بـ"تصفية كبرى للمصالح الوطنية"، مضيفاً: "هذه هي الحقيقة ببساطة، حتى لو جرت تغليفها بمصطلحات مثل إعادة بناء العلاقة مع أوروبا". وتساءل تايس: "لماذا يرغب أحد بإعادة التقارب مع نموذج اقتصادي فاشل بوضوح؟ الاتحاد الأوروبي يواجه صعوبات أكبر مما نواجهه نحن. علينا أن نُسرّع الابتعاد عنه لا العكس". في المقابل، رفض نك توماس-سيموندز، وزير شؤون مجلس الوزراء في حكومة حزب العمال، هذه الطروحات، واعتبرها "مجرد تكرار لحجج تجاوزها الزمن". وعلى الطرف الآخر من النقاش، تظهر انتقادات من نوع مختلف، إذ يتهم البعض زعيم حزب العمال كير ستارمر بأنه يتحرك ببطء شديد وحذر مفرط. وقال كالوم ميلر، المتحدث باسم الشؤون الخارجية في حزب الديمقراطيين الليبراليين، إنه يعرف شركات "تعضّ على أناملها من الغضب، لأنها غير قادرة على الاستفادة من فرص العمل والتجارة مع أوروبا" ويدعو حزب الديمقراطيين الليبراليين إلى أن تدرس بريطانيا إمكانية الدخول في اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما من شأنه أن يسهّل حركة البضائع بين الجانبين، لكنه سيحرم المملكة المتحدة من توقيع اتفاقيات تجارية مستقلة. ويقول ديفيد هينيغ، المفاوض التجاري البريطاني السابق، إنه يجري محادثات مع الطرفين "على أمل المساعدة وتوجيههم في الطريق المناسب". ويضيف: "القمة تمثل خطوة إلى الأمام، لكنها ليست نقطة تحول، وهي تحسين طفيف في العلاقات التجارية، لا أكثر". ويرى هينيغ أن إبرام اتفاق بشأن فحوصات الأغذية والمشروبات لن يحقق أثراً اقتصادياً كبيراً، لأن هذا القطاع يشكّل جزءاً محدوداً من التجارة الإجمالية. ويقول: "لو أن هناك مواءمة بين قواعد المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في المنتجات الصناعية، لكان الأثر الاقتصادي أكبر بكثير". وترى جيل رتر، من مركز "المملكة المتحدة في أوروبا متغيرة"، أن الاتفاق بشأن فحوصات الأغذية والزراعة لن يكون "زلزالاً اقتصادياً"، لكنه، في حال نجاحه، قد يشكّل "دليلاً مبكراً على جدوى التعاون المستقبلي بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي". "هل يمكن حل مشكلة الصيد؟" بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، شعر كثير من الصيادين البريطانيين بخيبة أمل، عندما وافقت حكومة بوريس جونسون على السماح لقوارب الصيد الأوروبية بمواصلة العمل في المياه البريطانية إلى حد كبير كما في السابق، بما في ذلك الحصول على حصص كبيرة من الصيد. ومن المقرر أن تنتهي هذه الترتيبات العام المقبل، بينما يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تمديدها. وقال ديفيد ديفيس، الذي شغل منصب وزير شؤون البريكست وقاد بعض المفاوضات الأولية نيابة عن بريطانيا، إن قضية الصيد تمثّل "رمزية خاصة" بالنسبة للاتحاد الأوروبي، وأضاف أن لندن قدمت تنازلات بسرعة كبيرة. وأوضح: "الأوروبيون حصلوا على ما يريدونه أولاً، ثم دخلنا في مساومة من موقع ضعف". ويضيف ديفيد ديفيس: "لو كنت أقدّم نصيحة للحكومة، لقلت لها: اصمدوا، واستخدموا ملف الصيد كورقة ضغط للحصول على تنازلات". لكن، كما اكتشفت بريطانيا سابقاً، فإن بروكسل تمتلك أوراقاً تفاوضية بدورها، فجزء كبير من الأسماك التي يصطادها الصيادون البريطانيون يُباع في الأسواق الأوروبية، وبريطانيا بحاجة إلى الوصول لتلك السوق. وتُظهر دول أوروبية ساحلية، مثل فرنسا والدنمارك، استعداداً للتشدد في هذا الملف، إذ تطالب بمنح قواربها حق الوصول إلى المياه البريطانية مقابل تنازلات في ملفات أخرى. وفي مراحل سابقة من المحادثات، كان التوقيع على "اتفاق الشراكة الأمنية" مشروطاً بالتوصل إلى تفاهم بشأن الصيد البحري. ويبدو أن جولات التفاوض المقبلة لن تكون سهلة. الهجرة وتنقّل الشباب بين بريطانيا وأوروبا وفي تطور آخر، يعود إلى الواجهة ملف أثار اهتماماً متنامياً في الأشهر الأخيرة، يتمثل في اتفاق محتمل للتنقل الشبابي، يُتيح للأشخاص دون سن الثلاثين من بريطانيا والاتحاد الأوروبي العيش والعمل في أراضي الطرف الآخر. لطالما تمسكت الحكومة البريطانية بموقف مفاده أنه "لا توجد خطط" لعقد مثل هذا الاتفاق، إلا أن هذا الموقف تغيّر في وقت سابق من هذا الشهر، عندما قال نك توماس-سيموندز، وزير شؤون مجلس الوزراء في حكومة حزب العمال، إن "نظاماً ذكياً وخاضعاً للرقابة لتنقل الشباب يمكن أن يحمل فوائد كبيرة لشبابنا". ومن المرجح أن يقتصر هذا النوع من الاتفاق على أعداد محدودة، تخضع لتأشيرات دخول، ولإقامة مؤقتة محددة المدة. وتأمل الحكومة، ضمن هذه الشروط، أن لا يؤدي البرنامج إلى رفع أرقام صافي الهجرة، رغم أنه يظل بعيداً عن الطموحات الأوروبية. تمتلك المملكة المتحدة بالفعل برامج مماثلة مع 13 دولة، من بينها أستراليا ونيوزيلندا واليابان. وتساءل كالوم ميلر، المتحدث باسم الشؤون الخارجية في حزب الديمقراطيين الليبراليين: "إذا كنا مرتاحين لإقامة مثل هذه العلاقات مع دول بعيدة، فلماذا نُبدي هذا التردد في التعامل مع أقرب جيراننا؟ هذا لا يبدو منطقياً". ترى بولا سوريج، أستاذة علم الاجتماع السياسي في جامعة بريستول، أن مواقف الرأي العام البريطاني تجاه الهجرة أكثر تعقيداً مما يُعتقد. وتقول: "ما يثير قلق الناخبين فعلاً هو ما يُنظر إليه على أنه هجرة غير قانونية — مثل عبور القوارب الصغيرة وما شابه، أما أولئك الذين يأتون للدراسة أو العمل، خصوصاً الشباب، فهم لا يشكّلون مصدر قلق كبير بالنسبة لمعظم الناس". وأضافت: "سيكون هناك بالتأكيد فئة من الناخبين غير راضية عن هذه الاتفاقات المحتملة، لكنها في الأصل لم تكن لتصوّت لحزب العمال". وتشير سوريج إلى أن نحو ثلاثة أرباع من صوّتوا لحزب العمال في انتخابات عام 2024، سبق أن صوّتوا لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي خلال استفتاء بريكست. وتعتقد أن المخاطر السياسية التي قد تواجهها الحكومة في حال توقيع اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي "أقل مما تبدو عليه". في المقابل، يبدي لورد هايوارد، خبير استطلاعات الرأي عن حزب المحافظين، موقفاً أكثر تحفظاً، ويعرب عن قلقه من أن يُنظر إلى أي اتفاق بشأن تنقل الشباب على أنه "فخ سياسي" للحكومة إذا تم تصويره كخطوة نحو إعادة حرية التنقل للأوروبيين الشباب. ويحذّر هايوارد من أن ذلك قد يصعّب بشكل كبير التوصل إلى اتفاق، "لأن من السهل تصويره كنسخة جديدة من عضوية الاتحاد الأوروبي — نسخة 2.0". تنفيذ بريكست بما يخدم مصالح بريطانيا حتى قبل انعقاد القمة المرتقبة لرئيس الوزراء كير ستارمر يوم الإثنين 19 مايو أيار، بدأ خصومه السياسيون بتكثيف هجومهم عليه. وقال أندرو غريفيث، وزير الأعمال والتجارة في حكومة الظل عن حزب المحافظين: "كل ما في ذاكرته السياسية يدفعه للاقتراب أكثر من الاتحاد الأوروبي السياسي. أنا قلق من أن رئيس الوزراء، وهو يحمل هذا الإرث وتلك القناعات المسبقة، يحاول التفاوض على صفقة أفضل مع الاتحاد". أما ريتشارد تايس، زعيم حزب "ريفرم يو كاي"، فذهب أبعد من ذلك، وقال إن حزبه قادر على إلغاء أي اتفاقيات توقعها الحكومة الحالية. وأضاف: "إذا تبيّن أن مخاوفنا صحيحة، وفزنا في الانتخابات العامة المقبلة، فسنقوم بإلغاء كل شيء — بالكامل". لكن نك توماس-سيموندز يؤكد أن قمة يوم الإثنين ستُظهر أن الحكومة "لا تعود إلى الاتحاد الجمركي، ولا إلى السوق الموحدة، ولا إلى حرية الحركة"، وهي خطوط حمراء تعهّدت الحكومة بعدم تجاوزها. ويشدد على أن الهدف هو "جعل البريكست يعمل بما يخدم مصالح الشعب البريطاني".